ثقافة

سعدي يوسف: ذاكرة الأرض والشجر.

بيدر ميديا.."

سعدي يوسف: ذاكرة الأرض والشجر

 

 

دأب الشاعـر سعدي يوسف منذ بواكير شعره على الارتقاء باليومي إلى مصاف الشعر وملكوته. فمفردات ثيمات النصوص تقرّب برهافة، بين الأجزاء المستلة من الواقع. كون الشاعر برصف مفردات الواقع واليومي ـ البيئي، إنما يؤكد نظرته الأسطورية عبر حاضنة النص، فالمفردات هنا محض لبنات بناء تتواشج في ما بينها، لتشكل صورة جديدة تحيط المشهد بالمعاني والدلالات. لاسيّما ما يستخدمه من مفردات الموروث الشعبي، التي شكّلت وعي الشاعـر المبكر، من خلال بيئة يكون كل شيء فيها خصبا، هي بيئة الجنوب، ذات العمق الأسطوري والتاريخي والميثولوجي. وحصرا بيئة ريف مدينة البصرة الجنوبية.
إن متشكلات حركة الواقع، ابتداء من أشجار ونخيل وأنهار وسواقي وإيشانات ومزارات، عبورا إلى المعتقدات والطقوس، سواء كانت النابعة من ميثولوجي ـ ديني تتصدره الفاجعة، وصولا إلى التشكل الأيديولوجي الذي بدا في شعره مرشحا عبر صورة الواقع وحركته. وحضور الإنسان بفعاليته الواضحة والمؤثرة، بمعنى أن الشاعـر بدا منحازا إلى الطبقات الأكثر استغلالا وحاجة إلى رفع الحيف عن كاهلها. البيئة الريفية المخصِبة والمخصَبة، أثرت المعاني الدالة على تأثيرات الأيديولوجيا، لارتباطها بفعالية الخصب وآلهته في حضارة وادي الرافدين، لذا فتعامل الشاعـر مع الأسطورة نابع من الحاجة لتخصيب النص الشعري أولا، ثم الحاجة المساقة بالتعبير عن الحس الطبقي ـ البيئي، المطلق من بواكير الوعي وتطوره ثانيا. فالشاعـر استدعى الأسطورة من مهدها البيئي، وصاغها في شعره توظيفا، لكي يتمكن من تفجير المعاني، وملاحقتها معرفيا، لحظة أدرك مدى غنى البيئة، وحاجته لثقافة شعبية ـ شعرية خالصةً. لاسيّما إذا عرفنا أن الأسطورة والشعر متلازمان تماما، كنسيجين يتعاملان مع الجوّاني من منطلق الوعي الفطري ـ البيئي قبل المعرفي.
ويبدو أن تجربة الشاعر في المنافي أغنت تجربته الشعرية في هذا المضمار، بسبب صعود نبرة الحنين التي تُنشّط الذاكرة المعرفية والبيئية. تلك التجربة الطويلة، ابتداء من وجوده في الجزائر، وما تلاها في السبعينيات من القرن الماضي، وصولا إلى استمرار غربته إلى رحيله. إن القطع الذي حدث في منفى الشاعر، وأقصد عودته إلى الوطن، هي الأخرى شكّلت منفى آخر داخل الوطن، بسبب الملاحقة السياسية. لذا فإن قصيدة سعدي لا تحيى إلا في مناخ الشرخ والتقصي عن الاندماج. لا بد لقصيدته من منفى، ولا بد من شرطي أو سجن، أو وطن بعيد وامرأة بعيدة عنه، أو أُخذت بعيدا عنه… ترى هل يمكن أن يؤثث مشهد قصيدته بتفاصيل أُخر، أو خلفية غير الذي عودنا؟

والطيطوي طائر متداول في المفهوم الشعبي العراقي باسم (الططوة) له صيحة منذرة مفادها: (شيلو.. شيلو..) بالمعنى الدارج في العامية الشعبية العراقية، أي هاجروا أو غادروا المكان على عجالة فقد حلَّ الخراب، أو قـَدِمَ الخطر أو قل دق ناقوسه.

وفي سؤال وجه إلى الشاعر عن المنفى أجاب؛ في كونه امرأ شكّل المنفى أرضه الفعلية زمنا ومستقرا لثلاثة عقود، فهو لا ينظر إلى المنفى من خارجه، لأنه وطنه الخاص والشخصي، ويعني فيه الريف الإنكليزي، لذا فأمر حلمه في العودة إلى الوطن الأول مرهون بجملة أُمور. فهو ينتظر منذ ثلاثين عاما، لكنه يقاوم الحنين المفترض ـ النوستالجيا ـ التي لها تأثير مباشر في شعره، أو كما أكد؛ أن مثل هذا يؤثر في التوازن العصبي المفترض توافره لدى المبدع، في أزمات العملية الإبداعية، التي تجاوزها بما أعطاه ويعطيه من شعر تواصل مع اليومي، سواء في الحنين إلى حيزه المكاني، أو ما توفره الذاكرة من صور للمكان الأول. كل هذا يلعب دورا أساسيا في قصيدته (الطيطوي) لذا فمسحة العلاقة مع الوطن، تؤكدها عبارته التي ترشحت عن تجربة بليغة إبان السبعينيات، فقوله لشرط العودة إلى الوطن هو الحرية، وهو الشرط الوحيد، غير أنه الصعب، وفق تجربته في العادات السابقة، فالحرية لديه فضاء يؤسس إلى مجموعة علاقات توصل لثقافة وطنية، بعيدا عن التهميش والمصادرة. وهذا يدل على أن الشاعر لن ينأى عن وطنه، فهو قريب مما يجري داخله. من هذا نرى أنه عبر قصائده، لاسيّما هذه القصيدة، يُعيد صياغة ضغط الحنين ويعقلنه أحيانا، لكنه لا يستطيع إخفاء تأثيراته في مزاولة حلم العودة إلى الوطن. وهي ثيمة لم تكن جديدة عند الشاعر، وإنما واكبت قصائده، كما في قصيدة (تنويعات استوائية) التي يثير فيها وجعه في المنفى، مخاطبا الوطن بدفء شديد، لا خلو من عتاب مرّ ترشحه أبيات القصيدة:
«أيهذا الأنين الذي كنت أسميته وطنا
وادعيت له، واجتزأت حماقاته،
واجتزأت على ما رأيت انتسابا له،
أيها الوطن الأول
إننا نذبل
يدرك الشيب أبناءنا
أيها الوطن المقبل»
لذا وكما ذكر علي جعفر العلاق؛ من أن شعر سعدي يتمتع بجاذبية خاصة، فهو شعر لا يكتفي بالهم اليومي فقط، ولا يقيم عند الذكرى وحدها، بل يسعى إلى التعبير عنها بوسائل شعرية شديدة الذكاء، تفجّر في الحدث اليومي شاعريته الكامنة، وتربط بين الذكرى وعذاب الوهن. وهذا ما يلفت النظر إلى معماره الشعري، كما في قصيدة (الطيطوي). فشعوره في المنفى يدفعه إلى فتح الكوة في المشهد اليومي المدعوم بمفردات الذاكرة. فهو لا يذكر حيّزا من مكان إلا ّ ويكون ما يقابله في حيز آخر داخل الوطن. وتكاد تقترب تجربته وتتماثل مع تجربة محمود درويش، الذي يقاسمه ظروف المنفى، سواء كان حسيا أو واقعا، كما أكد إدوارد سعيد في تصنيف المنافي.
والطيطوي طائر متداول في المفهوم الشعبي العراقي باسم (الططوة) له صيحة منذرة مفادها: (شيلو.. شيلو..) بالمعنى الدارج في العامية الشعبية العراقية، أي هاجروا أو غادروا المكان على عجالة فقد حلَّ الخراب، أو قـَدِمَ الخطر أو قل دق ناقوسه. وحين يسمع صوت هذا الطائر وهو يمر محلقا في الفضاء، تطلق الأمهات والجدّات قول (الله يستر) أي هو الحافظ من نذير هذا الطائر. والشاعر تمكّن من توظيف هذه الثيمة الشعبية في قصيدته، وكما دأب على توظيف غيرها في شعره، ذلك لأنه من المهتمين بهذا الضرب من الثقافة العراقية والإنسانية، ويشفع له عمله لسنين في مجلة متخصصة هي مجلة «التراث الشعبي» العراقية سكرتيرا لها. في هذا استفاد الشاعر من اقتناص الدلالة الكامنة في المفردة الشعبية، باعتبارها علامات دالة على مفاهيم أخرى مماثلة في الواقع. فقصيدة (الطيطوي) بما فيها من حنين طاغ حد البكائية، فإنها ذات صور متقابلة تتداول الماضي والحاضر في دورة شعرية متواصلة، يتداخل فيها الممكن الذي أصبح غير ممكن. بمعنى الحضور والغياب. حضور الآني وغياب الماضي بكل صوره. لكن فضيلة ذاكرة الشاعر، هي في كونها حيوية ومتحركة، وذات رهافة حسية. وهي بمقابلة الآني تحيي الصور الماضية، لتكون شاهدا على الحاضر لما فيها من إشراق، على الرغم من ضبابية الحزن والتراجيديا التي تصوغ بها نظرتها وحسها الصوفي هذا، والمتعلق أساسا في المكان.
إن حاضنة القصيدة هذه وغيرها، بمثابة المرايا المتقابلة، فالحاضر يتشوف في الماضي ويستعيده. وهذا ما يشير أو يكشف عن أن الشاعر في لحظاته الصغيرة جدا يشحذ ذهنه الشعري بالمتعلقات المكانية، فهي بمثابة الأزرار التي توفر الضوء لحضور ذلك الغياب وإلغائه، متجسدا بحضور الماضي بحيوية وشفافية متناهية.

كاتب عراقي

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com