مقالات

«تيكسافورنيا».. ولايتان تصنعان مجد أمريكا

في النسخة الإعلامية من الولايات المتحدة الأمريكية، يجلس الرئيس في مكتبه بالبيت الأبيض يُصدر القرارات التي تغير الأمة. الواقع أمر آخر. في النسخة الحقيقية من أمريك، الكثير من القرارات السياسية الكبرى لا تُصنع بواشنطن وإنما بالولايات، خاصة ولايتين.

تكساس وكاليفورنيا أكبر ولايتين في أمريكا، وأهم ولاياتها على الإطلاق، وكل واحدة منهما ترى في نفسها مستقبل الأمة. خلال العقود الماضية، كانتا تسيران في اتجاهين معاكسين، جاعلتين من نفسيهما ما يشبه حالتين دراسيتين للبلاد. تكشف هاتان التجربتان هل أمريكا تعمل بشكل أفضل حين تخفض الضرائب وتخفف التقنينات، ولا تتدخل الحكومة كثيرا في شؤون المواطنين (تكساس) أم، على العكس، تعمل بشكل جيد حين ترفع الضرائب، وتمعن في تقنين حياة المواطنين، وتتدخل الحكومة بقوة في مشاكل مختلفة، مثل التغير المناخي الذي يعد في العادة من أدوار الحكومة الفيدرالية (حالة كاليفورنيا).

هذه الحالة الخاصة للولايتين، في جزء منها، تفسر بحجمهما. واحد من كل خمسة أمريكيين قادم من تكساس وكاليفورنيا. بحلول 2050، سيصير هذا الرقم واحدا من كل أربعة. خلال العشرين سنة الماضية، خلقت الولايتان ثلث الوظائف الجديدة في أمريكا. القوة الاقتصادية للولايتين تنافس دولا بأسرها. لو كانتا دولتين، كانت تكساس لتكون أكبر بلاد متقدمة على كندا بالناتج الداخلي الخام، وكانت كاليفورنيا لتحتل المرتبة الخامسة خلف ألمانيا مباشرة.

تعيش تكساس وكاليفورنيا، أيضا، منذ الآن، المستقبل الديموغرافي الأمريكي. يمثل الأمريكيون من أصل إسباني 40 في المائة من سكان الولايتين، أي ضعف المعدل الوطني. أصبحت الولايتان مبكرا منطقتي «أغلبية-أقلية». بكاليفورنيا فاق عدد غير البيضِ البيضَ منذ 2000، وفي تكساس منذ 2005. باقي الولايات الأمريكية لن تصل إلى هذا المعدل إلا مع منتصف القرن الحالي. يدرس بكاليفورنيا وتكساس حوالي ربع الأطفال الأمريكيين، وكثير من بين هؤلاء الأطفال فقراء، واللغة الإنجليزية ليست لغتهم الأم. قرب الولايتين من المكسيك، البلاد التي كانت الولايتان جزءا منها، يعني أن عليهما التعايش مع انعكاسات القوانين غير المحينة لتنظيم الهجرة.

للوهلة الأولى، تبدو الولايتان مختلفتين عن بعضهما إلى حد كبير. ليس لتكساس أي مداخيل جبائية. المداخيل الجبائية لكاليفورنيا تسجل أعلى معدل بأمريكا بـ13 في المائة. لدى تكساس تشريعات بيئية فضفاضة. تحاول كاليفورنيا استغلال قوتها الاقتصادية لدفع باقي ولايات البلاد إلى تبني معايير صارمة إزاء انبعاثات ثاني أكسيد الكاربون. تسمح تكساس لمدنها بالتمدد، فيما لدى كاليفورنيا قوانين تهيئة حضرية متشددة.

لكن، بإمعان النظر، تبدو تكساس أقرب إلى كاليفورنيا في مرحلة المراهقة. لم تبلغ ساكنة تكساس إلا أخيرا مستوى ساكنة كاليفورنيا في أواخر ثمانينات القرن الماضي. كانت كاليفورنيا في الماضي ولاية متسامحة مع التمدد العمراني، وتتبنى سياسة ضريبية مخففة وولاية جمهورية أيضا. الجمهوريون في تكساس، الذين بدؤوا يستشعرون أولى إرهاصات منافسة الديمقراطيين منذ عقود، بدؤوا يركزون اهتمامهم على مشاكل الولاية، خاصة التعليم. 

وهذا أمر بالغ الأهمية، لأن مدارس تكساس، مثل مدارس كاليفورنيا، ذات أداء تعليمي سيئ. في آخر جلسة تشريعية بتكساس، ركز المشرعون على تمويل المدارس العمومية، وهناك انشغال لدى الرأي العام بالولاية بالوضعية المتردية للتغطية الصحية أيضا.

وقد يعني ذلك أن تكساس ستتخذ في تطورها ملامح كاليفورنيا. لكن، في أحسن الأحوال، إلى حد معين فقط. ولأن كاليفورنيا كبرت بشكل سيئ، فهي تفقد الأمريكيين كل عام، فيما تربح تكساس المزيد منهم. لدى كاليفورنيا مشاكل اجتماعية مخيفة لعل التشرد أبرزها. البطالة مرتفعة، والفوارق في الأجور كبيرة في كاليفورنيا.

تقدم كاليفورنيا نفسها حصنا تقدميا، لكن بداخلها تسجل أعلى معدلات الفقر مقارنة بكل الولايات الأمريكية. يعود الأمر في جزء منه إلى القوانين التي تجعل بناء منازل جديدة أمرا صعبا، ما يرفع كلفة السكن. سيحتاج الأمر إلى مشاريع أكبر من المشروع الاستثماري الضخم لشركة «غوغل» في «باي إريا» بقيمة مليار دولار لإيجاد حل للمشكلة. في المقابل، تسمح تكساس لمدنها بالتمدد خارج مداراتها الحضرية إلى الحد الذي يناسب كل مدينة. في هذا الجانب، على الأقل، تبدو تكساس ولاية ليبرالية أكثر وكاليفورنيا محافظة أكثر.

في النظام الفدرالي الأمريكي، لا تعد أي ولاية نموذجا قوميا، ومع ذلك تقدم كل واحدة دروسا للأخرى. وباعتبارها أكبر منتج للنفط، تعد تكساس حالة خاصة. في المقابل، ورغم مساوئها، تظل كاليفورنيا مغناطيسا للكفاءات المهاجرة، ومصنعا غير مسبوق للمواهب والأفكار، لذلك أنجبت غوغل وفايسبوك وتيلسا وأوبر ونيتفليكس، ولذلك لايزال الرأسمال المغامر واستوديوهات هوليود تفضل البقاء فيها.

يمكن أمريكا التعلم من الولايتين. ويصير الأمر بأهمية أكبر حين تعجز الحكومة عن تمرير بعض التشريعات –وهو الأمر الذي يقع كثيرا في الولاية الحالية- لأن قدرة كل ولاية على تقرير مصيرها تصير في ظل هذا الواقع أكثر أهمية.

من الممكن تخيل مزج للولايتين الكبريين يأتي بأفضل ما في كل واحدة، وينتج منطقة جديدة؛ تعلق أكبر بالحرية مع إبقاء الحكومة بعيدة عن الحياة الخاصة للأشخاص، مناخ صديق للأعمال ويقدم فرصا للطاقات ويحمي في الوقت ذاته البيئة ويمول التعليم. يمكن أن تسرق كاليفورنيا من تكساس مقاربتها التمددية للسكن، ويمكن أن تقلد تكساس كاليفورنيا في استثمارها في الجامعات المتميزة. ويمكن أن نسمي هذه المنطقة الجديدة: تكسافورنيا.

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com