مقالات

ثلاثية التاريخ والسياسة والدين في مقاربات عبد الحسين شعبان

د.محمد جواد فارس

أطلّ علينا الدكتور عبد الحسين شعبان في كتابه الجديد الموسوم  (الإمام الحسني البغدادي:مقاربات في سسيولوجيا الدين والتديّن)  ليطرح بجرأة الترابط الجدلي بين التاريخ والسياسة والدين وهي مسائل مسكوت عنها أو غير مطروقة بالطريقة التي حاول بحثها من موقع النقد والنقد الذاتي مسلطاً الضوء على شخصية دينية ومن عائلة معروفة على المستوى الاجتماعي والديني في العراق وعموم الطائفة الشيعية في العالم الإسلامي .

وتتسم هذه المقاربة النقدية بالأهمية، خصوصاً بعد ما تعرّضت له منطقتنا العربية وعلى وجه التحديد والعراق بوجه خاص من أحداث وتطورات في العقود والسنوات  الأخيرة من القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، ولاسيّما احتلال العراق وتفشي الطائفية والعنف والإرهاب ، وذلك بعد حروب وحصار.

وإذا كان الأجداد قد تركوا لنا الكثير من الإبداع الذي أنجبه أبناء الرافدين على مدى تاريخهم العريق  في مجالات متعددة مثل الهندسة والقانون والأدب كما هي الجنائن المعلقة ومسلّة حمورابي وملحمة جلجامش، والتي تناولها الكثير من المؤرخين العرب  وغير العرب،  فإن ما حلّ بهم أيضاً من ويلات ونكبات ومآسي وضع المؤرخون أمام حيرة ألا وهي قدرة العراقيين على اجتراح كل ذلك وتجاوز المحن والتطلع إلى مستقبل أفضل، وهو ما عكسته الأساطير والقصص والملاحم الشعرية التي عالجت قضايا الفلسفة والعلوم والفن والثقافة والوجود والخلود بشكل عام، وذلك ما ورد في الأديان السماوية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام .

 

وقد شرّعت هذه الأديان العبادة التي تربط الإنسان بالخالق، وهي موجهة بشكل عام إلى إرشاد الإنسان نحو الحرية الفردية وتطوّر المجتمع في الابتكار والإبداع وفق ما ينسجم مع تطورات الحياة.

في كتابه ناقش الدكتور شعبان الجدل الدائر والمزمن بين التاريخ والسياسة والدين وهي ثلاثية حتى وإن تباعدت حقولها ووجدت حدود فيما بينها إلا أنه لا يمكن فصلها عن بعضها البعض بسبب تداخلات وتفاعلات تجري بالأساس داخل المجتمع. ولم يكتفِ الباحث بحديث التنظير، بل حاول أن يعرض ما استقر من مفاهيم حول هذه القضايا في أذهان عموم الناس خاصة في السنوات الأخيرة التي شهدت التعصب والتطرف والعنف والذي تجلّى مؤخراً بظهور ما سمي بالدولة الإسلامية (داعش) والممارسات المنكرة التي أقدمت عليها من الإساءة للدين والقيم الأخلاقية والإنسانية ، ومها الذبح والاغتصاب وهي أمور لا تمتّ إلى الإسلام بصلة .

 

وقد أحسن الدكتور شعبان في اختياره شخصية دينية معروفة في توجهها الوطني ومقاومة المحتل بتعريضها للنقد وبقدر  مواقفها الراديكالية في السياسة فهي محافظة دينياً لاسيّما في التوجّهات الخاصة في الشعائر الحسينية، لكنّه لم يتوقف في ذلك بل إنه قدّم نقداً ذاتياً إلى المعسكر الشيوعي الذي ينتمي إليه، خصوصاً لبعض المواقف الصبيانية المتطرّفة وبعض المبالغات والتقديرات التي أثبتت الحياة عدم صحتها فاستعرض بعض مواقفنا أواخر الخمسينات وبعض مواقفنا أيام الجبهة وفي الموقف من حركة خان النص . وأعتقد أن هذه التقييمات الشجاعة هي ضرورة لا غنى عنها للمراجعة في السياسة والتاريخ والدين ليس فقط من جانب العلمانيين والمدنيين ومن مختلف التوجهات بل من جانب الدينيين والحركات الدينية في الدرجة الأساسية، خصوصاً في موقفهم من اليسار والحركة الشيوعية.

لقد عرّف شعبان القارئ بكتاب البغدادي” وجوب النهضة” الذي كان قد أعدّه لمقاومة المحتلين البريطانيين في الحرب العالمية الأولى ولم يتسنَ له إصداره إلا بعد عدوان حزيران على الأمة العربية العام 1967 ، وكما ذكر شعبان فهو مساهمة ودرس  في الكفاح ضد الاحتلال والصهيونية وتأكيد على مدى التمسّك بفكرة الدفاع عن الوطن والحق في مقاومة الاحتلال، وهي الخبرة التي استمدها حفيده السيد أحمد الحسني البغدادي في مقاومته للاحتلال الأمريكي ووقوفه ضد تشكيلاته اللاحقة.

وإذا كان الكتاب قد ربط بين التاريخ والسياسة والدين  وناقش موضوعات مهمة في شرح وافٍ للدين والظاهرة الدينية بشكل عام كما تناول العلاقة بين الدين والسياسة من خلال جدليات الحوزة الدينية فإنه توقّف على نحوٍ منهجي لبحث موضوع فتاوى تحريم الشيوعية التي كانت قد صدرت عن عدد من كبار رجال الدين لكنها خلقت في الوقت نفسه انقساماً ليس في المجتمع العراقي فحسب بل داخل الوسط الديني والعلمائي ذاته ، ففي حين أصدر السيد محسن الحكيم فتواه باعتبار الشيوعية كفر وإلحاد وتبعه عدد من رجال الدين بينهم عبد الكريم الجزائري وأبو القاسم الخوئي وآخرين ، فإن عدداً آخر من علماء الدين امتنعوا عن إصدار هذه الفتوى حتى وإن كان لهم رأي بالشيوعية مثل الحسني البغدادي والقائني والزنجاني والحمّامي لاعتقادهم أن ذلك سيسبّب شرخاً اجتماعياً وانشطاراً مجتمعياً ولم يجدوا لذلك مبرراً والضرر سيكون  أكثر من النفع.

لقد كان اتهام الشيوعيين العراقيين بالكفر والإلحاد له دوافع سياسية وليس لأسباب دينية ، فهم ساهموا في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي في المواكب الحسينية واستغلوا جميع المناسبات لطرح المطالب الشعبية ولم يجدوا في ذلك ضيراً ولم يتهمهم أحد حينها بالإلحاد أو بالكفر، لكن نفوذهم وهيمنتهم على الشارع بعد العام 1959 دفعت بعض رجال الدين إلى استغلال بعض التصرفات العدائية منهم إلى اتهامهم ، وقد نجد في الكتاب   نقداً لمثل هذه المواقف من جميع الأطراف التي أدت إلى تمترسات وصدامات حادة دفعت الجميع ثمنها باهظاً، ولاسيّما بعد الاحتلال.

أختتم بواقعة من ذاكرتي حين كنت لا أزال فتى في العاشرة من عمري حيث كانت الدعاية الانتخابية العام 1957، في مدينة الحلّة وأنا ابنها ، للشيخ عبد الكريم الماشطة تعبّر عن ضمير الناس حين جمعت بين الدفاع عن لقمة العيش والحرية والقضايا الخدمية . وكان الشعار: من  يريد الخبز والعمل والمدارس والمستشفيات والمعامل بدلاً من القنابل والمنشآت الحربية فليصوّت للشيخ عبد الكريم الماشطة. والماشطة رجل دين ونصير للسلم وداعية اجتماعية وشخصية عربية وإسلامية وعالمية، وفي ذلك دلالة على أن العديد من رجال الدين كان يقيمون علاقات طيبة مع الشيوعيين وتجمعهم أهداف مشتركة.

إن كتاب شعبان هو مساهمة فكرية وثقافية في نقد الفكر السياسي العراقي الديني والمدني وفيه استفزاز واستثارة للذاكرة العراقية التي لا تعتمد عليها فقط بل إنها تذهب إلى الوثائق والمراجع لتدقيقها وتدوينها وذلك خدمة للتاريخ والسياسة والدين

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com