مقالات

سلسلة المتعاونون مع العدو هنري فيليب بيتان

الدكتور ضرغام عبد الله الدباغ

هنري فيليب بينوني عمر جوزيف بيتان (Henri Philippe Benonni Omer Joseph Petain)، هو أسمه الكامل، ولد في نيسان / 1856. ابتدأ حياته الحافلة عسكرياً، ثم انتهى سياسياً ورجل دولة، وأخيراً حوكم بتهمة الخيانة العظمى، وأدين، وحكم عليه بالإعدام، خفف لكبر سنه. توفي في السجن بتاريخ 23 / تموز / 1951، أي أنه مكث في سجنه لمدة ستة سنوات.

كان بيتان قد تلقى تعليمه العسكري في الكلية العسكرية سان سير، وخدم في وحدات المشاة في الوطن(أي أنه لم يرسل للمستعمرات)، وواصل تعليمه العسكري العالي وكانت له نظرياته ورؤيته في استخدام المشاة، ومواجهة الحرب الآلية التي كانت قد بدأت نظرياتها منذ مطلع القرن العشرين فصاعداً، ثم كانت له نظريته في الخطوط الدفاعية، والحرب الدفاعية بصفة عامة حيال الألمان، لذلك عمل كمحاضر في الأكاديمية العسكرية الفرنسية بباريس بين 1908 وعام 1911.

مارس الجنرال بيتان هذه النظريات فعلياً في الحرب العالمية الأولى، في الحرب الدفاعية، وكان في بداية الحرب آمراً لأحد ألوية المشاة، ما لبث أن رقي من رتبة العقيد إلى جنرال(لواء)، وأستلم قيادة فيلق (عدة فرق)  وأبدى في معارك القطعات التي يقودها من الشجاعة والقدرة على الصمود، بخسائر قليلة نسبياً، وأثبت صحة نظرياته في الدفاع، ومنح أعلى الأوسمة. وفي شباط عام 1916 أستلم قيادة قطاع في الخطوط الدفاعية الشهيرة (فردان) وهنا أثبت مقدرة خاصة، تولى على أثرها قيادة كافة القطعات في جبهة فردان، ونجح في إدارة المعركة وإنقاذ الموقف المتدهور.

وبعد نهاية الحرب أعتبر بيتان أحد القادة الكبار الذين أنقذوا شرف فرنسا العسكري، ومنحه البرلمان الفرنسي (الجمعية الوطنية) 1918 أعلى الأوسمة والرتبة الأعلى في الجيش الفرنسي (ماريشال فرنسا) ومنح شرف حضور توقيع اتفاقيات فرساي للسلام (28 / حزيران / 1919) .

عين عام 1920 نائباً لرئيس المجلس الأعلى للحرب، وهي أعلى مؤسسة عسكرية فرنسية، وهنا مارس توسيع نظرياته في الدفاع بدرجة أثرت على العقيدة العسكرية الفرنسية وميلها نحو الدفاع خلف خطوط محكمة، ووقف موقف المعارض لوجهات نظر عسكرية شابة حول تطور الفكر العسكري نحو الحرب الآلية المتحركة، وهي وجهات نظر كان الضابط الشاب شارل ديغول أبرز مروجيها.

وفي شباط / 1931، غادر الماريشال بيتان الجيش لبلوغه سن 75، ولكنه قبل عضواً في الأكاديمية الفرنسية، وهي مؤسس علمية عالية المقام، وواصل وجوده كشخصية مهمة في الساحة السياسية. وعين لفترة قصيرة وزيراً للدفاع، (8 شهور عام 1934) في حكومة لم تدم طويلاً، أنتقل بعدها للحياة المدنية . ولكنه عين سفيراً لفرنسا في أسبانيا عام 1939 حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية.

وفي مسار سياسي يسوده الارتباك والتردد لدى القيادة السياسية والعسكرية الفرنسية، مقابل تصميم وجرأة وقوة القيادة الألمانية وجيشها، وسجال سياسي وعسكري، تفاقم لتنفجر الأحداث في أيار / 1940 وتسجل بداية الحرب العالمية الثانية، ويتقدم الجيش الألماني بسرعة غير متوقعة مستخدماً تاكتيكات الحرب الآلية الحديثة، متخطياً كل الخطوط الدفاعية يتقدم نحو العاصمة باريس.. في 18 / أيار يستدعي رئيس الحكومة الفرنسوالجمعية الوطنيةيشال بيتان ويعينه نائباً له، وفي 14 / حزيران سقطت العاصمة الفرنسية باريس، رئيس الحكومة كان يدفع باتجاه مواصلة الحرب من المستعمرات، ولكن الماريشال بيتان الذي كانت له وجهات نظر عسكرية فات أوانها، يعتقد أن مواصلة القتال عبث وينطوي على المزيد من الخسائر. ولابد من إنهاء المعركة ووضع حد لمعاناة الشعب الفرنسي، والتوصل إلى هدنة فرنسية ــ ألمانية توقف الأعمال العدائية، وضمنت هذه الهدنة بقاء 40% من الأراضي الفرنسية خارج الاحتلال الألماني، وعدم التعرض للمستعمرات الفرنسية، وعدم المساس بالأسطول الحربي الفرنسي.

وبعد وقف العمليات الحربية نقلت الحكومة والجمعية  الوطنية إلى مدينة فيشي، التي أصبحت العاصمة الفرنسية. وأجازت الجمعية الوطنية بأغلبية 569 صوتاً مقابل 80 صوت، منح صلاحيات للماريشال بيتان  صياغة تعديلات دستورية وقانونية، ومنح لنفسه صلاحيات وسلطات واسعة ولنائبة بيير لافال.

ومضى الماريشال بعيداً في طرح أراء وأفكار منها أنه أنحى باللائمة على القيم الاجتماعية والأخلاقية الفرنسية التي تحللت، وتحللت معها العائلة، والاحترام، والمساواة والإخاء، وأخذ يطرح فرنسا جديدة بعلامات ورموز جديدة أيده فيها رجال الدين الكاثوليك، وبدرت محاولات لتقديس شخصه ووضع صورته على العملات والطوابع، وأطلق على نفسه لقب ” والدنا  ” وعقد اجتماع مع هتلر تشرين الأول/ 1940، وقطع علاقات فرنسا الدبلوماسية مع بريطانيا، أثر هجوم البحرية البريطانية على الأسطول الفرنسي ومقتل 1300 بحار فرنسي، ولكنه أبقى على علاقته مع الولايات المتحدة الأمريكية.

أيد بيتان المحور (ألمانيا وحليفاتها) ودعم المجهود الحربي الألماني بأساليب عديدة، منها تقديم الأيدي العاملة، معبراً أن هناك أوربا جديدة تنهض ينبغي دعمها والتعاون معها. وكان عداؤه للشيوعية وللإتحاد السوفيتي دافعاً جديداً له ليقف مع الألمان في حربهم في الجبهة الشرقية (ضد الاتحاد السوفيتي) لدرجة أنه سمح بأخذ متطوعين لقتال السوفيت، كما أنه سمح لنفسه أن ينسحب هذا الموقف فرنسياً ليقاتل الشيوعيين الفرنسيين وكانوا عماد المقاومة الفرنسية المناهضة للاحتلال.

وبسبب تساهله مع الألمان تحت ذريعة الواقعية، وأخطاء الماضي، زاد في حراجة موقفه إزاء الشعب الفرنسي وبدأ يفقد من شعبيته، ولما بدأت أعمال المقاومة الفرنسية وفعالياتها تتصاعد باستخدام السلاح، لجأ المحتلين الألمان إلى البطش والتنكيل، ووسع من تعاونه مع السياسي بيير لافال الذي أنجرف بالتعاون إلى مديات أبعد مع المحتلين. وبعد تجلت خطط الحلفاء باستعادة أوربا، ونزولهم في شمال أفريقيا كمرحلة أولى لتحريري أوربا، قام الألمان والإيطاليون باحتلال ال (40%) الجزء المتبقي من فرنسا، ومكثت سلطة بيتان باهتة كشبح لا وجود له في العاصمة فيشي، وتدهور المزيد من بقايا سمعته ومكانته.

وبعد إنزال الحلفاء الناجح في نورماندي (5 / حزيران / 1944)، بدا الوجود الألماني في فرنسا يتراجع وينحسر يوماً بعد يوم، وفي 20 / آب / 1944 نقلت سلطة فيشي (وكانت رمزية) إلى الأراضي الألمانية، مع تواصل مساعي فاشيين فرنسيين بالتعاون مع ألمانيا.

بيد أن بيتان أدرك أن هذه هي النهاية، فطلب من حلفاؤه الألمان العودة إلى فرنسا، فوافقوا له، فذهب إلى سويسرا المحايدة، ومنها عاد إلى فرنسا حيث كان مطلوباً للمحاكمة. وفي 14 / آب / 1944 أدانته محكمة عسكرية بتهمة الخيانة العظمى وحكمت عليه بالإعدام. إلا أن الجنرال ديغول أصدر قراره بتخفيض الحكم إلى السجن المؤبد، مع إلغاء حقوقه المدنية، ثم نقل إلى سجن في جزيرة آيلو يو الأطلسية ومكث هناك حتى توفي في 23 / تموز / 1951 وهو في سن 95 سنة، ودفن فيها.

محاكمة بيتان

تعد محاكمة بيتان واحدة من المحاكمات الفريدة في شخصها ومادتها. ولغرابة أن يتقدم قائد كبير وبطل شعبي للمحاكمة دون أن يشفع له تاريخه المجيد، وفي ذلك تعبير عن طبيعة جرم التعاون مع العدو. فتألف محكمة له من رئيس ومساعدين أثنين من القضاة، ومدع عام، و12 محلفاً برلمانياً و4 محلفين احتياط، و12 محلفاً من المقاومة و4 محلفين احتياط. ووجهت التهمة رسمياً للماريشال الخيانة العظمى: التآمر على سلامة الدولة والتخابر مع العدو.

وتقدم محاميان من أفضل وأشهر المحامين الفرنسيين للدفاع عنه، وافتتحت الجلسة 23 / تموز المتهم عرف عن نفسه : فيليب بيتان ، ماريشال فرنسا. وقرأ تصريحاً قال فيه أقول لكم أمام الجميع بأنكم ستدينون بريء, معتقدين بأنكم تتكلمون باسم العدالة, بريء سيتحمل نتائج الحكم الذي سيصدر ضده, سيتحمله لأن مارشال فرنسا لا يطلب العفو من أحد…”. ” سوف لا أدلي بتصريح آخر, سوف لا أجيب على أي سؤال. لقد فوضت المدافعين عني مهمة الإجابة على كل التهم التي تريد النيل مني, والتي لا تطال في الحقيقة إلا مروجيها”. ” مهما سيحصل ليعلم الشعب الفرنسي باني دافعت عنه مثل دفاعي سابقا عن فردان.

قرأ النائب العام : حكومة بيتان التي ولدت من الهزيمة ومن تجاوز الثقة, لم تستطع الاستمرار خلال 4 سنوات إلا بقبولها مساعدة القوة الألمانية, واضعة سياستها في خدمة سياسة ألمانيا بتعاونها مع هتلر في كل المجالات. هذه هي, أيها السادة, الخيانة بعينها” .


” قيل لكم لو لم يكن الوضع هكذا (كما فعله المارشال) لكانت حالة فرنسا أكثر سوءا, هذا ما لا أعتقده, اعتقد إن حالة بلجيكا كانت أفضل من حالة فرنسا. في فرنسا نفذ حكم الإعدام رميا بالرصاص بـ 150000 رهينة. أُخذ بالقوة إلى ألمانيا 750000 شخصا للعمل فيها. تم تدمير أسطولنا البحري. تم تهجير 110000 لاجئ سياسي في ظل سياسة التعاون. تم نفي 120000 شخص على أساس عنصري لم يعد منهم إلا 1500. وعليه أتساءل كيف يمكن الادعاء بان حالة الفرنسيين كان يمكن أن تكون أسوأ مما كانت لولا السياسة التي انتهجها المتهم؟.

وبعد أدلى المحاميان بمطالعة قوية، مست عواطف الحضور، سأل رئيس المحكمة المتهم إن كان يريد إضافة شيئ فقال “”طيلة فترة المحاكمة احتفظت بالصمت طواعية، بعد شرحي للفرنسيين سبب موقفي.” . ” تفكيري، تفكيري وحدي، كان بان ابقي مع الشعب على الأرض الفرنسية حسب وعدي له من اجل أن احميه ومن اجل تخفيف معاناته”. “مهما حصل فان هذا الشعب سوف لا ينسى لأنه يعلم باني دافعت عنه كما كنت قد دافعت سابقا عن فردان”. ” السادة القضاة حياتي وحريتي بين أيديكم . أما شرفي فقد عهدت به للوطن. تصرفوا بي حسب ما تمليه عليه ضمائركم, ضميري أنا لا يعذبني لما فعلته خلال حياتي الطويلة جدا والمقتربة الآن من حافة الموت. أؤكد لكم انه لم يكن عندي أي طموح إلا خدمة فرنسا”.

الحكم:
بعد مداولات سرية انتهت بتوزيع أوراق للتصويت بـ ” مع” أو “ضد” عقوبة الإعدام. كانت نتيجة التصويت 13 صوتا ضد عقوبة الإعدام. و 14 صوتا مع عقوبة الإعدام. إي بأكثرية صوت واحد . وقد خفّض لاحقا رئيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجنرال ديغول هذه العقوبة إلى السجن المؤبد، لكبر سن الماريشال وماضيه.

وبوفاة الماريشال يسدل الستار على حياة قائد له تأريخ مشرف، ولكنه أخطأ خطأ فادحاً بقبوله التعاون مع العدو، وهناك من الجهات الفرنسية أحزاب وشخصيات تحاول حتى اليوم إعادة الاعتبار للماريشال لبيتان، وإعادة دفنه في باريس، وقد جرت محاولة لسرقة عظامه من قبره، لدفنها في مكان لائق، ولكن المحاولة أحبطت.

وحتى وقتنا الحالي، عندما تكرم فرنسا وقياداتها ذكرى معارك فردان في الحرب العالمية الأولى، التي صمد فيها الفرنسيون خلف خطوط دفاعاتهم بقيادة الماريشال بيتان، ووفق نظرياته في الدفاع، لا تنسى فرنسا تكريم بطلها فيحرص رؤساء فرنسا بدون استثناء على وضع باقة من الزهور على قبره ..!

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com