سينما

توظيف النص المقتبس في الأدب والسينما

بيدر ميديا.."

توظيف النص المقتبس في الأدب والسينما

زيد خلدون جميل

 

أنتج الفيلم المصري «أرض النفاق» عام 1968 بطولة فؤاد المهندس وشويكار، ونال نجاحا ملحوظا في أوساط الجمهور والنقاد. يتناول الفيلم قصة موظف صغير (فؤاد المهندس) يائس من حياته وناقد لظروفه الاجتماعية والاقتصادية. ويكتشف هذا الموظف بالصدفة متجرا يبيع حبوب أخلاق، فهناك حبوب للشجاعة وأخرى للصراحة أو النفاق وغيرها. ويتغير حظ الموظف مع تغير الحبوب التي يتناولها، وأن الحظ يحالف من يتناول حبوب النفاق.
والفيلم هو الاقتباس الثاني من رواية الكاتب المصري يوسف السباعي، بالعنوان نفسه. الاقتباس الأول كان فيلم «أخلاق للبيع» (1950) بطولة محمود ذوالفقار وفاتن حمامة. وما تزال رواية يوسف السباعي التي نشرت عام 1949 تثير إعجاب النقاد كمرآة تعكس حقيقة المجتمع العربي بشكل عام والمجتمع المصري بشكل خاص، حيث وصفت الرواية المجتمع المصري بأنه مجتمع يسوده النفاق والتزلف والخنوع، ويتعرض المواطن فيه كل يوم للإهانة والظلم.
لكن النقاد الذين امتدحوا الرواية لفكرتها المبتكرة وصحة جوانبها الاجتماعية كانوا من السذاجة أنهم لم يلاحظوا أن يوسف السباعي، نافق في كل جوانبها، أو لعل أحدهم لاحظ ذلك، لكنه لم يكشف الأمر لسبب ما، فلم تكن الرواية من بنات أفكار يوسف السباعي، الذي نال شرف ابتكارها، لأنه اقتبسها أو سرقها من رواية «المطارِد» The Chaser للكاتب الأمريكي جون كولير John Collier الذي نشرها عام 1940 حيث تناولت الرواية الأمريكية فكرة المتجر الذي يبيع أدوية مشاعر وأخلاق. لكن الرواية الأمريكية لم تكن حول مشاكل اجتماعية تعصف المجتمع الأمريكي، بل حول عاشق ولهان يحاول الحصول على حب محبوبته. وكانت الرواية الأمريكية نفسها متأثرة برواية أخرى أقدم منها، الا وهي رواية «الحالة الغريبة للدكتور جيكل والسيد هايد» The Strange Case of Dr. Jekyll and Mr. Hyde للكاتب الأسكتلندي روبرت لويس ستيفنسن، الذي نشرها عام 1886.
ما قام به يوسف السباعي في الحقيقة لم يكن تأليف قصة مبتكرة، بل توظيف الفكرة الأمريكية في وصف بعض السلبيات الاجتماعية، التي يدركها المشاهد جيدا أصلا. لكن النقاد والإعلام لعبوا دورا غريبا في تضخيم الأمر، وحولوا رواية ساذجة إلى عمل درامي كبير يبين مشاكل خطيرة لا يعاني منها سوى المجتمع العربي وتبين انحطاطه. ولا نعرف ما إذا كان يوسف السباعي، قد توقع رد فعل النقاد، إلا أنه بالتأكيد استمتع به لأنه جعل روايته عملا أدبيا شهيرا دون استحقاق، وبالتالي دخل الكاتب عالم الشهرة، لكن هناك عوامل أخرى ساعدت على شهرة الرواية والكاتب، ألا وهي توقيتها وما حدث في مصر بعد ذلك، فقد كان يوسف السباعي من الضباط المؤيدين لانقلاب عام 1952 في مصر، الذي أطاح بالنظام الملكي. وبالتالي قام الإعلام التابع للنظام الجديد بالادعاء أن الرواية بينت أن المجتمع المصري كان يشكو من تلك السلبيات في العهد الملكي السابق. ومع ذلك، فإن شهرة وتأثير الرواية لم ينحصرا في ذلك المجال، بل ازدادت شمولا تدريجيا لتحاول إثبات أن تلك السلبيات ملازمة للمجتمع العربي، وفي جميع الأزمان وتعريه من أي صفة حميدة، وأنها لا توجد في أي مجتمع آخر.

السؤال هنا هل كانت تلك الصفات تسيطر فعلا على المجتمع المصري، وهل تميز بها عن بقية المجتمعات في العالم؟ لقد نشر يوسف السباعي روايته عام 1949 عندما كانت مصر تشهد تطورا ملحوظا في جميع الميادين. أما بالنسبة للمشاكل التي تعصف المجتمع، فإن المجتمع الأمريكي كان يعاني منها كذلك، بل أكثر من المجتمع المصري بكثير، إذ لم يعانِ المجتمع المصري من مشاكل التفرقة العنصرية، أو الفضائح السياسية، أو الانتشار الهائل للمخدرات أو المعدل المخيف للإجرام العنيف والفضائح المالية، لاسيما الأزمة المالية التي حطمت عددا كبيرا من العوائل الأمريكية والقائمة تطول. أما المشاكل التي كان المجتمع المصري يعاني منها، فموجودة في كل مجتمع في العالم، لأنها في الواقع الطبيعة البشرية، فلا يخلو أي مجتمع من النفاق والتزلف والخوف والفقر. ومن غير المحتمل أن كاتبا مثقفا مثل يوسف السباعي لم يكن قادرا على إدراك أنه لم يكن يكشف حقائق، بل يبالغ في مدى جدية مشاكل عادية مما جعل المشاهد يكره كل ما حوله، وأن السوء متجذر في شخصيته لأنه عربي. وكانت النتيجة أن الكثير من المواطنين العرب آنذاك أصبحوا يظنون أن مجتمعهم سيئ في جميع جوانبه، وأن نظامهم السياسي يعرقل تطورهم مهما كانت نسبة النجاحات التي يحققها، دون أن يلاحظوا عدم واقعية نظرتهم تلك، فليست مشكلة الإعلام العربي قلة نقد الذات، بل الإفراط في الحط من الذات. وبالتالي شكك المصريون في النظام الملكي حتى ظنوا أنهم دونه سيصبحون بتقدم الدول الغربية، وأن كل أحمق كان قادرا على إدارة الدولة أفضل من الحكام الحاليين في تلك الفترة. ولم يكن المجتمع العراقي مختلفا عن ذلك المصري، فقد ظهر من يبالغ في سلبيات المجتمع العراقي بشكل مثير للسخرية، وفي مجالات مختلفة وكان لذلك تأثير بالغ في الرأي العام العراقي، فمثلا قام الحزب الشيوعي العراقي باختلاق مختلف القصص لزرع الشك في عقل الشباب العراقيين في الخمسينيات حول بلدهم، دون أن يذكر المشاكل الحقيقية فيه، وقد ساعد على ذلك الإعلام الأوروبي الذي أدعى في تلك الفترة أن الحزب الشيوعي بشكل خاص واليسار بشكل عام يمثل كل المثقفين. ولم يكن ذلك مفهوما خاطئا فحسب، بل إن دراسة متعمقة في الحزب الشيوعي العراقي تبين أنه لم يكن شيوعيا أصلا، بل مجموعة من الاتجاهات المتطرفة التي جمعها هدف تحطيم الدولة العراقية وأخفت أهدافها الحقيقية بمظلة المظهر الشيوعي. وظهر أشخاص نالوا شهرة واسعة في هذا النوع من النشاط، لكن كل منهم استهدف شريحة مختلفة من المجتمع العراقي، فبرز مظفر النواب الذي حوله الإعلام إلى شاعر شيوعي كبير، بينما لم يكن في الحقيقة شيوعيا، كما لم يكن شعره سوى ألفاظ نابية سوقية لا علاقة لها بالشعر. أما بالنسبة لمدعي الثقافة، فقد اشتهر الدكتور علي الوردي الذي وصف الشخصية العراقية وكأنها منحرفة ومتخلفة بالفطرة.

مقارنة بسيطة بالسينما الغربية نكتشف الكثير عن طريقة معالجة السينما الأمريكية للمشاكل الاجتماعية، فالأفلام التي أظهرت مشاكل المجتمع كثيرة، لكن الاتجاه العام فيها يميل إلى وجود الأمل في الحياة والنجاح في الحد منها، فأشهر المسلسلات التلفزيونية مثل «بونانزا» Bonanza و»البيت الصغير» Little House on the Prairie «عائلة والتن» The Waltons التي تناولت المجتمع الأمريكي بشكل خيالي، وكيف تتم معالجة الأزمات والعيوب والإجرام بشكل ناجح، ما يحقق تقدما في المجتمع نتيجة المبادرات الشخصية لأشخاص خيرين، فمهما حدث يبقى المجتمع متماسكا وقائما على أسس صحيحة. وحتى المسلسلات التي تتناول عالم الأجرام مثل «كولومبو» Colombo و»القانون والنظام» Law & Order فالمجرم مصيره السجن أو أكثر دائما، على الرغم من كون الواقع مختلفا تماما، حيث تتم إدانة المجرمين في أقل من نصف العدد الكلي للجرائم. لنأخذ مثالا آخر في الاقتباس الذي يتم تسويقه بشكل يختلف عن الأصل، وهو فيلم «في بيتنا رجل» بطولة عمر الشريف وزبيدة ثروت وحسن يوسف وعرض عام 1961. ويتناول الفيلم قصة شاب (عمر الشريف) يغتال رئيس الوزراء المصري الموالي للبريطانيين في العهد الملكي، ويلجأ إلى مسكن زميله في الجامعة (حسن يوسف) هربا من الأجهزة الأمنية. وأثناء مكوثه في ذلك المسكن تحبه شقيقة الزميل. وقد اقتبست قصة الفيلم من رواية بالاسم نفسه للكاتب المصري إحسان عبدالقدوس كان قد نشرها عام 1957. وأدعى الإعلام في ما بعد أنها مأخوذة من حادثة حقيقية كان الكاتب من أبطالها. لكن الغريب في الأمر أن فيلما فرنسيا بعنوان «بيت الفرح» Joy House أنتج عام 1964 ومثل فيه آلان ديلون وجين فوندا ، كانت قصته مشابهة جدا للفيلم المصري باستثناء انها عن شخص يهرب من المافيا. لكن الفيلم الفرنسي لم يكن مقتبسا من الفيلم المصري، بل من رواية للكاتب الأمريكي دَي كين بالعنوان نفسه، ونشرت عام 1954. وكان كل ما فعله إحسان عبدالقدوس، استبدال المافيا الأمريكية بالأجهزة الأمنية الملكية، وإضافة العامل الوطني وانتقاد العهد الملكي. وفي الحقيقة أن الفيلمين افتقرا إلى المنطق، لاسيما الفيلم المصري، لكن الجمهور العربي والغربي نسي الفيلم الفرنسي بينما ما يزال الفيلم المصري يثير مخيلة النقاد ومتابعي السينما العربية. وسبب ذلك هو الجانب الوطني للفيلم المصري الذي يعد أفضل دعاية لأي عمل سينمائي أو أدبي، إذ يضمن ذلك العمل دعم الإعلام الرسمي الكبير، لاسيما أن الرواية كانت تصف الوضع في مصر إبان الحكم الملكي الذي كان النظام المصري الجمهوري معاديا له، بالإضافة إلى التأثير الغريب للأفلام الوطنية على الجمهور، مهما كان بعدها عن الواقع وكأن ما يظهر في الفيلم انتصار حقيقي، وأن الممثلين أبطال حقيقيون. ويعرف الممثلون والمخرجون ذلك، ولذلك فإنهم يسعون دائما للاشتراك في الأفلام الوطنية.
ومن الخطأ استثناء الجمهور العربي في هذه الحالة، لأنها ظاهرة موجودة في جميع أنحاء العالم، بل إن الحكومات المحلية تقدم مساعدات مهمة في عملية إنتاج هذه الأفلام. وبهذه الطريقة ضمن إحسان عبدالقدوس نجاح عمله الأدبي وشهرته والفيلم السينمائي الذي اقتبس منه.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com