مقالات

معجم شخصيات “دوستو يفسكي”

أصدر الناقد الروماني ( فاليريو كريستيا ) كتابا عن دستويفسكي بعنوان  ( معجم شخصيات دوستو يفسكي ) في بداية ثمانينات القرن العشرين , وعلى الرغم من ذلك ,لازال هذا الكتاب يعد مصدرا مهما في دراسة ابداع دوستو يفسكي لحد الان.

نقدم للقارئ عرضا لهذا الكتاب بقلم الباحث الروماني البيرت كوفاج , والذي كتبه خصيصا آنذاك لمجلة ( الادب الاجنبي) الروسية .

صدر كتاب ( معجم شخصيات دوستو يفسكي ) للناقد الادبي الروماني المعروف فاليريو كرستيا في بخارست وحاز على نجاحات باهرة لدى القراء,وبالطبع فانه أثار نقاشات واسعة ايضا كما هو حال كل ما يرتبط بابداع هذا الكاتب العالمي المتميز. لقد أشار احد النقاد مثلا الى ان هذا الكتاب ليس معجما وحسب , والا فانه سيتحول بالتالي الى كتاب منهجي مبسط ليس الا, رغم انه من المناسب هنا ان نتذكر, ان الموسوعة الفرنسية الشهيرة كانت معجما ايضا , الا ان هذا لم يمنعها من ان تصبح ظاهرة مهمة جدا في الثقافة العالمية . اما الناقد الادبي نيقولا مانويسكو, فانه يعتبر هذا المعجم – ( دراسة نقدية أصيلة ومبتكرة وعميقة, تضم 500 مقالة غنية المضامين ومليئة بالوقائع وممتعة جدا ), وبتعبير اكثر دقة, يمكن لنا ان نقول, ان مزج عناصر المعجم مع طبيعة وخصائص الدراسات النقدية هوالذي جعل هذا الكتاب مبتكرا واصيلا.

مؤلف المعجم فاليريو كريستيا هو واحد من أبرز نقاد الادب في رومانيا القرن العشرين, وقد اصدر مجموعة من الدراسات التي تتناول مختلف جوانب الادب , ومن ضمنها كتاب صدر عام 1921 بعنوان – ( دوستو يفسكي – مرحلة الشباب), وكتاب نقدي آخر صدر عام 1979 بعنوان – (الفضاء في الادب ) والذي تحدث فيه عن نتاجات غوغول وتشيخوف وتولستوي و دوستو يفسكي وغيرهم.

ينظر كريستيا الى دوستو يفسكي على انه –( اديب يميل للطيبة على الاغلب) و ليس – (عبقرية شريرة او عبقريا قاسيا ) كما كانوا يسمونه عادة, ويؤكد على الحب تجاه الناس والقدرة على التضحية بالنفس من اجل سعادة الاخرين,والقدرة ايضا على الابتهاج بالحياة والجمال, اما عالم دوستو يفسكي فانه لا يخلو ابدا من التراجيدي والعبثي, ويتناسق عنده السمو مع البطولي ولا تتحول كوميديته ابدا الى مبالغة فنية ساخرة. ان مؤلف رواية  ( الابله) يضع امام الشر – الخير اللانهائي. فاليريو كريستيا بالطبع لا يرفض او ينفي تعايش الاحاسيس المتأججة المتناقضة بعضها مع بعض في الروح الانسانية, لكنه ينطلق من ان دوستو يفسكي كان يهتم بالنسبة لموضوع التصادم بين الخير والشر في روح الانسان ( وكذلك بالنسبة للعلاقات بين الانسان والمجتمع وبين الانسان والطبيعة وما شاكل ذلك ), كان يهتم بالاختيار الذي يقرره الانسان, اي الحل او القرار الاخلاقي الذي يختاره الانسان. ان دوستو يفسكي – في رأي كريستيا – يتابع ويؤكد بشكل دائم على القيم الانسانية الاصيلة في عملية صراع الخير والشر,  ولا يقسم الناقد – وهو يدرس ويحلل شخصيات دوستويفسكي ومصائرهم – الى ملائكة وشياطين, وانما يكشف جوهرهم الواقعي. وهكذا فهو لا يجعل من بطل رواية – ( الابله ) ميشكين مثالا, هذا البطل الذي كان دوستو يفسكي يحلم ان يصوره ( انسانا ايجابيا رائعا)  لقد عرض الناقد صراع ميشكين الداخلي مع الازدواجية, ومع شيطان الشك الرهيب, ويذكرنا كيف ان ميشكين في صالون آل بيانجين ( كأنما في لحظة عمياء يعطي تقييما خاطئا كليا للواقع المعاصر) ويستنتج كريستيا بان بطل الابله هو – (أقوى الاقوياء بين الضعفاء, وأضعف الضعفاء بين الاقوياء).

يستند الناقد في معجمه على مبدأ التغلغل العميق في افكار دوستو يفسكي والكشف الدقيق لدور كل شخصية من شخصيات رواياته ومكانها في نسيج النتاج الفني, سواء بالنسبة للابطال الرئيسيين او الشخصيات الثانوية او العرضية, بالرغم من ان الناقد يرى, بانه لا توجد شخصيات ثانوية كبيرة مثل (ايفولغين) ويحلل كريستيا العلاقات المتبادلة بين الشخصيات و الصراعات بينها بمختلف اشكالها, سواء بتصادمات العواطف المتأججة الجيٌاشة ,او الافكار ووجهات النظر, او المصالح المادية , او الازدواجية, او في تجسيد بعض صفات هذا البطل في الابطال الاخرين, وصولا – بعض الاحيان – الى الشخصيات الفنتازية. ويراعي مؤلف المعجم ايضا الاشكال المختلفة للكتابة مشيرا الى انها مكتوبة بلسان المؤلف او الشخص الثالث او الراوي او بطل مستعار وما شاكل ذلك .

ومن بين كافة المتخصصين في رومانيا, يمتاز مؤلف المعجم بمفرده بانه استطاع ان يكشف لنا عن التنوع الرائع في اسلوب دوستو يفسكي, هذا الاسلوب الذي يعتمد على نقاط محددة, واستخدام المفردة ( بلا اكتراث ), وعلى التعبير المتميز الذي يشمل الاجواء الشيئية والروحية, والواقعية والاسطورية, والاصناف الفلسفية وما تحت الوعي وهناك ميزة اخرى للمعجم تكمن في تأكيد المؤلف على التنوع الواسع لصفات الشخصيات التي ابدعها دوستو يفسكي, وهو بذلك يرفض- وبشكل قاطع – الرأي الذي ثبته بعض النقاد حول ضآلة النماذج عند دوستويفسكي والاعادة الدائمة في مختلف رواياته لنفس الصفات.

يتناول المعجم 650 شخصية لخمس روايات كبيرة, ابتداء من الجريمة والعقاب وانتهاء ب الاخوة كارامازوف, ويجب ان نضيف الى هذا العدد ايضا مجموعة من الشخصيات بدون تسميتهم, والذين نراهم في مختلف المقالات, وهكذا تظهر لنا صورة كاملة لعالم ملئ بالناس والاشياء وهم في حركة زاخرة بالمعاني والافكار.

ونريد هنا ان نتحدث – كمثل – عن بناء واحدة من تلك المقالات التي جاءت في المعجم. انها تقسم الى الاجزاء التالية  :

اولا _ طرح السيرة العاطفية للبطل ( دميتري كارامازوف) وابراز اللحظات التي ساهمت في تكوينه الروحي, ودوافعه النفسية الخاصة, وتأثير الوضع الاجتماعي عليه وما شاكل ذلك. ويولي المؤلف عناية خاصة بعلاقات دميتري مع اخوته ووالده وكاتيرينا ايفانوفنا وغروشينكا.

ثانيا _ على اساس هذه المادة المحددة تبرز صفات البطل, والتي يراها المؤلف على انها ليست مزيجا غير متبلور من الخير والشر, وانما تكمن فيه بشكل واضح ,وهي (البداية الايجابية ), اما جوانبه السلبية , فان ( سعة روحه في نهاية المطاف تطغي عليها وتكفٌر عنها).

ثالثا_ بعدئذ,صفات البطل تسمح لنا باظهار الافكار الفلسفية للروائي. ويشير المؤلف الى ان دوستويفسكي اكتشف اثناء نفيه, ان اخطر شئ بالنسبة للروح الانسانية والذي يمكن ان تشعر به هذه الروح ليس الجريمة بحد ذاتها, وانما موت الاحساس الاخلاقي عند الانسان , ويحدد الناقد بشكل دقيق فكرة دوستويفسكي هذه في قصة دميتري عن حلمه , الذي يتنبأ بموضوع الطريق المغلق, وبعدئذ يتكشف موضوع القضاء والقدر, والذي يذكٌر بنفس الموضوع في تراجيديات الاداب القديمة.

رابعا_ ومن هنا يستخلص الناقد, بانه حتى البطل نفسه,والذي يبدو من النظرة الاولى وكأنه بعيد جدا عن اي نظرة فكرية- كما هو حال كل آل كارامازوف –  هو فيلسوف بالولادة. ويلفت دوستو يفسكي انتباهنا الى افكار دميتري, والتي توجد في ثناياها افكار الكاتب نفسه, ويستشهد الناقد بكلمات دميتري هنا, والتي تبدو وكأنها ( نشيد الفرح ), هذه الكلمات التي تؤكد على حاجة الانسان للسعادة والجمال, ويرى الناقد في هذا النشيد – ( النقطة القصوى الجديدة للرواية … ان دميتري هو البطل الشامل- فهو بلا دين ومسيحي في آن واحد, وهو انسان القرون الوسطى وانسان العصر الحديث في آن واحد ايضا).

خامسا_ ان المواد التي يتناولها الناقد ترتبط ايضا مع منشأ الشخصية الفنية , والتي يمكن ان نطلق عليها تسمية ( الاصول الواقعية) , وقد تناولها الناقد في الفصول السابقة من الكتاب.

ان  صفات الشخصيات الرئيسية مكتوبة وفق نظام البحث العلمي في موضوع واحد, وتقع في حدود خمسين صفحة من الكتاب, اما الشخصيات الثانوية, فانها ايضا تشكل بحوثا علمية مصغرة ورائعة. ولا يعرض الناقد تفسيراته وشروحه لشخصيات دوستو يفسكي الفنية بوتيرة واحدة , اي انه يستخدم نفس طريقة الكاتب الذي ابدع شخصيات ذات صفات متنوعة ومختلفة. وهكذا نرى, مثلا, ان كريستيا يميل عند الكلام عن شخصية ليزا في رواية الاخوة كارامازوف الى الاخذ بالاستنتاج الاتي – وهو ان الشر في هذه الشخصية شئ مختلف, وانه وسيلة لتنقية الروح الانسانية, اي ان الناقد يرفض اخضاع هذه الشخصية للتفسير المباشر.

توجد في الكتاب , بالطبع, تفسيرات وآراء يمكن ان تخضع للنقاش, ومع ذلك, فان اثبات خطأ الناقد في تفسيره لبعض الشخصيات الفنية مسألة ليست بسيطة بتاتا, اذ ان الناقد يستخدم دائما نظاما منسقا من الادلة ويمتلك القدرة على الاقناع, ويستند بشكل متمكن على الدراسات العلمية التي تتناول ابداع دوستو يفسكي, بما فيها اعمال العلماء الروس امثال دولينين وغروسمان وباختين وكيربوتين وآخرين.

يرفض مؤلف المعجم بشكل قاطع الفكرة السائدة, والتي تشير الى ان دوستو يفسكي هو – ( الاديب الذي يعبٌر عن الشر ), ويؤكد- وهو على حق- بانه من الضروري ان نركز انتباهنا على ابطال دوستو يفسكي الرئيسيين والثانويين, وليس على ابطال من طراز سفيدريغالوف او ايفان كارامازوف وحسب, وعندها سيكون من السهولة ان نرى, كيف ان روايات دوستو يفسكي مليئة باناس طيبين, وعندئذ سنفهم الحقيقة المهمة جدا في ابداع هذا الاديب وهي ان هذه الشخصيات سلبية بالنسبة لدوستو يفسكي نفسه, وبالتالي فانه لا ينعكس فيهم بتاتا, بل بالعكس, فهو الذي ينزل فيهم حكمه الواضح وغير المزدوج.

ان قوة كتاب كريستيا تكمن قبل كل شئ في تشديده على نبرة الخير والطيبة, التي يراها دوستو يفسكي مرسومة على شفير السماء الحرة وهو في (بيت الموتى) لقد عرض لنا الناقد في كتابه هذا العالم الفني لروايات دستويفسكي بكل اصالته.

 

ترجمة : أ.د. ضياء نافع

اظهر المزيد

أ.د ضياء نافع

مواليد بغداد 1941 • ماجستير في اللغة الروسية وآدابها 1965/ 1966 – الاتحاد السوفيتي ودكتوراه في الادب الروسي 1970 / 1971 – فرنسا. • رئيس فرع اللغة الروسية في كلية الآداب بجامعة بغداد من 1975 الى 1984 • رئيس قسم اللغة الروسية في كلية اللغات بجامعة بغداد 1989 – 1990 • معاون عميد كلية اللغات بجامعة بغداد 1993 الى 2003 • عميد كلية اللغات المنتخب 2003 – 2006 . • حاصل على درجة الاستاذية (بروفيسور) 1996. • مدير مركز الدراسات العراقية – الروسية في جامعة فارونش الحكومية الروسية 2006 – 2012. • عضو اتحاد الادباء والكتاب في العراق / عضو شرف في اتحاد ادباء روسيا. • رئيس مجلس ادارة دار نوّار للنشر في بغداد .

تعليق واحد

  1. مقال جميل ، شكرا لمشاركتنا تلك المعلومات ؛ ولكن اود ان اعرف هل تُرجم الكتاب الى العربية ؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com