أبحاث

التعبيرات الأيديولوجية للنضال المعادي للأستعمار

الدكتور ضرغام عبد الله الدباغ

البروفسور د. غيرهارد هب Dr. Gerhard Hipp  كان أستاذاً للفلسفة في جامعة لايبزغ، ثم أنتقل إلى أكاديمية العلوم الألمانية (وهي مركز علمي رفيع)، وتوفي مبكراً وقد عرف بسعة علمه، وبدقة احكامه، وصرامته العلمية.

كان أحد أعضاء اللجنة الجامعية التي تولت فحص أطروحتي للدكتوراه في الجامعة (كارل ماركس / لايبزغ) وكان السبب الرئيسي والوحيد من بين أعضاء لجنة الدفاع الخمسة، لمنحي درجة جيد وليس جيد جداً، ومع ذلك هنأني بعد التخرج، وقال لي ” أن اطروحتى ممتازة، ولكن يده لا تعرف أن تخط كلمة جيد جداً أو ممتاز …!

البروفسور هب كان صارماً جداً مع الاساتذة والطلبة، يحذر من يتحدث معه لأنه كان ينتقي الألفاظ والمصطلحات، وكان يرفض الكثير من الأطاريح، لدرجة صارت معروفة عنه، وكان ذلك السبب الرئيسي لنقله إلى اكاديمية العلوم.

وبحثه هذا أعتبره من البحوث الأساسية التي ينبغي أن تقرأ بدقة وأود أن ألفت انتباه القارئ الكريم إلى قراءة هذا الفصل بعناية وانتباه شديدين، فهو ينطوي (بتقديري) على تحليل دقيق وعميق لأبرز التيارات والاتجاهات الفكرية والثقافية والحضارية في الوطن العربي، بصرف النظر عن اتفاقنا مع هذه الآراء أو اختلافنا. والكاتب د. هيب هو واحد من أهم العلماء في أكاديمية العلوم الألمانية (جمهورية ألمانيا الديمقراطية).    


د. غيرهارد هيب/  Dr. Gerhard Hipp

البحث:

إن الانتعاش في النضال التحرري الوطني للشعوب العربية، والذي استلهم من ثورة أكتوبر/ 1917 وجد التعبير عنه لصورة واضحة وجلية في الصراعات الأيديولوجية المحتدمة في الأقطار العربية في تلك المرحلة حيث كانت الجبهات الإيديولوجية قائمة على الأسس الموضوعية والذاتية لوجود وشروط نضال الحركة الوطنية الناهضة. وبصفة خاصة في الهيكلية الاجتماعية المتقادمة والتي كانت بعيدة عن التطور، وهكذا تتفاعل الآن، بما يستحق الملاحظة، احتدام النضال المعادي للاستعمار وأيضا نبرة الخطاب الوطني للطبقات والفئات المختلفة على شكل تيارات إيديولوجية معينة في عملية استقطاب متزايدة، وبذلك تصبح رؤية الصراع الأيديولوجي سهلة في المواجهات المنتشرة بصفة واسعة.

هذه العملية جرت بصفة خاصة في البلدان التي لها علاقة بالتشكل (التكون) التدريجي لعناصر العلاقات الرأسمالية، وفي ذات الوقت أيضا كانت هناك التناقضات بين مفاهيم مختلف الطبقات وفئات المجتمع على كافة الأصعدة والتي بدأت تتعمق، وكان هذا يعني من جهة، بأن النضال الذي تقوده الطبقات البورجوازية للجماهير العربية من أجل الاستقلال الوطني قد وجد شكله الإيديولوجي المعبر والثابت. ومن جهة أخرى، وكان ذلك انعكاس ديالكتيكي للتأثيرات المتبادلة بين الوطني والاجتماعي في تركيبات النضال الأيدلوجي للتغير في أشكالها ومستوياتها، وليس هناك ثمة شك بأن هذا التطور أيضا وبناء على تلك الحتمية الموضوعية، والتي عبر عنها لينين في سياق آخر بقوله : ” كلما كان النهوض الجماهيري العفوي قوياً، كلما أصبحت الحركة عريضة وواسعة، وسريعة أيضا، وليس لسرعتها مثيل، وتنمو الحاجة إلى الوعي “.(1)، وكلما ” انتشرت واتسعت الحركة الشعبية كلما أتضحت أكثر الطبيعة الحقيقية لمختلف الطبقات”.(2)

وجدت هذه الاتجاهات في الأقطار العربية القمع سواء في تشكلها أو في التطور النظري والتوسع جوهرياً في أربعة تيارات مختلفة من حيث المحتوى والشكل، التي تعبر عن مصالح وأهداف مختلف الطبقات الاجتماعية. كان البعض منها قد تكون في المراحل المبكرة للحركة الوطنية. وكان الأمر يدور بصفة خاصة عما يسمى بحركة تحديث الإسلام وكذلك عن القومية العربية التي كانت على صلة وثيقة مع نشأة علاقات الإنتاج الرأسمالية في الشرق الأوسط وكذلك التنوير البورجوازية المبكرة التي كانت قد نهضت في النصف الثاني للقرن التاسع عشر. وتلك الحركة التي مثلت بصفة عامة أساس القاعدة الأيديولوجية للبورجوازية العربية، والأخرى، التي وإن لم تكن معروفة أو ملفتة للنظر حتى ذلك الوقت، حركة اشتراكية للبورجوازية الصغيرة. وقد بدت الظاهرة الجديدة للمرة الأولى في أقطار الشرق العربي في نهاية القرن التاسع عشر. وكذلك في مصر من خلال تأسيس أحزاب شيوعية في الأقطار العربية، وتأثير الأفكار الماركسية اللينينية التي كانت قد اتسعت بصورة كبيرة. وتحت ظل شروط وظروف صعبة، كان الشيوعيون العرب يمثلون مصالح البروليتاريا ووقفوا في الصفوف الأمامية للنضال من أجل التحرر الوطني والاجتماعي، وقد سعوا إلى ترجمة التعاليم اللينينية والدروس الشيوعية الحقيقية إلى لغة شعبهم.

وكانت المسألة الرئيسية في هذه التيارات الإيديولوجية، الصراعات الروحانية في المرحلة الجديدة لنضال الشعوب العربية المعادي للاستعمار. إذ كانت العلاقات المميزة لمرحلة التحرر العربية هذه، قد تمثلت ابتداء في كفاح جميع الطبقات والفئات الاجتماعية تقريباً، من أجل الاستقلال بقيادة القوى البورجوازية. وقد ظهرت اتجاهات التصادم ضد الإقطاع وضد الاستعمار في مفاهيم هذه الأيديولوجيات موضوعياً كمركبات جوهرية في تعارض الأفكار في تلك المرحلة.

وقد كانت في ذات الوقت(وقد جعلت الفعاليات السياسية الأيديولوجية للشيوعيين العرب من ذلك أكثر وضوحاً، وكذلك بعض وجهات النظر للحركات الاشتراكية للبورجوازية الصغيرة)، ابتدأت مركبات معادية للرأسمالية تتشكل أيضا في حركة التحرر. وهذه الظواهر بالذات جعلت من الممكن رؤية أو أدراك، أي أهمية تكمن في فحص التعبيرات الأيديولوجية سواء في طبيعتها أو في مهامها، وكذلك على أصعدة النضال الأيديولوجي في هذه المرحلة، في أنها لا تمنح فقط إيضاحات ومهمة حول حالة الإدراك، في حركة التحرر الوطنية والقومية، ولكنها تتوسط (دور الوساطة ـ المترجم) إلى معارف أخرى مهمة أيضا، لا بد منها لتفهم الصراعات الروحية التي تدور الآن في الأقطار العربية.

لذلك، وفي الصفحات التالية، سنقدم وصفاً موجزاً لبعض وجوه النضال الأيديولوجي لتلك المرحلة، ومن الطبيعي أن هذه الظواهر ليست متوفرة في جميع الأقطار العربية(3) وأنه لمن الملاحظ ولأسباب تكنيكية عملية تستوجب تصنيف الظواهر التي ستعرض هنا، التيارات غير البروليتارية، أو التي لا ينبغي أن تضلل على أنها كذلك، وعزلها عن بعضها وعن سائر التطورات الاجتماعية في الأقطار العربية، بل وأكثر من ذلك، الإحاطة بالتناقضات النظرية والسياسية ونبذه عن التعقيدات وتعدد وجوه النضال الأيديولوجي، والتي جرت في حالات كثيرة في السابق كما اليوم، في بعض الأقطار العربية تحت ظل ظروف وشروط جديدة.

أولاً : الإسلام والنضال المعادي للاستعمار:

إذا أردنا بحث دور ومهمة الإسلام كوسط أشكالي رئيسي، فنحن لسنا بحاجة إلى الإسهاب في أسباب ذلك. إن تاريخ العرب يشير إلى أمثلة لها أهمية عظيمة للدين الإسلامي في كافة مجالات وفروع الحياة الاجتماعية وفي أفكار البلدان العربية ضد حملات الغزو الأجنبية والمضطهدين، كما تطرح لنا على سبيل المثال، بأهم (العرب) خاضوا تحت راية الإسلام وتحت شعار الجهاد، النضال ضد المستعمرين المحتلين البرتغاليين، وكذلك في نضال الوهابيين ضد الطغيان العثماني، وفي حركة انتفاضة المهديين ضد البريطانيين، والسنوسيين ضد الاستعماريين الإيطاليين، وهي أمثلة لا يمكن تجاهلها.

هذه الأمثلة وغيرها كثيرة، تؤكد وتثبت بصورة مؤكدة الحقيقة العلمية التي توصل لها ف. أنجلز، بأن الرؤية الدينية للمسلمين ” لها تأثيراتها الفعالة على مسيرة النضال التاريخ. وفي حالات كثيرة يكون لها شكلها الغالب”(4) وهي تثبت في نفس الوقت أن الإسلام لم يكن قط نظاماً أيديولوجياً متجانساً، بل أكثر من ذلك، فكما ويشير لنا التاريخ، بأن قوى اجتماعية مختلفة بحثت حاولت تبرير مساعيها ووجدتها، من أتباع الحلقات الإسلامية الأولى، فيما كان احتجاجهم السياسي والاجتماعي ضد سيادة النظام في العهود الإسلامية الأولى، أو عبرت عن نفسها بانتفاضات الفلاحين المضطهدين، والحرفيين، أو في انتفاضات مجاميع عرقية ضد تسلط الإقطاع الإسلامي والتي كان أكثرها تحت راية شعبية جماهيرية، وكلها تظهر سواء كان المستغلون أو المستغلين من الديانة الإسلامية هم في خدمة مصالحهم الأصيلة، وهي مفهومة على هذا النحو.

وكلتا الرؤيتين وهما أيضاً عند تقرير دور ومهمة الإسلام في نضال الشعوب العربية المعادي للاستعمار. وفي هذه المرحلة من النضال الوطني التحرري، فقد أمتلك الدين الإسلامي كما كان في السابق، النمط الشعبي والعقيدة ذات الأهمية الحاسمة في نطاق المصالح للقوى الاجتماعية المختلفة بدون أن تستطيع في هذا المجال، سواء في الهيئة أو في طبيعة المهام العمل، التي كانت عليه حركة المذاهب، أو التنظيمات الإسلامية التي كانت قد برزت إلى الوجود في أواسط القرن التاسع عشر وهذه لها أهمية خاصة بالنسبة إلى الإشكالية التي نبحثها.

وتحت شروط نشوء وتكون علاقات الإنتاج الرأسمالية في معظم الأقطار العربية، التي كانت وبمقاييس قوية، متأثرة بشدة بالرأسمالية الأوربية، وقد أصابها التشوه من جراء هذا التأثر بالإضافة إلى تفاعلات التوسع الاستعماري في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، وكذلك من خلال صلات وثيقة مع حركة التنوير العربية البورجوازية التي بدأت في مصر وفي المغرب العربي، بدأت اتجاهات أيديولوجية جديدة بالتشكل والتكون: عملية التحديث الإسلامية.

وفي هذا التيار الذي يتشابه في بعض الوجوه مع حركة الإصلاح المسيحية في أوربا وقد عوملت كما جرى التنويه من أجل أن تكون الأساس الإيديولوجي لكل ما صدر عن الإسلام في مرحلة الازدهار والسيادة والتي تعد تاريخياً قوى تقدمية من البورجوازية العربية الفتية ومن خلاله خلقت ” دينها الخاص الذي يناسبها”.(5)، إسلامياً طور علاقات إنتاج جديدة تتلاءم مع المصالح الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية للطبقات الجديدة، وفي نفس الوقت عبر المحدثون الإسلاميون الذين كان بروزهم لا ينفصل عن اسم جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده بوصفهما من أهم إشكال التعبير الأيديولوجية للحركة التحررية العربية المعادية للاستعمار،  وقد أصبحا أحد معالم التقاليد التقدمية وتشبه فعالياتهما ما قام به(مارتن لوثر). وقد تأثر بذلك علماء دين وثوريون على حد السواء في مشاركاتهم الحماسية في أول نهوض وطني للشعب المصري بقيادة أحمد عرابي ضد الاستعمار الذي مثل اتجاه التحديث في الإسلام.

والمحدثون الإسلاميون في القرن العشرين، بذلوا أيضاً جهودهم في تعميق العملية التي كان يقودها محمد عبده في فتح باب الاجتهاد، وكان ذلك يعني فتح الأبواب أمام تفسير واسع لمصادر الدين الإسلامي من أجل التغلب على التقاليد وأبعادها.وبذلك قاموا بدور حاسم بوضع نمط من التفكير الجديد في الإسلام الذي كان يشوبه الجمود، وتحطيم جمود إيديولوجية إقطاعية لم تتغير منذ القرون الوسطى، وجعلها ملائمة للعصر، وجعلها كعامل تعبئة أيضا في خدمة النضال الوطني التحرري.

هكذا إذن، كانت توجهات حركة التحديث الإسلامي في القرن العشرين والتي يعد محمد رشيد رضا من ممثليها البارزين والذي أسس في مصر السلفية الحديثة، وأيضاً عبد الحميد باديس، مؤسس رابطة علماء الجزائر الذي له آراء محترمة ومقبولة حتى الآن، ومن مراكش، عبدة شعيب الدوكالي. وكانت مهمتهم تكمن في تحرير الإسلام من الخرافات والجهل والتعصب، ووقوف الإسلام كعصبة واحدة موحدة، بل وكسلاح في النضال التحرري الوطني والقومي من خلال أبراز التقاليد التقدمية التاريخية، وليس أخيرا، التأكيد علة اللغة العربية كهوية مميزة للأمة العربية التي أصابها الاهتزاز من خلال القوى الغربية وإعادة الوعي والثقة إلى الشعوب العربية.  

ولكن هذه مساعي لتحديث الدروس ومحتوى التعليم وانعكاساتها لمركز لحركة التحرر الوطني فشلت، وبشكل ملموس في محاولات الإصلاح حيال المراكز الدينية الكلاسيكية، الواسعة النفوذ، في القاهرة(الأزهر) والزيتونة(تونس) والقرويين(فاس / المغرب)، ويبدو بوضوح أكبر في الأزهر. وعندما يتذكر المرء الدور الهام والفعال للنشاطات السياسية للشخصيات الروحية والطلبة في الثورة المصرية عام 1919، وذلك يطرح نفسه أيضا في نضال المحدثين في شمال أفريقيا ضد الرجعية والغموض والتعصب في بعض الاتجاهات الإسلامية والتي كانت تقف إلى جانب الاستعمار الفرنسي في قمعه لحركة التحرر الوطنية. وأخيراً الجهود التي بذلت في مصر بصفة خاصة للتغلب في مجال قواعد التعامل والحقوق، فوجد انعكاسه في مقترحات إصلاح ديمقراطية ـ بورجوازية من شأنها إصلاح مكانة المرأة المسلمة واعتبارها في الحياة الاجتماعية، وذلك بصورة مترابطة مع أعمال قاسم أمين لا سيما في الحركة النسوية المصرية المهمة التي كانت ملتفة حول هدى شعراوي.

وهذه الأمثلة القليلة توضح الدور المهم الذي لعبته حركة التحديث الإسلامية في فعاليات وتعبئة النضال التحرري الوطني للشعوب العربية. ومن بين هذه الفعاليات برز قادة لعبوا أدوار تاريخية مهمة في حركة التحرر العربية مثل : علال الفاسي، شكيب أرسلان، الثعالبي، فرحات عباس، لطفي السيد، سعد زغلول، وآخرون كثيرون.

وفي وصف وتميز ظاهرة حركة التحديث الإسلامية، لا ينبغي تجاهل التناقضات النظرية الداخلية وكذلك السياسية العملية، تلك التناقضات التي (بدون شك هي نتيجة لحاجات ومستلزمات اجتماعية) التي أدت مرغمة إلى أن تلعب دوراً تقدمياً لا جدال فيه في النضال المعادي للاستعمار وجعلت من أي أمر آخر حيال ذلك نسبياً. وقد كان المحدثون الإسلاميون الطلائعيون، جمال الدين الأفغاني وأبرزهم : جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، قد برهنوا في أعمالهم الدينية أو السياسية على أن فاعلية التناقضات هذه على أساس النظرية البورجوازية، وهكذا فإن أعمال الأفغاني هي أيضا تعد في خدمة الحركة القومية العربية بدون شك. وفي تأسيس فكرة الجامعة الإسلامية(التي كانت أساساً توجهات معادية للاستعمار) والتي أصبحت فيما بعد سلاحاً بيد آخر سلاطين العثمانيين وقادة تركيا الفتاة، فتحولت إلى سلاح خطر ضد الحركة القومية العربية، وحتى اليوم تعد هذه ذخيرة وترسانة روحية وسياسية بيد الرجعية الإسلامية. وعلى المرء أن لا يتجاهل بأن الأفغاني كان يوجه نضاله ضد الحركة الاجتماعية للبورجوازية الصغيرة في الأقطار العربية، كما بادر إلى استخدام مصطلح (الاشتراكية الإسلامية) ووضع أسسها النظرية، وما زال حتى اليوم خصوم التقدم الاجتماعي يستخدمونها كقاعدة أيديولوجية.

وختاماً فإن الحقيقة التي لا يمكن الصمت عنها، هي أن محمد عبده لم يكن مؤيداً للنضال الثوري للجماهير، أو للحركة الوطنية المصرية في تعبئتها وراء أحمد عرابي ومصطفى كامل، كما أنه كان صديقاً مقرباً من القنصل البريطاني العام في مصر اللورد كرومر.

ومن الواضح الجلي، هو حدود حركة التحديث الإسلامية التي استخدمت كعنصر تعبئة في النضال المعادي للاستعمار مقابل فعاليات محمد رشيد رضا، والتي بواسطتها تطور هذا التيار الأيديولوجي إلى ذروته، وبنفس الوقت إلى مرحلة تحجره والانحدار إلى تعصب جديد، وبه ومن خلاله كان أبرز وأهم تلاميذ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، قد مضوا في عملية يمكن للمرء أن يقارنها بالظاهرة التي حدثت قبل بضعة قرون، عندما كان اللاهوتي الأشعري والغزالي والمعتزلة والصوفية قد وضعت في قائمة الأفكار المحافظة، وبذلك فإن هذه التيارات غير المتعصبة سلبت مئات من السنوات قوتها الثورية.

وإذا جاز لنا اعتبار الغزالي مؤسساً لمدرسة التعصب الإقطاعية في العصور الوسطى، فإننا سنعتبر محمد رشيد رضا “غزالي من نوع جديد” وظاهرة تاريخية تقدمية وعنصراً ثورياً في الأفكار المعادية للاستعمار والتعامل في الحياة مع الإسلام وتجميد المدرسة المتعصبة. وهو الذي خلق ” الاقتصاد الأخلاقي الإسلامي ” وصاغ منها تلك الاشتراكية الديماغوجية عن طريق ثالث بين الرأسمالية والاشتراكية، وعن أمكانية توافق طبقي سلمي من خلال الضرائب الاجتماعية والزكاة التي تظهر اليوم في الأقطار العربية تعبر في الأساس عن معتقدات / الأيديولوجيات البورجوازية المحافظة وصغار البورجوازيين، وكحجج ضد الأفكار الاشتراكية والحركات التقدمية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط العاملة في الميدان، ونعد سعي العناصر الرأسمالية وكأنها مسألة مبررة واستحقاقات دينية.

ومرة أخرى تجلت شدة هذه الاتجاهات المحافظة الجديدة لرضا في مواقفه حيال قضية على عبد الرازق. ففي عام 1925 كان علي عبد الرازق وهو الأخ الوحيد لشيخ الأزهر مصطفى عبد الرازق، قد تخرج من الأزهر، وبتأثير شديد لسياسة فصل الدين عن الدولة في تركيا الحديثة التي كان مصطفى كمال أتاتورك يمارسها، وقد أثار نشره لكتابه “الإسلام وأصول الحكم” الاضطراب في أوساط الرجعية الدينية، وبالصلة والتواصل مع أفضل التقاليد في استفهام والاستيضاح العربي، طالب علي عبد الرازق بتعميق متواصل لعملية التحديث الإسلامية، والذي استطاع من خلال دراسة قام بها في جامعة أكسفورد، أن يكون على تماس مع أفكار هوبس Hobbs ولوقا Locke التي تضم أفكاراً عن فصل الدين عن الدولة، وبحس رأيه، فإن مؤسسة الخلافة تعني ألحاق التهمة بالدين الإسلامي والمسلمين وما يمارس بأسم الإسلام من طغيان ثيوقراطي يتناقض مع النوايا الحقيقية للنبي محمد وتعاليمه. وقد كتب قائلاً ” الدين الإسلامي إلي يدين به المسلمون لا علاقة له بأي خليفة، وكذلك بالسلطة والسلطان وكذلك مع الاجتهاد، وأن الخلافة لا تعد من المؤسسات الدينية وكذلك وظيفة القاضي. والوظائف الحكومية الأخرى والمواقع في الدولة المركزية” وقد أكد مفكر عقلاني مسؤوليات التنوير العربي، بأن ” ليس في الدين الإسلامي ما يمنع من التنافس مع الأمم الأخرى في المجالات الاجتماعية والعلمية وفي إلغاء أي نظام قديم يذلهم ويخضعهم، ووضع أسس الدولة والنظام الحكومي وفق أفضل وأحدث ما توصل إليه الفهم البشري وما أشارت إليه تجارب الشعوب كأفضل ما يمكن من مبادئ مهام الدولة والعمل بها”.(6)

وعملياً، فإنه بذلك كان قد وجه التحية إلي القرار الذي اتخذه الاجتماع الوطني الكبير(البرلمان) في الحل الرسمي للخلافة، وفي نفس الوقت، وقف ضد الانشقاق في الحركة المعادية للاستعمار، وعززت من جهوده فيما يخص الخلافة. وكان يقف هذا الموقف محمد وشوكت علي، محمد رشيد رضا، ورجال الدين المشهورون الذين ينتمون إلى الأزهر، والذين كانوا قد ساهموا في مؤتمر الخلافة في أيار/ مايو ـ 1926 في القاهرة، وفي تموز/ يوليو ـ 1926 في مكة، وكذلك في إيجاد مؤسسات إسلامية دائمية(مؤتمر العالم الإسلامي) الذي ما زال يحاول حتى اليوم يسعى لخلق الإمبراطورية الإسلامية العظمى.(7)

وهكذا لم يكن مثيراً للدهشة بأن مجلة رضا(المنار) ذات النفوذ، والتي كانت تدعم (وكذلك كان البلاط) حزب الاتحاد. وقاد أصحابها معارضة شديدة ضد على عبد الرازق الذي كان ومن خلال إدانات نشرتها مجلة المنار لكتابه، أدت إلى منع أول كتاب من قبل علماء الأزهر(كما أدين هو شخصياً وصدر تحريم تقليده أي وظيفة عامة)، وبذلك كان رضا من اشد خصوم علي عبد الرازق وكذلك مفتي مصر محمد بخيت. ووصفوا هذا المسلم الليبرالي بأنه عدو للإسلام، وهو الذي أشتهر بسبب مقالته” الدين، الإلحاد، الاشتراكية” و ” الاشتراكية، البلشفية، الدين” التي سببت تعاطفاً مع الاشتراكية. وكان رضا متفقاً مع قرار الأزهر بقطع الصلة مع “مثير المشاكل” علي عبد الرازق، ووصف مقاصده بأنها تنطوي على الإلحاد، وتتهمه الرجعية بديماغوجية ” ببلشفة الإسلام”. هذه التوجهات من محمد رشيد رضا الذي لم يخف إعجابه بالنظام الوهابي الإقطاعي السعودي، كما بلغت التوجهات المحافظة الجديدة أوجها بتأسيس جمعية الأخوان المسلمين.

تأسست جمعية الأخوان المسلمين في سنوات 1928/ 1929 في ظروف الأزمة الاقتصادية العالمية التي كانت مؤثرة على الأقطار العربية أيضا كما في مصر. ففي الوقت الذي كانت فيه أقسام من البورجوازية المحلية تبدي الاستعداد من أجل التفاهم والوفاق مع الإمبريالية البريطانية عن طريق أحزابها، وهنا فإن البورجوازية الوطنية وفي حالات كثيرة كادت أن تتنازل عن قوتها الثورية. كما أنها أظهرت فيما يخص قضايا الملكية المختلفة تأثراً بأيديولوجية الأخوان المسلمين، موقفاً متعصباً دينياً وقومياً، كما أنهم عكسوا احتجاجا عفوياً وآمالاً بالاستقلال وأمنيات غير واضحة المعالم في ظروف الاضطهاد الاستعماري من خلال المضطهدين من القوى المحلية الذين كانوا يلحقون الأذى بالفلاحين الفقراء والحرفيين وصغار التجار والمثقفين من البورجوازية الوطنية.

وكان حسن البنا هو المؤسس والمرشد الأول لهذه المنظمة الدقيقة التنظيمات ذات المراتب المتدرجة. والبنا هو ابن أحد مصلحي الساعات في منطقة الدلتا المصرية، وكان يعمل معلماً في مدرسة ابتدائية في الإسماعيلية. وقد مثل محمد رشيد رضا والوهابيون المتشددون، ومن الملتزمين بالمذهب الحنبلي، الأوساط المحيطة به وبرضا وبمجلته المنار التي واصل إصدارها بعد عام 1949، وكان البنا حتى اغتياله عام 1949 القائد الديكتاتوري لهذه المنظمة الجماهيرية التي كان قد وضع لها أساسها الأيديولوجي الذي يرتكز في النهاية على القرآن واتجاهات أخرى غير محددة بدقة وكنها متجهة بصفة أساسية إلى خلق وتأسيس دولة إسلامية عظمى على هذى الإسلام كأيمان مشترك، وبذلك فأنها مواصلة واضحة لأفكار جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. وفي ضرورة إقامة حكم “عادل مستبد” كضمان ” لبعث الشرق”ووجدت هذه نفسها في نظرية الدولة لدى البنا الذي (كما لدى محمد رشيد رضا” دولة يكون القرآن دستورها وهناك خليفة على راس هذه الدولة.

وكان البنا يعتقد أن سقوط الشرق هو بسبب رجوع الناس عن التعاليم الأساسية للإسلام، وطالب بالتطبيق الشامل في كافة مناحي المجتمع وكذلك الحياة الخاصة، (القوانين الإسلامية ـ الشريعة) كما طالب بحل جميع الأحزاب السياسية وإلغاء كافة القوانين والأنظمة والتعليمات الليبرالية ـ البورجوازية، وإحلال سيطرة صارمة لمساعي الدولة الإسلامية في السيطرة على حياة البشر وعلاقاتهم وفق تعاليم الإسلام. ولما كانت اللغة العربية هي المعبرة عن التعاليم الإسلامية الأساسية، لذلك ينبغي أن يكون جزءاً أساسيا من فعاليات التعليم للدولة الإسلامية الجديدة، ومرحلة التعليم لما قبل الدراسة الابتدائية ويجب أن تكون في الجوامع.

وبديماغوجية اجتماعية، من خلال محاكاة شاملة للنموذج الفاشي لماكثة الدعاية، وتحت شعار ” رفع الفوارق الطبقية على قاعدة الأخوة الإسلامية” وكذلك ” النضال ضد النفوذ والتأثير المادي والروحي للغرب ” و ” النضال ضد الفساد والنزاعات الحزبية”، استطاع الأخوان المسلمون أن يحققوا وبسرعة نفوذاً وكثير من الأتباع بين جماهير الفلاحين وبين البورجوازية الصغيرة في المدن كما حاولوا أن ينالوا ويحققوا لأنفسهم مكانة بين الطبقة العاملة حيث نجحوا بتمرير بعض عناصرهم في النقابات. وفي حوالي نهاية الحرب العالمية الثانية كان عدد أعضاء الحركة قد بلغ أكثر من نصف مليون، وبما يشبه الشبكة من الفروع لحركة الأخوان المسلمين، كانت قد انتشرت في معظم أقطار المشرق العربي والسودان. ومن خلال تشكيل ” الأخوات المسلمات” في مسعى للحصول على أتباع بين النساء وأيضاً من خلال وحدات ” الكشافة ” لنيل نفوذ بين أوساط الشبيبة. كما أسس الأخوان المسلمين المزارع، ومشاريع صناعية وأعمال الخدمات، وبذلك كانت لديهم الوسائل المالية القوية في نضالهم السياسي. وتحت شعار منظمة الجوالة ” للشباب الأكبر سناً من الكشافة” والتي تأسست فيها المنظمة العسكرية “الكتائب” ذات القوة الضاربة.

وليس ثمة شك بأن العداء للأجانب قد طبع بالحقد من المتشددين دينياً و القوميين المتطرفين، وقد ضم شيئاً من عداء الأخوان المسلمين للاستعمار. وكان الأخوان المسلمين قد أقسموا على المصحف والسيف، وساهموا بفعالية في الانتفاضة العربية في فلسطين خلال أعوام 1937 ـ 1939 وكسبوا تعاطف الجماهير العربية معهم. وكان حسن البنا هو القائد لمثل هذه الاتجاهات المعادية للاستعمار، وبحسب المعطيات، فهو ينحدر من منطقة الإسماعيلية(حيث مركز القيادة البريطانية في قطاع السويس) وهناك تعرف على الاستعمار، وشحن بالكراهية ضد المستعمرين وسلوكهم التسلطي القائم على البطش. 

ولكن قادة الأخوان أظهروا الانتهازية، حيث كانوا على استعداد لسياسات توفيقية. فقد ابدوا المبالغة في صراعهم المرير مع الوفد، ثم في تعاونهم مع الفاشية(الألمان) أو مع السلطات البريطانية بدرجة متساوية، ألحقت هذه السياسة الأضرار بحركة التحرر العربية، وكذلك في موجة من الإرهاب التي تنامت منذ الأربعينات لواسطة أعمال وفعاليات المنظمات العسكرية للإخوان المسلمين، ضد الخصوم من الداخل والخارج، وفي العداء المعلن ضد الشيوعية، وكذلك الرجعية الاجتماعية العميقة، أضعفت جبهة النضال ضد الاستعمار. ومثل هذه الفعاليات كانت مضرة مثل مواقفهم في الثورة المضادة ضد النظام الثوري الديمقراطي في مصر في أعوام الستينات.

وتشير هذه الملاحظات إلى كون الإسلام قوة تعبئة لا جدال فيها ولكن أيضاً إلى محدوديته في النضال المعادي للاستعمار. وحيث كلن الاتجاه الإسلامي يطرح :  بأنه وفقط بشروط وظروف الإسلام تكون الحركة المعادية للاستعمار والشعور العربية ممكنة، وتوفر للبورجوازية المحلية قاعدتها الفعالة.

ثانياً : القوميــة العربيــة :

كانت البورجوازية والطبقات المتوسطة الصغيرة تفتقر إلى القدرة في أن تتمكن من تحقيق وتأسيس هيمنتها وسيطرتها على مواقعها داخل حركة التحرر الوطنية والقومية نظرياً وسياسياً، تلك النظرية التي سيكون بوسعها أن تقوم بالتعبير بصورة فعالة عن مصالحها الطبقية وتحقيق شخصيتها في الحركة الوطنية، وإن ذلك يؤكد ما جاء في ملاحظات ماركس ” باسم الحقوق العامة للمجتمع تحصل طبقة خاصة على السلطة العامة”. ومن أجل ” اقتحام هذا الموقع وبذلك يتم استغلال سياسي لجميع الطبقات والفئات في المجتمع لمصلحتها. وحيث لا تكفي قواها الثورية الذاتية، لذلك فإن ثورة أي شعب وتحريره طبقة خاصة في المجتمع البورجوازي يتم بصورة تدريجية حتى يشمل المجتمع بأسره. وإلى جانب ذلك ينبغي عودة كل أقلية في المجتمع لتتركز في طبقة أخرى وينبغي أن توجه الضربات ضد الفساد الداخلي، وإلى جانب ذلك ينبغي أن تكون هناك حواجز اجتماعية خاصة للجرائم المعروفة. ولذلك فأن التحرر من هذه الدوائر يبدو وكأنه التحرر الذاتي العام”.(8) وربما أن عرض ماركس هذا يكون ملائماً ومصيباً في مجال آخر. ولذلك فأنه يعتمد على الظرف الذي كانت فيه حركة التحرر العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين، وهذا يثبت الحاجة إلى الأيديولوجية التي تمنح القوة التحررية بقوة إضافية مساعدة.   

هذه المقتضيات تناسبت في مرحلة النضال ضد الاستعمار الذي كان كالمجرم المشهور الذي لا يمكن تجاهله حيال الشعوب العربية، حيث نالت الحركة القومية موقع الصدارة ومكانة أهم من الحركة التحديثية الإسلامية، أيديولوجيا للفئات الوسطى القوية، والاتجاهات التي قامت بناء على ذلك ” لحظة نسبية من التطور التاريخي، سواء في خصوصيات أمة مقابل أخرى، أو تضافر وتعاون القوى الاجتماعية المقابلة ضمن الأمة الواحدة من أجل جعلها مطلقة”.(9)

وقد عرضت البورجوازية المحلية الأساس الأيديولوجي المناسب، وانطلاقا من ذلك أصبحت في وضع يمكنها من السعي بحيوية وفاعلية نحو مصالحها وتساويها بمجموع مصالح الأمة (والسيادة الكاملة) كتأمين سيطرتها على أشكال النضال المعادي للاستعمار. وفي نفس الوقت قدمت الأفكار المتحضرة(التلاحم القومي) وبمقياس قوي كعنصر موحد ومعبأ في النضال ضد الاستعمار. ومن أجل الاستقلال الوطني(كما اشرنا قبل قليل) مع تصاعد التوجهات الدينية الإسلامية وسائر (المقدسات) التقليدية الأخرى والحركات التحررية(المهدية ـ السنوسية) وكذلك الحركة التحديثية الإسلامية التي كانت في تلك المرحلة محصورة في المجاميع المثقفة(في حالة وجودها). إن العلاقات الاجتماعية الغير المتطورة وبخاصة الهيكل الاجتماعي غير الناضج، والنهب الاستعماري المتزايد بحده، وكذلك ازدهار النزعات الدينية والأحتدامات العرقية المؤثرة على النضال الوطني التحرري استلزم المزيد من التعميق والتجذير التي ما زال لها حتى اليوم النفوذ على التيارات الأيديولوجية في الأقطار العربية.

ويلاحظ بأنه على رغم “حلول أنماط العلاقات الرأسمالية ونماذجها الأولى، فإن ذلك كان يقابله تقلص وانتعاش على مستوى أنصار الملكية في الرجعية الثيوقراطية على الأرض” أو ” نوعاً من ألعلب البورجوازية الوطنية، أفرز ذلك في البدء الأفكار المازنية ـ الليبرالية كمثال يحتذي به والتي تنافست مع الأفكار الديمقراطية التي أعقبت الثورة الروسية 1905″.(10)

حلت جميع هذه الظواهر والأفكار في البلدان العربية في مرحلة التحول إلى القرن العشرين، وقد عبر ذلك عن نفسه في فاعلية الرواد الطلائعيين القومين العرب(التي كانت متأثرة بالحركة القومية الإيطالية(البعث) Risorgimento بتأثير اليهودي المصري يعقوب صنوع(في مجال التأثر بالأفكار الليبرالية، وقد ورد ذلك تفصيلاً في مكان آخر من الجزء الثالث ـ المترجم)، وأفكار السوري المسلم الكواكبي، وكذلك السوري المسيحي أديب إسحاق، والمصري المسلم عبد الله النديم، والمصري المدافع عن حقوق المرأة ذو الأصل الكردي قاسم أمين. وليس أخيراً الوطني المصري مصطفى كامل، فهؤلاء وغيرهم كثيرون من المنظمات القومية السرية التي كانت قد خاضت النضال قبل عام 1918 ضد الطغيان العثماني وقدمت تضحيات عالية تخضبت بالدماء، فقد كانوا يمثلون في أفكارهم وفي تعاملهم لأفكار القومية العربية يمثلون في الواقع قوة تحررية تشير إلى كونها أو بوصفها ” شكلاً غير متطور من الوعي الجماهيري المعادي للإمبريالية”.(11)

وفي المرحلة التي يدور البحث فيها عن حركة التحرر الوطنية، تطورت القومية إلى إيديولوجية رئيسية كشكل معبر لنضال الجماهير العربية ضد الإمبريالية وأيضا إلى نظرية صالحة عموماً وإلى أساس لهذا النضال بمشاركة مهمة وأساسية من البورجوازية الوطنية والبورجوازية الصغيرة التي دخلت ميادين النضال.

وهذه العملية كانت مرتبطة (متلازمة) مع تأسيس العديد من الأحزاب البورجوازية الصغيرة القومية في أغلب الأقطار العربية، وكانت مطالبهم تتمثل في الاستقلال الوطني، وفي الإصلاح الداخلي، قد وجدت صداها الكبير لدى الفئات العريضة للشغيلة التي عبرت عن ذلك في انتفاضات مسلحة وتظاهرات واسعة والقيام بأضرابات، وبذلك فأنها عبرت بوضوح (الحركات القومية) عن كونها أقوى الحركات التحررية المعادية للاستعمار، وفي نفس الوقت أنجزت وعلى خطوات منتظمة الموقف العقائدي للحركة القومية العربية كما تظهر لنا المحاولات النظرية لجعل ذلك مجسداً أمام الأعين.

وقد طرحت هذه في أماكن أخرى العديد من الأمثلة، فمن أجل وضع المناهج السياسية للحركة القومية بصورة مباشرة في حركة نضال الجماهير المعادية للاستعمار، فقد استلزم ذلك في الصفحات التالية أيلاء أهمية خاصة لقضايا النضال المهمة للحركة التحررية القومية والتي تبلورت من خلال المطارحات الأيديولوجية للقوميين العرب، وفي الوسط الذي كان يجري منذ أواسط الثلاثينات حيث يشتد مباشرة في مجال السياسة العملية للصراع بين أوساط القوميين العرب والذي كان جوهره حول عقدتين من القضايا :

الأولى : في المناقشات حول العوامل الأساسية للحركة القومية.

الثانية : كانت حول استخدام الأفكار القومية وربطها بالخطوات الأولى من أجل تحقيق الوحدة العربية.

وفي ملاحظة للمناقشات حول الأجزاء المكونة للحركة القومية العربية، التي ساهم فيها إلى جانب المنظرين القوميين، الشيوعيين العرب أيضاً، وبذلك فقد يبدو للوهلة الأولى أنها لا تضم إلا القليل من المواد السياسية البالغة الأهمية. وكانت هناك وحدة في الرأي بين المفكرين القوميين حول اللغة العربية، في أن تنال المكانة الأولى، فقد مثلت اللغة العربية (ضمير الأمة العربية) وهي تعد عربياً من كانت ” العربية، لغته الوطنية، بها يفكر وبها يعبر عن آراؤه وأفكاره وبصرف النظر عن الانحدار العرقي لوالديه” وبصورة مماثلة كان هناك أتفاق يتوافر عند تقيم التقاليد التاريخية للشعوب العربية” بما في ذلك الثقافية” كعوامل أساسية للقومية العربية. وعند تقرير ما يسمى بالمصالح المشتركة، التي اسماها السوري قسطنطين زريق، وهو قومي مسيحي أرثودوكسي، له تأثير كبير على القراء الليبراليين، واللبناني عبد الله العلايلي، مثلت عناصر جوهرية للقومية وأشعلت المساجلات الحامية.

وكانت المجادلات ذات نوعية خاصة منها ما يختص بالمصالح المشتركة أو “حماية المصالح” التي كانت قد طرحت من قبل ساطع الحصري الذي كان مفكراً رائعاً ومنظراً للقومية العربية، وكذلك من خلال مساهمة الماركسي اللبناني رئيف خوري الذي نشر عام 1941 كتاباً بعنوان ” معالم الوعي القومي”، ففي هذا الكتاب، وقف ضد تلك الاتجاهات الرائجة في تلك المرحلة، وكذلك وفي المراحل اللاحقة، من رومانسية غير معقولة في القومية تلك التي كان قد صاغها زريق في كتابه “الوعي القومي” عام1938. وبحجج متينة جعلته ينال التقدير في صفوف القوميين، أخضع فيها أطروحات زريق “المهمة العربية الخاصة” إلى النقد المقنع، والخوري الذي أنزل الرومانسية القومية إلى الأرض من عليائها، ثم أسدى خدمة أكبر بأطروحته” الحاجات الخاصة” إلى قضية الاستقلال والتقدم الاجتماعي التي تناضل من أجلها الجماهير وربطها ببعضها، فبالنسبة له كان ذلك ” الهدف الأخير للفكرة القومية الحقيقية وأمضى قوة، تمنح طاقة إنتاج للأمة من أجل تحسين الشروط المادية والثقافية وتوسيع عملية التمدن والتحضر وإزالة كافة الحواجز عن طريق انطلاق الأمة والتي تعيق نمو عبقريتها” وبذلك نزع عن الحركة القومية العربية ثياب الصوفية،  ووضع بدلاً عنها الأساس المادي الموضوعي.

وهذا الأسلوب كان ملزماً، وقد أستند خوري على أطروحة زريق التي تتحدث عن ” اجتماع المصالح” وطرح بصورة جوهرية مفهوم ” عندما تكون مصالح أطراف وأقسام أي أمة متصادمة، فإن هذه الأمة ستكف عن الوقوف” كما أنه أكد بالمقابل، بأن بوسع المرء مناقشة المصالح التي يشترك فيها أغلبية الأمة في مرحلة محددة من مراحل تطور الأمة. وفي نفس الوقت فقد أوضح الخوري بأن أكثرية الأمة بالنسبة إليه كانت : ” إن الأمر يدور عن قوى تنتمي إلى عملية الإنتاج، تلك القوى التي ينبغي دعمها بالإضافة إلى أنهم يشكلون مادة البناء، فأنهم أيضاً يمثلون الولادة الجديدة للأمة”.

وبموجب الذي توصل إليه الخوري، فقد أصبح واضحاً، بأن النقد الذي تصاعد مبكراً وبسرعة في الأقطار العربية التي تعرضت للخطر، وأتضح لديها بأن من خلال الحركة القومية التي تقودها البورجوازية، تنطوي على ديماغوجية شعار” اجتماع المصالح”. وإن الجهود كانت في مجال أماطة اللثام عن الظاهرة المؤقتة المتمثلة ببروز ” السلام الطبقي ألدائمي) من بين الظروف المادية للنضال المعادي للاستعمار الذي تخوضه الشعوب العربية، والتفاعلات الضرورية لمختلف الطبقات والفئات من أجل الاستقلال الوطني ونيل الحريات الديمقراطية بوصفها حقوق مواطنة.

وقد وجد الخوري ذلك ضرورياً في تأكيد على الجماعية في النضال ضد المضطهدين الأجانب، وإبراز حقوق ومصالح هؤلاء الذين منحوا قواهم لقضايا فكرة التحرر القومي من خلال الفعاليات الجماهيرية. إذ أن : القومية العربية تحتاج في سعيها للتحرر القومي من خلال الفعاليات الجماهيرية، غذ أن ” القومية العربية تحتاج في سعيها إلى التحرر، إلى طليعة مناضلة، التي تنظم نفسها وتعبئ قواها من خلال النضال والعمل، وهي تضم نوعية أخلاقية ومعنوية عالية، كما أنها تمتلك الحماس وروح التضحية ويتألف أعضاؤها وقادتها من الطبقات الشعبية (ليس فقط من المثقفين” ولها رؤية فلسفية للطبيعة وإلى المجتمع والتاريخ، والتي أساسها في الدراسات العلمية التي في واقعها تطور وانقلاب في رؤية الأشياء”.(12)     

وفي المناقشات الفائقة الأهمية حول مسألة مواصلة تطور نظرية وممارسة الحركة القومية العربية في الأيديولوجية القومية. وفي هذا النزاع وفي هجمات شديدة ضد المحاولات التي كانت تقوم بها على الأغلب قوى إقطاعية من أجل الإبقاء على المثاليات الإسلامية الصرفة، كان قد غدا واضحاً، بأن لم يكن الدين، سواء لدى القوميين المسلمين، أو القوميين المسيحيين(وهذه بصفة خاصة)، يحتل عند تقرير الأساس النظري للحركة القومية موقعاً متقدماً، بل وأكثر من ذلك، فقد أنذروا وحذروا” وكان زريق قد أنظم إلى الكتلة الوطنية، وكذلك أدمون رباط، والعراقي عبد الرحمن البزاز” وحذروا صراحة من طغيان العامل الإسلامي في الحركة القومية، بل وقد أعتبر باحترام أن : الدين الإسلامي جزء لا يتجزأ من الإرث القومي للشعوب العربية، وقد حدث ذلك بالدرجة الأولى تحت تأثير توافق و انسجام قواعدها ومبادئها الأساسية الرقة والأخلاقية العامة مع الأديان الأخرى في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وبالتحديد المسيحية.(*)

وهذه الرؤية الليبرالية لمعظم القوميين التي تنطوي جوهرياً على توجهات دنيوية في إيديولوجيتها قد عبرت عن نفسها على سبيل المثال في مصر تحت شعار ” الدين لله والوطن للجميع”. هذه الرؤية منحت الفرصة وإمكانية التغلب على الحواجز والموانع وفي توجيه الخطاب إلى جماعات السكان غير المسلحة، وجرها إلى النضال ضد الاستعمار تحت راية القومية العربية.

وقد بقيت لنا ملاحظة، بأن مواقف روحية كهذه، تضم فيما تضم، الطبقات المعتدلة التي كانت تتحول إلى الإسلام الحديث، وكان ذلك واضحاً في قناعاتها الاجتماعية والسياسية، والتي صاغها محمد رشيد رضا في ” الاقتصاد الأخلاقي” والانخراط في المشروع القومي، وبذلك فأن المساجلة والمناظرة التي استغرقت طويلاً حول العلاقة بين الإسلام والقومية حسمت تدريجياً لصالح القومية.

والمجموعة الثانية المهمة المثيرة في المجادلات النظرية وفي الصراعات السياسية العملية بين القوميين العرب في أعوام الثلاثينات والأربعينات التي أحرزت الانتصار التدريجي على ما يسمى ب(القطرية) والتحقق التدريجي للأفكار القومية والارتباط بشكل وثيق بالمحاولات الأولى لأحياء فكرة الوحدة العربية.

بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية كان هناك في معظم الأقطار العربية شكل مما يسمى (القومية القطرية، أو المحلية) تسمى في الأدب الوطني (الوطنية) وهذا التطور كانت له أسبابه الجوهرية الكامنة، فمن خلال النضال التحرري الوطني دخلت القوى البورجوازية كقوى مسيطرة في هذه البلدان بوجه المعطيات الاقتصادية والسياسية وقد بدا لها هدف واقعي وظاهري من خلال نيلها للاستقلال الوطني من أجل وجودها المباشر ومجالات تأثيرها أدى بسرعة وفاعلية إلى تلك الشروط التي سمحت ” بالنهوض كطبقة رأسمالية اعتيادية في بلدانها”(13) وهنا لم يظهر أغلبية القوميين العرب في هذا الوقت، المزيد من الاهتمام إلى رؤى قومية عربية صرفة، أو أنها أزاحت على الأقل مثاليات المستقبل البعيدة.  

وهكذا فقد ساد في أعوام العشرينات في المغرب العربي والشرق الأوسط، ما يسمى بالقطرية(المراكشية) و(التونسية) و(السورية) ز (المصرية) وفي نفس الوقت تعميق للشعار الذي كان مصطفى كامل قد طرحه ” مصر للمصريين” وجد تعبيره بصورة رئيسية عند أفكار وممارسة قائد حزب الوفد سعد زغلول، والكاتب محمد حسين هيكل، والقومي الليبرالي لطفي السيد، الذين كانوا خصوم الفكرة الداعية إلى الحركة الإسلامية. وقد لاقت هذه الفكرة(القومية المحلية) تطوراً منعزلاً من خلال الكاتب الكبير المحدث للأدب العربي طه حسين، والقبطي سلامة موسى في الدعاية لفكرة المصرية ـ الفرعونية والتي ترجع (الأحداث) العربية ـ الإسلامية العنصر الأساسي للقومية العربية لصالح فكرة “أفكار البحر المتوسط) وقد اتخذت (القومية المصرية) شكلاً ضخماً في عام 1933 في الحزب البورجوازي الفاشي الذي أسسه محمد حسين (مصر الفتاة) الذي كان يتشابه مع حركة الأخوان المسلمين في فعالياته الإرهابية.

واتجاهات مشابهة كانت هناك أيضا في لبنان وسورية، وعلى أساس ما قام المسيحي المثقف شارل قرم وميشيل شيحا وسعيد عقل الذين أسسوا الحركة الفينيقية التي لاقت الدعم من السياسي اللبناني الموال للفرنسيين أميل أده قائد الكتلة الوطنية التي شكلت منظمة لبنانية متطرفة، وتمثلت أحدى منجزاتها بتأسيس حزب الكتائب الذي أسسه المسيحي بيير الجميل عام 1936 وكان هدفها الأساسي هو التصدي لمهمة حماية المصالح السياسية والاقتصادية للبورجوازية المارونية.

والآن لم يعد هناك شك، بأن سلسلة من (القوميات) (المحلية) أو (القطرية) كانت قد نشأت في بعض الأقطار، وبعضها كان قوياً. وهنا نذكر فقط الأحزاب : حزب الحركة الوطنية يرأسه الوزاني، وحزب الإصلاح الوطني بقيادة عبد الخالق توريس، والحزب الوطني لتحقيق المطالب يرأسه الفاسي واليزيدي وبلفريج، وحزب فيدرالية المسلمين برئاسة عباس فرحات، ونجمة شمال أفريقيا بقيادة مصالي الحاج في الجزائر، والحزب الدستوري الجديد يرأسه الحبيب بورقيبة في تونس، والوفد المصري برأسة سعد زغلول، وحزب الشعب السوري برأسة الشابندر، وحزب الأخاء الوطني برأسة ياسين الهاشمي في العراق.

ولا يمكن تجاهل الاختلاف في وجهات النظر، التي يمكن وصفها بكونها حقيقية وعميقة، والصراعات الحادة بين الشخصيات القيادية، وبين أنصار هذا الحزب أو ذاك. وبادئ ذي بدء فإن الأحزاب كانت ملتزمة في أهدافها(القطرية والمحلية) وكانت هدامة ومخربة في بعض الأحيان، لأن فعالياتها كانت انشقاقية وتتبع في بعض الأحيان تاكتيكات معينة في المصالح المتناقضة بين القوى الإمبريالية في الأقطار العربية والتي ليس نادراً ما أدت إلى الأضرار بأطراف أخرى في حركة التحرر العربية والفئات الصغيرة بين المواطنين. وقد كانت نسبية مساهمتها في النضال واضحة من أجل إحراز الهيمنة السياسية والاقتصادية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط. وكان ذلك يشير بوضوح إلى الإخلال بأهمية وضرورة توحيد الجبهة للنضال ضد الاستعمار، بل أنها يسرت بشكل مباشر أو غير مباشر للسياسة الإمبريالية المشهورة فرق تسد Divide et impera

وفي هذه الظروف، بدأت في حوالي أوسط الثلاثينات عملية تحقق متزايدة لاتجاه في المجال النظري والعملي للقومين العرب، يقيم بصفة عامة كفكرة عربية خالصة(وصفت عادة بالقومية) وصل ما يهدف إليه ويتمناه هذا التيار البورجوازي الصغير وكذلك بعض القوى الإقطاعية التي أنظمت إلى هذا التيار في الأقطار العربية، تهدف إلى تحقيق الدولة العربية الموحدة سياسياً، واقتصاديا، وثقافياً.

إن أتباع الفكرة القومية كانوا ماضين إلى جانب ذلك من أجل التغلب على ما أعتبر من قبلهم بالقطرية(الإقليمية) والتي من خلالها تضع الأمة العربية حداً لنتائج قرون طويلة من الاضطهاد الأجنبي وأنها تقاسي الآن اشد الآلام والتقسيم من خلال السياسة الاستعمارية لبريطانيا وفرنسا وإيطاليا والاستغلال والسيطرة حيال واقع يعبر عن الانقسام للشعب العربي.

وأحدى أهم النظريات للقومية العربية التي كانت متأثرة بآراء فيختة Fichte  وهيردر Herder وآرنت Arndt ، كانت تلك التي تقدم بها السوري ساطع الحصري. ويمكن ملاحظة ذلك في كلماته التالية :” إن الفروق والخلافات التي يمكن ملاحظتها اليوم بين الدول العربية سواء من زاوية اختلاف الإدارة أو التشريع، وفي التأسيسات الاقتصادية، وكذلك أيضا في توجهاتها السياسية فهي جميعاً الإرث الذي تسلموه من الاحتلال. وهي وليدة الإمبريالية”. وقد لاحظ أكثر من ذلك بقوله ” إن العرب هم أمة واحدة: المصري، العراقي، المغاربة، هم شعب واحد وفرع من الأمة الواحدة، وهي الأمة العربية.”.(14) والنضال من أجل الوحدة العربية، ومن أجل ولادة جديدة (بعث) للأمة العربية، كما كتب مكرم عبيد المصري القبطي وأحد ممثلي الفكرة القومية العربية في مصر قائلاً ” إن هدف إقامة الجبهة ضد الإمبريالية هو الدفاع عن القومية، تأمين تطور مستوى الحياة، وتطور الموارد الاقتصادية، وتصدير المنتوج الوطني، وتكثيف المصالح المتبادلة والتنسيق في العلاقات”.(15)

وبادئ ذي بدء عندما يشير المرء إلى نضال الشعوب العربية من أجل حقوقها التاريخية، وعندما تكون الأهداف غير واضحة فإن ذلك يثير المنازعات بل وأكثر من ذلك، إذ كثيراً ما طرحت حقوق عائلات في السيطرة، مصالح سياسية واقتصادية متناقضة لقادة وشخصيات، بورجوازية وإقطاعية، أضعفت الفكرة القومية وجعلتها تعاني من التناقضات، وهكذا فإن الاتجاهات المعادية للاستعمار حتى في هذا التيار(القومي) كانت ظاهرة وملحوظة: فهم انتشلوا بلا ريب قوى حقيقية وكسبوها إلى جانبهم، مساهمة في تنسيق الفعاليات الجماهيرية المعادية للاستعمار في بعض الأقطار العربية وفي ذلك تعزيز وزيادة للقوة الضاربة في جبهة النضال ضد الإمبريالية.

ولك يكن هناك شك، بأن تنسيقاً في نضال الشعوب العربية المعادي للاستعمار، وبالذات في هذا الوقت، في عشية الحرب العالمية الثانية، أضافت الأهمية ووفرت شروطاً ملائمة نسبياً، بل أن بعض فصائل في حركة التحرر العربية، ومن خلال نضالها وتضحياتها كانت في السنوات الماضية قد تمكنت من انتزاع بعض التنازلات من الإنكليز والفرنسيين، ولكن ذلك لم يكن ليخدع أحداً، بأن الإمبريالية ماضية بلا هوادة في تنفيذ سياستها القمعية الاضطهادية ولا سيما ضد شعب فلسطين، وعدا ذلك، كان هناك خطر الفاشية قد ابتدأ يتنامى بالنسبة للشعوب العربية، ومن جهة أخرى كانت قد ظهرت استعدادات ملموسة للتضامن العربي الذي يستحق التطوير. وهنا فإن حالة دعم القوميين التونسيين لقبائل الريف(مراكش) حيث كانت منذ عام 1937 لقاءات تنسيق بين القوميين المراكشيين والجزائريين والتونسيين. كما كان ما يقرب من الإجماع لكافة فصائل حركة التحرر العربية من أعداء التضامن لنضال الشعب الفلسطيني وكذلك في سلسلة من الاتفاقات بين العديد من أقطار المشرق العربي يمكن اعتبارها خطوات على طريق التقارب السياسي والاقتصادي والثقافي.

وهكذا نشأ في هذه المرحلة لحركة التحرر العربية مقدمات مناسبة لتحقيق الأفكار القومية المثالية أكثر مما كانت عليه في مطلع القرن، تلك التي نجحت في أن تحقق انتشارا وشعبية لها. وكان السوري المسيحي نجيب عزوري (الذي أسس في باريس عام 1904، الجامعة العربية Ligue del la Patrie Arab ) قد عبر في كتابه (يقظة الوطن العربي في آسيا) عن تطلعاته لدولة عربية مستقلة عن الدولة العثمانية(1905) التي تشمل مناطق لبنان، سوريا، فلسطين، العراق. وتصورات مماثلة كانت لدى المسلم السوري الكواكبي الذي كان ما يزال يعتبر أن الإسلام عنصر التحام قوي، لذلك فأنه شمل في مشروعه الوحدوي شبه الجزيرة العربية أيضا.

وفي أعوام الثلاثينات، بدأ العديد من البورجوازيين القوميين العرب على هدى هذه الأفكار القومية، التي تضم توجهات واضحة للعداء والاصطدام مع الاستعمار وبهدف إقامة الدولة العربية الواحدة، بدأت النضال ضد الاتجاه الديني الصرف، وغلاة الإقليمية وتوجهاتهم في صفوف حركة التحرر العربية.

وفي مقدمة الجهود الجدية من هذا النوع كان في المؤتمر العربي المنعقد في القدس عام 1931، وهذا الاجتماع الذي حضره قوميون بورجوازيون من مراكش، الجزائر، تونس، ليبيا، مصر، سورية، فلسطين، والعراق والحجاز، جاء باعتباره رد فعل واضح على المؤتمر الذي عقد في نفس الوقت، وفي نفس المكان من قبل القوى الإسلامية الإقطاعية باسم (المؤتمر الإسلامي)، وقد أظهر بشكل واضح بأن القيادة الرجعية للمؤتمر الإسلامي (كانوا تحت ضغط موظفي وسلطات الانتداب البريطاني)، بذلوا مساعي شديدة في إعاقة إسهام المندوبين من القوميين العرب، وكانت هذه كما في حالة مساهمة عبد الرحمن عزام القومي المصري ومحمد سعيد ودرويش الليبي على شكل لائحة اتهام ضد السياسة الاستعمارية.

وهكذا فقد أصبح مفهوماً بأن القوميين العرب وعلى هامش المؤتمر الإسلامي قد نجحوا في تكوين الشكل المعبر العامل لهم (المؤتمر العربي). ومن النتائج الهامة لهذا الاجتماع هو التوصل إلى (الميثاق العربي) التي تضمنت صياغة لتشكيل دولة عربية مستقلة، والثاني هو التنسيق في النضال من اجل الاستقلال والنضال ضد كافة أشكال الاستعمار في شمال أفريقيا والشرق الأوسط. وعدا ذلك فقد تقرر التحضير لمؤتمر قومي باسم ” مؤتمر الأمة العربية” ولغرض التحضير لذلك تأسست لجنة تحضيرية، وهذه اللجنة قررت أن يكون عام 1933 موعداً لعقد المؤتمر. وقاد المؤتمر السيد ياسين الهاشمي، كما كان السوري الشاهبندر موجوداً، ونبيه العظم وشكري القوتلي وشكيب أرسلان ورياض الصلح ومحمد عزت دروزة. وقد اختير الملك العراقي فيصل الأول كرئيس شرف للمؤتمر.

ومن أجل الاستباق : فهذا المؤتمر كان ينبغي عقده في بغداد والذي كان قد أستثار مصالح إمام اليمن، لم ينعقد ، وأحدى الأسباب الحاسمة لذلك كان في الضغط الشديد الذي مارسته الإمبريالية البريطانية على الأوساط الحكمة، لإفشال مشروع اللقاء القومي العربي المرتقب الذي كان ذا توجهات معادية للاستعمار، ولكن بنفس الوقت لعبت الخلافات في صفوف التحضير لعقد المؤتمر من المشاركين القوميين دوراً مهماً في فشل عقد المؤتمر. وهكذا فقد عبر العديد من القوميين السوريين والفلسطينيين في الشكوك (ولم يكن بعضها مخطئاً) بأن وجود الملك فيصل على راس المؤتمر القومي العربي هو في المقام الأول أداة من أجل تحقيق سيطرة الأسرة الهاشمية، الأمر الذي سوف يستغل مستقبلاً في ظل الدولة العربية الموحدة.

إن أسباب فشل عقد المؤتمر القومي في بغداد سيجعل من الممكن فهم وأدراك أي صعوبات أضيفت للجهود اللاحقة للمناؤين للفكرة القومية، بالإضافة إلى الفروق الاجتماعية والسياسية، إذ برغم هذا الفشل للفكرة القومية الذي كان له صداه المهم منذ أواسط الثلاثينات في أغلب الأقطار العربية، وقبل كل شيء في أوساط البورجوازية ومثقفي البورجوازية الوسطى، وفي أوساط الطلبة القوميين في أقطار في أقطار المشرق العربي، كانت المحاولات قد بذلت لتأسيس منظمات جماهيرية غير قطرية والعمل الدعائي للفكرة القومية وتأسيس المنظمات والتأثير تدريجياً والتقريب بين الأقطار العربية على بعض الأصعدة الاجتماعية. و في المؤتمر التاسع للطب الذي عقد في القاهرة في كانون الأولـ ديسمبر / 1933 الذي كان قد دعا إليه الطبيب السوري القومي عبد الرحمن الشابندر، ولاقى الدعم من زملاء مهنته، وأيضا من جمعية “عصبة العمل القومية” وطالبت بخطوات عملية لتحقيق الوحدة العربية.

وفي نفس الاتجاه أيضاً كان تأسيس المؤتمر الطبي العربي، الذي أنعقد للمرة الأولى في بغداد شباط ـ فبراير / 1938 وكذلك في القاهرة كانون الثاني ـ يناير / 1939، وحول محتوى وهدف هذه اللقآت والمطالبات الصادرة عنها في إحداث التقارب الثقافي بين الأقطار العربية. وكواحدة من فعاليات القوميين العرب، وفي هذا الشأن نلاحظ جهود ومساعي القوميين السوريين والعراقيين والمصريين(ممثلين : قسطنطين زريق، فاضل الجمالي، عبد الرزاق السنهوري) الذين بدؤا بالعمل لعقد مؤتمر الطلبة العرب في دمشق عام 1937 بدعم من ابن السعود.

وأولى ذرى المساعي العربية القومية باتجاه تحقيق الأفكار القومية تمثل بدون شك في عقد “المؤتمر العربي” في بلودان وهذا المؤتمر عقد بتاريخ 8 ـ 12 / كانون الثاني ـ يناير / ،    1937 ، (وبلودان بمصيف سوري بالقرب من دمشق)، وحضره أكثر من 400 من القوميين من كافة الأقطار العربية (باستثناء المغرب واليمن) وانعقاد المؤتمر على أساس المبادرات التي تقدم بها القوميون العراقيون والسوريون. وكان هذا مهماً في مجرى عمل الحركة القومية. وبحلول النصف الثاني من أعوام الثلاثينات، كان النضال الفلسطيني قد ألتهب من أجل الحقوق الشرعية وضد السياسة الموالية للصهيونية التي كانت الإمبريالية البريطانية تنتهجها وكان ذلك مبرراً وباعثاً حاسماً لكي لإنضاج وبلورة الحركة القومية.      

ومن هنا نلاحظ بأن المؤتمر سواء كان قد أعد كشكل (لجنة الدفاع عن فلسطين) الدمشقية بقيادة نبيه العظم، أو بأن عموم سير المؤتمر، كانت تسيطر عليه مفهوم وفكرة “فلسطين هي قلب الوطن”، وهي العضو الذي يربط بين عرب آسيا وعرب أفريقيا، ويربط بين شمال وجنوب شبه الجزيرة العربية ويمثل الطريق المطل على البحر. ومن خلال فلسطين يقيم العرب الصلات مع العالم المتحضر، ومع عالم التجارة. وعلى المرء أن لا يفكر بأنهم من خلال احتلال فلسطين بالقوة يعني أنهم سيتمكنون من سلبها”.(16)

مع أن على المرء أن يلاحظ بما لا يقبل التباس، بأن قضية الشعب الفلسطيني هي قضية عادلة، فإن الرجعية العربية من القوميين الإقطاعيين، كانوا كالغائبين عن مسرح الجريمة حيال الجماهير العربية ليس إلا(بمعنى لا يمكن إعفائهم من المسؤولية حيال الأحداث اللاحقة ـ المترجم) كمبرر لتحقيق مصالح سياسة القوة، لذلك فليس هناك مجال للشك في الحماس الطاغي للقوميين العرب في النضال من أجل عرب فلسطين، فقد شددت من حركة العداء ضد الاستعمار لدى القوميين العرب.

ومن جهة أخرى فقد أوضح مؤتمر بلودان الخلافات وعدم التجانس الاجتماعي والسياسي للحركة القومية. وعلى الرغم من أن المجادلات والمساجلات لبعض الأوساط والأقطار العربية لم تكن بادية ومكشوفة للعيان ولكنها تشير على الأقل إلى حدثين في وجود مثل هذه التناقضات :

الأول : في الصراع على رئاسة المؤتمر، وكان المرشحان، الفلسطيني الحاج أمين الحسيني، ونوري السعيد العراقي، وقد رفضا المرشح العراقي القومي ناجي السويدي(وهو سياسي عراقي معادي للإنكليز ولنوري السعيد الذي كان على صلة وثيقة مع الهاشميين وفيصل) وقيادة المؤتمر تعبر عن ثقل المحافظين الذين كانوا على صلة وثيقة بسياسي القوى الإقطاعية ومن بين هؤلاء كان نوري السعيد وشكيب أرسلان، الذي كان يقف قريباً من الملك المصري، والشخصية المعادية للوفد المصري محمد علوبة، وأسقف كنيسة أرثودوكسية ـ اليونانية في حمص اكنازيو خورويكا Ignazio Hurraika ، ورئيس تجار بيروت عمر الداعوق وكذلك الحزب الفاشي(الحزب القومي السوري، وممثلي حزب الشعب السوري فؤاد مفرج.

الثاني : الجدال حول طلب سعيد الحاج ثابت (رئيس اللجنة العراقية للدفاع عن فلسطين) بإدانة الأنظمة الملكية العربية حول دورها السلبي حيال نضال العرب الفلسطينيين، وقد رفض هذا الطلب بعد إلحاح من الدرزي شكيب أرسلان.

ومؤتمر بلودان الذي واصل تطبيق الأفكار والممارسات القومية كان يمثل مؤشراً قوياً وأعقبه الكثير من الفعاليات القومية التي كانت واضحة في مساعيها، وهو تحقيق مزيد من الخطوات للتقارب بين الدول العربية بهدف توحيدها أخيراً. والمؤتمر البرلماني الدولي الذي عقد في القاهرة من تشرين الأول ـ أكتوبر / 1938. وفي العام نفسه عقد مؤتمر المرأة العربية والطلاب العرب في الخارج، وتأسست لجان تطالب بوضع الأفكار للوحدة العربية، ومن تلك “جمعية الوحدة العربية”التي أسسها علوبة في القاهرة في نيسان ـ أبريل / 1930. وفي هذا المجال ينبغي الإشارة إلى أن التيار القومي ومنذ نهاية أعوام الثلاثينات(كان يمثله عبد الرحمن عزام، مكرم عبيد، والكاتب المازني) وكان لهم نفوذ كبير في مصر. وفي مطلع الأربعينات ألتزم العديد من مثقفي البورجوازية الصغيرة ومن أبرزهم : ميشيل عفلق، زكي الأرسوزي، صلاح الدين البيطار، في حركة أطلقت على نفسها (حركة البعث)التي تأسست في سوريا ولبنان. أما في المغرب، فقد أخفقت الأفكار القومية رغم الجهود التي بذلها القوميون في شمال أفريقيا مثل : الفاسي، اليزيدي، الوزاني، ومصالي الحاج، والثعالبي، وصلاتهم مع شكيب أرسلان، واتصفت مواقفهم ببعض التردد.

وفي النصف الأول لأعوام الأربعينات، أنظمت قوى يمكن أن تحسب على البورجوازية والإقطاع، أنظمت على المساعي من أجل الوحدة في مرحلة مهمة. وكانت شخصيات من الأنظمة الإقطاعية البورجوازية في الشرق الأوسط ومثقفون قد بدأوا الآن بتقديم دعم (ولم يكن ذلك بدون موافقة مباشرة أو غير مباشرة من الإمبريالية) جهودهم في التوصل (في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية) إلى خلق رابطة للدول العربية وفي ذلك كانت الأقطار العربية في المشرق تتأرجح في تلك المرحلة في سياستها بين مختلف المجاميع البورجوازية والإقطاعية وكان ذلك واضحاً خصوصاً بين أنصار الأسرة الهاشمية، والأسرة السعودية الهادفة إلى السيطرة.

وفي عام 1943 طرح نوري السعيد بأسم النظام الإقطاعي الهاشمي في العراق وبموافقة الإمبريالية البريطانية فيما يسمى “الكتاب الأزرق” مشروع سورية الكبرى ومركزها العراق، هذا المخطط الذي يشكل من : العراق، سورية، لبنان، شرق الأردن، دولة موحدة وأقترح لها الملك الهاشمي. ولكن ذلك أصطدم بمشروع سورية الكبرى، ومؤسسة المسيحي أنطون سعادة الذي أسس عام 1932 الحزب القومي السوري، الذي كان متأثراً بالفينيقية، وتحت شعار ” سورية، سورية، فوق كل شيء” وإن انبعاثاً (عصر نهضة) سيقوم على الكنعانيين، الآراميين، الاشوريين، الكلدانيين، الأكديين، لتشكيل الأمة السورية الكبرى التي تمتد من طوروس وحتى سيناء، ومن البحر المتوسط حتى نهر دجلة. وفي ذلك لم تجد تلك الفكرة إلا دعماً قليلاً. ومن جهة أخرى : تدخلت التناقضات الهاشمية الداخلية من خلال الأطماع السياسية في السلطة وقد شجعت الأوساط الإمبريالية أمير شرق الأردن عبدالله بن الحسين في محاولاته تلك. وهذه المطالبة بعرش الدولة العربية الموحدة التي يجري البحث عنها والنضال لتحقيقها لم تجد في أوساط القوميين العرب الدعم والمساندة المأمولة على الرغم من أن عبد الله كان عام 1937 قد تلقى الدعم من رئيس غرفة التجارة العربية ـ الفلسطينية فخري النشاشيبي(قومي رجعي) مؤسس حزب الأمة العربية بوصفه أداة لتحقيق مصالحة وأهدافه، وكان في تصورهم أن دولة عربية موحدة في سورية الكبرى وبقيادة فيصل بن الحسين سيلقى التأييد الشديد حتى في أوساط قومية أخرى كمصر على سبيل المثال، وقد أدى السعوديون من مقرهم في الرياض مقاومة شديدة لهذا المشروع.

وفي هذه الظروف من تصادم مصالح السلطة السياسية بين المجاميع الإقطاعية البورجوازية ذات النفوذ الواسع في الشرق الأوسط، ومن خلالها أثرت على الاتجاهات المعادية للاستعمار في سائر التيارات القومية الأخرى أكثر فأكثر، والآن يباشر ممثلوا الأوساط الحاكمة في مصر إلى اتخاذ المبادرات. واستناداً إلى حديث وزارة الخارجية البريطانية أنطوني إيدن أمام مجلس العموم البريطاني في 23/ شباط ـ فبراير/1943، والتي عاد فيها وكرر على المصالح البريطانية في تكوين كتلة من القوى الرجعية والدول في الشرق الأوسط، وفي 30/ آذار ـ مارس من لنفس العام أعلن وزير العدل المصري صبري أبو علام ” منذ أن تقدم السيد أيدن بإعلانه فأني قد أدليت بموقفي، وقد كان لي رأي وهو أن الأمر ينبغي أن يدرس رسمياً من الحكومات العربية. وفي الختام سيكون مفضلاً لو قامت الحكومة المصرية بنفسها اتخاذ المبادرة الرسمية على هذا الطريق. وفي البدء يجب الأخذ بنظر الاعتبار رأي كل حكومة عربية من أجل استخلاص ما نهدف إليه. ثم أن على الحكومة المصرية أن تجتهد في أن تجمع كل وجهات النظر قدر الإمكان وتوحدها”.(17)

وبدعم العديد من القوميين السوريين واللبنانيين، أنظم زعيم الوفد مصطفى النحاس بناء على ذلك سلسلة من المحادثات مع ممثلي الأقطار العربية المشرقية، والتي في ختامها أدت إلى انعقاد مؤتمر الإسكندرية الذي استمر من 25/ أيلول ـ سبتمبر إلى 7/ تشرين الأول ـ أكتوبر / 1944، وساهم في أعماله ممثلون عن : سورية، شرق الأردن، العراق، لبنان، مصر، ثم الاتفاق على بروتكول تأسيس الجامعة العربية . وفي 22 / آذار ـ مارس / 1945، أقرت تشكيل لجنة تحضيرية ” المؤتمر القومي العربي ” في القاهرة(حلف جامعة الدول العربية) والذي وقع عليه من قبل وفود: سورية، شرق الأردن، العراق، العربية السعودية، لبنان، مصر، ثم أنظمت إليها اليمن بعد شهرين من هذا التاريخ.

و من جهة أخرى، كان قد أصبح واضحاً بأنه قد يستبعد رؤية نتائج تطبيق الأفكار والممارسات القومية، وكانت أيضاً العناصر التي تعمل للإقليمية (القطرية) تتنافس وتطرح تناقضات في الحركة القومية، وأنه من الممكن أن يكون العديد من المفكرين والعاملين في الحركة القومية كانت ترافقهم أمنيات ذاتية. ومن خلال تأثيرهم ومساعيهم لإضعاف وحدة الصف والقوة الضربة لحركة التحرر القومية، وأن التنفيذ العملي للأيديولوجية القومية تظهر (وهنا تبدو وتتضح التناقضات في هذا التوجه) بأن القوى للإقطاعية والبورجوازية، والبورجوازية الصغيرة، ومن خلالهم يجري العمل من أجل تحقيق مصالحهم السياسية والاقتصادية في إضفاء النزاعات الاجتماعية الكامنة خلف الأقنعة أو في إزاحتها.

وهذا التطور جرى تطبيقه حيث تمكنت البورجوازية من السيطرة على حركة التحرر القومية، واحتلال مواقع وأمتيازات سياسية واقتصادية. ومن أجل تأمين توسيع هذه الأمتيازات، فأنها سعت ولا سيما الأفكار الأساسية في(الاندماج ـ التكامل القومي)، التي اشتدت كوسيلة لخلق علاقات (السلام الاجتماعي) في المجتمع والترويج لما كان رشيد رضا يعمل له دعائياً، وهي فكرة (التوافق والانسجام الطبقي) وكذلك الادعاء بوجود (طريق ثالث) بين الراسمالية والاشتراكية التي تلتحم بالنضال من أجل التحرير القومي بصورة لا تقبل الانفصام لتأمين وتحقيق أمنيات وآمال معظم الفئات والطبقات المضطهدة. وقد أوضح عبد الرحمن عزام الأمين العام للجامعة العربية بدون غموض والتباس، عندما أعلن في أواسط الأربعينات قائلاً ” نحن نعترف بالفروق الطبقية، الأغنياء أو الفقراء، الضعفاء أو الأقوياء هم في درجة واحدة بنظرنا، ويقفون على درجة واحدة من نظامنا الاجتماعي، ونحن نرفض هذه الظاهرة الجديدة، صراع الطبقات الذي ينبغي علينا أن نجد له علاجاً فعالاً”.(18)

وبالنظر لما يمثله لطفي السيد كأستثناء بين الليبراليين المصريين والذي قصد من خلاله الاشتراكي والبورجوازي الصغير سلامة موسى حيث قال ” إن الاستقلال وحده لا يكفي، وإن أمة مستقلة متخلفة، سواء في حكوماتها أو هيكلها الاجتماعي، لا تحيا حياة كريمة”.(19)، وهكذا يلاحظ بصورة عامة، بأن أيديولوجي وسياسي القوميين، كانوا من الساعين لإحداث (تغير)(للمسألة الاجتماعية) في وعي الجماهير. وعلى هذا الصعيد كان الزعيم الوفدي سعد زغلول قد تطرق إلى ما يشبه ذلك فيما يخص منع نشاط الحزب الشيوعي المصري عام 1924 حيث أعلن : إنني لست مع أولئك الذين يتناقشون حول القضايا الاجتماعية، وأنا شخصياً لا ألتفت إلى الشيوعية أو أهتم بها، أو بالبلشفية، ولا أخشى فيما إذا كان كلاهما يتعايش مع حياتنا الاجتماعية، وليس لدى أي شعور بالخوف من ذلك”.(20)

وموقف كهذا كان قد ظهر لدى القوى التوفيقية المتنامية من البورجوازية القومية وأحزابها حيال الاستعمار والرجعية المحلية، أبرزت بل بالأحرى فهي أكملته موضوعياً وجعلته أكثر ملائمة ومناسبة لفعاليات الديماغوجية الاجتماعية ومجاميع المتطرفين أو القوميين التقليديين كمنظمات الأخوان المسلمين ومصر الفتاة الفاشية، والحزب القومي السوري، وليس أخيراً كرد فعل على النفوذ المتزايد للأفكار الاشتراكية التي تلقتها البورجوازية كصدمة. وهذا ما يمكن ملاحظته وبصفة خاصة بعد تأسيس الأحزاب الشيوعية في الأقطار العربية وكذلك ما له علاقة بالفعاليات العاجلة للاشتراكيين من البورجوازية الصغيرة من القوميين في سياستهم المعادية للاشتراكية التي تحولت إلى موقف أساسي لديهم. وقد كان يكفي هنا التأكيد على (حلف غير مقدس) مع الأيديولوجية الاستعمارية الأوربية، وكذلك الرجعية الإسلامية واللاهوتيين المسيحيين، والإشارة إلى موقف شكيب أرسلان والثعالبي، التي تؤكد على ” مقاومة البلشفية” لأن، وكما يذهبون فبأمثلتهم الديماغوجية بأن ” الخطر الشيوعي هو أكبر من خطر الاستعمار”.(21) ومثل هذه البيانات كانت سياسة مبرمجة للعديد من الأحزاب البورجوازية القومية في الأقطار العربية في تلك الأوقات وأيضاً نذيراً للمواقف القومية المعادية للشيوعية في الوقت الحاضر.

وفي الظاهر أن اتجاهات التطور هذه للبورجوازية الناشئة وللقوميين من البورجوازية الصغيرة في الأقطار العربية، كانت حتى في هذه الحالة المادية الملموسة،  قد شملت بدون شك عموم ديالكتيك هذه الظواهر كقواعد، تعامل الشيوعيون معهم حسب التعاليم اللينينية، سواء من حديث شروطها وظروفها التاريخية، أو من خلال نسبية تقدميتها. وهكذا كان على الشيوعيين ” اللقاء مع الحركة البورجوازية القومية التي تتحرك ضمن هذه الشعوب وما يدور فيها من حتمية، وأن تقف منها موقفاً تاريخياً”.(22) وكان عليهم مسؤولية ” الحذر والاحتراس بصفة خاصة وملاحظة واعتبار المشاعر القومية الحيوية الحساسة في أقطار وشعوب طال اضطهادها” و ” وتقديم قدر من التنازلات ليتم بذلك تخطي وتجاوز أزمة الثقة و الأحكام السريعة”.(23)، إذ أن كل ” حركة قومية بورجوازية لأمة مضطهدة لها محتوى داخلي ديمقراطي عام، هي مكرسة ضد الاضطهاد ونحن ندعم هذا المحتوى بالتأكيد”.(24)، وأنها مسألة تقدمية ” استيقاظ الجماهير من النوم الإقطاعي، والنضال ضد الاضطهاد القومي والوطني من أجل سيادة الشعب الذي هو ضمن واجبات ومسؤوليات الماركسيين في المشاركة بجميع القضايا القومية الحاسمة والمهمة، وهذه مسألة رئيسية في الواجبات السلبية ولكن لا يجوز أن تمضي البروليتاريا إلى أبعد من ذلك في دعم القضايا القومية، إذ تبدأ بعدها بالعمل الإيجابي والذي يؤدي إلى تقوية البورجوازية القومية”.(25)  

ثالثاُ : الأفكـار الاشتراكيـة :

في الصفحات الماضية، لاحظنا ولعدة مرات، ظاهرة أستهين بها في الأبحاث العلمية البورجوازية، أو أنها لم تلاحظ أصلاً: هي أن الحركة البورجوازية المبكرة في الأقطار العربية، وبصورة مشابهة لمثيلاتها من التيارات الأيديولوجية الرئيسية التي مر ذكرها في مرحلة الصراع مع الاستعمار والتي يعود تاريخها إلى الأفكار الاشتراكية البورجوازية الصغيرة في الفرن التاسع عشر، وهي في صلة لا تقبل الانفصام مع حركة النهضة المبكرة للبورجوازية العربية في من جهة تمثل مع سائر الأفكار التاريخية(وأيضا الاشتراكية وبالدرجة الأولى الأفكار ما قبل الماركسية. وعلى الأغلب في الأقطار العربية المشرقية ومصر، ثم بدأت تشد إليها المثقفين العرب، ومن جهة أخرى فقد حملت النهضة الكثير معها والتي كانت باستمرار تعمل على تحضير الأرضية لمثل هذه الأفكار التي كانت تزيح بخطوات منتظمة ما يقابلها ويقف أمامها من عوائق أفكار دينية غامضة. ومن هذا الموقع وبتأثير الشخصيات المؤثرة على النهضة كالمصري رفاعة الطهطاوي، الذي كان متأثراً بنظريات سان سيمون Saint Simon و برودون Proudhon .

وكانت المحاولات تبذل لتطوير الحركة الاشتراكية البورجوازية الصغيرة في الأقطار العربية بصورة منتظمة، وهكذا كان هناك ضمن المرحلة المعادية للاستعمار، ثلاث مراحل مختلفة، وفيما كانت المرحلة الثالثة متطابقة مع المهلة الزمنية التاريخية التي تبحث عنها.

والمرحلة الأولى بدأت في نهاية عقد الثمانينات من القرن التاسع عشر وأنتهت حوالي عام 1905 وهذه المرحلة تميزت ابتداء من خلال حملة الأفكار الاشتراكية المجهولين، ومن خلال تشخيصاتها غبر الدقيقة، والمعنوية ذات الطابع التجريدي، وعلى الأغلب أفكار اشتراكية غير ماركسية، لفورير Fourir و أوين Owen، وسان سيمون، وبلانك Blanc، ولاسال Lassalle، وباكونين Bakunin، وكروبوتكين Kropotkin، ومن خلال عزل الحركة الاشتراكية الفتية عن الشغيلة وعدم تنظيمها وكذلك محدودية انتشارها بين قلة من المثقفين. وفوق ذلك يبدو أنها اقتصرت على بلدان المشرق العربي ومصر، رغم الموقف الأخير للأبحاث التي نشرتها الصحيفة القاهرية(المؤيد) عام 1890 استنادا إلى الاقتصاد السياسي لكارل ماركس حيث نشرت رسالة قارئ مغفلة التوقيع بعنوان ” كيف تسعد البلاد وتثرى”، تدافع فيها عن الاشتراكيين العرب، ولم يكن هناك نشر لنشاطات المفكرين الاشتراكيين. ويجب أن نفترض بأن في أعوام الثمانينات كانت مثل هذه الأفكار قد وجدت المريدين والأتباع. وابتدأت تنشر في حزيران ـ يونيو/1889 في المجلة المصرية ذات النفوذ الواسع “المقتطف” و” الهلال” و “بتوءدة وحذر لمشروعهم الذي لما يزل ضعيفاً” فيما اشتدت حملة العداء للاشتراكية في المقالات التي كانت بعنوان ” الغني والفقير” و ” فساد مذهب الاشتراكية” و ” ضرر الاشتراكية ” التي كانت للشخصية المعادية للاشتراكية في مصر يعقوب صروف (وهذا من السماء اليهودية الشائعة في مصر ـ المترجم) . وإلى جانب ذلك، فالمقال(الذي نشر على أنه رأي عالم شريعة إسلامي) يعتقد أنه لجمال الدين الأفغاني الذي نشر في نفس العام مقالاً (باسمه الصريح) يوضح بصورة مبكرة، طبيعة الحملة المعادية للشيوعية من فبل المحدثين الإسلاميين.

في المرحلة الزمنية بين 1905/1907، وأكتوبر ـ تشرين الأول/ 1917، تأسست الشيوعية الدولية. وكانت الأحزاب الشيوعية في الأقطار العربية، هي المرحلة الثانية في تطور الحركة الاشتراكية البورجوازية الصغيرة. وهي متمثلة قبل كل شيء بتجاوز مرحلة (السماء المجهولة) من خلال تنظيمات سياسية للقوى الاشتراكية(تأسس الحزب الاشتراكي المبارك عام 1908) الذي لم يدم إلا فترة قصيرة، وكذلك النفوذ التدريجي المتزايد للأفكار الماركسية اللينينية على الحركة الاشتراكية العربية. وفي هذه المرحلة فإن للأفكار اللينينية أهمية خاصة، والتي كانت على أثر يقظة شعوب آسيا وتطورهم في الحياة السياسية خلال الحرب الروسية ـ اليابانية، والثورة الروسية 1905، اكتسبت منها قوة شديدة”.(26)

ويقرر رفعت السعيد ” بأن ثورة 1905 كان لها صداها المهم في مصر” وإن هذا النفوذ لم يتحدد ” على الانعكاس الروحي للهزة الثورية للشعب الروسي” بل وأيضا بأوثق الأشكال المادية في التلاحم.(27)، واليوم لم يعد هناك شك بأن التساريين Zarisim (التسار هو لقب القيصر الروسي ـ المترجم) في الحرب الروسية ـ اليابانية، وكذلك الثورة الروسية لعام 1905 قد ألهمت بقوة وبصورة مباشرة أو غير مباشرة ممارسات المثقفين التقدميين في المشرق العربي، كما أنها شجعت الاشتراكيين على توسيع دعايتهم وقيادتها بصورة منتظمة، وأن تجد الأفكار الماركسية اللينينية لنفسها المكانة في أفكارهم.

وفي هذا المجال نلاحظ ازدهار نوعي وكمي في الحركة الاشتراكية العربية الفتية التي وجدت التعبير عن نفسها في أعمال المثقفين من البورجوازية الصغيرة : شبلي شميل، سلامة موسى، محمد حسنين المنصوري، ونقولا حداد، وأهميتها تكمن بالدرجة الأولى بالشجاعة والجرأة المدهشة ضد ” الجنون والحماقات التي تروى عن الاشتراكية” .(28) وقيامها بالتصدي وبنشر ما تتعرض له الاشتراكية من تشويه للنضال الذي خاضته في هذا المجال.    

إن القيمة الشاملة لفعالياتهم ينبغي أن تميز بشكل مادي ملموس، لذلك فليس من الممكن تجاوز أعمال النشر النشيطة التي ظهرت لشبلي شميل وسلامة موسى للأفكار الماركسية اللينينية. وبينما كان شميل تحت تأثير أفكار الثورة الفرنسية ومادية العلوم التطبيقية لهكسلي Huxley، و ل. بوخنر L. Buchner ، وهايكل Haeckel ، ونظرية النشوء والارتقاء لداروين Darwin ، وأخيراً سبينسر Spencer ، وما بني على ذلك من مادية ابتدائية وملاحظات حيوية، بأن الاشتراكية تتحقق كنتيجة لعملية ارتقاء وتطور، وبذلك شارك سلامة موسى في موقفه بارتباطه مع الفابية(الاشتراكية الفابية) و يطرح المرء في الأخير الحساب (الفاتورة) بأن فاعلية كليهما (كما بالمناسبة أيضا المنصوري وحداد) كان عملاً فردياً ضل معزولاً عن جماهير الشغيلة. وهكذا كانت المحاولة اقرب إلى المبالغة في تقدير للقدرات الحقيقية لهذه الشخصيات. وبرغم أن الظروف الاجتماعية الموضوعية المحددة لقدراتهم المعرفية والفاعلية السياسية العملية فإن الفعاليات الذاتية وجهود الطبيب اللبناني شميل تستحق الاحترام. وبسبب عدم الأحاطة التامة، أو سوء فهم للمادية التاريخية التي انتشرت وناضلت ضد المثالية الاشتراكية(اليتوبيا) Utopie ضمن ظروف الحملة المعادية للاشتراكية وشروط المثالية الدينية المتطرفة، لإعطاء أساس علمي، كانت المساعي الحثيثة للقبطي المصري سلامة موسى تستحق الذكر، والذي تابعته السلطات الاستعمارية البريطانية، والرجعية المصرية بالدعاية لأفكار الوحدة والتحرر الوطني الاجتماعي و ” أول تحليل لطبيعة الرأسمالية وأساليبها في الاستغلال وصيد الأرباح”.(29)في مصر، ونشرت ووزعت في الأقطار العربية.

وهذه المآثر تسري أيضاً بدون شك على الأفكار الاشتراكية للمنصوري وحداد مع أنه كان دوراً خاصاً بين الاشتراكيين في ذلك الوقت. وبصورة مختلفة عن شميل وموسى اللذان كانا يعملان بجدية من خلال نشر أعمالها في شرح وإيضاح وتوسيع الأفكار الماركسية ـ اللينينية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، وهكذا نجح المنصوري بإيصال كتاب أنجلز ” “تطور الاشتراكية من اليتوبيا إلى العلمية” و “تاريخ المذهب الاشتراكي” في عام 1915 الذي مثل أول محاولة لعرض القوانين الأساسية للماركسية وتاريخها في اللغة العربية.(30)

وإلى جانب ذلك قام معلموا المدرسة الثانوية في طوخ(مصر) بعمل ينطوي على الجرأة والشجاعة في ذروة العمل القومي بالدفاع عن الماركسية أمام اتهامات العناصر القومية بنفس الصفة الوطنية. وقد قام حداد وهو متأثر كثيراً بالحركة الاشتراكية في الولايات المتحدة الاميركية بقيادة ي. ديب E. Deb (بصرف النظر عن النوعية التي لا يرتقي لها الشك في فعالياته ودعايته ذات العمق للاشتراكية، وفعالياته السياسية المهمة التي بلغ شعاعها إلى أقطار المغرب).

ومن بين الاشتراكيين كان الشيخ العربي التفتازاني بدفاعه الذي لا هوادة فيه عن الأفكار الاشتراكية وهجمات الجماعات الإسلامية الرجعية، ولكن من خلال عجزه من التغلب على شكوكه حيال الحركة الثورية، تراجع عن مواقفه السياسية العملية المساندة للطبقة العاملة، وتحول إلى مثقف منعزل.

وثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى وتأسيس الشيوعية الدولية والأحزاب الشيوعية في البلدان العربية، هي التي تولت قيادة المرحلة الجديدة وفي نوعيتها في ذات الوقت في عملية تطور الأفكار الاشتراكية وهي بالدرجة الأولى اتصفت وتميزت بكون الأيديولوجية الماركسية، اللينينية قد بدأت تشكل وعياً وتنظيماً داخل حركة التحرر. وفي هذا المجال يؤكد المستعرب الفرنسي جال بيرك Jacques Berque، ” بأن حركة العمال البريطانيين كان لها دورها المهم لعبته في العلاقات بين المغرب، ومصر، وبلدان المتروبول، وكذلك في بناء القيادات الوطنية. فمنذ نهاية الحرب العالمية الأولى، مارست الدولية الثالثة دوراً يتسم بالأهمية البالغة، فقدمت للقسم الأعظم من هذه الشعوب النموذج الفعال ” وأنهم قد وضعوا الأساس من أجل أن تكون الماركسية ـ اللينينية والاشتراكية أكثر قبولاً للشعوب المسلمة وهي حقاً كذلك”.(31)

إن انتصار الطبقة العاملة الروسية في أكتوبر / 1917 وكذلك الانتفاضة الثورية للبروليتاريات الأوربية الأخرى كانت تنطوي على شكل ملموس من توسع للأفكار الماركسية اللينينية وحركة التحرر العربية. وكان الجنود الجزائريون في الجيش الفرنسي قد قاموا خلال انتفاضة البحارة الفرنسيين عام 1919 في أوديسا، أو في خلال استخدامهم الارغامي ضد جمهورية الإنقاذ المجرية، وأقاموا الصلات مع ثوريين روس ومجريين.

وقد تعرف العرب الذين كانوا مرغمين على الخدمة في الجيش التركي، والذين كانوا في فترة أسرهم لدى الجيش الروسي، على الأفكار الثورية والماركسية اللينينية، وكان عدد كبير من المثقفين العرب والعمال الذين أقاموا وعاشوا في ألمانيا مثل : حسين الرحال، وهو من الشيوعيين العراقيين الأوائل) وعاصروا ثورة نوفمبر ـ تشرين الثاني، وعند عودة هؤلاء إلى أوطانهم كانوا ينظمون إلى أية فعالية ثورية مع أبناء بلادهم بل ويكونون هم أبرز عناصر تلك الفعاليات الثورية وللبروليتاريا، وكانوا يستخدمون(بدرجات متفاوتة) الأفكار الماركسية اللينينية في مجرى ذلك النضال، وأن قسماً منهم قرر الانضمام إلى الخلايا الماركسية، بل أنهم في حالات عديدة قاموا بأنفسهم بتأسيسها (بعد ثورة أكتوبر) التي نهضت في الأقطار العربية،. كما في الجزائر على سبيل المثال عام 1919. وفي غضون ذلك تطورت مجاميع وأحزاب البورجوازية الصغيرة الاشتراكية التي تأثرت بالأفكار الماركسية اللينينية، وهكذا تأسست عام 1922 على يد مثقفين لبنانيين تقدميين حلقة ” الصحفي التائه” ومنها تأسس بعد بضعة سنوات حزب الشعب بمساهمة فعالة من الشخصية الاشتراكية آ. يعقوب.

وفي عام 1921 نجح الاشتراكيون المصريون(وبينهم سلامة موسى، وحسني العرابي) بتأسيس الحزب الاشتراكيون المصريون، وشبيهاً له تأسس في العراق عام 1931 جماعة اشتراكية من البورجوازية الصغيرة باسم (جماعة الأهالي) ماركسيون وفابيون، متعاطفون مع الدولية الثانية واعتبروا أعضاء فيها.

وفي سنوات العشرينات والثلاثينات كانت قد نهضت أخيراً في أغلب الأقطار العربية الموجودة (من خلال عملية تنوير سياسية وأيديولوجية وتنظيمية معقدة) من منظمات اشتراكية ـ بورجوازية صغيرة. وهنا وفقط بالشارة إلى المقال الذي طرحه الحزب الاشتراكي المصري الذي تقدم بطلب الانتماء إلى الشيوعية الدولية عام 1922، وعندما تقدم الحزب الشيوعي المصري في نضاله ضمن حركة التحرر الوطنية.

خلق تأسيس الأحزاب الشيوعية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، شروطاً جديدة من أجل تنظيم وتوسيع مطرد للتعاليم الماركسية اللينينية في حركة التحرر العربية. وسواء بتأثير التضحيات والالآم في النضال من أجل التحرر القومي والاجتماعي للشعوب العربية، التي نال بموجبها الاحترام والاعتراف بين صفوف الشغيلة، أو بواسطة العمل الأيديولوجي الذي ساهم فيه الشيوعيون العرب والتي بموجبها تمكنت الأفكار الماركسية اللينينية من ترسيخ مواقعها في صفوف الطبقة العاملة ضمن حركة التحرر، وفي هذا الوضع كان عملهم النظري والدعائي مهماً.

ومن خلال ترجمة الأعمال الكلاسيكية للماركسية للينينية إلى اللغة العربية، ونشر العديد من الوثائق المهمة للحركة الشيوعية العالمية، وكذلك نشر أعمال لينين لاسيما : ” الدولة والثورة” و ” مالعمل” و “اليساريون الراديكاليون”، و “مرض الطفولة الشيوعي” ودراستها، وكان  كل ذلك في الظروف الصعبة والمعقدة ، يعد مساهمة رائعة من الشيوعيين العرب في الدعاية للأيديولوجية البروليتارية ضمن حركة التحرر.

إن الأعمال النظرية لممثلي الأحزاب الشيوعية العربية الأوائل(خالد بكداش، ونقولا الشاوي، ويوسف سلمان يوسف(فهد) ) بصدد موضوعات مثل الشيوعية والوطنية، الإسلام أو المسألة القومية، لم تمثل مواقف الشيوعيين إزاء مشكلات مهمة من حركة النضال التحرري الوطني والقومي، بل وأكثر من ذلك، كونها مساهمة ثمينة لتطور الأفكار الماركسية اللينينية.

وفي هذا المجال ينبغي الإشارة أيضاً إلى فعاليات الشيوعيين العرب في النضال ضد الخطر الفاشي الداهم. وكمثال ساطع على ذلك، كان “مؤتمر مكافحة الفاشية” الذي عقد في بيروت للفترة من 6ـ8/ أيار ـ مايو / 1939 بمبادرة من الشيوعيين السوريين واللبنانيين. وأدار هذا اللقاء أنطوان ثابت رئيس عصبة مكافحة الفاشية والذي حضره أكثر من 200 من ممثلي المنظمات السياسية والنقابات والأتحادات الثقافية والرياضية. وقد أثبت هذا اللقاء بصورة مقنعة، سياسة التحالفات الماركسية اللينينية للشيوعيين العرب.

وإلى جانب فرج الله الحلو وخالد بكداش، كان هناك أعداد كبيرة من وطنيين وقوميين سوريين ولبنانيين، وممثلين لجماعات فكرية مختلفة من بينهم قريب للبطريك الماروني. وقد تلقى المؤتمر رسائل وإشارات مهمة من قادة الحركة الوطنية السورية مثل شكري القوتلي وناظم القدسي ولطفي الحفار وفائز الخوري وجمعية التمدن الإسلامية واتحاد المرأة السورية، وكذلك من الوطنيين والقوميين الليبيين الذين يعيشون في دمشق كلاجئين.

وأخيراً، كانت الأعمال السياسية والفكرية للشيوعيين العرب التي يمكن وصفها بأنها أبرزت ممثلي البورجوازية العربية من القوميين، وبصفة خاصة المراكشيين : الفاسي، اليزيدي، الوزاني. والتونسي بورقيبة، وآخرين كانوا على صلة مع الأحزاب الشيوعية كالحزب الشيوعي الفرنسي، ومساهمة القائد المصري رمضان، والشاذلي خير الله أحد قادة الحزب الدستوري الذي كانت له مساهمته في العصبة المعادية للإمبريالية. ودون شك فإن هذه الظواهر شواهد على النفوذ المتزايد للأيديولوجية الماركسية اللينينية في حركة التحرر العربية في تلك الفترة.     

ومما يستحق الملاحظة، أن ذلك كان يمثل في نفس الوقت يمثل احتدام النضال الأيديولوجي في الأقطار العربية، إذ طرحت نفسها بوصفها واحدة من المركبات الجوهرية للحملة المحتشدة للقوى المعادية للشيوعية في مختلف الأشكال والألوان ضد النفوذ المتزايد للاشتراكية العلمية، وضد من يحمل هذه المعتقدات والمتعاطفين معها، وبنفس الوقت شن هجمات مركزة، صعدت فيها قوى اليمين القومي، وشخصيات روحية رجعية، ومروجين للأفكار الاستعمارية. وبصفة خاصة في هذا الوقت حيث كانت هناك قوى إصلاحية اشتراكية من جماعة الدولية الثانية، وكذلك في مطلع أعوام الثلاثينات وإيديولوجيون فاشيون قد بدؤا الهجوم على الأفكار الاشتراكية.

وتحت ظل هذه الظروف المعقدة سياسياً وأيديولوجياً، والتي كان من جملتها أيضا مشكلات التطور للأحزاب الشيوعية العربية، أتخذ الاشتراكيون من البورجوازية الصغيرة موقفاً ينطوي على تناقض فائق للعادة، وعلى الرغم من المحاولات العديدة لتنظيم نفسها، وعلى الرغم من أنها في حالات كثيرة وبجهود ذاتية سعت للقارب من الماركسية اللينينية وإعلان مواقفهم النظرية والسياسية، ولم تنجح أغلب القوى الاشتراكيةـ البورجوازية الصغيرة في تجنب اتخاذ المواقف من القضايا الحاسمة المعادية للشيوعية. وفي هذا المجال فإن مغادرة سلامة موسى وآخرين من الاشتراكيين غير الماركسيين للحزب الاشتراكي المصري عام 1922 عندما قدم الحزب (وقد مر ذلك) طلباً للأنظمام إلى الشيوعية الدولية، وأيضاً الاشتراكي المصري عصام الدين حنفي ناصيف الذي كان متأثراً بعمق بالحركات الثورية في ألمانيا)، كان قد أكد تعاطفه وتأييده للأفكار الماركسية اللينينية، ولكنه لم ينجح أخيراً في أن يكون (اشتراكياً من الضمير) ونبذ تردده وقلة الثقة حيال الطبقة العاملة والتغلب على توجهات المثقفين لديه، والاشتراكي التونسي الترادنيوني(الترادنيونية حركة نقابية بورجوازية ـ المترجم) وداعية حقوق المرأة طاهر حداد(32) الذي لم يكن بوسعه التميز والإدراك بشكل دقيق وفئوي، وليس هناك “بواعث لتبرير الصراع الطبقي”.(33)

ومن أجل تمتين الروابط الأيديولوجية لأغلب الاشتراكيين من البورجوازية الصغيرة مقابل مبادئ الاشتراكية الإصلاحية والقوميين، والتناقضات السياسية / الأيديولوجية العميقة في منظماتهم، وفي تشتتهم (وفي ذلك يكفي أن نتذكر مصير جماعة الأهالي) ومهدت الطريق إلى ما يشبه التحام الحركة البورجوازية الصغيرة ـ الاشتراكية مع الجناح القومي في حركة التحرر القومية، وبرغم أن هذا ببطء وتؤدة من الصفات المميزة في حركة في حركة البورجوازية الصغيرة وكذلك في وجودها الذاتي والموضوعي وشروط وظروف الفاعلية والتأثير، وفي نفس الوقت ظل المصير الذي لا يمكن تفاديه كما هو ثابت، بأن الاشتراكية البورجوازية العربية الصغيرة كانت قد قامت بمحاولة للخروج من مواقفها المتناقضة من خلال أفكار الوحدة والاشتراكية داخل حركة التحرر، وليس أخيراً، من إدانتها بمعاداة الشيوعية، وباهتزاز الثقة مع الطبقة العاملة قد أدت إلى فشل تلك المحاولات. وهكذا كان الشيوعيون العرب في فعالياتهم الصعبة، ذات التضحيات، يقفون في الصفوف الأمامية للحركة الوطنية التحررية لشعوبهم وفي النضال الأيديولوجي المركب، وفي النضال المعادي للرأسمالية أقوى باستمرار وفي المقدمة اعتبار مصالح القوى غير البروليتارية.

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com