مقالات

القوة الناعمة

بيئة ثقافية أم درع حضاري

ما هي القوة الناعمة؟

القوة الناعمة (بالانكليزية: Soft Power / أما باللغة الألمانية: weiche Macht  ) هو مصطلح يتسلل منذ عقدين من الزمن (1990) إلى العلوم السياسية. وبسبب تعقد استخدام القوة المسلحة وتكاليفها السياسية والاقتصادية والأخلاقية، يرجح أن يشتد دور القوة الناعمة كعنصر مؤثر في العلاقات الدولية.

أحد أهم أهداف نشر هذا المصطلح، هو شعور يتفاقم في العالم الغربي بصفة خاصة، أن حسم الصراعات بالقوة العسكرية، أمر بالغ الصعوبة، وفرض نتائجها السياسية، أصبح أمرا من الماضي خاصة، وهذا أمر تطرق له بصفة خاصة المستشار الألماني الراحل هيلموت شمت وهو سياسي مخضرم له رؤى استراتيجية ثاقبة، أن القوة العسكرية العظمى (وأشار للولايات المتحدة بصراحة)، قد تشعل نيران حروب صغيرة وكبيرة، ولكنها لن يكون بوسعها إنهاء تلك الصراعات المسلحة كما تريد وبالنتائج التي تشتهي، مشيراً إلى الحرب على العراق ونتائجه الكارثية المتعددة الأبعاد. وإن العصر ومعطياته من وسائل الاتصال قد مثل ثورة شاملة سيكون لها نتائجها العميقة، وإن الجيل المقبل من الالكترونيات سيكون مداه أبعد وأشمل وهو ما ينبغي الاستعداد له. وأن سياسة القوة الناعمة بهذا المعنى قد توفر بعضاً من مراحل الاستعداد تلك، وربما تجنب بعض صفحاتها في المعارك المقبلة التي لا يمكن تجنبها إن أرادت القوة العظمى فرض إرادتها السياسية بصفة تامة أو جزئية.

ــ ابتداء يفهم المصطلح هكذا، أن القوة الناعمة هي تلك القوى التي تتمتع بتأثير معنوي بالدرجة الأولى، إذ يفترض أنها تمثل القوى الروحية والأخلاقية لشعب ما، وقدراته في هذا المجال، كما يفترض أن يكون هذا الشعب يتمتع بمستوى عال من الحريات الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والفكر الحر ويتطلب مجتمعاً حراً تنعدم فيه الضغوط إلى أقصى قدر ممكن، لكي يتمكن الفرد من الإبداع وتقديم منتجات رفيعة المستوى فنياً وفكرياً.

وبهذا المعنى تعبر القوة الناعمة عن قدرة أي طرف (ولاسيما إذا كان طرفاً يتمتع بقوى سياسية واقتصادية وعسكرية) على امتلاك قوة الجذب المعنوية والترفع عن استخدام القوة أو اللجوء إلى الصراعات المسلحة كوسيلة عمل في التعامل مع الآخرين وحل المشكلات السياسية. ويمتلك من يمارس القوة الناعمة قدرة التأثير الثقافي والحضاري وفي تكوين الرأي العام من خلال منظمات سياسية وغير سياسية. وهو مصطلح أدبي أكثر مما هو مادي واقعي، كوصف الصحافة بالسلطة الرابعة مثلا.

هذه بصفة عامة الرؤية الأكاديمية للقوة الناعمة، وهو مصطلح سياسي حديث العهد، ولكنه معروف منذ القدم عرفه الفلاسفة والسياسيون القدماء بتعابير متعددة منها تدور حول (التأثير والإقناع والثقافة وتقديم النموذج)،وبتقديري فإن هذا المصطلح يندرج بين جملة المصلحات ذات الاستخدام المزدوج (Doubel use)، والولايات المتحدة الأمريكية التي تتصدر الدول التي يفترض أن يتوافر فيها القدر الأكبر من القوة الناعمة، هي أكثر من يلجأ للقوة الصلبة في حل المشكلات الدولية، وبتقديري أن الهامش يضيق بين القوة الناعمة والقوة الصلبة، حين تقوم دولة ما تتمتع بالقوة العظمى، بفرض إرادتها وتبتدأ ذلك (بالطبع) باستخدام الدبلوماسية والإغراءات السياسية والاقتصادية، توفيراً للكلفة الاقتصادية والبشرية الباهضة لأستخدام القوة الصلبة، ولكنها في نهاية المطاف سوف لن تتخلى عن خيار استخدام القوة الصلبة مهما كانت العواقب والتكاليف السياسية والاقتصادية والاخلاقية، بما في ذلك استخدام أسلحة محرمة دولياً.

إذا كانت “المساعدات الاقتصادية” هي في عداد القوة الناعمة (أو هكذا يعتبرها جوزيف ناي العالم الأمريكي من جامعة هارفارد هو أبرز مطلقي فكرة القوة الناعمة)، فالقوة الناعمة ما هي سوى المقدمات المادية للقوة الصلبة، فإذا اعتبرنا أن مساعدات ” خطة مارشال” للحرب العالمية الثانية هي مساعدة بريئة، فهي لم تنتهي كذلك على أية حال، فالجنرال ديغول يشتكي منها بقوله أن أمريكا استولت على 75% من صناعات الحديد والصلب في أوربا بموجب مشروع مارشال. وإذا كانت أوربا قد استعادت شيئاً من سيادتها الفولاذية في السنوات اللاحقة، فإن الرئيس الأمريكي ترامب يواصل التوسع الفولاذي بوضع خطة لا تنسجم مع مبادئ التجارة الحرة تخنق صناعة الحديد والصلب الأوربية وغير الأوربية.

ومفكر آخر(ميشيل فوكو)، يعرض الأمر بصراحة أكثر بقوله : أن القوة الناعمة تتضمن إجباراً وإلزاماً غير مباشرين، تعتمد في ظهورها على القوة الخشنة أو الصلدة. وتقوم بأعمال تعجز القوة الصلدة عن القيام بها. وهي ليست دعاية سياسية،  بل هي سجال عقلي وقيمي يهدف إلى التأثير على الرأي العام في داخل الدولة وخارجها.

إذا كانت الولايات المتحدة تعتبر صناعة السينما والبرامج التلفازية ” قوة ناعمة” وهي حقاً كذلك، ولكن بأستخدام مزدوج Doubel use فهي من جهة تحاول أن تؤثر سياسيا ومعنوياً على الشعوب وإرادتها، فهي مثلاً صنعت نحو عشرة أفلام عن الثائر الكوبي غيفارا وكلها ذات مضامين سيئة، ولكن في النهاية فإن غيفارا حقيقة لم يقتل بالقوة الناعمة بل على أيدي المخابرات الأمريكية وعملائها.

تجتذب الولايات المتحدة من العالم عقوله المفكرة وعلماؤه، وتهجرهم بالقوة (حدث بالقوة من ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية ومن العراق بعد احتلاله 2003) أو بغير ذلك، ومن المعروف تماماً كيف استغلت الولايات المتحدة جهود العلماء الألمان في صناعة السلاح النووي، وغير ذلك أيضاً. واليوم لديها 82 ألف باحث وعالم من دول العالم بما في ذلك علماء عرب ومسلمون في وكالة ناسا، وفي الصناعات الالكترونية. وإذا كان هناك نحو مليوني طالب في العالم يدرسون خارج أوطانهم، تستحوذ الولايات المتحدة على ثلثي هؤلاء بأساليب شتى. إن من بين الأهداف التي تسعىهي بعضولايات المتحدة هو إحداث تغيرات ديمغرافية، فقد أشارت الجمعية الديمغرافية العالمية إلى مخاطر السياسة الأمريكية في مطلع الثمانينات أن ولاية نيويورك تضم أطباء إيرانيين بقدر ما يوجد أطباء في كل إيران. والقدرات العلمية والثقافية هي  بعض مما يعتبر في عداد القوة الناعمة.

هذه وغيرها من المؤشرات تدل أن القوة الناعمة (كمحتوى ومضمون) ليس جديداً، المصطلحات لا تغير جوهر المحتوى القديم / الجديد في السياسة الأمريكية الهادفة إلى الهيمنة. ولكنها في نهاية المطاف تستخدم هذه وغيرها  من والتاكتيكات لخدمة استراتيجية التوسع السياسي والاقتصادي.

العالم الأمريكي هانسون بالدوين كتب في أطروحة قدمها لجامعة جورج تاون (أوائل السبعينات) بعنوان ” استراتيجية للغد ” “أن الدولار ليس لخدمة قيم أفلاطونية “. والأستاذ جون نيف من جامعة هارفارد يكتب في مؤلف مهم ” أن الحقيقة هي نحن من يصيغها ويخرجها ويقدمها ليتقبلها الذهن البشري كما نريد نحن “. فالإعلام القوي يفرض في ذهن المتلقي ما يريد، وتلك ميزة أخرى من القوة الناعمة عندما تتعملق.  ويكتب كلود جوليان (رئيس تحرير صحيفة اللموند الفرنسية) في كتابه الإمبراطورية الأمريكية، أن الرئيس الأمريكي ايزنهاور تدخل شخصياً لدى حاكم كندا لمنح شركة الخطوط الجوية الأمريكية بان أميركان مكتباً في موقع مهم في مونتريال. كما يتدخل الرئيس كندي شخصياً لدى رئيس الفلبين للعمل على ترويج سراويل الجنز في الفلبين، وحديثاً يكتب  الأستاذ جوزف  ناي في كتابه تحديداً أن سراويل الجينز وماكدونل والكولا هي من أدوات القوة الناعمة …!

وقد صاغ جوزيف ناي هذا المصطلح (Soft power) وعرضه في كتابه الصادر عام 1990 بعنوان يفصح عن المحتوى ” الطبيعة المتغيرة للقوة الأميركية “. وما لبث أن قام بتطوير المفهوم في كتابه الصادر عام 2004 بعنوان ” القوة الناعمة، وسائل النجاح في السياسة الدولية”، يستخدم المصطلح حالياً على نطاق واسع في الشؤون الدولية من قبل المحللين والسياسيين. والقوة الناعمة: وفق مفهوم البروفسور جوزيف ناي : القدرة على الجذب والضم دون الإكراه أو استخدام القوة كوسيلة للإقناع. في الآونة الأخيرة، تم استخدام المصطلح للتأثير على الرأي الاجتماعي والعام وتغييره من خلال قنوات أقل شفافية نسبياً والضغط من خلال المنظمات السياسية وغير السياسية.

وتعني القوة الناعمة من وجهة نظر (جوزيف ناي)، القدرة في الحصول على ما نريد من خلال الجذب بدلاً من القسر أو الدفع. وهي أحد مصادر التأثير.. وهي أيضاً الإغراء والجذب. ويشير (ناي) إلى أن القوة الصلبة، تعني القوة المشتركة السياسية والاقتصادية والعسكرية، أي القوة في صورتها الخشنة التي تعني الحرب، والتي تستخدم فيها الجيوش. وتعني هذه القوة الدخول في مزالق خطرة، ونتائجها تكون في منتهى الخطورة على الدولة ذاتها، كما حدث مثلاً في الحرب العالمية الثانية، بين اليابان وألمانيا النازية. وبيَّنت الدراسات للباحثين الاستراتيجيين والمفكرين، أن القوة الناعمة مصطلح يستخدم في نطاق نظريات العلاقات الدولية. ويشير إلى توظيف ما أمكن من الطاقة السياسية، بهدف السيطرة على سلوك واهتمامات القوى السياسية الأخرى المستهدفة بوسائل ثقافية وأيديولوجية.

وتعني القوة الناعمة أن يكون للدولة قوة روحية ومعنوية / ثقافية من خلال ما تجسده من أفكار ومبادئ وأخلاق ومن خلال الدعم في مجالات  حقوق الإنسان والبنية التحتية والثقافة والفن، مما يؤدي بالآخرين إلى احترام هذا الأسلوب والإعجاب به ثم إتباع مصادره. ولكن هل تنج القوة الناعمة والثراء الروحي والثقافي بلداً ما من أطماع الهيمنة، ألم نشاهد الدبابة الأمريكية تكسر باب المتحف العراقي وضابط أمريكي يهتف Alibaba come   ..؟

إن الغاية من القوة الناعمة هو تدمير الطاقة السياسية، بهدف الهيمنة والسيطرة على القدرات والمقومات السياسية لدى الآخر المستهدف، أي الغزو الثقافي والأيديولوجي، وتحويل البلد إلى بلد مسيطر عليه، من دون أن تظهر هوية الفاعل الحقيقي. وهذا الفاعل الحقيقي أصبح معروفاً ومتداولاً في الساحة السياسية الدولية، وهو الولايات المتحدة الأمريكية. وأفضل من عبَّر عن أماني الولايات المتحدة، وضرورة تمايز قوتها هو روبرت غايتس وزير الدفاع الأمريكي، الذي أضاء موقفه مؤكداً، أن رسالته اليوم ليس حول موازنة الدفاع أو القوة العسكرية، بل تتعلَّق بكيفية مواجهة الولايات المتحدة للتحديات الدولية القادمة في العقود المقبلة. وافترضَ (غايتس) أن على الولايات المتحدة أن تبتكر مظاهر أخرى لقوتها القومية، بهدف مواجهة التحديات الخارجية. ويعترف أنه جاء إلى وزارة الدفاع ليعزز استخدام القوة الناعمة، وكي تصبح قوة فاعلة رديفة للقوة الصلبة.

 أما جوزيف ناي المنظّر الأساسي لمفهوم القوة الناعمة، dطرح في مؤلفاته استراتيجيات بارزة من أجل إنجاح سياسة الولايات المتحدة في السياسة الدولية. ودرس ناي بدقة تكلفة حروب الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق، فوجد أن وزن الولايات المتحدة الدولي لم يعد كما كان في السابق. وأن شعبية بلده قد تدنَّت تدنياً حاداً في البلدان الإسلامية. وانطلق (ناي) من فكرة أن الناس قد عرفوا القوة الصلبة (المباشرة عسكرياً). والجبروت العسكري والاقتصادي للولايات المتحدة. وأدركوا بالمقابل أن استخدام القوة المباشرة والتهديدات الصريحة من شأنه أن لا يحقق النتائج المرجوة، في حين أن استخدام الوجه الثاني للقوة، أي (القوة الناعمة) سيجذب الآخرين ويرفع مستوى الإعجاب بالسياسة الأمريكية.

القوة الناعمة تجعل من الآخر يريد ما نريد من دون إرغام ! كما أنها العنصر الثابت في السياسة. ومن الناحية الإجرائية تجيز نظرية الحرب الناعمة خطط الحرب غير المباشرة، كاللعب بقواعد الخصم وخلق حالة من التشكيك في الثوابت والمعتقدات التي يتبناها الخصم. وفي مظهر الحرب الناعمة يتظاهر الاشتباك مع الخصم الخارجي بلون محلي تماماً، أي بالضبط عملية تمويه وخداع ذكية (Camouflage) ويرى (ليزلي جلب)، الباحث الاستراتيجي، في كتابه (قواعد القوة)، أن الحس السليم بإمكانه أن ينقذ السياسة الخارجية الأمريكية من مأزقها. ويقترح إتباع نهج الحس السليم كنتاج إبداعي يجمع بين استراتيجيات القوتين (الناعمة والصلبة). وركز في كتابه على: السعي لجعل الولايات المتحدة قادرة على استعادة ديناميتها الاقتصادية العالمية.

* تأكيد انتهاج مبدأ الدمج بين القوتين (الصلبة والناعمة)، لإعادة إنتاج موقع الولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين.

* التحديد الواضح للتحديات والمخاطر التي تتهدد الولايات المتحدة، كالإرهاب والتهديدات الاقتصادية والمشكلات الصحية والبيئية.

* استخدام السبل الوقائية والتعامل مع المشكلات المتوقعة قبل حصولها.

* استخدام القوة في ظروف محددة، وأسلوب الإكراه في المواقف التي لا تحقق فيها القوة الصلبة النتائج المرجوة. وهناك من يمايز بين الأثر الإيجابي والأثر السلبي للقوة الصلبة، على صورة الدولة على الصعيد الدولي، وذلك لتعزيز القوة الناعمة، كما هو الحال بالنسبة لتقديم المساعدات الإنسانية للدول الفقيرة، والقوة العسكرية من خلال المشاركة في عمليات حفظ السلام. وهذا هو الأثر الإيجابي. أي خداع أمضى من ذلك، مئات الألوف المزودين بالأسلحة الفتاكة المنتشرين في العراق وأفغانستان هل هم من جملة القوة الناعمة ؟  أما الأثر السلبي على الدولة فهو برأي هؤلاء، يكون بتقويض مصداقيتها، وبالتالي يشوّه صورتها الدولية، حينما تستخدمها في عمل غير شرعي على الساحة الدولية. يقول (ناي):

(إذا أمكن الوصول إلى الأهداف بواسطة القوة الخشنة، من استعمال القوى الكبرى للقوة، إلاَّ أنه قد يشكّل خطراً على أهدافها وتطلعاتها الاقتصادية والسياسية وحتى الثقافية.. لذا فإن الولايات المتحدة إذا أرادت أن تبقى قوية، فعلى الأمريكيين أن ينتبهوا إلى قوتهم الناعمة.).

وتحدث وزير الدفاع الأميركي روبرت  غيتس عن الحاجة إلى تعزيز القوة الناعمة الأمريكية عن طريق “زيادة الإنفاق على الأدوات المدنية من الأمن القومي بالدبلوماسية، والاتصالات الاستراتيجية، وتقديم المساعدة الأجنبية، وإعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية”. وفقا مسح للقوة الناعمة عام 2014، تتبوأ الولايات المتحدة المركز الأول تليها  ألمانيا، ثم المملكة المتحدة، واليابان وفرنسا، وسويسرا واستراليا والسويد والدانمرك وكندا. ولكن في الواقع أن خلافات الولايات المتحدة مع حلفاءها هو بسبب المطالبة بلا هوادة رفع تخصيصات القوة الصلبة، الولايات المتحدة تطالب برفع الأنفاق العسكري حتى 2.6 % من الدخل القومي.

القوة الناعمة سلاح مؤثر يحقق الأهداف عن طريق الجاذبية والإقناع بدل الإرغام أو دفع الأموال، وموارد القوة الناعمة لأي بلد هي ثقافته إذا كانت تتمتع بالقدر الأدنى من الجاذبية وقيمه السياسية عندما يطبقها بإخلاص داخليا وخارجيا إضافة إلى السياسة الخارجية. جوزف ناي أن القوة الناعمة لا يمكن اختزالها في الثقافة فقط، ويضرب مجموعة من الأمثلة على ذلك منها: أن الكوكاكولا وشطائر ماكدونالد الكبيرة لن تجتذب بالضرورة الناس العالم الإسلامي حتى يحبوا أمريكا، كما أن دكتاتور كوريا الشمالية كيم جونغ ايل  يحب البيتزا وأشرطة الفيديو الأمريكية ومع ذلك لم تثنه هذه الأمور عن الاستمرار في طموحه النووي، والأجبان والمشروبات الفرنسية الممتازة لا تضمن الانجذاب إلى فرنسا، ولا تضمن ألعاب البوكيمون لليابان النتائج السياسية التي تتمناها.

يعود فكر القوة الناعمة ليضع المحددات الأساسية للقوة الناعمة، فمن غير المقبول أن لا تستعمل القوة العسكرية لمواجهة  الصرب المحبين لشطائر مكدونالدز والمؤيدين في نفس الوقت لسياسة سلوبودان ميلوزوفيتش، ونفس الموقف هو ما يجب أن يتبناه المرء في الأزمة الرواوندية حيث قتل 800 ألف شخص من التوتسي على يد الهوتو دون أن يحرك العالم ساكنا.

أن بعض الدول الصغيرة أصبحت ذات تأثير كبير ومنها قطر التي تعتبر قناة الجزيرة حسب الكاتب مصدر قوتها الناعمة، حيث عرضت القناة خلال  الحرب الامريكية ضد العراق صورا لضحايا مدنيين استفزت مشاعر الناس وأصبح الكثير منهم متعاطفا مع القاعدة التي ارتفعت شعبيتها في بعض الدول مثل أندونيسيا والأردن. وهذه مشكلة لفكري القوة الناعمة أن يتعاطف مواطنون مع ضحايا أوطانهم.

أن مصدر قوة امريكا ليس هو الجيش فقط وإنما مجموعة من عناصر الدعم لهذه القوة فعلى سبيل المثال تجتذب الولايات المتحدة أكبر نسبة للمهاجرين، والطلبة الدارسون منهم سيحملون الكثير من القيم والمبادئ الأمريكية، ويمكن أن يكونوا سفراء للثقافة الأمريكية ويحتلون في دولهم مراكز القرار، كما تحتل الولايات المتحدة المرتبة الأولى في الفوز بجوائز نوبل في الفيزياء والكيمياء والاقتصاد، ومبيعاتها من المؤلفات الموسيقية تشكل الضعف مقارنة مع اليابان التي تحتل المرتبة الثانية، وتعتبر أمريكا أكبر مصدر للأفلام والبرامج التلفزيونية في العالم، رغم أن بوليود الهندية تنتج أفلاما أكثر منها في كل عام.

أتمنى أن أشاهد القوة الناعمة الإماراتية تحذف فقرة واحدة من (Carter Doctrin) الذي يعتبر الخليج العربيالأمريكية. حيوية تدافع عنها الولايات المتحدة بالقوة المسلحة، وهي تنفذ ذلك قولاً وفعلاً  ..!

قبل أيام فقط شاهدناً صبياً أمريكياً يقتل عشرة ويجرح أضعافهم من زملاؤه في المدرسة، أين تأثير الثقافة الأمريكية ..؟ هل الثقافة هي مكدونالد وكولا وسرول جينز .. اليوم الشاورما والنركيلة تكتسح المجتمعات الغربية، وسط أنزعاج شديد من القوة الناعمة الشرقية. أين هي هذه القوة الناعمة …. بودي أن أراها …!  

حسناً، لنقل أن القوة الناعمة (بتقدير المتسالمين) هو مستوى ثقافي رفيع، في المنجزات الفنية والأدبية، والثقافية بصورة عامة، ومجتمع حر حقوق الإنسان مصانة ومحترمة، الحريات الديمقراطية معززة بالقانون، ونظام سياسي تجري فيه الحياة السياسية بشفافية، معطيات تمنح أي دولة ملامح محترمة، وعلى المجتمع السياسي في أي دولة يحاول أن يعمق منجزاته، ليس لأنها قوة ناعمة، بل من أجل ترصين الوحدة الوطنية والعمليات السياسية وإنجاح النمو الاقتصادي والاجتماعي، ولكن هذه المعطيات سوف لن تمنع القوة الصلبة من التدخل إن وجدت في ذلك ملامح خطر على مصالحها في المستوى البعيد أو القريب. ونحن الجالسون في هذا المكان أو ما تعرضت له بلادنا هو قمع القوى العلمية والثقافية والكفاءات الوطنية، من قبل من يروج لفكرة القوة الناعمة، والدليل ما حل بآثار بابل في العراق .. وقوائم العلماء والكفاءات العلمية والفنية الذين أغتيلوا. اليوم لم يبق في العراق فنان أو أديب مرموق (من كل الأطياف)، الكل مهجرة في الأردن ومصر والخليج، وبلدان أخرى.

لن نمانع كثيراً بوصف القوى الإبداعية في كل مجتمع بالقوى التنويرية، في بلداننا، ولكننا لن نربط استخدامها لخدمة القوى الصلبة، لا في أجالها القريبة ولا البعيدة، ولا نضعها في خدمة سياسة توسعية فهذا بتقديري في نهاية المطاف (Paradox) ينطوي على تناقض كبير، إذ كيف يمهد للشر بأساليب الخير ..؟

وبتقديري أن علامات القوة الناعمة ستنهار مع أول صاروخ كروز يسقط ليدمر معلماً حضارياً أو اقتصاديأ او ثقافياً، وارى الأفضل أن تبرهن القوة العظمى عن تحضرها عبر عقلنة استخدامها. ولكن أين القوة الناعمة والتحضر في جعل مدينة بابل الأثرية معسكراَ للدبابات ؟  تدمير حضارة بابل

الامريكيون يعتقدون أن كل شيئ يمكن صنعه اليوم يتراجع المكدونل اما الدونار(الشاورما التركية) والأكل الصيني والفيثنامي(Thai Sushi Restaurant)، والبلو جنز اليوم يتخذ إشكالاً جديدة وعديدة وتسندها القوة العظمى، وبتقديري أن القوة الناعمة في بلداننا، وأنا أفضل تسميتها بالقيم الثقافية والحضارية، فهي منتوج صادر عن بيئتنا ليلبي حاجاتنا الثقافية وبيئتنا من لباس وطعام وموسيقى والعمارة وسائر أنواع الفنون، بالدرجة الأولى نحو الداخل، أي ليس له أهداف توسعية، ولأن الأمر كذلك، فهي يروج في بلدان عديدة.

بأعتقادي أن من الأفضل كثيراً، أن نركز نحن على قيمنا النبيلة وأن نطرحها بشكل متحضر، وهذا ممكن جداً فاليوم مؤسسات عديدة في بلدان عربية وإسلامية تطور ثياب الحجاب وتجعله جذاباً بدرجة كبيرة، وكذلك العباءة الرجالية الأنيقة الجميلة وغير ذلك . ويمكن أن نطور مأكولاتنا، فهي بالتأكيد أشهى وأكثر صحية من الهمبركر. ولكن فليتم كل شيئ بدون إصدار أوامر. ولكن المشكلة أن مجتمعاتنا تتعرض لرياح بعضها بفعل حتمية التقدم ولكن أخرى مفتعلة، لدرجة أني أعتقد أن الهجوم الثقافي (الناعم) علينا لا يقل عنفاً وتدميراً في نتائجه عن الصواريخ والطائرات. 

الغرب يطلق كلمة الديمقراطية على صيغة مجتمع ليس في تبادل السلطة بشكل سلمي هي غاية الأمر، ولا نظام برلماني وأحزاب وصحافة، بل إلى حد كبير أيضاً الحريات الفردية بلا حدود تقريباً ومن تلك زواج المثليين، وعلاقات المحارم، وفقدان السيطرة على الأولاد حتى وهم تحت الرعاية، والإباحية الجنسية بكافة مظاهرها (في الأدب، والسينما، والفن)، والنظام التعليمي يشهد ثغرات خطيرة (ولا سيما في مراحله الأولى)، ولا سقف مطلقاً لحرية رأس المال، ولست أنا من يبتدع فكرة تدهور الحضارة الغربية انهيار الغرب، فالكثير جداً من المفكرين يطلقون إشارات الإنذار منذ أواخر ثلاثيات القرن الماضي، منذ أزوالد شبنغلر (تدهور الحضارة الغربية 1937) وحتى اليوم ما تزال مثل هذه الإشارات تصدر في الكثير من المجتمعات (الديمقراطية) الرأسمالية المتقدمة.

يتحدثون عن الديمقراطية والتنوع  الثقافي وجيوشهم منتشرة في جميع أرجاء العالم، ومجتمعاتهم لا تحتمل لون بشرة مغاير لبشرتهم، وأن تأكل طعاماً يختلف ولباساً لا يعجبهم. والنزعات الفاشية والعنصرية والتعصب تجتاح المجتمعات الديمقراطية، وتتكرر حوادث القتل العشوائي (Amok lauf) والاعتداء على الأجانب، وعلى أماكن العبادة للديانات الأخرى.

القوة الناعمة بهذا المعنى محاولة لإظهار محاسن وجمال مجتمعات الرأسمالية ومحاولة للتغطية على الأشياء القبيحة، أما القوة الناعمة في البلدان الأخرى فسوف لن تنجيهم من الانتقام الذي ينتظرهم إن تجرؤأ على مخالفة هو القوى العظمى، فآثار بابل صارت معسكراً للجيش البولوني …!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش :

  1. القوة الناعمة: وسيلة النجاح في السياسة الدولية هو كتاب من تأليف جوزيف ناي الذي كان مساعدا لوزير الدفاع في حكومة  بيل كلينتون ورئيس مجلس المخابرات الوطني، قسم المؤلف كتابه إلى خمسة فصول حاول خلالها التفصيل في مفهوم القوة الناعمة التي تعمل جنبا إلى جنب مع القوة الصلبة ” العسكرية ” لتقوية مصالح أمريكا في كل أرجاء العالم.
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com