مجتمع

صلاح عمر العلي تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (الحلقة الأولى.

بيدر ميديا.."

صلاح عمر العلي تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (الحلقة الأولى

عبد الحسين شعبان

تمهيد
على الرغم من اختلاف منطلقاتنا الفكرية، وظروف الصراعات اللّاعقلانية التي شهدها العراق، ولاسيّما بين البعثيين والشيوعيين، لم أجد ما أختلفُ عليه مع صلاح عمر العلي في العقود الثلاثة ونيّف المنصرمة.
وصلاح عمر العلي هو من الجيل الثاني للبعثيين العراقيين، وقد برز اسمه بعد انقلاب 17 تموز / يوليو 1968، الذي أعاد حزب البعث إلى السلطة بعد التجربة الدموية التي شهدها العراق، عقب انقلاب 8 شباط / فبراير 1963. وظلّت صورته في الذاكرة العراقية ارتباطًا بالانقلاب التموزي الثاني في 30 تموز / يوليو 1968، الذي أطاح بعبد الرزّاق النايف، رئيس الوزراء، حيث ظهر على شاشات التلفاز مع صدام حسين واثنين من رفاقه، وهم فريق التنفيذ، الذي أجهز على النايف، وحملته طائرة خاصة إلى المغرب حينها، وما قيل من مبررات أن ذلك كان جزءًا من خطة مسبقة، بعد أن عرف النايف وعبد الرحمن الداوود بموعد انقلاب 17 تموز / يوليو، واضطّرت قيادة البعث إلى التعاون معهما كي لا ينفضح أمر الحركة، ولكنها كانت مصممة على التخلّص منهما بأسرع وقت، وهو ما حصل يوم 30 تموز / يوليو، أي بعد 13 يومًا من الإنقلاب الأول، حسب الرواية الرسمية، التي شاعت.
واحتلّ صلاح عمر العلي مكانة بارزة بعد القيادات العسكرية (أحمد حسن البكر وصالح مهدي عماش وحردان التكريتي)، والقيادات المدنية (صدام حسين وعبد الخالق السامرائي وعبد الله السلّوم السامرائي)، فهو عضو في مجلس قيادة الثورة، وعضو في القيادة القطرية ووزير الإعلام والثقافة، إضافة إلى مسؤولياته الأولى عن قطاع الشرطة (الحزبي)، وخارج بغداد منسقًا لعدد من المحافظات (حزبيًا).

صداقات مع المثقفين
خلال فترة قصيرة من تولّيه المسؤولية، ارتبط صلاح عمر العلي بصداقات مع عدد من المثقفين، واستقطب بعضهم بمن فيهم بعض اليساريين وغير البعثيين، وكان من أبرز أصدقائه، في تلك الفترة، المفكر العراقي المختفي قسريًا منذ العام 1991، عزيز السيد جاسم. وفي استعادة تلك الفترة خلال أحاديث مع صلاح ربما زادت على ثلاثة عقود من الزمن، قال لي: كنت أضيّف السيد جاسم في منزلي مرّة أو أكثر في الأسبوع، لأتباحث معه في شؤون الثقافة والمثقفين، واستمع إلى رأيه وملاحظاته عن الثقافة العراقية وحقولها المتنوّعة لاطلاعه الواسع وعلاقاته المختلفة، وبعد أن يأكل ويشرب وينتشي، يشتُمُ التكارتة وينتقد بعض مواقفنا السياسية، ويُغادر المنزل، وهي طريقة مملّحة للتعبير عن صداقته اعتدت عليها، وكنت أقبلها من الصديق عزيز، لأنني كنت أشعر أنها نابعة عن حرص وشعور بالمسؤولية، وكان “السيّد” كما أسمّيه، يُطلقها بعفوية محببة، مصحوبة بلهجته الجنوبية وحسجته وتنظيراته المتقدمة.
وكان صلاح، القادم من تكريت، قد عاش في الناصرية، موظفًا في البلديات، إثر انقلاب 18 تشرين الثاني / نوفمبر 1963، الذي أطاح بحزب البعث، وقاده “المشير” عبد السلام محمد عارف، ودائمًا ما يذكر أهل الناصرية بالخير والمحبة والإعجاب، وظلّ يرتبط بعلاقات واسعة مع العديد من نخبها السياسية والاجتماعية.
ويذكر صلاح، وهو ما كتبته وجئت على ذكره أكثر من مرّة بخصوص الشاعر عبد الأمير الحصيري، أن عزيز السيد جاسم اصطحب معه إلى زيارتي شخصًا لم أتعرّف عليه، ولم أسمع عنه قبل ذلك لانشغالي بالعمل السياسي، وقال لي هذا شاعر كبير، وعليك إيجاد وظيفة مناسبة له.
وحين أقبل عليّ الحصيري، والكلام لصلاح، لم أستسغ منظره ولا رائحته، فكان يرتدي أسمالًا بالية ومترهّلة، ويحمل بيده حقيبة متآكلة، فقلت مع نفسي: أهذا هو الشاعر؟ وهذا هو الشعر؟ وكنت قد تعرّفت على الجواهري معجبًا وقارئًا، والتقيت به بعد 17 تموز / يوليو، وكرّمته ووجدت فيه ملاحةً وكبرياءً وتطلّعًا، بل وحبًا للحياة على الرغم من تقدّمه في السن، لكنه كان يعشق الجمال ويرنو إليه، فماذا سيكون رأيه لو التقى بالحصيري ؟
ويُضيف صلاح أنه عرف رأي الجواهري الكبير بالحصيري، الذي اعتبره شاعرًا واعدًا ومبدعًا. وقد ظلّت علاقة صلاح عمر العلي بالجواهري قويّة جدًا، وهو الذي أقنعه بحضور مؤتمر المعارضة في بيروت (آذار / مارس 1991)، بل أنه هو من اصطحبه من دمشق إلى بيروت بسيارة خاصة. وكان الجواهري كلّما يُذكر إسم صلاح عمر العلي أمامه، يقول: بأنه زين الشباب وأن “أبو عمر” صاحب موقف وصديق وفي، وهو ما سمعته منه أكثر من مرّة.
أصدر صلاح عمر العلي أمرًا بتعيين الحصيري، ووجد له السيد جاسم وظيفة أخرى في مجلة “”وعي العمّال، التي كان يشرف عليها عبد الخالق السامرائي، وهكذا أصبح راتب الحصيري، حوالي 80 دينارًا، في حين كان راتب خريج الكليّة 42 دينارًا. ورويت كيف صرف الحصيري أول راتب استلمه، فجاء يبحث عنّا في حانة الجندول في شارع أبو نؤاس، حيث كنا نلتقي ثلّة من الاصدقاء غالبيتنا مثقفين وأدباء وسياسيين (طلبة أو خريجين)، مساء أول خميس من الشهر، وما أن رآنا حتى انفرجت أساريره، فأخرج حزمة دنانير من جيبه، وأعطاها إلى النادل، مخاطبًا إياه: الجماعة “ويير” على حسابي، وكلمة “ويير” تعني مدفوعًا حسابهم، وكلما كان يأتي من يعرفه وسبق أن استضافه على كأس عرق، حتى يضمه إلى قائمة ضيوفه ليتولّى دفع حسابهم.
يقول صلاح: بعد أن قابلت الحصيري والسيد جاسم، وأصدرت الأمر، طلبت من السيد جاسم مقابلتي لوحده، فدخل عليّ، فطلبت منه شراء بدلتين وقمصان وأربطة وأحذية للحصيري، وعليه الاستحمام باستمرار، كي يبدو بالمظهر اللائق بالثقافة والمثقفين، خصوصًا بالنسبة لموظفي الوزارة، وهو ما حصل، ولكن لأشهر قليلة لا تزيد من عدد أصابع اليد، “فعادت حليمة إلى عادتها القديمة”، وعاد الحصيري مجددًا إلى بوهيميته وحياته العبثية وطريقة عيشه الوجودية الصعلوكية، وانقطع عن العمل وعن تصحيح المواد المرسلة إليه. وقد رويت ذلك في مقالة لي العام 2008، بعنوان “الحُصيري: الشعر والتمرّد الدائم”.
يقول الحصيري:
أنا الشريد لماذا الناس تذعر من / وجهي وتهرب من قدّامي الطرق؟
وكنت أفزع للحانات تشربني / واليوم لو لمحت عيني تختنق

أبو أيوب “أبو عمر”
كان صلاح يُكنّى ب “أبو أيوب”، ثم أخذ يُعرف ب “أبو عمر” لاحقًا، وعمر هو نجله البكر، والذي فارق الحياة وهو في عزّ شبابه، وترك لوعة لدى العائلة. لم يستمر صلاح عمر العلي في الوزارة طويلًا، فقد حصلت خلافات في مجلس قيادة الثورة، الذي كان يجتمع في كل يوم أربعاء، وكان عمّه، شاكر علي التكريتي، الصحافي المعروف، قد أخبره بما حصل للدكتور شامل السامرائي، وهو طبيب، وكان وزيرًا للصحة، فقد تعرّض للتعذيب والإهانة عند اعتقاله، وقد خاطبه بشيء من الاستفزاز: أهذا ما وعدتم به الناس بثورتكم البيضاء، وقلتم أنكم سوف لا تلجؤون إلى ما فعلتموه في انقلاب 8 شباط / فبراير 1963؟ فما كان من صلاح، إلّا أن عرض الموضوع على مجلس قيادة الثورة، وحصل خلاف حول صحّة أو صدقية رواية السامرائي، فطلبوا منه إحضاره إلى القصر الجمهوري.
وبالفعل جيء به إلى الموعد في الأسبوع التالي ليسأله طه ياسين رمضان وصلاح عمّا تعرّض له خلال فترة اعتقاله، فردّ بكلمات غامضة: مردّدًا أنها “ضيافة أخوية”، وهي تورية، وكان قد شعر بخوف شديد، وحين طُلب منهما تقديم تقرير عن المقابلة إلى مجلس قيادة الثورة، قال رمضان: أن السامرائي شكر الحزب والثورة على المعاملة الحسنة، ونفى أنه تعرّض للتعذيب، وضاع صوت صلاح وسط زحام أحاديث عن التشكيك بالعهد الجديد، ومحاولات الانتقاص من هيبته وقوّته.
لم يكتفِ صلاح بذلك، بل قابل الرئيس البكر على انفراد، ليبلغه حقيقة ما حصل وما سمعه على لسان عمّه، إضافة إلى العبارة الوحيدة، التي نطق بها السامرائي، وأبدى نقده الشديد للعودة لمثل هذه الأساليب التي أجهضت “الثورة” في السابق على حد تعبيره، وهكذا بدأت الخلافات تكبر على هامش هذه الحادثة، وبدأ صلاح يكثر من تذمّره من بعض التصرّفات وما يسمعه مما يحصل في قصر النهاية، فأُقيل من الوزارة واختار هو السفر إلى القاهرة وبيروت بعدها، قضى فيهما بضعة أشهر، وذلك تجنبًا للصراعات التي بدأت تتّسع.
في بيروت كما عرفت من الشاعر مظفر النواب، والمخرج السينمائي قاسم حول والشاعر فوزي كريم، أنه كان يلتقي بهم، خصوصًا والجميع في ظروف صعبة، وكان يقوم بضيافتهم كلّما وجد إلى ذلك سبيلا، وهو ما عرفته أيضًا من طلال شرارة، عضو القيادة القطرية اللبنانية لحزب البعث، الذي قال لي:كان يلتقي عند صلاح في بيروت بعض الذين لديهم تحفظات حول المسيرة الجديدة، لاسيّما ما ارتبط منها بالإعلام الخارجي، وتقييم بعض إجراءات الحكم في العراق والمسيرة القومية عمومًا، وقد ظلّت القيادة البعثية اللبنانية، بحكم أجواء الحريّة التي يعيشها لبنان، تمتلك رؤيةً نقديةً أو قريبة منها قياسًا بالبلدان العربية الأخرى.
بعد تشتّت وهموم، عاد صلاح إلى العراق، وقرّر أن يكمل دراسته في كليّة القانون والسياسة، طالبًا مواظبًا على الدوام وإداء الامتحانات، وكان له ما أراد، مبتعدًا عن المواقع السياسية المباشرة، وكان قد هاتفه نائب الرئيس صدام حسين، ليلتقي به ويبلغه أن رفاقه يكاد يجمعون، وباقتناع تام بأن صلاح يضمر شرًا، وهو إن يكن متآمرًا، فهو مستعد للتآمر، وقال له صدام قبل أن ينفي صلاح التهمة، إلّا أنا، فقناعاتي عكس ذلك، وما عليك إلّا أن تتّصل غدًا بمرتضى سعيد عبد الباقي الحديثي، الذي كان فيها وزيرًا للخارجية وتقبل الذهاب سفيرًا إلى أي دولة تختار.

يتبع في الحلقة الثانية بعنوان “صلاح سفيرًا: وأسرار الاستقالة وما بعدها من هموم”.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com