مقالات

في رحاب ” أبو كاطع “

الجمال في مواجهة القبح

لا أخال أحداً من الذين أدركهم الوعي من جيل ما بعد ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958، وخصوصاً من المثقفين أو القريبين منهم، لم يسمع باسم “أبوگاطع” أو يردّد “لازمة” اشتهرت باسمه، وهي عنوان برنامجه الشهير، “أحجيه بصراحة يبوگاطع”(إحكيها)، فالرجل احتلّ مكانة استثنائية ليس في الأدب والصحافة العراقية فحسب، بل وعلى الصعيد الشعبي، وانشغلت أوساط واسعة من مختلف التيارات (الموالاة والمعارضة وما بينهما) بما يكتبه وما ينشره في عموده الصحفي، لا سيّما في مطبوعات الحزب الشيوعي في السبعينات: مثل مجلة الثقافة الجديدة، التي كان مدير تحريرها، وجريدة الفكر الجديد (الأسبوعية)، وجريدة طريق الشعب (اليومية)، وقبل ذلك في أواخر الخمسينات ومطلع الستينات، كتب في عدد من الصحف اليسارية العراقية، لكن برنامجه الإذاعي (من إذاعة بغداد) كان الأكثر شهرة، بل إن شهرته جاءت من برنامجه.

وارتفع رصيده ليس كصحافي فحسب، بل إن دخوله عالم الرواية، وصدور رباعيته كان قد وضعه في مكانة مرموقة بين الروائيين الكبار أمثال غائب طعمة فرمان، وفؤاد التكرلي ومحمد خضير وعبد الرحمن مجيد الربيعي، وآخرين، لكن ما تميّز عنهم، هو قدرته في توظيف مخزونه الريفي وضخّه في الرواية التي هي في الغالب مدينية، بحيث أصبحت حياة الريف مألوفة لدى قارىء الرواية وهو ابن المدينة في الأغلب الأعم.

وكان” أبو جبران ” ( و هو نجله الأكبر ) يطمح أن يصبح روائياً، وحين دسَّ مخطوطته ( الرباعية ) بيد غائب طعمة فرمان، طالباً منه قراءتها قبل طباعتها، همس بأذنه ( أريد أن أكون منكم )، أي من كتّاب الرواية، فالرواية وما تحفل به ظلّت هاجسه حتى حين يكتب عموده الصحفي، فقد كان يبحث عن حبكة درامية، ومتن وقفل بمثابة خاتمة ليجعل القارىء يفكّر في نهايات مفتوحة.

وإذا كنّا نقرأ روايات عن الريف، ومعتقداته وحكاياته وأساطيره وتخيّلاته وتوهّماته وأكاذيبه وحقائقه، فإنّنا بدأنا نقرأ تلك المواضيع، لا بفعل مراقبة خارجية واندهاشية أحياناً لحياة الريف، بل أخذنا نقرأ بقلم وعين وعقل ابن الريف ذاته، خصوصاً بعد أن يملّحها “أبوگاطع” بنكهة لذيذة ويضفي عليها شيئاً من عنديّاته لتكون أكثر سخرية وحزناً، لا سيّما بعد أن يطعّمها بالإثارات والتشويق، معبّراً بذلك عن ألم كامن ووجع دفين، لكنّه يحاول من خلال الدعابة والفكاهة والضحك، التخفيف من كثافته لتكون الحياة أكثر مقبولية واتساقاً.

كان صدور رباعيته: الزناد، بلا بوش دنيا، غنم الشيوخ، وفلوس حميّد، (العام 1973)، محطة جديدة لا على مستوى الرواية العراقية فحسب، بل في تقديم روائي ريفي يستطيع أن يؤثّر على المدينة ومثقّفيها، وليس كما كان العكس جارياً، فلم يعد “أبوگاطع” في خطابه أو حكاياته وأقصوصاته، ولا سيّما رباعيته يقتصر على مخاطبة الفلاحين والأوساط الشعبية، بل امتدّ ليشمل ما يكتبه عن المدينة بما تحتويه من تيارات فكرية وثقافية واسعة، سواء من كان معه أو ضدّه، الأمر الذي أثار جدلاً واسعاً حول كتاباته لدرجة أنّها مُنعت فتمّت ملاحقته بتهم أقلّها “الإعدام” على حدّ تعبيره الساخر، حيث اضطرّ إلى مغادرة العراق نحو المنفى (العام 1976)، مع ملابسات ما حصل له لاحقاً (في براغ)، وهناك قضى بحادث سير في 17 آب (أغسطس) العام 1981

مرّ 36 عاماً على رحيل “أبوگاطع” “شمران يوسف الياسري”، (أبو جبران) الذي اشتهر بكنيته، كما اشتهر راويته الشخصية الأثيرة المعروفة  باسم “خلف الدوّاح”، وهو اسم مستعار لشخص حقيقي، وليس وهمياً، فاسمه هو “گعود الفرحان”، الذي كنت قد نشرت صورته لأوّل مرّة في كتابي “على ضفاف السخرية الحزينة”، وكان خلف الدوّاح مثل ظل “أبوگاطع”، ملازماً له، يمشي خلفه أو أمامه أو معه حيث يذهب وهو أنيسه ومحاوره وناقده الأول، مثلما هو صانع الحكايات الخلفية وحائك القصص والمقالب ومُردّد الأمثال الشعبية، تلك التي وظّفها “أبوگاطع” واستلهم منها الكثير من الحِكَم والأقوال والقصائد ذات المعاني والدلالات.

لقد مرّ 20 عاماً على إصدار أول كتاب عنه في لندن والموسوم ومع أنّه لم يكن  وهم لديّ وأنا أحضّر لإعداد الكتاب، وأراسل عدداً من الأصدقاء والمعنيين، وألقي محاضرات عنه سبقت ذلك وأعقبته، في براغ وبرلين وكوبنهاغن ولندن ولوند ودمشق، أنّ ثمّة جيل جديد لم يعرف “أبوگاطع” أو حتّى سمع به، خصوصاً جيليّ الثمانينات والتسعينات، ولا سيّما خارج العراق.

وقد أدركت ذلك حين أقمت له تكريماً واحتفاءً بالتعاون مع “نادي الكتاب العربي” (في كنيسة سانت مارك بلندن) في 3 شباط (فبراير) 1998، وكان الجمهور الأعظم الذي حضر الفعالية ممّن يريد معرفة “أبوگاطع”، وإن عرفه فإنّه يريد الاستزادة عنه، وهو ما كنت ألمسه قبل وبعد إصدار كتابي عنه.

قلت مع نفسي: عسى أن أسدّ بعض النقص في هذا الميدان بتسليط الضوء على فنّ وأدب “أبوگاطع” وحياته، منطلقاً من العام إلى الخاص، لأعود بالتركيز على الأخير، وخصوصاً في سنواته الأخيرة من خلال علاقة شخصية أثيرة، والهدف هو  تعريف القارىء العراقي في المنفى، والقارىء العربي عموماً، بالثقافة والأدب والإبداع العراقي لمواجهة النسيان من جهة، والجحود والتنكّر من جهة ثانية.

وحين أقدّم للقارىء روائياً وصحافياً، متميّزاً بسخريّـته المحبّبة، وأسلوبه النقدي اللاّذع ومحاكاته للجمهور، فإنّني أقصد التعريف بالواقع العراقي ثقافة وأدباً وفكراً، وذلك ضمن سلسلة لعدد من الشخصيات المتميّزة، وقد شملت الدراسة قبله الشاعر الجواهري في كتابين (1986 و1997)، وأعقبته بدراسة عن حسين جميل “جذور التيار الديمقراطي في العراق” (2007)، ثم كتاب عن سعد صالح (جريو) “الوسطية والفرصة الضائعة” (2009)، وكتاب عن عامر عبد الله “النار ومرارة الأمل – فصل ساخن من فصول الحركة الشيوعية” (2013(.

والهدف هو وضع بعض الشخصيات الوازنة في دائرة الضوء، وإفساح المجال في قراءتها جمالياً من خلال رؤى وخلفيات متنوّعة ومتعدّدة فنياً، فضلاً عن معرفة تفاصيل حياتها، ومصادر ثقافتها، ناهيك عن آرائها وأفكارها بما فيها من هواجس ومخاوف وأحلام ونقاط ضعف.

لقد أتقن “أبوگاطع” حرفته وأدرك مدى تأثيرها في كسب الجمهور وإثارة الجدل حول ما يكتب،مبتكراً طرقاً مباشرة وغير مباشرة للنقد والتّحريض والتّفكير، والهدف هو الوصول إلى القارئ، سواء بتفخيخ حكاياته وأقصوصاته وجُمله أو استدراجه لدائرة الإيهام،وفي كلّ الأحوال دفعه للتّساؤل والشك،لما تستثيره نصوصه، فتارةً يستفزّ المتلقّي من البداية وأخرى يرخي له المقدّمة ليوحي له بنهاية مستريحة، لكنّه سرعان ما يفاجئه قبل الخاتمة بالعودة لدائرة السؤال،تلك هي حبكته الدرامية المتميّزة.

وكان “أبوگاطع” قد تمكّن من أدواته وامتلك فنّ مخاطبة قلوب وعقول الناس، بلغة بسيطة وعميقة في آن، أقرب إلى “السّهل الممتنع”، عبّر عنها بثقة عالية وبأسلوب بارع خصوصاً حين تتعاشق مفرداته العامية مع الفصيحة في تناسق باهر وتلقائي ، مزاوجاً بين الحزن والفكاهة على نحو متماسك وغير قابل للفصل.

وعلى الرّغم من كونه مثقّف أعزل وفرد “نفر” -على حد تعبيره- وبإمكانات محدودة وشحيحة، إلاّ أنّ أسئلته المشاغبة كانت تتميّز بإثارة شكوك وارتيابات تفوق تأثيراتها ما تفعله هيئات أو مؤسسات أحياناً، في ظلّ أساليب الدّعاية والحرب النفسية والصراع الأيديولوجي الذي كان سائداً على نحو حاد في زمانه.

ودليلي على ذلك أنّه  اضطرّ لطباعة روايته “الرّباعية”على نفقته الخاصة، بعد أن امتنعت الجهات الرسمية من طبعها، بزعم عدم استيفائها الشروط الفنية، لكنه باع عشرات، وربما مئات النسخ، حتى قبل صدورها لدفع ثمنها إلى المطبعة، وقد حجز العديد من الأصدقاء نسخهم قبل أن تطبع، ولا أعتقد أنّ كاتباً استطاع أن يفعل ذلك قبله أو بعده. إنّها طريقة “أبوگاطعية” بامتياز، له براءة اختراعها.

كان تأثير ما يكتب كبيراً على السلطة ومعارضتها، بل حتى داخل الحزب الشيوعي نفسه، حيث يجري صراع “مكتوم” بين قيادة “مسترخية” وقاعدة “مستعصية”، فقد كان أقرب إلى “بارومتر” يقيس فيه الناس درجة حرارة الجو السياسي. وقد نجح في توظيف علوم عديدة لاختيار الوسيلة الأنجع واختبارها، وذلك من خلال علم النفس وعلم الاجتماع وأساليب التغلغل الناعم والحكاية الشعبية ليصل إلى مراده، متحدّياً الجميع أحياناً، بمن فيهم نفسه، حتى وإن اقتضى الأمر المغامرة، باحثاً في كل ذلك عن المغايرة والتميّز والجديد والحقيقة البيضاء.

ولهذا السبب استقطب جمهوراً واسعاً، ناهيك عن القيم الجمالية التي حاول إظهارها، كاشفاً لنا عن عمق ودراية ما يجري في المجتمع، خالقاً أبطالاً هدفهم إسعادنا، على الرغم مما كان يعانيه من ألم، وكما قال غائب طعمة فرمان عنه: إنّه إنسان ثابت في أرضه، يعرف كل شبر منها، عاليها وسافلها، حلوها ومرّها، مذاق ثمارها وملوحة عرق الكدح فيها، يتغنّى بشفافية روح، بشجاعة قلب، وحكمة نظرية ومكتسبة بما يمثل الهيكل الإنساني لحياة ابن الريف.

ويمضي فرمان للقول: لقد وظّف شمران نباهته ورهافة حسّه ولذاعة سخريّته ووضع كل ذلك في يد صديقه وأخيه الفلاح، ليلتمس مواطن الضعف والمأساوية في حياته، ويجعل من حياته البسيطة الساذجة في أحيان كثيرة قصصاً يمكن أن ترى وتجلب التعاطف، وتسجل تاريخاً لم يجرِ المؤرخون على تسجيله.

والقراءة لا ينبغي أن تكون من باب التمجيد والمجاملة، بقدر ما تكون قراءة نقدية منهجية وموضوعية، بما له وما عليه، فضلاً عن إمكانية إفادة القارىء من الأجيال الحالية والقادمة، بالأجواء السياسية والفكرية والثقافية التي كانت سائدة في عهده والتحدّيات والكوابح التي اعترضت طريقه، ودوره المتميّز على الرغم من ظروفه الحياتية والمعيشية الصعبة، فلم يتمكن من إكماله دراسته، وهو ما يطرح أسئلة على الجيل الحالي والأجيال المستقبلية: ترى من أين جاءت موهبته؟ وكيف تمكّن من صقلها؟ ثم كيف استطاع إنماء ملكاته وتطوير قدراته؟ بحيث احتلّ هذه المكانة الاستثنائية ملتحقاً بجيل الروّاد الذين سبقوه، ومنتقلاً من عالم الصحافة السريع والكثير الحركة إلى فضاء الرواية الذي يحتاج إلى التأمّل والدّقة.

ثم ألا ينبغي دراسة نصوصه التعبوية والتحريضية في إطار فصل الصراع ووسائل الدعاية المؤثّرة التي كان يستخدمها، والنقد الذي امتشق سلاحه بمهارة ودقة كبيرين، خصوصاً حين يعطّر كل ذلك بمسحة من السخرية والدعابة وخفّة الظل؟

لقد عرف العراق لوناً جديداً من ألوان الأدب الساخر مع “أبوگاطع”، الذي برز فيه بنتاجه المتنوّع، سواء حديثه الإذاعي الموجّه إلى الفلاحين أو أقصوصاته وحكاياته، حين نقل حديث المجالس والمضايف والديوانيّات، ليجعله مادة للكتابة الصحافية، التي اتّسمت بها مقالاته، بحيث أثّرت فيها شخصيات الريف النائي والمعزول، بيوميات المدينة وأحاديثها وهمومها والجديد فيها، وانتهاء برواياته وخاصة رباعيته أو رواية “الحمزة الخلف“.

لا أدري إلى أيّ حدٍّ – ونحن نستعيد “أبوگاطع” – يمكن أن نستذكر الروائي الإنكليزي تشارلز ديكنز  صاحب رواية: “قصة مدينتين A Tale Of Two Cities”، فقد امتاز أسلوبه هو الآخر بالدعابة البارعة والسخرية اللاّذعة وصوّر جانباً مهمّاً من حياة الفقراء وحظي بشعبية لم ينلها مجايلوه.

وإذا كانت السّخرية تميّز أسلوب “أبوگاطع”، فثمّة أحزان كانت تغلّفها على نحو عميق. ربّما وجد “أبوگاطع” فيها بعض التخفيف عن قسوة حياتنا ومراراتها وإخفاقاتنا المتكرّرة، فلجأ إلى إضفاء مسحة من التندّر والضحك عليها، حتّى وإنْ كان ضحك أقرب إلى البكاء، كما هي حالنا وأوضاعنا. لقد أمطرتنا حكاياته وأقصوصاته بعناقيد لذيذة من السخرية الحزينة، لفتح شهيّتنا للنقد من أجل حياة أكثر يُسراً وأكبر قدرة على الاحتمال والمواءمة.

وكما يقول المتنبي:

وَماذا بمِصْرَ مِنَ المُضْحِكاتِ          وَلَكِـنّهُ ضَحِـكٌ كــالبُـكَاء

وكان الشاعر نزار قباني في إحدى زياراته للعراق، قد قال :

مرحباً يا عراق، جئت أغنيك          وبعض من الغــناء بكاء

لأنّه كان يدرك أن الحزن معتّق في العراق، وهو أصيل ومتجذّر، ويكاد يطبع كل شيء، فحتى فرح العراقيين وغنائهم ومناسبتهم المختلفة، كلها مغلفة بالحزن الجميل، ولذلك كانت سخرية “أبوگاطع” تداف بالحزن الجليل

إنّ سخرية مثل سخرية “أبوگاطع”، وهو يتناول أعقد القضايا وأخطرها، لا بدّ أن تكون سخرية جادة ومسؤولة، بل هي موقف من الحياة والكون والتطوّر، وقد حاول شمران الياسري أن يواجه تعقيدات المجتمع وصراعاته ومشاكله وهمومه بنوع من السخرية، لأنّ هذه الأخيرة في نهاية المطاف تعبّر عن موقف مقابل لكل تلك الإشكاليات، وهو ما دعا كارل ماركس للقول: “إني أقف ممّا هو مضحك موقفاً جادّاً“.

لقد كتب “أبوگاطع” تاريخ الريف العراقي، كجزء من تاريخ الدولة العراقية والمجتمع العراقي، فعالج ذلك بسخرية ودعابة وتهكّم، لدرجة أنّ روائي المدينة غائب طعمة فرمان يقول عن شخصياته “لقد وجدت نفسي أمام وضع دقيق لجوانب حيّة وشخصيات سمعت بحّة صوتها في أذني، كنت أمام ما نسمّيه موسوعة الريف، ولكنّ كاتبها أديب جعل كل شيء يدبّ حيّاً“.

وحاول “أبوگاطع” الكشف عن حياة مطوية تقريباً، فقام بتصوير الواقع بكاميرا بانورامية، ملتقطاً صوراً تكاد تكون فاضحة عن حقيقة حياة الريف، لا سيّما وهو يدخل إلى أعمق أعماقه، لأنّه ليس طارئاً عليه أو غريباً عنه، بل هو من صلبه ومن مكوّناته، فقد كان يعرف تمام المعرفة البيئة التي يتحدّث عنها بجميع تفاصيلها وتعقيداتها وتناقضاتها، وهو لا يأتيها زائراً أو مشاهداً، بل راصداً لها وفاعلاً فيها، لذلك جاءت صوره حسيّة تلامس حياة الريف بكل إيجابياته وسلبياته.

وصدق الروائي الروسي مكسيم غوركي حين قال: “التاريخ لا يكتبه المؤرخون، بل الفنّانون الذين يكتبون التاريخ الحقيقي للإنسان”، فقد كان “أبوگاطع – أبو جبران” هو مؤرّخ الريف، حيث عكست رباعيته حياة الفلاّحين والشيوخ والإقطاع والسراكيل والنساء والعشق والحب المحّرم والظلم والقسوة، والعادات والتقاليد الاجتماعية وزيف بعض رجال الدين وخداعهم. ولولا “أبوگاطع”، لضاع هذا الجزء المهم من تاريخ الدولة العراقية، وللدقة لضاعت إحدى الرؤى لها، والتي يمكن مع رؤى أخرى تكوين صورة شاملة ومتعدّدة الألوان للريف العراقي.

ولأنّ ما كتبه “أبوگاطع” لا يزال راهنياً، بل يمثّل جزءًا من حياتنا اليومية، فإنه لا يزال حاضراً بيننا، وأراه باستمرار في المعركة الدائرة في مجتمعاتنا ضدّ التعصّب والتطرّف والغلوّ والطائفية، وهي معركة الحداثة والحرّية وحقوق الإنسان والجمال والانفتاح واستعادة هيبة الدولة الوطنية ووحدتها، في مواجهة استمرار التخلّف والقمع والإقصاء والقبح والانغلاق والفوضى والميليشيات.

تلك هي معركة “أبوگاطع”، وهي معركة خارجية ضد الهيمنة ومحاولات فرض الاستتباع والإرهاب بقدر ما هي معركة داخلية ضد قوى الظلام والاستبداد، إنّها معركة مع الآخر وفي الوقت نفسه هي معركة مع الذات أيضاً، (النحن والأنا) لتطهيرها مما علق بها من أدران وترهات وتشويهات. إنّها باختصار معركة الحقيقة والتقدّم، وبالطبع فهي معركة كل كاتب حرّ وصاحب فكر منفتح.

أبوگاطع” الذي رحل قبل أكثر من  ثلاث عقود ونصف من الزمان، لا زال يعيش بيننا، نحدّثه ويحدّثنا، نستمع إلى قهقهاته وإلى أنّاته، ونتحسّس عمق جرحه وألمه من طرف ابتسامته الساخرة.

 

بقلم الكاتب 

عبد الحسين شعبان

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com