مقالات

مرافئُ فِي ذاكرةِ يحيى السماوي “ح 27”

لطيف عبد سالم

بعد أنْ توقفنا عند محطات عدة مِنْ حياته الغنية بالأحداث وَالمواقف، أظن أنَّه قد آن الأوَان لكي نخلع عَنْه معطف الشَّاعِر أو الأديب، وَنتحدث عَنْ السَماويّ يحيى الإنْسَان؛ إذ أَنَّ كُلَّ مَنْ عايشه أو تعرف عَلَيه عَنْ قرب، يدرك جيداً أنَّ السَماويّ يحيى شغوف ببحثٍ دائم عَمَا يسمو بفكرِه لِمَا يفضي إلى المُسَاهَمَة فِي الارتقاء بالمشاعر الإنسانيَّة وَالوصول بِهَا إلى صدق العطاء الَّذِي مِنْ شأنِه تغذية زهور المحبة وَشجيرات المودة المتعطشة لكؤوسٍ منْ مشاعرَ صادقةٍ، تمنح الإنسان قيمة فاعلة فِي مُجْتَمعه، وَتشعره بذاتِه وَشخصيته، بمعزلٍ عَنْ الأنا وَبعيداً عَنْ الرغبات المادية والآنية. وَفِي هَذَا السياق يمكن الجزم بأنَّ البساطةَ، الطيبة، التواضع، الاندفاع لمساعدة الأخرين، الحساسية المرهفة، فضلاً عَنْ احترام الآراء والإصغاء إلى الآخر بمشاعرَ صادقة بريئة وَشفافة تُعَدُّ مِنْ أبرز عنوانات شخصية السَماويّ يحيى، وَالَّتِي تشكل أدلة عَلَى نخلات الألفة الباسقات عَلَى ضفاف أنهار الجمال وَالمحبة، فثَمّةَ مَا يشير إلى أَنَّ كلمةَ ” المحبة ” هي المفردة الأكثر استخداماً فِي القاموس اللفظي، وَفِي الحياة اليومية للسَماويّ يحيى الَّذِي عُرفَ عَنه خفة الروح وَانتصاره للحق وَقضايا الإنْسَان وَكلّ مَا مِنْ شأنِه المُسَاهَمَة فِي تعزيز قيم الجمال. وَضمن هَذَا الإطار يقول الشَّاعِر السَماويّ : ” أنَا أردد  كلمة المحبة يومياً مرات عدة؛ لإيماني أَنَّ الله تبارك وَتعالى قد خلق الإنسان ليحبّ لا ليكره، فضلاً عَنْ أَنَّ وظيفة الشِّعْر عندي هي المُسَاهَمَة فِي إضافةِ زهرة جديدة إلى حديقة المحبة الكونية أو اقتلاع شوكة ناتئة من هذه الحديقة “. وَفِي السياقِ ذاته يؤكد أيضاً بِمَا نصه : ” أنا أحب القارئ؛ لذا يبادلني هذه المحبة، بالإضافةِ إلى أَنَّ محبة المتلقين تفرض عليّ مسؤولية مضافة، هي تحديداَ بذل المزيد مِن الجهد والدرس كي أبقى جديراً بمحبتِهم، وكي لا يخيب حسن ظنهم بي  سواء على صعيد سلوكي الشخصي أو على صعيد جديدي الشعري، آخذاً بنظر الاعتبار أنني أكتب للقراء وليس لنفسي، فهم الأرض التي أغرس فيها بذوري “. وَيختم السَماوي حديثه فِي هَذَا المنحى بالقولِ: ” الشاعر الذي ينشر قصائده ويزعم أنه يكتب لنفسه، هو شاعر كاذب، فالذي يكتب لنفسه عليه عدم نشر شعره “.

 

شـقّـتْ ظـلامَ الـلـيـلِ ” إيـنـانـا “

فـأيـقـظـتِ الـمـرايـا . .

ألـبَـسَـتْـنـي بُـردةَ الـفَـرَحِ الـمـؤجَّـلِ مـنـذ

عـامِ الـهـجـرةِ الأولـى عـن الــمـاءِ الـفـراتِ

وســيِّـدِ الــشَّـجَـرِ الـنـخـيـلْ

*

وعـن الـسَّـمـاوةِ

والـظِـبـاءِ الـفـاتـنـاتِ إذا نـظـرنَ الـى الـغـزالِ :

أسَــرْنَـهُ بـمـصائِـدِ الـطَّـرْفِ الـكـحـيـلْ

*

وحـدي ” وقـاسـمُ ” كـنـتُ فـي ” قـصـر الـغـديـرِ ”

مُـهَـرْوِلَـيـنِ وراءَ قـافـيـةٍ

ونُـطـنِـبُ فـي الـحـديـثِ عـن الـبـلاغـةِ والـبـيـانٍ

وسِــرِّ عَـجْـزِ الــنـهــرِ

عـن إرواءِ مـتـبـولٍ تـأبَّـدَهُ الـغـلـيـلْ

*

قـبـلَ انـتـصـافِ الـلـيـلِ :

آذنَ بـالـذهـابِ الـى جـنـائـنِ بـيـتِـهِ الـضَّـوئيِّ ” قـاسـمُ “

فـاقـتـرَحْـتُ عـلـيَّ أنْ أبـقـى مـعـي

لأُعِـيـدَ تـرتـيـبَ الـهـمـومِ

عـسـايَ أطـفـئُ مـن حـرائـقِـهـا الـقـلـيـلْ

*

 

مِنْ المعلوم أنَّ مِنْ فضل الباري عَزَّ وَجلّ وَكرمه أنْ يتفضل عَلَى الإنْسَان المؤمن بالتواضع وَحسن الخُلق؛ إذ يُعَدُّ التواضعُ انعكاساً لثمرة المعرفة، فضلاً عَنْ كونه مِن القيم الرفيعة الَّتِي تنشر الخير مَا بَيْنَ أفراد الْمُجْتَمَع، فالتواضع كلمة جميلة فِي مبناها وَمعناها، كلمة سامية فِي مفرداتها وَأجزائها، بالإضافةِ إلى أَنَّ التواضعَ يُعَدّ مِنْ أعظم الجرعات، وَأسهل الطرقات لكسب القلوب وَالود العميق.  وقد جاء فِي الأثر أَنَّ مِنْ أروع الأخلاق الَّتِي تلزم كُلّ شخص الاتصاف بها خُلق التواضع، وَالَّذِي لا رَيْبَ أَنَّه يأسر القلوب ويستهوي الأسماع وَالأبصار. ولعلَّ مِنْ بَيْنَ الأدلة عَلَى إيجابية أثر التواضع هو حقيقة أَنَّ المكانَ المنخفض أكثر ماء؛ لذَا لا غرابة فِيمَا نسمع ونقرأ عَنْ تواضع الحكماء وَجهابذة العلم وَمَا يشار إليهم باسْمِ أهل الحل وَالعقد، فأمْرٌ مُسَلَّمٌ بِهِ أنَّ الإنْسَانَ كلما استزاد مِن العلم، ازداد تواضعاً. وَالتواضع لغة : مصدره وَضُعَ : يقال وَضُعَ الرجل ” يَوْضُعُ ” ضِعَةً وَوضاعة : صار وَضِيعا، أي دنيئاً، وتواضع فلان: تذلّل وَتخاشع، وَتواضعت الأرض: انخفضت عمّا يليها ( المعجم المحيط ), والتواضع أيضاً هو التذلّل ( كتاب العين، للفراهيدي ). أمَا اصطلاحاً فأَنَّ التواضعَ انكسار للنفس يمنعها مِنْ أنْ يرى صاحبها لِذَاتها جميلاً عَلَى الغير, وَتلزمه أفعال وَأقوال موجبة لاستعظامِ الغير وَإكرامه ( جامع السعادات )، أو هو احترام الناس حسب أقدارهم، وَعدم الترفع عليهم ( أخلاق أهل البيت, محمد مهدي الصدر ).

جدير بالإشارةِ أَنَّ صفةَ التواضع تُعَدّ مِن القيم الإنسانيَّة العظمى فِي كُلّ الشرائع وَالأديان وَالمباحث الفلسفية، فالتواضع الحقيقي هو ” أبو كل الفضائل ” كما ورد فِي أقوال الحكماء وَأهل المعرفة، وهو الطريق لاستعباد قلوب الناس واستمالتهم؛ فالإنْسَان يدنو مِن العظمةِ بقدر مَا يكون متواضعاً. وَمِن جملة مَا قيل عَنْ التواضع أيضاً الأقوال التالية : ” أحب الخلق إلى الله المتواضعون “، وَ ” ضع فخرك، واحطط كبرك، واذكر قبرك، فإن عليه ممرك “، وَ ” ليس للرجل سوى مجد واحد حقيقي، هو التواضع “. كما ورد عَن أهل المعرفة أيضاً مَا نصه ” لا يتكبر إلا كل وضيع، ولا يتواضع إلا كل رفيع “. وَ” كلما ارتفع الشريف تواضع، وكلما ارتفع الوضيع تكبر “. وَلأنَّ مَا قيل فِي صفة التواضع أكثر مِنْ أنْ يُعَدّ أو يحصى، أراني ملزماً بالاكتفاء فِيما ذكرته آنفاً وَختم تلك الحكم العظيمة بقولٍ جميلٍ نصه ” لا حسب كالتواضع، وَلا شرف كالعلم “. وَممَا قال الشعراء عَن التواضع، ننتخب مِنه مَا يأتي :

قال البحتري:

وإذا الشريف لـــم يتواضع

للأخلاء فهو عين الوضيع

وَقال احمد شوقي:

ومن لــــم يجمِّل بالتواضع فضله

يبن فضله عنه ويعطل من الفخر

وَقال شاعر أجهل اسْمه:

ولا تمشي فوق الأرض إلا تواضعاً

فكـــــــــــم تحتها قوم هم منك أرفع

وقال الشاعر موسى بن علي الزرزاري القُطبي :

تواضع تكن كالنجم استبان لناظر

علـــى صفحات الماء وهو رفيعُ

ولــــــــم يكُ كالدخان يرفع نفسه

إلـــى طبقات الجو، وهو وضيع

السَماويّ يحيى ” صاحب القلب المليء كرماً واخلاقا ” بحسب الشاعر العراقي الدكتور حسين يوسف الزويد، وَالَّذِي يشهدُ الجميع لهُ بأنَّه ” قال فأجاد وَأنشد فأطرب وَنسج فأبدع “، لا أدلَّ عَلَى تواضعه مِنْ مخاطبته أحدِ الشُّعراء بعبارةٍ بليغة الأثر، تعكس تواضعه وَعلو هامته فِي عالمِ الشِّعْر، وَالَّتِي يقول فِيها : ” فخار ليّ أنْ أكونَ عشبةً ناتئة فِي حقل إبداعك “. وَعَلَى الرغمِ مِنْ الإشادةِ بإبداع منجزه الشعري وتميزه، فإنَّ السَماويّ يحيى يخاطب أيضاً  زميلاً آخر بعبارةٍ بليغة الأثر تعكس طيبته وَإصالته وَنقاوة روحه، وَالَّتِي نصها : ” ما أنا بأكثر من طفل يحبو على رصيف الشعر رغم مضيّ نحو خمسين دورة شمس على إصداري أول مجموعة شعرية “. وَيَوْمَ لَبَّى السَماويّ يحيى – الَّذِي يسكن فِي مدينة ” أديلايد “عاصمة ولاية جنوبي أستراليا –  دَعَوْةَ ” المنتدى العراقي الأسترالي ” فِي مدينةِ ملبورن – عاصمة ولاية فيكتوريا الَّتِي تُعَدّ ثاني أكبر مدن أستراليا بعد سيدني – لإقامة أمسية شِعْريَّة، تجمع عشاق الشِّعْر وَالأدب مِنْ أهل العراق بِمختلفِ طوائفهم وَقومياتهم وَاحزابهم وَعقائدهم فِي مكتبة ” تومس تاون “، حيث اعتلى السَماويّ يحيى أواخر شهر تشرين الثاني عام 2006م  المنصة؛ لإلقاءِ منتخباتٍ مِنْ قصائده، إلا أَنَّه لَمْ يتمالك نفسهُ مِن البكاء حين وقعَ نظره عَلَى هَذَا الْمُجْتَمَع العراقي الصغير بشخصياته المعروفة وَغير المعروفة لَهُ، وَالَّتِي قاسمها المشترك الانسجام وَالتآلف, وَالشعور بانتماء حقيقيّ إلى وطن يمتد أفقه مِنْ مدينة زاخو الى الفاو؛ إذ سرعان مَا بدأت الدموع تنهمر عَلَى وَجنتيه قبل أنْ تبدأ شفتاه بنطق كلمات مِنْ شعْرِه. وَحينما اقترح عليه أحد الحاضرين السكن فِي مدينةِ ملبورن، قال : ” سآتيكم متى مَا أردتم، حتى لو جئت عَلَى الأقدام مِنْ مدينة أدلايد “.

عَلَى الرغمِ مِنْ إنَّ المنظومةَ الشِعْريَّة للسَماويّ يحيى تعبر عَنْ شموخ أدبي وَثَّقَافَيّ وَفكري، إلا أنَّ نهجه الإنْسَانيّ لَمْ يتغير منذ صباه، وَلَمْ يتأثر بمعطيات الأمكنة الجديدة الَّتِي وَطِئت إياها قدمُه؛ لأنَّه مَا يَزال مهووساً فِي البحثِ عَنْ النبيل مِن المواقف الَّتِي تبهج النفس بسعادةٍ تشعر السواد الأعم بالنشوة الَّتِي تتراءى لَه فِي أحلامه، ويتمنى وجودها فِي أيامه؛ إذ أَنَّه لَمْ يعش يوماً رهين حدود الشخصية الأدَبيَّة أو الإعلاَميَّة أو التَرْبَوِيَّة فحسب، وَإنما كان – وَمَا يَزال – شخصية اجْتِماعِيَّة إنسانيَّة متعددة المآثر، فضلاً عَنْ أَنَّ قلبَه الكبير يسع الجميع. ويحضرني هُنَا مَا كتبه ذات يوم فِي أحد المواقع الإِلِيكْتُرُونِيَّة الشاعر الدكتور حسين يوسف الزويد، وَالَّذِي   نصه ” أخي وأستاذي سماوينا الكبير الجليل المبجل، في كل تعليق لك على أوشال حروفي، تدمرني بكرمك وأخلاقك التي تحملني مسؤولية الوفاء في زمن شح فيه الوفاء “. ولعلَّ مِنْ بَيْنَ الأحداث القريبة الَّتِي تُعَدّ شاهدًا حياً عَلَى شهامتِه وَنبله وَطيبته المتناهية، هو مَا جرى فِي زيارتِه نهاية العام الماضي 2017م إلى العراق، حين تقدم إليه فنان تشكيلي مِنْ شريحة الشباب فِي إحدى الأمسيات الثقافيَّة المقامة بمدينة السَماوة قصد استحصال موافقته عَلَى إقامة تمثال نصفي لَه؛ تثميناً لِمواقفِه الوَطَنيّة وَجهودِه فِي مقارعة النظام الدكتاتوري، بالإضافةِ إلى الاعتزاز بمنجزِه الإِبْداعيّ، إلا أنَّ السَماويَّ شكر هَذَا الفنان عَلَى مبادرتِه النبيلة، وَاعتذر عَنْ قبول طلبه، طالباً مِنه تخصيص التمثال النصفي لإحياءِ شخصية الشهيد ” حسن سريع ” قائد انتفاضة معسكر الرشيد الإيثارية الموسومة باسْمِ قائدها، وَالَّتِي لَمْ يَعرِف عَنهَا ذاك الفنان شيئا، مَا ألزمه التعريف بِها. وَيقيناً أَنَّ أكثرَ شيء مدهش فِي موقف السَماويّ يحيى هَذَا هو التعبير العمليّ عَنْ نكران الذات الَّذِي يعني الخروج مِنْ شرنقة الأَنانيَّة – الَّتِي تسيطر عَلَى ذات الكثير مِن الشخصيات المهمة فِي الْمُجْتَمَع – إلى فضاء المَوْضُوعِيَّة وَالعقلانية. وَلعلّ مِن المناسب أنْ أشيرَ هُنَا إلى أنيّ حين كنت أسجل هَذِه السطور، وَجدت أَنَّ موقفَ السَماويّ يحيى المذكور آنفاً ينطبق إلى حدّ كبير أو رُبَّما يكرس مقولة الشَّاعِر التركي ناظم حكمت الشهيرة، وَالَّتِي نصها ” إذا أنا وأنت وهي وهو لم نحترق، فمن يُضيء الطريق ؟ “. كذلك قفز إلى خاطريّ ” قول تشي جيفارا ” إنَّ الطريقَ مظلمٌ وحالك، فإذا لم نحترق أنا وأنت، من سينير الطريق ؟ “، فنزعة الأَنانيَّة بحسبِ علماء الاجْتِمَاع تقود الإنْسَان إلى حبِ الذات الَّذِي يقوده لاتباع الأهواء والشهوات وَجعله أسير رغباتِ تنمي فِي داخلِه خسارة الأخلاق وَانعدام الضمير.

*

قـبـلَ الـنـداءِ الـى صَـلاةِ الـفـجـرِ :

فَـزَّ الـقـلـبُ ..

صـوتٌ كـالأذانِ أتـى .. أصَـخـتُ الـنـبـضَ ..

مَـنْ ؟

فـأجـابـنـي صـمـتـي :

هــو الــمَــطــرُ الـوبــيــلْ

*

فـانـثـرْ بـذورَكَ

آنَ لـلـصـحـراءِ أنْ تـتـفـيَّـاَ الأيْـكَ الـظـلـيـلْ

*

وتـفـيـضَ غـدرانٌ بـأعـذبِ سـلـسـبـيـلْ

*

ألـقـى عـلـيَّ تـحـيَّـةّ الـعـشـقِ الـخـرافـةِ هـدهـدُ الـبـشـرى

وقـال :

يُـخـصُّـكَ الـزمـنُ الـجـديـدُ بـجـنَّـةٍ

مـن فـوقـهـا تـجـري مـن الأفـراحِ أقـمـارٌ

ويـجـري تـحـتـهـا نـهـرٌ مـن الـقُـبُـلاتِ والأزهـارِ والأطـيـارِ

والـشـجَـرِ الـبَـتـيـلْ

*

فـاحْـزمْ فـؤادَكَ

واخْـلـعِ الأمـسَ الـمُـقـرَّحَ مـن كـتـابِ الـيـومِ

وادخـلْ آمِـنـاً غـدَكِ الـجـمـيـلْ

*

الـيـومَ قـد أكـمَـلـتُ عـشـقَـكَ ـ قـالَ ” عـشـقـائـيـلُ ” بـاسـمِ الـسـومـريَّـةِ

وارتـضـيـتُـكَ أن تـكـونَ لـيَ الـرَّسـيـلْ

 

الأستاذ الدكتور عبد الرضـا عليّ اِسْتَحْضَرَ فِي شهادته جانباً مهماً يدلل عَلَى جمال الروح فِي شخصية السَماويّ يحيى، وَالمتمثل بتمسكِه فِي إدامة التواصل الاجتماعي والإنساني عَلَى الرغمِ مِنْ مرارة التعسف وألم الاغتراب اللذين عانى مِنهما؛ إذ يؤكد فِي تلك الشهادة هذه السجية بالقولِ : ” ظلَّ السماوي يحيى وفيّاً لقضايا شعبهِ، بالمستوى نفسهِ الذي ظلَّ فيه وفيّاً للفلسفةِ التي آمن بها، ولعلَّ ما كان يُعانيه شعبهُ من استلابٍ ثقافيّ، وفكريّ، واقتصاديّ هي بعض الأسباب التي عمّقتْ ذلك الوفاء، فكانَ أميناً مع ناسه قبل أنْ يكونَ أميناً على مبادئهِ في حريّةِ الفكرِ والتعبير، والعملِ، فكان لابدّ للدكتاتوريّةِ من أن تبعدَهُ عن مهنةِ التعليم التي اختارها، وتنقلَهُ إلى مكتبِ بريد في مدينة السماوة، عقوبةً لرفضهِ الانتماء لحزب المنظّمةِ السريّةِ الذي كان يحكمُ العراقَ بقبضتهِ الحديديّة بداءةً من نهاية ستينيّات القرن الماضي، وحتّى سقوط الدكتاتوريّة في العام 2003م “. وَيضيف عليّ أستاذ الأدب والنقد الَّذِي عرف بِمنجزِه النقدي الكبير، ومؤلفاته المتعددة الَّتِي أصبح بعضها منهجاً معتمداً فِي الجامعات قائلاً : ” منذُ ذلك الحين، أي قبل خمسةٍ وأربعينَ عاماً وحتى هذه الساعة لم تستطعْ محنُ الزمانِ، ولا أيّامُ الخوفِ، ولا معتقلاتُ البعثِ، ولا المنافي العديدة، ولا غيرها من المنغّصات أن تفرّق بين ما آمنتْ به روحانا من أفكارٍ، أو فلسفات، أو انحيازات استدعتها مواقفُ معيّنة – وإنْ فرّقتنا فضاءات هذه الدنيا الشاسعة الأطراف مكانيّاً – لكنّنا كنّا نلتقي بين الحينِ والحينِ في فضاءات جميلة، هي فضاءاتُ الأدبِ وما إليه، وما حوله، لكونِ كلٍّ منّا قد أدركته حرفةُ الأدبِ، ومن أدركته تلك الحرفة بات أسيرها طوال العمر راضياً مرضيّاً “. وَيختم الدكتور عبد الرضـا علي شهادته التاريخية هذه بقوله ” إنَّ هذه الشهادةَ القصيرةَ التي رويتُها هنا عن صديقي الشاعر يحيى السماوي، لا تفيه حقّه، لكنها واحدةٌ من صور السماوي الحيويّة التي قد لا يعرفها الكثيرون “.

*

مـيـلادُ ” إيـنـانـا ” الـبـعـيـدةِ بُـعـدَ قـلـبـي عـن يـدي :

مـيـلاديَ الـمـكـتـوبُ فـي الـلـوحِ الـمُـقـرَّرِ قـبـلَ يـومِ ولادتـي

وغـوايـتـي فـي نـشـرِ أشـرعـةِ الـرَّحـيـلْ

*

إصـعَـدْ إلـيـهـا ـ قـال هُـدهُـدُهـا ـ لِـتُـبْـعَـثَ مـن جـديـدٍ :

عـاشـقـاً .. طـفـلاً رضـيـعَ الـلـثـمِ .. مـشـبـوبـاً فـتـىً ..

فـاهـنـأ بـمـيـلادِ الـمـلاكِ الـسـومـريَّـةِ أيـهـا الـشـيـخُ الـجـلـيـلْ

*

كـيـف الـصـعـودُ ـ أجَـبْـتُ ـ مـولايَ الـبـشـيـرَ

الـى جـنـائـنِ ربَّـةِ الـمـطـرِ / الـجـمـالِ / الـحـبِّ ” إيـنـانـا ” ؟

أنـا الـحَـيُّ الـقـتـيـلْ

*

ســتـقـولُ : كُـنْ فـتـكـونُ ـ قـالَ ـ فـتــصـطـفـيـكَ

لِــمـا أعـدَّ الـلـهُ لـلـمُـتـضـرِّعـيـنَ مـن الـقـطـوفِ

ومـن شــرابِ الـزَّنـجـبـيــلْ

***

هَـبَـطـتْ إلـيَّ إلـهـةُ الـعـشّـاقِ ” إيـنـانـا “

فـأشــمَــسَــتِ الـطــريــقَ الـى مـضـاربِ ” عــروة بـن الـوردِ “

وابْـتـكـرَتْ لإسـرائـي ” بُـراقـاً ” فـالـسـمـاءُ قـريـبـةٌ مـنـي ..

وكـنـتُ أُقـيـمُ فـي ” قـصـرِ الـغـديـرِ ” أمـام جُـرفِ الــنـهــر

في أرضِ الـسـمـاوةِ

يـومَ حَـطَّ عـلـى سـريـري هـدهـدُ الـبـشـرى بـأوَّلِ زخَّـةٍ عـذراءَ

مـن مـطـرِ الـهـديـلْ

*

فـثـمِـلـتُ مـن خـدَرٍ

فـمـا أدري أكـان الـوقـتُ صُـبـحـاً أمْ أصـيـلْ ؟

*

كـلُّ الـذي أدريـهِ أنـي صـرتُ غـيـري :

لـم يَـعُــدُ حَـجَـراً جَـنـاحِـيْ ..

والـسـمـاءُ قـريـبـةٌ مـنـي ..

ولـم أعُــدِ الـيـتـيـمَ ولا الـغـريـبَ عـلـى الـهـوى

وابـنَ الـســبــيــلْ

*

لا رَيْبَ أَنَّ السَماويَّ يحيى عانى كثيراً مِنْ إفرازات سنوات المحنة الوطنية، وَمَا تزال تؤرقه، فثّمة جروح وَدماء غير مرئية، لكنه اعتاد عَلَى تحمل آلامها وَالتكيّف عَلَى جعلِها أقل ألماً عَلَى الرغمِ مِنْ أَنَّ نزيفَ الوطن أنهكه، وَغدت جراحه خضراء، لكنه جعل مِنْ حبِه وطنه وناسه الطيبين ضماداً لقروحِها، فكان أنْ اعتاد عَلَى دربِه الذي لَمْ – وَلَنْ – يحيد عَنه، وإن تركت آلام جروح الوطن ندبات عَلَى أعضاء مِنْ جسمه، فالسَماويَّ يَعدّ الحياة ” قصيدة “، فهو يرى المرأة قصيدة، وَالطفل قصيدة، وَالأصدقاء قصيدة، والوطن قصيدة، وَالمدينة قصيدة، حيث يؤكد تلك الرؤية بالقول : ” أنا عندما خرجت من السماوةِ فهي كانت عندي قصيدة، وعدت إليها لأجدها قصيدة “. وَفِي هَذَا السياق يؤكد الشَّاعِر العراقي هاتف بشبوش فِي دراسةٍ حديثة تلك الرؤية بالقول ” إنَّ منجز المبدع يحيى السماوي الذي حمل قضيته، وطنه، العراق الجريح، في قلبه وعلى أجنحة شعره الملتهبة لأكثر من خمسين عاماً كانت محمّلة بالمرارات والخسارات الجسيمة التي اختار علاجاً لها الكيّ الشعري الفريد والمُحبّب عبر أكثر من عشرين مجموعة شعرية “. وَعَنْ إيجابية أثره فِي الوسطين الأدبي وَالاجتماعي يشير بشبوش إلى ذلك بالقول ” يحيى السماوي شاعر له صدىً نستطيع سماعه لما فيه من روح مداعبة متواصلة مع الحدث مع الثورية الواضحة في ما نقرؤه عنه وحبه لوطنه بشكل فائض يجعله محبوبا في وسطه الأدبي والاجتماعي وضمن مجايليه من الشعراء والكتاب، فهو يمسك بالذاكرة التي تجعل منه لا يغيب أبدا عن كل ما يمتّ بصلة للتراب الآدمي العراقي المترابط مع بقية الأنفس البشرية في هذا العالم العربي وواقعه المؤلم “.

عَنْ ذكرياتِ الوعي السياسي، يشير صديق طفولته الشَّاعِر وَالفنان التشكيلي عباس حويجي إلى بعض المواقف الَّتِي تركت بصمة وَذكرى طيبة باقية فِي الوجدان بقولِه ” اشترك الشاعر يحيى السماوي بتوزيع الماء والمؤن للسياسيين المعتقلين في قطار الموت عند وصوله لمحطة قطار السماوة وهو آنذاك صبيٌّ  مراهق “، مضيفاً أيضاً ” أول صدمة اعتقال سياسي كانت في عام 1973م حينما نشر مقالا في – جريدة طريق الشعب – انتقد فيه قيام فرقة مصرية ترفيهية بأعمال اعتبرها مخلـّة، فاعتقل من قبل الامن وضرب وأهين واطلق سراحه بعد أيام “. وحول المضايقات الامنيةِ الَّتِي تعرض لها السَماوي يحيى وتركت ندبة واضحة فِي نفسه يقول حويجي مَا نصه ” في تلك الايام حينما أصدرت السلطة البعثية قانوناً بإعدام أي عسكري ينتمي إلى الحزب الشيوعي، والشاعر كان عسكريا حينذاك، فكنا اصدقاءه ورفاقه نخاف عليه من عيون السلطة وندفعه إلى مرافقة الاصدقاء البعثيين وملازمتهم كغطاء لدفع الشبهات. وفي ذلك الوضع الحساس كان الشاعر يقتل ساعات طويلة وهو يلعب الدومينو مع أزلام بعثيين بعضهم من أراذل البعثيين في المدينة، وفي الاماسي يذهب مع ذات النوع من الرفقاء إلى النوادي الكثيرة المنتشرة في المدينة “. وَعَنْ طبيعةِ شخصيته المحبة للخير وَسعيه لمساعدةِ جميع مَنْ حوله بطيبةِ نفس دون هدف أو غاية، يقول الشَّاعِر هاتف بشبوش بِهَذَا الصدد مَا نصه ” يحيى السماوي هو الشاعر الذي عرَفتهُ وخبرتهُ إذا ما كلّف بمهمةٍ من صديق وخصوصا في مجال الأدب لا يستطيع الاعتذار إلآ على مضض أو أمر جلل، ولذلك أتذكر وأنا أرجو منه التنقيح لدراسة معينة وهذا غالبا ما يحصل أجده وانا على دراية تامة من إعيائه لكنه لا يستطيع قولها من أنه متعب يتوجب عليه الاعتذار وهذه الشخصية قلما نجدها وان وجدت فهي بنسبٍ ضئيلة “.

*

لـلـهِ مـا لـلـهِ

لـكـنْ

مـا لــقــيـصـرَ مـن عــروشٍ لـيْ ..

ولـلـعـشـقِ الـولايـةُ ..

نِـعـمَ دِيـنـاً عـشـقُ ” إيـنـانـا “

وأكـرِمْ بـالـخـلـيـلـةِ والـخـلـيـلْ

*

خـلـعَـتْ خـريـفـي

فـارتـديـتُ مـن الـفـصـولِ ربـيـعَ ” إيـنـانـا ” الـمُــسَــيَّـجَ

بـالـفـصـيـلْ

*

فـإذا بـبـاديـةِ الـسـمـاوةِ واحـةٌ ..

والـنـهـرُ طُـرِّزَ بـالـزوارقٍ ..

والـضـفـافِ تـفـيـضُ بـالــنَّـسَــمِ الـعـلـيـلْ

*

ولـديَّ مـنـذ هـبـوطِـهـا :

مـفـتـاحُ بـابِ الـمـسـتـحـيـلْ

*

تـحـتـالُ ” إيـنـانـا ” عـلـى قـلـقـي

فـتُـشْـغِـلـنـي بـرشـفِ نـدى زهـورِ الـلـوزِ

والـسـفـرِ الـطـويـلْ :

*

مـا بـيـن فِـضَّـةِ قُـبَّـتـيـنِ وتِـبْـرِ مـهـبـطِ قـرطِـهــا

وقــرنـفــلِ الـشــفــتــيــنِ

والـدفءِ الـمُـشِـعِّ لـذاذةً مـن مُـقـلـةِ الـخـصـرِ الـنـحـيـلْ

*

نـغــفــو فــيــوقِــظــنــا حـريـقٌ نـاعـمُ الـنـيـرانِ ..

نـبـتـكـرُ الـخـصـامَ عـلـى قـطـوفِ الـمَـنِّ والـنـعـمـى

فـيـشـتـبـكُ الـهـديـلُ مـع الـصـهـيـلْ

*

فـانـا بـشُـغـلٍ عـن هـمـومِ الأمـسِ

أقـطـفُ مـا أشـاءُ مـن الـقـطـوفِ الـدّانـيـاتِ

فـحـيـثُ مِـلـتُ :

إلـى يَـديَّ قـطـوفُ ” إيـنـانـا ” تَـمِـيـلْ

***

ثمة سؤال يطرح نفسه فِي ذهنِ بعض الكتاب أو الباحثين أو العاملين فِي مهنة المتاعب عَنْ مثلث افتراضي، زواياه : الشِّعْر، الخطيئة وَالحب، أجاب عَنه السَماويّ يحيى ذات حوارية بالقول : ” لا تأبه للذي يفلسف نبضك بتجاهل … مادام المتجاهل مشتقا من الجهل، فإنَّ تجاهله هو الحل الأفضل … لي مع مثل هذا المتجاهل تجربة جميلة : ثمة جاهلان يدّعيان الأدب يركضان خلف نصوصي في المواقع والصحف ليرميا شجرتي بحجارة ناتئة ظنا منهما أنهما يثيران حنقي بينما هما يبعثان بي فرحاً جميلا ليس لأن نصوصي تسبب لهما احتقانا نفسيا، فأنتشي وأنا أراهما يمضغان قيحهما فحسب، إنما ولأنني أضع حجارتهما تحت حذائي فأزداد ارتفاعا، لابد أن نكون كالنهر، فالنهر لا يلتفت للوراء “. وفِي السياق ذاته وسعياً إلى محاولةِ تقريب القارئ مِن المعنى يؤكد السَماويّ يحيى : ” إنَّ الحبَ لا يمكن أن يكون افتراضاً … وقلبك لا يخدعك فأصِخْ السمع لرفيف نبضه وأطِعْه، فليس ثمة ما ننتصر به على تنّين الضغينة غير الحب .. بالحب وحده نقاوم الموت إكراماً للحياة. هل كان قيس بن الملوح سيعيش كل هذه الأزمنة لولا الحب ؟ كلنا نعرف قيس بن الملوح، ولكن أكثرنا لا يعرف أسماء الملوك الذين جايلوه أو عاشوا في عصره “. وَفي مناسبةٍ أخرى، كتب السَماويّ يحيى إلى أحد أصدقائه مَا نصه : ” تحياتي ومحبتي يقفوهما سرب من حمام التمنيات بالغد البهي لك وكل الآمرين بحب العراق والناهين عن المساس بأرضه وإنسانه “. وَيستطرد فِي الكلام عَنْ هَذَا الموضوع بالقول : ” إذا كان الشك هو الخطوة الأولى على طريق الفلسفة بحسب رأي دينيس ديرويت، فإن المحبة هي الخطوة الأولى على طريق إقامة الوطن الفردوس “. وَتأكيداً لتفاعله مَعَ الْمُجْتَمَع وَإيمانه بضرورةِ العمل عَلَى غرس بذور المحبة الإنسانيَّة، فضلاً عَنْ السعي لتعميق تفاعله مَعَ محيطه الاجْتِمَاعِيّ وَالثَّقَافيّ، يشير السَماويّ يحيى إلى ذلك بالقول : ” ثمة قول أحفظه عن ظهر يقين، لا أتذكر قائله، نصه : ليكن وجهك باسماً وكلامك ليناً، تكن أحبَّ إلى الناس ممن يعطيهم الذهب والفضة .. هذا القول قد اتخذت منه منهجاً، فنظرت الى كل الناس الذين لا أعرفهم، على أنهم مشروع صداقة وإخاء “. وَيضيف أيضاً بصيغة سؤال : ” إذا كنا قادرين على غرس الزهور، فلماذا نغرس الأشواك ؟ “. وَمثلما قالت العرب ” المرء على دين خليله “، يعبر السَماويّ يحيى عَنْ أهميّة الصديق فِي حياة الإنسان بذكر حادثة عاشها قبل سنوات قائلاً ” من حماقاتي أنني أهديت يوما شخصاً بعض كتبي موقّعة بإهداء كصديق، وبعد اكتشافي انفلاته الأخلاقي أرسلت إليه شخصين كي يجلبا لي فقط الصفحة التي كتبت فيها بخط يدي الإهداء واصفاً إياه بالصديق؛ لخشيتي أنْ ألحِقَ عاراً بابني باعترافي أنه كان يوماً صديقي، أليست الحكمة تقول : وكلّ قرينٍ بالمقارن يهتدي ؟ ”

 

مـن حـمـرةِ دمـي

وخضرةِ عـشـبِ عـيـنـيَّ

وبـيـاض قـلـبـي

وزرقـةِ جـنـونـي

وصُـفـرةِ شـحـوبِ وجـهـي :

سـأرسـم قـوسَ قـزحٍ لـلأطـفـال ..

قـوسَ قـزح يـخـلـو مـن الـلـون الأسـود

فـالأطـفـال يُـفـزعـهـم سَـوادُ وجـوهِ الـسـاسـة

فـي وطـنٍ لا يـفـوقُ عـديـدَ نـخـيـلـهِ

إلآ عـديـد فـقـرائـه !

***

يمكن القول إنَّ ثمةَ مَا يعزز الأوهام فِي ركونِ البعض إلى نزعة البهرجة الإعلامية وَالتكلف وَالاستعراض، وَالَّتِي لا ريب فِي مُسَاهَمَتها بإغراق أصحابها بالمادية الَّتِي قد تطبع حياتهم بطابعٍ لا إنْسَانيّ؛ إذ أَنَّ مِنْ شأنِها تغييب صور الحب وَالعدالة وَالجمال وَغيرهَا مِنْ القيمِ الإنسانيَّة الَّتِي بوسعِها المعاونة فِي بناء روحٍ أخاذة بحبِ الحياة، فليس خافياً أنَّ البساطةَ تُعَدُّ سر علاقات الود وَالحب مَا بَيْنَ الناس؛ لأنَّها الجسر الذى يربط بَيْنَهم. وتأكيداً لبساطةِ السَماويّ يحيى الَّتِي تطبع أسلوبه فِي الحياة، أراني ملزماً بالتنويه بِمَا له مِنْ علاقةٍ بهَذَا الموضوع بالإشارةِ إلى مَا كتبه ذات منفى عنْ مشروعٍ لإقامة أمسيةٍ فِي مدينةِ السَماوة، وَالَّذِي نصه : ”      أهلا وسهلاً بابن صديقي الشاعر السماوي الجميل أسامة الزهيري، أرجو أن تكون على ما تتمنى وأتمناه لك من الرغد والحبور والإبداع، ولابد لنا من أمسية شعرية في زيارتي القادمة للسماوة نقرأ فيها جميعاً – الكهول مثلي والشباب مثلك – في البيت الثقافي أو اتحاد الأدباء أو في حديقة عامة “. وَيضيف أيضاً قائلاً : ” أقترح إقامتها في مقهى فايق، وندعو لها العمال ومن نعرف من الفلاحين وحتى الصبية والفتيان … حقاً سأسعى لمثل هذه الأمسية بعيداً عن الصالات والقاعات. وما الغرابة، ألم يقدم المرحوم ناجي كاشي مسرحية في تلك المقهى ؟ “. وَلعلّ مِن المناسبِ أنْ نشيرَ إلى أنّ السَماويّ يحيى تعرف حديثاً عَلَى مقهى فايق، وتحديداً بعد عودته إلى العراق فِي أعقاب انهيار النظام الدكتاتوري, وَهي مقهى متواضعة تابعة لبلدية السَماوة، لكن أكثر جلسائها مِن المثقفين وَالأدباء وَالشيوعيين، ويعود الفضل فِي تأسسها إلى المخرجِ المسرحي الراحل الدكتور ناجي كاشي ” رحمه الله ” الَّذِي جعل مِنْ باحتها الأمامية أشبه بمسرحٍ صيفي. وَقد أصبحت المقهى بعد وفاة مؤسسها تدار مِنْ قبل شقيقه فايق، ثم مَا لبث أنْ جرى إغلاقها؛ لأنَّ أحد الاشخاص استأجرها مِن البلديةِ بسعرٍ أعلى، الأمر الَّذِي أغاظ السماوي كما يظهر مِنْ مخاطبته فايق كاشي بالقول : ” أين سنمضي أماسينا في السماوة بعد إغلاق مقهاك يا أبا عباس ؟. لقد كانت منتدانا اليومي الجميل “. وَمثلما يزداد السَماويّ ألقاً وَبهجة برعايته لشريحة الأدباء الشباب، فإنَّه يزداد فِي نفوسنا حضوراً وتوهّجاً؛ إذ لا قيود عَلَى الراغب مِن الفنانين توظيف نتاجه الشعري، فقد غنى لَه فؤاد سالم قصائد سياسية عديدة، وَغنى لَه الفنان الدكتور فاضل عواد قصيدة ” أحببت من دنيا الحسان حبيبة ” قبل أكثر مِنْ أربعين عاما. وَفِي هَذَا السياق يقول السَماويّ : ” لا أبحثُ الآن عن مطرب حتى يغني لي قصائدي، أما إذا أراد احدهم أن يغني لي قصيدة، فشعري متاح للجميع وذلك يسرني، إلا أني لا أبحث عن حقوق أو شيء أخر “.

 

أريد أن أكون أكثر عطشاً من بادية السماوة

وأكثر جوعاً من جهنّم

لأشربك بكاس القبلات

وأقضمك بقبلاتي

إنَّ مَنْ يتوغل فِي أعماق تجربة السَماويّ الشعرية المائزة، يدرك أَنَّ لَه فلسفة شعريّة خاصة تتبلور حول سمو غايته مِنْ ولوج عالم الأدب، وَهو مَا عزز الإبداع فِي تجربته الشعرية الواسعة الممتدة زمنياً مِنْ ديوانه البكر ” عيناك دنيا ” حتى مجموعته الشعريّة الموسومة ” تيممي برمادي ” الصادرة في منتصف عام 2018م، وَالَّتِي تُعَدُّ أحدث مجاميعه الشعريّة. وتأكيداً لهذه الرؤية أسجل هُنَا مَا أعلنه السَماويّ ذات أمسية ثقافية، وَالَّذِي نصه : ” أغرس زهرتك وأمضِ،فإذا  كانت هذه الزهرة أصيلة فسوف تمتص الماء وترتوي، وإن كانت غير أصيلة  فسوف تذبح أو تنتحر. وأقول للشاعر كن صادقاً مع نفسك وكن ذائداً عن شرف النص والأدب ككل، وأنا أتسأل ما هو الهدف من كتابة القصيدة، هل هو أن اكتب الشعر فقط حتى يقال عني شاعر؟. لا ، الهدف من الشعر هو خدمة الناس والخدمة يجب أن تكون غير معتمة؛ لان القصيدة المعتمة هي تعبير عن داخل معتم، والشعر عائد للعشق، والعشق واضح، ولا يراد له أن يكون واضحا جداً ولا أن تكون القصيدة مسطحة مثل حدوه حصان، لا تكون معتمة كطلسم, فالقصيدة عندي لها وظيفة ولتكن كيفما تشاء كلاسيكية أو نصا مفتوحا أو نصا نثريا  أو شعر تفعيلة أو قصيدة رقمية – سمها ما شئت – المهم أن تصل إلى هدفها أو تساهم في إضاءة ما هو معتم في حياتنا، وإن تساهم في نصرة الحق، والحق واضح؛ فيجب أن تكون القصيدة واضحة “. وحول صدق مَا يبوح بِه فِي نتاجه الشعري، يستحضر السَماويّ قولاً للروائي الأميركي الشهير الفائز عام 1949م بجائزة نوبل في الأدب وليام فوكنر ” 1897 – 1962 ” الَّذِي يُعَدّ واحداً مِنْ كبار الأدباء فِي القرن العشرين، وَالَّذِي نصه  ” لا تخف أبداً أن ترفع صوتك من أجل الحب والصدق والحقيقة ومن أجل التعاطف ضد الظلم والكذب والطمع، فلو فعل كل الناس ذلك ، فسيتغير العالم “، حيث يقسم السَماوي يحيى برب العزة والجلال أنَّ سرّه كجهره، وأنّ ما يخطّه مداده إنْ هو إلآ ما يقوله قلبه مؤكداً بالقول : ” أقصى ما أتمناه من غرسي لزهور الشعر، هو رضى الأحبة الطيبين والمساهمة في تأصيل ثقافة المحبة “.

 

بُــلِــيْــتُ بـمُــسـتــلــذَّاتِ الـلــيــالـي

فـكـنـتُ ضـحِـيَّــتـي .. فـأنـا وَبـالـي

*

وأغـوانـي الـشــبـابُ .. فـلـيـتَ أنـي

قـفـزتُ مـن الـشـبـابِ الـى اكـتـهـالِ

*

تـحَــرِّضـنـي خـطـايَ عـلـى دروبٍ

تُــقــايــضــنـي الـحـجـارةَ بـالـلآلـي

*

لَـهَـوْتُ عـن الـصـبـاحِ بـأنـسِ لـيـلٍ

وبـالــكـأسِ الــسَّـرابِ عـن الــزلالِ

فِي نهاية عام 2017م، وَعَلَى هامش حضور السَماويّ يحيى مهرجان النور الثامن للإبداع الَّذِي أقامته مؤسسة ” النور ” للثقافة والإعلام فِي مدينة مالمو السويدية وحمل اسْمه ” دورة الشاعر الكبير يحيى السماوي “، نظم لَه تيار الديمقراطيين العراقيين فِي الدنمارك أمسية ثقافية فِي ” بيت النخلة ” بكوبنهاجن، وقد استثمر الكاتب وَالصحفي العراقي الرائد رعد اليوسف المقيم فِي الدنمارك، وَالمشرف على ” شبكة الإعلام فِي الدنمارك ” فرصة وجود السَماويّ يحيى هناك، فأجرى مَعه حواراً نشر بشبكة الإعلام فِي الدنمارك ومجلة الف باء وجريدة المشرق. وقد وجدت مِن المناسب أنْ أقتطف مِنْ مقدمته ما أعده شهادة لليوسف فِي السَماويّ، وَالَّتِي نصها ” لم يهرب من الطرقات، ولَم يتخلّ عن الارصفة والحارات وبساتين السماوة ونخيلها.. ولم يترك بغداد ومقاهيها وأحباءه فيها؛  فهو الوفي الذي طالما سجل وفاءه في قصائده شعرا، ونسجه في علاقاته واقعا “. وَيضيف اليوسف فِي مقدمته أيضاً ” القسر غير الاختيار، وفِي لجة الغرق وجد نفسه مضطرا لقبول النجدة من زورق عابر يقيه شر الموت، فركب بعد أن حملَ الوطن .. كل الوطن في قلب بحجم قبضة اليد، ليكون له الفضاء الذي تسبح فيه روحه اللائبة في غربةٍ لم تعتد عليها…انه الشاعر العراقي الكبير الاستاذ يحيى السماوي الذي قطع البحار ليلتقي أصدقاءه وشركاءه في الغربة وحب الوطن، في مالمو السويدية قادما من استراليا؛ ليتلو بشيء من القداسة بعض قصائد الحب والجمال، وليصب جام غضبه وسخطه على الذين حطموا الأمل في العراق “. وَفِي السياق ذاته يشير الدكتور ابراهيم الخزعلي إلى شخصية السَماويّ يحيى بالقول ” تحية لنبضات قلبك التي لم ارها يوماً، إلاّ شعراً ومحبة وجمالاً سماويا، يحيى الأنسان الخلاق، ويحيى الأنسان المبادئ والقيم والمثل العليا، فتحية وسلاماً لك من قلب انت فيه “. وَعَنْ انبهاره بإحدى قصائد السَماويّ الموسومة ” ثلاثة أرغفة من طحين النبض “، يخاطبه الدكتور جودت صالح بالقول ” لقد أنعشتني رائحة أرغفتك الشهية، ولكنها لم تشبعني أبداً “. وتدعيماً لما ذكره اليوسف، يصفه الناقد المسرحي نعمة السوداني بالقول ” السَماوي رجل ثائر مناضل, يحلق بلغته بأجنحة قوية في عالم الواقع والنضال في الدفاع عن كل شيء يراه يستحق, في عالم الشعر واللغة, يحلق في اللامحدود وهو العليم المكين في ادواته حيث لا يقيده شيء اطلاقا سوى الهواجس التي تؤلمه ويتفاعل معها لينتج لنا ما ينتج من كلمات تحمل فسحة من الاستعارات الشعرية في نصوصه أو لوحاته الشعرية وتستقر اخيراً في قلوبنا “. وَعَن أبويته وَجمال روحه تقول الأديبة عبير آل رفيع ” من يوم فقدي أبي لم أجد إنسانا اقول له أبي ..لأنني لا أرى أحدا يشبهه، وفجأة وأنا اقرأ كلماتك أحسست بشعور جارف يدفعني لأناديك بأبي؛ ليس لكبر سنك، بل لروح الأب لكل الموجودين، وفي حضرة أبي واستاذي يحيى السماوي تتقيد حروفي ويستسلم القلم لأنه لا يجد ما يسطره أمامك، حفظك الله ورعاك أبي واستاذي الفاضل يحيى السماوي “. وَمَا أظنني مبالغاً إنْ قلتُ أَنَّ كُلّ الذي سجلته مِنْ شهاداتٍ ليس بوسعِها انصاف السَماويّ يحيى الَّذِي خاطب ذات منفى صديقه الحميم الأديب حمودي الكناني مبيناً محبته لَه قدر إعجابه بمقولةِ صديق كتب الى صديقه ذات زمان قائلاً : ” إذا كنت ستعيش مئة عام، فإنني أتمنى أن أعيش مئة عام تنقص يوما واحداً؛ كي لا أضطر للعيش بدونك ”

 

لـكِ الألـقُ الـبـهـيُّ ولـيْ الـظِـلالُ

فـنـحـنُ مـعــاً صَـلاةٌ وابــتـهــالُ

*

ونـحـنُ إذانُ مِـئـذنـةٍ تــمـاهـى

بهـا قـلــبــاً وأحـداقـاً ” بـِـلالُ “

*

بَـلـغـتُ مـن الـنـدامَـةِ أنَّ قــلـبـي

بـهِ مـن صـخــرِ مـنـدمـةٍ جـبـالُ

*

تـبـاعَـدْنـا فـصـرتُ الـى مـحـاقٍ

وعـدتِ إلـيَّ فـاكـتـمـلَ الـهــلالُ

***

رسالة مقتضبة بعثتها بالمِرْسال الإلكتروني ” ماسنجر ” إلى الشاعر العراقي الدكتور أفضل فاضل المقيم فِي أستراليا نصها : ”  سيدي الكريم، وقد طال انتظاري لوصول شهادتكم الكريمة بخصوص الأستاذ يحيى السَماويّ، أملي أنْ تشرفني بمداد قلمك عَن السَماويّ إنساناً مَعَ فائق احترامي “؛ ظناً منيّ أني قد رجوته سابقاً التفضل بتسجيل شهادته فِي الشاعر السَماويّ، فما كان مِنه إلا التعبير عَنْ دماثة خلقه واحترامه لقدسية القلم وَفضاء الأدب؛ إذ اجابني بعد خمسة عشر دقيقة فقط بِما نصه ” اهلًا بك استاذي الفاضل، سأفعل بأقرب وقت وتقبل شديد اعتذاري “، مَعَ العرض أنَّ الشخص المكلف سابقاً بهَذِه المهمة، وَالَّذِي لا أرى ضرورة لذكر اسْمه، لَمْ يجبني حتى اللحظة عَلَى الرغمِ مِنْ وعده بتلبية مَا مطلوب خلال أيام. وَفِي وقت تتسابق الكلمات وتتزاحم العبارات لتنظم عقد الشكر وَالامتنان إلى الدكتور أفضل فاضل الَّذِي بعث ليّ بعد يومين رسالة رقيقة كتب فِي مقدمتها ” استاذي الكريم إليك هذه السطور كتبتها بجرة قلم واحدة .. هذه شهادتي عن الكبير يحيى السماوي تقبل تقديري واحترامي “. وَأسجل تالياً شهادة فاضل فِي السَماويّ يحيى الموسومة هكذا تكلم صوفائيل ” طِرْ بهِ، للسماوة ….! “، وَالَّتِي نصها فِي ما مبين تالياً :

( لاينضج من الثمار، ويبقى، كتلك التي لا تطالها يد، المشرئبّة نحو الشمس، المسفرة فوق غصنها في وجه الريح والضوء …

صوفائيل يعرف أنَّ الوَجد موقد، فما اقتبس نارا من موقد غيره، صوفائيل يصطلي ناراً فيوقدُ أصابعهُ العشرة ليُنيرَ ظلمة البياض فوق أوراقه الناصعة .

وهكذا كان، صوفائيلُ السماوة، يكتبُ على الأرض عن القبر فيومض البرق في السماء. كلّما أكثرَ من الشعر زاد مَهيلُ الغمام ركاماً فترى الودق يخرج من خلاله، أقصد من خلال صوفائيل لا الغمام …

صوفائيل السماوة قديم الحزن، عتيقُهُ، تخمّرَ قلبه طويلاً في نقيع الأيام الظالمة … هطلت على روحه عصور من الألم وتمرَّغ جسدهُ في أصقاع شاسعة من التعذيب والاغتراب والفَقد الممضّ حزناً وجورا .. هو يرفلُ بإزارٍ من وهجٍ ترصّعهُ الكلمات، لا رفاهيّة لديه غير هذا القلب الطيب الذي يشي بسومريٍّ قديم تناسلَ صنواً لنخل السماوة، وها هو يعذق محبّةً وخيراً وشعرا …

لتعرفَ صوفائيل، ليس عليك أن تجلس معه، وليس من الضرورة أن تستمع إليه، عليك فقط، حين تراه أن تنظر بقلبك … هو بسيط، مثل دورة المطر في الطبيعة، تماماً؛ مُفَسَّرٌ مثل تراتيل مقدَّسة، وواضح مثل حقل في ربيع؛ وهو كثير، كثيرّ جداً، روحه أخاديد تملؤها الحكايا، عن السكارى والعيّارين والحالمين والموهومين والماضين، وحتى الآتين !

صوفائيل هذا، من السماوة، سومريٌّ ضلَّ عن ( أور )، وما وصل الى ( أكد ) ، ولا حتّى ( سومر )، بل وصل إلينا، فاعْتُقلَ، وعُذِّبَ، وطُردَ، واغترَبَ، وصار أوَّل سومريٍّ يصل أقصى الأرض، بعيداً عن سومر، وسيكون الأخير …

في شعره، وهو يكتب عن الحياة والموت والقبر والصبابات، طعمُ البلَح؛ ونخيل، يمخر شوارعاً من ماء؛ في شعره، وهو يدوّن اللوعة أمام جبروت الرحيل، لآلئ، تكنُّ عصوراً من أسىً شفيف، يتكوّر مثل مُضغات أجنّة تشعر بالبرد، أو مثلما كان يتكوّر هو في ليالي سجنه الباردات على نفسه … لا دفء لصوفائيل إلا من حناياه !

أتمتع الى حدّ السُكر حين أقرأ قصيدة صوفية ليحيى السماوي؛ أقصد صوفائيل ……!

فمرحى لهُ ولي، بمعرفته ورفقته وشعره …..)

 

شـفـيـعـي لـو جَـنـحـتُ عـن الـصَّـوابِ :

جــنــونُ الــشــوقِ لا نَــزَقُ الــشـــبـابِ

*

مَـحَـضـتُـكِ فـي الـهـوى قـلـبـاً وعــيـنـاً

وحـرفــاً ـ فـي الــصَّـبـابـةِ ـ لا يُـحـابـي

*

أنـامُ عــلــى ســـريــرٍ مــــــــن هـــيــامٍ

وبـيْ شــوقُ الـضـريـرِ الــــى الـشِـهـابِ

*

لــئــنْ أنـجـيْــتِــنـي مـن جَـمــرِ يـومـي

لأغــدوَ كــالــصَّــلاةِ مــــــــن الــثــوابِ

 

أَمْرٌ مُسَلَّمٌ بِهِ أَنَّ مفهومَ الوطن يرتبط بذاكرة الأماكن الَّتِي تسكن وجدان الانسان، مَا يعني أَنَّ الحنينَ إلى الأمكنة يُعَدُّ حنيناً لأشخاص ارتبطتْ بهم ذاكرة السَماويّ الَّتِي أتعبتها سنوات المحنة؛ الأمر الَّذِي ألزمني البحث عَما متاح مِنْ تلك الأسماء اللامعة فِي سماء الأدب، وَالَّتِي مِنْ بَيْنَها الشاعر العراقي ناظم الصرخي الَّذِي يقول فِي شهادته مَا نصه ” بداية تعرفي على الشاعر الكبير الأستاذ يحيى السماوي كانت في أحد مهرجانات الجامعة المستنصرية الشعرية في السبعينيات الميلادية، وكان قد ظُلم من قبل لجنة التحكيم لوضع قصيدته وهي من شعر التفعيلة بالمركز الثاني مع العلم أنها نالت إعجاب جميع الحضور وتستحق المركز الأول، لكنّ اللجنة ارتأت غير ذلك لسببين، أولهما أن القصيدة كانت ذا منحىً سياسي يساري، وثانيهما أن السماوي كان قد قدّم الى لجنة فحص النصوص قصيدة غزلية، لكنه قرأ قصيدة أخرى مختلفة تماماً، إلا أن تحيّز لجنة الحكام كان واضحًا، على إثرها استشاط غضبًا وهمّ بالخروج من القاعة الغاصة بمحبي الشعر، فاعترضته وأتذكر قولي له: لا عليك فلقد حصلت على إعجاب كلّ الحاضرين. وبعد ذلك تابعت نصوصه المنشورة في المجلات والجرائد، وتسير عجلة الزمن إلى بداية الثمانينيات لألتقيه في مدينة البصرة إبّان الحرب العراقية الإيرانية، كنت حينها ضابطاً في إحدى الوحدات، وقد وصلت إلينا وجبة من الجنود الاحتياط، وكان الأستاذ يحيى من ضمنها، وعند التدقيق لسحب أصحاب الحرف والمهارات التي تستفيد منها الوحدة وإرسال الباقين إلى الخطوط الأمامية، لمحت وجهه الغائم آنذاك وأيقنت أن هذا الوجه ليس غريبًا على ذاكرتي، فقلت له ما هو اختصاصك، فقال أنا مدرس خريج كلية الآداب، فقلت له ألست الشاعر …، قال نعم …أتذكر أنه ارتبك قليلاً وكأنه يقول في نفسه : حتى إلى هنا تبعتني البلاوي، فعينته في مكتب الوحدة، وكان نِعمَ ما اخترت؛ إذ كان دمث الخُلُق، نزيها، جاداً في عمله ومثابرا، حيث أضاف للمكتب قفزة نوعية في التنظيم والإدارة. وقد كان لخفة ظله وثقافته وأخلاقه العالية وتعاونه الأثر البالغ في التفاف منتسبي الوحدة حوله، فتقرّب أكثر إلى قلبي، ولاسيما أنّ رابطًاً سامياً كان يعزز هذا التقارب وهو محبة الشعر المشتركة، فكثيرا ما كنا نجلس سوية لمناقشة قصيدة أو قطعة أو يقوم بإبداء الملاحظات على قصيدة كتبتها، وقد استفدت كثيراً من وجوده في مجال الأدب وخاصة الشعر. كان حسن السيرة والسلوك ولا تشوبه شائبة، هذا ما كنت أكتبه عندما يُطلب مني تقييمه للمراجع العليا وهو كان كذلك، رجلٌ ملتزم بالقانون ثائرٌ على الباطل، أحمد الله أني التقيته في زياراته للعراق بعد الاحتلال المقيت وكان نعم الأخ والصديق الصدوق “. وَبالعودة إلى أيامِ امتهانه التدريس فِي مدينة السَماوة، وجدت مِن المهمِ الاطلاع عَلَى مَا تكتنزه ذاكرة أحد طلبته فِي المرحلة الثانوية وَصديقه حالياً الشاعر العراقي قاسم والي؛ لكي يدلي بدلوه فِي هذه المهمة، فبادرت إلى الاتصال بِه لِهَذَا الغرض، فكان ودوداً وَرائعا وَفرحاً بما رجوت منه؛ إذ بعث ليّ بعد أيام قليلة بشهادته فِي السَماويّ يحيى الَّتِي نصها ” يحيى السماوي الشاعر الذي ملأ بالسماوة الآفاق، والشاعر الذي منحته السماوة اسمه فمنحها فخرها.. اكتب هذه الكلمات ليس لأنني من السماوة ذاتها؛ وليس لان يحيى السماوي أستاذ العربية الذي تتلمذت عليه في مقتبل الوعي والشعر؛ بل لأنني منحاز تماماً للسماوي يحيى، ولست هنا لأبرر انحيازي له شاعراً وإنسانا؛  فالسماوي الشاعر الذي أنجز عشرات المجاميع الشعرية منذ عيناك دنيا وهو في مقتبل الشعر والعمر لغاية اطفئيني بنارك مرورا بهذه خيمتي فاين الوطن ونقوش على جذع نخلة وشاهدة قبر من رخام الكلمات وضفتان ولا جسر وغيرهن من مجاميعه الشعرية، كان ملتزما بقضية الإنسان والعراق ومحارباً عنيداً للفاشية ومنحازاً للكادحين والمظلومين ومنساقاً مع هواجس ملهميه من الشعراء الثوار الفقراء منذ عروة بن الورد. ومع كل المحمولات الفكرية والعقائدية في شعر السماوي وكل الصدق والثبات المبدئي الذي هو عليه، لم ينحرف الشعر عنده باتجاه التقريرية الفجة أو المباشرة الهجينة، بل إنه في طليعة المجيدين من شعراء العربية المعاصرين  في المباني والمعاني مع جزالة مذهلة وجمال يأخذ بالألباب.. لست في وارد الحديث عن شعر السماوي الكبير فلست مؤهلاً لذلك ولا املك ادوات النقد والحديث عن التجربة وغيري من عشرات المتخصصين اغنوني وأغنوا المكتبة العربية، بل ومكتبات العالم بالحديث عن شعريته المذهلة وتجربته الفريدة. لقد كتب السماوي في كل الأغراض الشعرية واستوفاها محلقاً، كما كان شعره من الناحية الشكلانية مسبوكاً بكل الأنساق البنائية المعروفة للشعر العربي كتب عمود الشعر والشعر الحر- قصيدة النثر- والتفعيلة وأجاد فيها جميعها أيّما اجادة. ومن الرائع أن تجربة يحيى ألسماوي ما زالت متواصلة، ونسأل الله أن نستمتع بها وتستمتع بها الأجيال اللاحقة …محبة بسعة المحبة التي يحملها قلب السماوي الكبير له وللعزيز لطيف عبد سالم الذي طلب مني أن أكتب بضعة سطور عن السماوي يحيى أطال الله عمره.. شكراً كثيرا “.

 

بـربــيـعِ مـائِـكِ لا خـريــفِ تــرابي

نـسَـجَــتْ لـيَ الأيـامُ ثــوبَ شَــبـابِ

*

ودَّعـتْ أمـسي في السـمـاوةِ فـابْـتـلى

يــومـي بِــداءِ الــشــوقِ لــلأحــبــابِ

*

تـذكـو بـأشــذى الأغـنـيـاتِ ربـابـتـي

ويـبـلُّ طـيـنَ فــمـي رحـيـقُ رضـابِ

*

لـم يـبـقَ في الـقـنـديـلِ غـيـرُ حـثالـةٍ

مـن زَيْــتِ أيــامٍ وومْــضِ شِــهــابِ

**

عَلَى الرغمِ مِنْ زحمة أشغاله الَّتِي أدركها جيداً، وجدت أنَّ الإعلاميّ العراقي والصحفي الرائد أسعد كامل رئيس تحرير شبكة الإعلام في الدنمارك قد أبدى حماسة وهو يرحب برجائي كتابة شهادته فِي السَماويّ يحيى، مُردداً في أثناء حديثي معه بالهاتف أنَّ السَماويَّ لم يكن شخصاً عادياً، فهو يتمتع بكاريزما مشهودة، ثم مَا لبث أنْ بعث ليّ بشهادةٍ وسمها بـ ” السماوي .. الانسان والشاعر “. وَالْمُلْفِتُ أَنَّ كامل اعتمد أسلوباً مستمداً مِنْ خبرة فنية واسعة فِي التصوير والمونتاج فِي تسجيلِ تلك الشهادة، وَالَّتِي بدأها بتوطئة قال فِيها ” عندما تفكر أن تكتب عن شاعر وكاتب مبدع ذي شهرة واسعة، تخطر في بالك بداية فقرات متباينة مصورة من نواحِ عدة أهمها الإنسانية والوطنية والوجدانية والاجتماعية والإبداعية والفنية. ويقيناً أنَّ المجالَ في هذه الدراسة لا يتسع لتناول كل تلك الصور والكتابة عنها، حيث أنَّ بوسعكَ أنْ تأخذ جانباً من تلك الصور؛ نتيجة حاجة كل صورة لبحث مفصل أو بحوث موسعة تتعلق بشاعرية الشاعر السماوي، الأمر الَّذِي ألزمني الحديث عما لمسته من إنسانيته ولو بشكل موجز، آملاً أنْ اقترب في هذه السطور من حقيقته كشاعر وإنسان مع علمي إنَّ ذلك صعب المنال “. ويضيف كامل قائلاً ” التقيت الشاعر يحيى السماوي مرتين في السويد والدانمارك، وحضرت له مهرجانا شعريا، وسمعت قصائده وهو يلقيها على المنصة في السويد أواخر عام 2017 م، فهيمن على المشهد بشاعريته وعظيم اخلاقه وطيبته، فالسماوي يتمتع بدماثة خلق رفيع، اقترنت برفعة مستوى عطائه في الشعر “. ويستمر كامل فِي شهادته بِمَا نصه ” السماوي حلق في سماء الابداع والتميز منذ صباه وشبابه؛ اذ استطاع ان يجسد موهبته بطريقة لفتت الانتباه من حيث القدرة في رسم صور شعرية إنسانية – ببراعة وفن نادر – شكلت الانطلاقة الرصينة التي حققت له نجاحات عظيمة طوال رحلته مع الشعر في الوطن والغربة… هكذا قرأناه إنساناً وشاعراً راقيا، فقصائده مليئة بالحب ومتميزة بالحان وفن وروحية عظيمة تدعو الى الحب والحياة، وتحارب الفساد والظلم “. ويختم كامل حديثه بالقول ” إنسانية السماوي تعبر عن  معدن أصله وأصالته؛ إذ يعد نموذجاً حضارياً وإنسانياً راقيا، فهو إنسان متواضع يترك اثراً في قلب من يلتقيه، وفي كل محفل تجد له مساحة كبيرة من المعجبين؛ لأنه يلامس قلوب الجميع بما يكتب ويعالج من قضايا كثيرة في قصائده التي تحمل العبر والمواعظ والتفكير في هذه الحياة التي لن تدوم لأحد “.

 

بـاتَ الـمُـغــنّـي يَــتــيـمَ الـصـوتِ والـوَتَـرِ

كــيــف الـغــنــاءُ إذا الأوتـارُ مـن حَـجَــرِ ؟

*

أضـحـى يُــنـادمُـهُ صــمــتٌ ويُــؤنِــسُــهُ

مـا كـان يَـكـنـزُ فـي الأحـداقِ مـن صُـوَرِ

*

تــلـهــو بــزورقِـهِ ريــحٌ تُــشِــبُّ لـــظـىً

وقــد تــقــادَمَ عــهــدُ الـحـقـلِ بــالــمــطــرِ

*

لـيـتَ “الـسماوةَ” بُـعْـدَ الـشـمسِ عـن مُـقـلـي

لا بُـعـدَ قـلـبي ومَنْ في الـقـلـبِ عـن نظري

***

شهادةٌ ترقى لمستوى الدراسة التاريخية، أعدها الباحث وَالمفكر الإسلامي الدكتور صالح الطائي؛ مستجيباً فِيهَا لرجائي محاولة نبش الماضي الَّذِي جمعه بالسَماويّ يحيى، وَمَا يحمله مِنْ الذكريات بحلوها وَمرّهَا، بعد أنْ لمست مِن السَماويّ ذات متنبي قُوَّة آصِرَة الصداقة القديمة المعقودة بينهما عَلَى الرغمِ مِن تباين توجهاتهما وانتماءاتهما الفكرية، وَالَّتِي فرضت عَليه خلال زيارته البلاد عام 2017م، تأجيل موعد عودته إلى عائلته فِي أستراليا الَّتِي كانت تلح فِي طلب عودته، بالإضافةِ إلى إلغاء بعض نشاطاته الثقافية؛ لأجل تحقيق اللقاء بصديقه الحميم الطائي فِي منزله بمحافظة واسط.

الطائي الَّذِي كتب ذات مرة عَنْ السَماويّ يحيى واصفاً إياه بالقول ” صديق العمر الرائع وزميل أيام الفرح والشباب الذي أنجز شموس فرح أشرقت في دنيانا بالرغم من حالة اليأس والغربة والعذاب التي عاشها منذ مرحلة وعيه الأولى وإلى اليوم “، يشير فِي مقدمةِ دراسته المذكورة آنفاً، وَالموسومة ” تجربة الصداقة مع يحيى السماوي ذكريات من ألق الشباب “، إلى الْهَوَاجِس الَّتِي ألقت بظلالها عَلَى حياته، وكانت تؤرقه أثناء انتظامه فِي مرحلة الدراسة الجامعية، فضلاً عَنْ ظروف تعرفه عَلَى السَماويّ يحيى بالقول : ” انتقلت من إحدى مدارس مدينة الكاظمية إلى كلية الآداب في الجامعة المستنصرية الدراسات المسائية في بداية العقد السابع من القرن الماضي، كان عنفوان الشباب المنضبط بمنظومة القيم الدينية التي تشبعنا بها محركنا الأكبر مثل أي شاب ينتقل من مدينة دينية شبه مغلقة إلى عالم رحب متنوع مفتوح ومتفتح. وقد انتقلت معي إضبارتي الأمنية، لأصبح تحت رقابة الأمن الصدامي والاتحاد الوطني البعثي لطلبة العراق؛ لذا كنت حذراً في تعاملاتي، محدود العلاقة بالآخرين، متجنباً الاحتكاك، وبعيدا عن العلاقات الاجتماعية مع الطلاب والطالبات، ولكن أحد الشباب كان يحمل قسمات الطيبة الجنوبية والملامح الأوربية أخذ بتلابيب قلبي وشدني إليه، كان شاباً نحيفاً لون شعره يميل إلى الصفرة، عيونه ملونة ويرتدي بذلة لطيفة ويتكلم بهدوء شديد ولطف كبير، فتجاوزت كل المحذورات وكل الخطوط الأمنية الحمراء، لأعقد معه صداقة من نوع خاص “. وَيسترسل الطائي فِي حديثه مبيناً بعض خفايا المحنة الوطنية الَّتِي باتت مِنْ مواجع الأمس القريب البعيد، وَالَّتِي تلزم البيت الثقافي الشروع بتوثيق أحداثها بِكُلّ أمانة؛ لأجلِ أنْ تطلع الأجيال الجديدة عَلَى مَا يكتنزه زمن العذابات مِنْ همومٍ متزاحمة الصور، حيث يشير الطائي إلى تلك الحقبة بأمانة الراصد لبعض تداعيات وقائعها بالقول: ” كانت ممرات المستنصرية ومساءاتها الحميمة والمليئة بالترقب تجمعنا سوية لنتناول الحديث عن هموم الشباب وهموم الأمة، وكانت عيون البعثيين ورجال أمنهم ترصدنا كأنها عيون ذئاب جائعة، وتحتار في أمرنا حيرة لا تطاق، حيرة أقلقتهم وأقضت مضاجعهم، إذ كيف يلتقي حامل الفكر الديني الذي من المفروض به أن يكون عدواً لكل ما لا يمت إلى عقيدته الدينية بصلة بحامل الفكر الماركسي، والذي يتهيب عادة من الفكر الديني بعد المواقف التي اتخذتها المؤسسة الدينية ضد الشيوعية، فأي صداقة تلك التي تجمع بين إسلامي مطلوب للأمن ومراقب من قبل الأجهزة الأمنية والطلابية، وشيوعي مشخص ومراقب أيضاً من قبل الأجهزة ذاتها ؟ّ! “. وَينتقل الطائي فِي متنِ شهادته إلى تبيان السر الناظم لصداقتهما المبهرة، وَالَّتِي أكاد أجزم بأنَّ صفاتها ترقى الى مستوى طهارة القلوب المفعمة بالمروءة وَالمودة وَنقاء السريرة، حيث يؤكد الطائي قائلاً ” إن أدب واتزان وعقلانية وتميز يحيى عن باقي الطلاب لم تكن وحدها العوامل التي مهدت لي طريق الالتقاء به، فتلك المواصفات الرائعة كانت تخفي وراءها سرا لم يكن يحيى يرغب البوح به، ولكنه اطمأن إلي وباح به أمامي، السر أن يحيى كان يقول الشعر، وله ديوان مطبوع، ولذا فاجأني في اليوم التالي، بأن أهداني ديوانه الرائع – عيناك دنيا – الذي كان من خلال قصائده يتغزل بالسماوة وأهلها. وهنا وجد الحديث عن الشعر حيزا ضمن حواراتنا اليومية، وربما كان هو الشيء الوحيد الذي نتحدث عنه بصوت مسموع لنوهم الرقباء بأننا لا نهتم بغير الشعر “.

أيـن شـطـآنـكِ مـنـي ؟

 

جـئـتُـكِ  الـلـيـلـةَ عـصـفـوراً طـريـدَ الـرَّوضِ

 

مـهـدورَ الـمـواويـلِ

 

افـتـحـي عـشَّـكِ لـلـقـادم مـن كـهـفِ الـمـراثـي  …

 

مَـرَّ  دهـرٌ

 

ومُـغَـنِّـيـكِ حـبـيـسَ الـعـطـشِ الـوحـشـيِّ

 

لا الـيـنـبـوعُ يـرويـهِ

 

ولا كـأسُ نـمـيـرٍ ومُـدامْ

*

لعلَّ المذهلَ فِي أمرِ صداقتهما أَنَّ السَماويّ – الموضوع تحت المراقبة السرية – ألزمته الظروف التحول داخل فضاء الجامعة    المستنصرية إلى رَقِـيب لِصاحِـبِه. وَعَنْ هَذِه الحقيقة أكدها ليّ السَماوي أيضاً يقول الطائي : ” مساءات المستنصرية كانت تأخذنا أحياناً إلى مكان يكاد يكون خافيا عن أعين الرقباء، اتخذته مصلى، أؤدي فيه فرض المغرب، وكان يحيى السماوي يأخذ دور الحارس بعيداً عني يرقب تحركاتهم فإذا شعر بالخطر تنحنح لُيسمعني ويحذرني؛ فأقطع صلاتي وأخرج دون أن ألفت انتباههم. والظاهر أن هذا النوع من العبادة كان يمتاز بألق روحي غامر فلقد افتقدته بعد مفارقة يحيى، ولم أشعر به إلا أثناء أداء صلاتي عند السواتر الأمامية في أيام القادسية الملعونة، ولكن مصدر الخوف هذه المرة كان القناص وقذيفة المدفع التي تتطاير شظاياها من حولي فتشعرني بالخوف. المهم أن اللقاء اليومي كان السمة المشتركة بيننا إلى أن تخرجنا من الجامعة، دون أن يأخذ أحدنا عنوان صاحبه، ربما لحذرنا أو لشعورنا أن ذلك قد يشكل خطراً علينا في وقت ما “. ويتابع الطائي حديثه قائلاً : ” بعد أن أنهيت الخدمة العسكرية الإلزامية على مدى عام كامل، تكررت دعوات الأمن الصدامي الموجهة لي، حيث كان يأتيني عادة شخصان ليطلبا مني مرافقتهم إلى مديرية الأمن العامة لمدة خمس دقائق فقط، للإجابة على بعض الاستفسارات، لتمتد هذه الدقائق الخمس إلى أيام وشهور، وقد دفعني هذا الأمر إلى تقليص علاقاتي بالآخرين إلى مستوى لا يشكل خطراً علي أو عليهم، ولذا لم أتمكن من لقاء يحيى أو زيارته، بل لم أفكر جدياً بذلك حتى حينما كانت الفكرة تطرأ على بالي، نظراً للمخاطر التي كانت تحيط بي، ولاسيما أن الرقابة عليَّ كانت شبه دائمية، تنقطع لعدة أيام أو لأسابيع، لتعود من جديد، لكن تغيير محل سكناي عدة مرات، وضعف سلطة البعث بعد الهزيمة والحصار، وأخيرا عدم تزويدهم بالمعلومات التي تخدمهم في استمارة الجرد التي كانوا يوزعوها علينا ويأمرونا بملء حقولها، مكنني من التحرر من رقابتهم “.

يَبْدُو أنَّ شوقَ الطائي الشديد للقاء صديقه السَماويّ، أملى عَليه المجازفة بحياته؛ إكراماً لتلك الأيام الجميلة الَّتِي قضياها فِي رحابِ الجامعة، حيث يبين الطائي تلك الحادثة بالقول : ” في عام 1996م تحديت مخاوفي، وسافرت إلى السماوة بعد منتصف الليل على أمل أن أصلها فجراً، حيث تكون عيون الأمن غير نشطة في مثل هذه الساعات؛ لأبحث عن يحيى بين أهلها. ورغم أن المدينة صغيرة، وأهلها يعرف بعضهم بعضا، إلا أني لم أعثر على من يدلني عليه، بل إن جميع الذين سألتهم عنه، أنكروا معرفتهم به، كان بعضهم ينظر إليّ بعين الشفقة، لدرجة أني كنت أتوقع أنه يريد تحذيري من شيء لا أعرف كنهه، وبعضهم ينظر إلي بعين الغضب. ولما أشتد سؤالي وإلحاحي، تبعني أحد الرجال الطيبين، وقال لي: بني لا تبحث عن يحيى، فقد نفذ فيه حكم الإعدام، لقد أعدموه، مات يحيى، فعد إلى بيتك، فسارعت حينها بالعودة إلى بغداد، وعلى طول الطريق الفاصل بينها وبين السماوة، كانت صورة يحيى ترتسم أمامي .. ضحكته .. طيبته .. أخلاقه وقيمه؛ ولذا كنت أبكي بصمت ولكن بحزن عميق يحرق الفؤاد “. وَتمر الأيام وَالطائي الَّذِي يهمس فِي قلبه حزناً صامتا حتى يكاد يحطمه، تزيده ذكرياته عَنْ السَماويّ ألماً، ولنقرأ ما كان يشعر بِه الطائي يومذاك، وَالَّذِي يصفه بالقول : ” ومنذ ذلك التاريخ، أصبح يحيى عباس السماوي مجرد ذكرى أليمة تنام في خاطري، مع ذكريات إخوتي وأقربائي وإخوة زوجتي الذين أعدمهم النظام المجرم، ولكن ذكرى يحيى من دونهم كان يستفزها ذكر اسم السماوة أو اسم يحيى أمامي. وبالرغم من مرور أكثر من اثني عشر عاما على تلك الواقعة إلا أن رؤيتي عن طريق المصادفة قصيدة لشاعر أسمه يحيى السماوي في أحد المواقع بشبكة الإنترنيت عام 2008 مرفقة بصورة لا تشبه أخي الذي أعرفه، أو بقايا صورته في خيالي ولاسيما وأن عيوني كان قد أصابها الضرر الكبير على يد تنظيم القاعدة الإرهابي بعد أن خطفوني وحبسوني لمدة ثلاثة عشر يوما ساموني خلالها أسوأ أنواع العذاب، مما أفقدني إحدى عيني وألحق ضررا كبيرا بالثانية، تلك الملابسات لم تسعفني بالتدقيق في ملامح الصورة المرفقة بالقصيدة، رغم أني كنت أتوسم ملامح يحيى في الصورة التي أمامي وبشكل غريب. وقد ألحت علي الذكرى التي أيقظتها رؤية الصورة والاسم، فقمت بمراسلة الموقع لأسألهم إن كان اسم هذا الشاعر يحيى عباس السماوي فلم يجيبوني، ثم أرسلت لهم رسالة ثانية وثالثة، ولكنهم لم يعيروني اهتماما. حينها لم أكن أعرف الكثير عن الإنترنيت، ولذا لم أبحث في مواقع أخرى، لكن بعد مرور عام كنت أتصفح موقع صحيفة المثقف فعثرت على قصيدة لنفس الشاعر مع صورة جديدة، لا تختلف كثيرا عن سابقتها، فبادرت بمراسلة الموقع، مستفسرا منهم عن الشاعر صاحب الصورة، لتردني منهم في اليوم التالي رسالة يخبروني فيها أن يحيى استلم رسالتي وفرح بها وسيرسل لي الجواب. إذاً هو أخي يحيى السماوي لا زال حيا ولا زال شاعراً يا للعجب!. وهنا لا يسعني أن أصف لكم نوع المشاعر التي انتابتني حينها، كانت عيوني تذرف الدموع بشدة وجسمي يرتعش بعنف حتى خاف علي أولادي، وكنت أضحك وأبكي في الوقت نفسه. ومنذ ذلك التاريخ وعلاقتي بيحيى تزدهر وتنمو حيث عادت الحياة لجذور محبتنا القديمة وأورقت أغصانها، وكان يعدني بزيارة إلا أنه لا يحصل على فرصة لتستمر علاقتنا عبر الرسائل والمداخلات عشر سنين أخرى دون أن يرى أحدنا الآخر، لكن في بداية عام 2018 تحققت الأمنية الكبرى يوم رأيت يحيى يقف أمامي والدموع تتنافر من عيوننا ، وكأنها تذكرني بدموع سفرتي إلى السماوة “.

*

مُـطـفـأ  الـضِّـحـكـةِ

طـفـلاً

شـاخَ مـن قـبـلِ الـفِـطـامْ

ضـائِـعـاً أبـحـثُ عـنـي

بـيـن أنـقـاضـي ومـا خَـلَّـفَ أمـسـي

مـن رُكـامْ

أيـن شـطـآنـك مـنـي ؟

دَورَقـي تـمـلـؤهُ الـريـحُ وكـأسـي فـاض صَـمـتـاً

والـرَّبـابـاتُ حُـطـامْ

*

يختم الطائي شهادته – الَّتِي حرصت عَلَى عدم اقتطاع أجزاء مِنها؛ لأهميةِ مضمونها مِن الناحية التاريخية – بِالحديث عَنْ بعض مآثر السمَاوي الَّتِي ازدحمت فِي ذاكرته المتعبة بالقول : ” من يريد التحدث عن يحيى الشاعر والإنسان والمناضل لا يحتاج إلى جهد كبير إذ يكفي أن تقرأ أي قصيدة من قصائده لتعرف مقدار وطنيته وحبه للعراق والعراقيين، وتشعر بتلك الرغبة الجامحة التي تدفعه للعودة إلى الوطن. لقد نجح السماوي في تصوير معاناة الغربة ببكائيات ووجدانيات قلما تجد لها شبيها بالمستوى والمضمون والصنعة، رسمت حقيقة شعوره الفياض، أما باقي قصائده فتجد فيها نفس نكهة خلق  ذلك الشاب الجنوبي المؤدب الخجول الطيب ابن جيل السبعينيات الذي كان يحسب للكلمة حسابها وللمفردة مداها ومساحتها ولا يلقي الكلام جزافا ولا يقول إلا ما ينفع… السماوي بعطائه الثر الغزير ثروة وطنية ثمينة جدا لم تلق من المسؤولين العراقيين من يعتني بها ويستفيد من خبراتها كما هو ديدننا في التعامل مع كل ثرواتنا الأخرى في الوقت الذي لم يبخل الآخرون  في تعاملهم مع إبداع يحيى، سواء في تناول شعره بالدراسة ودواوينه بالنقد، وترجمة ما يقوله إلى اللغات الأخرى، أو في تناول تجربته في الحقل المعرفي للحصول على الدرجات العلمية في دراسة الماجستير والدكتوراه؛ لذا أعتقد أنه آن لهذه النخلة الغريبة أن تعود لبستانها ولهذا الجسد المتعب والشعور المرهف أن يستريح على ربى العراق، وآن للحكومة ووزارة الثقافة العراقية أن تحتضن هذا الرجل الشاهق الباسق وتضعه في المكان المناسب له لكي يفيض محبة للعراقيين تجلي عنهم بعض هموم يومهم القاسي …عمراً مديداً لصاحب الكلمة الصادقة يحيى عباس السماوي ولكل من يخلص للعراق ويريد تخليد رموزه أحياء بعد أن تعودنا على تأبينهم أمواتا، وليبقى السماوي طائرا غريدا يشدو للطيبة وللعراق والعراقيين وكل الطيبين في الكون “.

ثمَّةَ سؤال يجول فِي خاطر بعض أعمدة البيت الثقافي أو المنتمين لَه حول علاقة السَماويّ يحيى بشاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري ” 1899 – 1997 ” طيب الله ثراه، بوصفِه أحد تلامذته، مَعَ العرض أَنَّ ذلك السؤال تعرض لًه أبا الشيماء فِي أكثر مِنْ مناسبة. وَذاتَ مســـــــــاء ربيعي استثمرت مهاتفته لأسأله ذاتَ السؤال، فأجابني بالقول : ” أعيد الآن مَا قلته سابقاً، إذا كنت أعتبر المتنبي العظيم جدّي الشعري، فإن الجواهري العظيم هو أبي الشعري. وقد حالفني الحظ أن ألتقي أبي العظيم هذا، وأن أكون عكازه في أكثر من لقاء، وأقسم أنني لم أعش فرحا خرافياً كفرحي حين أضاء بيتي في مدينة جدة وبصحبته نجله الأخ الدكتور كفاح وكريمته الدكتورة خيال وزوجها الفنان والأديب المناضل صباح المندلاوي، حيث  كانت أياماً ولا أبهى – لا بالنسبة لي وحدي، إنما وبالنسبة لعائلتي كلها – فلازال دفء يده التي قبلتها – وأنا فخور بذلك – في دمي. ولازلت نادماً ندماً كبيرا؛ لأنني لم أحتفظ بإحدى طاقيات رأسه العظيم وَالَّتِي غسلتها زوجتي، فقد كان الغائب الحاضر أبداً يحمل معه في سفراته أكثر من طاقية “. ويستذكر السَماويّ يحيى بحزن عميق دمعة العملاق الجواهري وهما يتناولان طعام الغداء في بيته بدمشق، حين قال ” لا أشعر بلذة الطعام والشعب العراقي يتضور جوعا بسبب الحصار “. وَعَن كيفية تلقى الدروس مِن الجواهري، يقول السَماويّ يحيى ” يكفي أن أقول لِمَنْ يسـأل : إنني كنت أجثو على ركبتي حين أقرأ شعري أمامه، وكان إطراؤه يُثمِلني فيصل بي فرح الانتشاء حدود البكاء “. وَلَعَلَّ مِن الْمُفِيد الإشارة هُنَا إلى أَنَّ ثَمّةَ معلومة مهمة، قد تكون غائبة عَنْ البعض، وَهي أَنَّ السَماويّ يحيى هو مَنْ أطلق عَلَى الجواهري مسمّى ” نهر العراق الثالث “، وقد حدث ذلك أثناء إلقاء السَماويّ كلمته فِي الحفل التكريمي الَّذِي أقامه للجواهري منتدى ” الإثنينية ” فِي مدينة جدة السعودية بتاريخ ” 3/11/1415هـ الموافق 3 نيسان 1995م “، مَعَ العرض أَنَّ مجلةَ ” الأربعاء ” نشرت تلك الكلمة عَلَى صفحاتها، بالإضافةِ إلى نشرِ فقرات عدة مِنها فِي صحف عديدة مِنْ بَيْنَها صحيفة الشرق الأوسط. وَأَمْرٌ شَدِيدُ الأَهَمِّيَّة أَنَّ الجواهري قد سُرّ بهذا اللقب فقال لصهره الفنان الأديب صباح المندلاوي وبحضور كريمته الدكتورة خيال : ” إنه أعزّ الألقاب إلى نفسي “.

*

لا الـنـدى يـلـثـمُ أزهـاري

ولا يُـغـوي فـراشــاتِ صَـبـاحـاتـي

أقـاحٌ وخُـزام

عـازفـاً  عـن عـسَـلِ الـلـثـمِ

وتُـفّـاحِ الـكـلامْ

هـاربـا

مـن زحـمـةِ الـصَّـمـتِ الـى ثـرثـرةِ الـمـوجِ

وفـانـوسِ الـظـلامْ

أيـن شـطـآنـكِ مـنـي ؟

صـادقـاً كـان سَــرابُ الـنـخـلِ فـي الـواحـاتِ

والـكـاذبُ نـهـري والـغـمـامْ

خـبِّـئـي يـاقـوتَ عـيـنـيـكِ …

احـذري الـنـورَ

فـأصـحـابُ الـحـسـامْ

أصـدروا الـفـتـوى بـتـحـريـم الأراجـيـحِ

وتـكـفـيـرِ أغـانـي الـعـشــقِ

أضـحـى كـلُّ مـنـبـوذٍ أمـيـراً

وســقـيـطٍ آثِـمِ الأمـسِ إمـامْ

فـادخـلـي الـكـهـفَ

وسـدِّي بـالـصـخـورِ الـبـابَ

حـتـى يـعـبـرَ الـشـارعَ أصـحـابُ الـلـثـامْ

وفـضـائـيُّـو ” بـنـي الـخـضـراءِ “

فـي ” وادي الـسـلامْ “

نـحـنُ فـي عـصـرٍ بـهِ الـعُـهـرُ حَـلالٌ

والـمـروءاتُ حَـرامْ

كُـلُّـنـا مُـتَّـهَـمُ الـنِـيَّـةِ فـي فِـقـهِ الـسـلاطـيـنِ

و ” أصـحـابِ الـمـقـامْ “

نـهـرُنـا مُـتَّـهَـمُ الـمـوجِ بـإرواءِ الـبـسـاتـيـن

وإطـفـاءِ الـضّـرامْ

نـخـلُـنـأ مُـتَّـهَـمُ الـسَّـعـفِ

بـإيـواءِ الـحـمـامْ

قـلـبُـنـا مُـتَّـهَـمُ الـنـبـضِ

بـتـألـيـبِ الـمـواويـلِ عـلـى جـعـجـعـةِ الـحـربِ

وتـألِـيـهِ الـطـواغـيـتِ

وتـمـجـيـدِ الـلـئـامْ

جُـرحُـنـا مُـتَّـهَـمُ الـنـزفِ …

تـعِـبْـنـا يـا عـراقَ الـدَّمِ .. والـدمـعِ .. الـسـبـايـا..

والـنـواطـيـرِ الـنـيـامْ !

***

مِن الأسئلة الَّتِي تتردد كثيراً عَلَى ألسن أساتذة الأدب وَالنقاد  وَالشعراء ما يتعلق بِمَنْ سيخلفه فِي قصيدة العمود، وَالَّتِي يجيب عَلَيها السَماويّ يحيى بعبارةٍ موجزة بليغة، وقع كلماتها الجميلة وَالمؤثرة الَّتِي تنبع مِنْ جمال الروح، يعكس استلهامه لروح الشعر بمستوى أخلاقي عالٍ، حيث يقول فِي هَذَا الصَّدَد ما يلي: ” هذا السؤال أكبر من حجمي “، مضيفاً أيضاً بعد برهة ” لو سألت مَنْ سيخلفني على بيتي وسيارتي ومكتبي ودراهمي المعدودات لأجبت : زوجتي وَأبني علي وبناتي الشيماء ونجد وسارة، أما الشعر، فما أنا  فيه أكثر من مجرد  كلمة غير ذات معنى، كلمة تحاول أن تكون جملة مفيدة في ديوان الشعر العربي “. وَفِي مناسبة أخرى يشير السَماويّ إلى مَا لَهُ صلة بِهَذَا الموضوع قائلاً : ” أظنني سأغفو إغفاءتي الأخيرة وأنا مجرد كلمة، لستُ أفضل شاعرية من غيري، فالشعراء كلهم يُكمِل بعضهم الآخر “. وَمَا أظننا نغلو فِي القول إنَّ شُّعراء اليوم أشد حاجة إلى التمعن بِمَا تضمنته تلك العبارات  مِنْ معانٍ كبيرة، وَالَّتِي سجلها مَنْ ذاعَ صيته ونقش اسْمه فِي سجلِ كبار شُّعراء العربية، وأعني الشَّاعِر واسع الشهرة السَماويّ يحيى الَّذِي تسلق جبل الشِّعْر باقتدار وشموخ، وَالَّذِي قيل فِي شاعريته ودماثة خلقه وحسه الوطني وتواضعه الكثير، وَلعلَّ مِنْ بَيْنَ ذلك مخاطبة الشَّاعِر ناهض الخياط لَه بالقول ” الشاعر الكبير المتألق يحيى السماوي، أنصب خيمتك يا شاعرنا ليؤمك الشعراء من كل مكان “. كذلك وصفه الشَّاعِر يحيى الكاتب بالقول ” الشاعر الكبير يحيى السماوي فخر الكلمة الصادقة والمواطنة الصالحة “، فضلاً عَمَا سجل عَنه الكاتب ذات مرة مَا نصه ” وأنا إذ أغبط الكتاب والنقاد كيف يدخلون في مضامير النقد الأدبي ليجـدوا ضالتهم وأنا لست ناقداً، لكنّني وجدت نفسي هائماً في روحه وشخصيته وشعره وتواضعه؛ ولأن الحظ أسعفني لألتقيه أكثر من مرة ولأسعد بمجالسته والاستماع الى عذوبة كلامه وبعض من تجربته، سيما تتبعت بعضا من أماسيه الجميلة الممتعة، وأكتب هذه المرة بيد مرتعشة؛ مرتهبا مضماره الذي لا يقربه إلا الحريفون والخبراء “، ويضيف الكاتب أيضاً ” ولأنه أكرمني بزبرجدة مكتوب عليها – ثوب من الماء لجسد من الجمر – فتقبّلتها بقبول حسن، ودفنتها بين أضلعي قبل أضالع مكتبتي البالية المتواضعة؛ خوفاً من عبث أطفالي، ولكي أقرأها بإمعان، فوجدت فيها ما يمتعني ويحسسني بروح الشاعر العظيمة الراقية في الانسانية والأدب والثقافة “. ويختم الكاتب حديثه بالقول ” لك نصب في قلبي، تقبل تحياتي الاخوية قبل الادبية؛ لأنك إنساني بحت “. وَتدعيماً لما ذكر آنفاً، لَعَلّه حريّ بِنَا التأمل بتمعن فِي دراسةِ الكاتب الأب يوسف جزراوي الموسومة ” الكبير يحيى السماوي …. كالحجر الذي رفضه البناؤون وأصبح رأسًا للزاوية “، وَالَّتِي أقتطع مِنها جزءاً يعكس بعضاً مِنْ وريقات العمر التي تساقطت فِي المنفى، حيث يقول جزراوي  ” ….. طالت فترة وقوفنا على ايقاع المطر المنهمر بشدة في ليلٍ حالك السواد، كانت عيناه جميلتين لكنهما متعبتان، ذاته جريحة، جسده مُنهك، يلتوي بأكمله ألمًا من حصى الكلية اليسرى، تبللت ثيابنا وامتزجت شجوننا المنهمرة مع زخات المطر المُتساقطة، أحاديث لا تعدو أن تروي واقعًا مُحزنًا “. وَعَنْ جاذبيته المبهرة يقول الكاهن البغدادي جزراوي الأب مَا نصه ” حين استلمت منه خيط الحديث، ايقنتُ أنَّ الرجلَ متمسك بحبال الرجاء بانتظار غدٍ جديد، تشرق فيه الشمس لتُزيل لعنة الظلام، غير أنّني اعترف هنا أنَّ قدرته على الإصغاء كانت قد أدهشتني، وأن نقاء حواره سحرني، فالرجل يحظى بكفاءةٍ أدبيةٍ عالية ومسحةٍ إنسانيّةٍ قلّ نظيرهما، جعلتا منه دُرة الحديث ومركز الحوار، فكان كالبدر في سماء سيدني التي أمطرت غيومها طويلاً “.

 

أضـنـاهُ لــيــلُ صــبـابـةٍ فــسَــرى

لـم يــنـتـظـرْ شــمـســاً ولا قــمـرا

 

ألــقـى الى الإعــصـارِ أشــرعــةً

مُــسْــتَـنـفَــراً لــم يــتـَّـخِــذ حَـذرا

 

نــصـحـوهُ أنْ يُــلــقـي الى قَــدَرٍ

أمـراً فــقـال ســأقــحَــمُ الــقَــدَرا

 

فـاسْـــتـخْــبــلــوهُ فــقـائِـلٌ نَــزِقٌ

لا يـرعــوي فاســتعـذبَ الـعَـثَـرا

*

لأيـامِ الصِّبا يشتد بالمرء الحنين، فما مراتع الصبا إلا عصية عَلَى النسيان كما جاء فِي الأثر، فلربما تدمع العين عند استرجاع الذكريات؛ لأنَّ مرحلةَ الصِّبا لا يمكن لبريقها أنْ يعاود الظهور أبداً، وَلَعَلَّ فِي قول الشَّاعِر المصري محمود سامى البارودى ” 1839 – 1904 م “، الَّذِي يُعَدُّ بحسبِ المتخصصين أول ناهض بالشِّعْر العربي من كبوته ما يؤكد ذلك :

ذَهَبَ الصِّبَا وَتَوَلَّتِ الأَيَّامُ  ***  فَعَلَى الصِّبَا وَعَلَى الزَّمَانِ سَلامُ

وَفِي زمانٍ تغير فِيه حتى دفء أرصفة أزقة المدن، وَاختفى عبير ” درابين ” محلاتها خلف أستار خيام العولمة، قد يصبح عثور كاتب هَذِه الدراسة عَلَى ملامح الوجوه الَّتِي تركها السَماويّ يحيى ذات حزن أمراً  صعب المنال؛ إذ قد تكون الذاكرة لبعض الشخوص الَّتِي عاشت تلك الحقبة الزمنية متعبة بفعل قساوة مَا تعرضت مِنْ معاناة، أو أنَّ أقدارها جعلتها بفعل مرارة أفعال الطغاة تبحث عَنْ لقمة العيش وَحالها رهين بِمَا جاء فِي لامية ابن الوردي :

ودَعِ الـذِّكـرَ لأيـامِ الصِّبا * * * فـلأيـامِ الصِّبـا نَـجمٌ أفَـلْ

وَبعد أنْ تعرفنا عَلَى مَا اكتنزته ذاكرة بعض تلك الشخصيات عَنْ السَماويّ يحيى فِي المباحث السابقة، وَمَعَ مشارفة آخر فصول الدراسة عَلَى الإنجاز، وجدت أيضاً مَا هو حافظ لكثير مِنْ حكايات الصبا واليفاعة، ألا وهو ابن مدينته وأحد أصدقاء طفولته الكاتب جبار المكتوب، وَالَّذِي بعث ليّ شهادته الَّتِي نصها تالياً ” تعجز الكلمات عن وصف علاقتي مع صديق العمر الشاعر الكبير يحيى السماوي الَّذِي تمتد صداقتي معه سنوات طويلة، حيث عشنا في مدينة ومنطقة واحدة، فالسماوي أخي الذي لم تلده امي، فقد عرفته وعشت معه منذ أيام الصبا، ووجدته طوال مراحل حياته العمرية مثلما كان فِي صباه ويفاعته : وفياً، مسامحاً، محباً ومحبوباً من قبل زملائه وطلابه وأصدقائه، صبوراً على المحن والصعاب، بشوشاً مبتسماً لا يعرف البغض قطعاً؛ إذ أنَّ جمال قلبه النابض، جعل حب الناس والدفاع عن قضاياهم يسري في ضميره ووجدانه، فلم يعرف عنه البخل يوماً في اي موقف سواء لقريب أو بعيد، فهو إنسان صادق في زمن قل فيه الوفاء؛ إذ ارتبط روحاً وعاطفة مع الإنسانية “. ويضيف المكتوب أيضاً ” يحيى السماوي شاعر الخبز والتنور، الشخصية الكثيرة العطاء، المملوءة بالوفاء، فقد أشبع حياته بالطيب والأمل والحب والتفاؤل، حتى أصبح نخلة باسقة من بساتين السماوة الثرية برطبها  والحاملة شعراً وأدباً وبلاغة وخلقاً وسلوكاً ونوراً وصفاء “. وعَنْ الصداقة مِنْ وجهة نظر السَماوي يقول المكتوب ” الصداقة عنده من أفضل العلاقات الانسانية؛ إذ ينظر إليها بوصفها شيئا  عظيما مقدسا ، ويعتبرها كنزا  لا يقدر بثمن، فهو يشعر بالوجع عندما يرى انسانا يتألم، ويطير فرحاً اذا كان سعيدا، بالإضافة إلى أنه لا ينسى أيا من معارفه مهما طالت مدة الفراق، فصديقه أخ له يحترمه ويتفقده ويحترمه سواء كان صغيراً أو كبيرا “.

 

قـد كان يعـرفُ مَـسْـلـكـاً رَفِـهــاً

فـاخـتـارَ دربـاً مُـوحِـشـاً خَـطِـرا

 

فـإذا غـفـا صُــبـحـاً عـلى دِعَــةٍ

فَـزَّ الضُّحى يـسـتعجِـلُ الـسَّـفـرا

 

مــا كــان ذا مــالٍ .. ولا فَــرَسٍ

يومـاً وليس الـمُـسْـرفَ الـبَـطِـرا

 

لـكـنـهُ في الـعِـشـقِ ذو سَـــرَفٍ

يُعطي ويُـرخِصُ دونهُ الـبَـصَـرا

 

هـو بـيـنَ بـيـنَ فـنِـصْـفـهُ شَــبَـحٌ

جِـنٌّ ونـصـفٌ يُــشــبـهُ الـبَــشــرا

 

خَبَـرَ العواصِفَ والـسـيـولَ فـتـىً

غضَّ الهوى واسْـتـنـبََـتَ الحجـرا

 

إنْ حاصَـرَتـهُ الــنـارُ صاحَ بـهــا

زيدي اللظى والعـصفَ والشَّـررا

 

والـيـومَ شـاخَ الـماءُ واكـتـهَــلـتْ

كـاســاتُـهُ .. والـمِـعـزفُ انـتـحـرا

 

أوَلــيـسَ مـجــنـونـاً  يــمــدُّ يــداً

لـلـنـجـمِ مَـنْ في كـهْــفِـهِ قُــبـِرا ؟

 

ألفى الأسى في العـشقِ مُــبـتــدأً

فـاخـتـارَ أنْ يـغـدو لــه الـخَـبَـرا

 

عِــقـدانِ والــبـلـوى رديــفــتُــهُ

طحَنـتْ حـشـاشـتـهُ وما ضَجِـرا

 

بـيـن الـضلـوع تـقـومُ نـخـلــتُـهُ

أنّـى مـضـى وأقـامَ أو حَــضـرا

 

مـاهـزّهـا يـومـاً ولا عــرفــتْ

قـلــبــاً لـهُــدهُــدِ وجهـهـا نُـذِرا

 

دهــرٌ عــلى شـــوقٍ يـُـكـابــدُهُ

سِــرّاً فــمـا أفـضـى ولا ذكَــرا

*

عَلَى الرغمِ مِنْ حداثة معرفتي بالأديب إحسان أبو شكاك الَّذِي ولد فِي مدينة السَماوة وَمَا يزال يقطن فِيهَا، إلا أنيّ وجدت فِيه مِن السجايا مَا جعلني أشعر أني أعرفه منذ سنوات طويلة، الأمر الَّذِي جعلني متحمساً للحديث معه منذ بداية لقائنا فِي شارع المتنبي، وبخاصة حين علمت أنَّه كان أحد طلبة السَماويّ يحيي في المرحلة الثانوية، إلا أنَّه تردد حين رجوته أنْ يسجل مَا يحفظه فِي ذاكرته عَنْ أستاذه وَصديقه الحميم السَماوي يحيى؛ بالنظرِ لخجله أمام هيبة أستاذه والاحترام الكبير الَّذِي يكنه له، لكن يَبْدُو أنَّ طيبةَ أبو شكاك ألزمته الاستجابة لرجائيّ، حيث بعث ليّ شهادته الموسومة ” الشاعر الكبير يحيى السماوي .. إنسانا “، وَالَّتِي يقول فِي مقدمتها مَا يلي ” معيشتي ما بين أهل مدينتي الطيبين جعلت ذاكرتي تكتنز الكثير من سفر حياة أغلب مبدعيها، وتحفظ الجميل من سجاياهم في قلبي، وحين رجاني أخي الباحث لطيف عبد سالم تسجيل شهادتي في السماوي إنساناً، ترددت بادئ الأمر؛ لصعوبة الكتابة  عن رجل له هيبة ووقار في عيوننا ونفوسنا – نحن أهل السماوة – منذ أن كنا شباباً نتتلمذ على يديه في مرحلة الدراسة الثانوية، وأمام هذا الاختبار الصعب، وجدتني منقاداً لزيارة المكان الذي كان الشاعر ذات زمان مغرماً به، ألا وهو شارع النهر المطل على نهر الفرات في مدينة السماوة، والذي حمل اسمه ” شارع الشاعر يحيى السماوي “. وقد شعرت وانا أقف قرب عمود أزرق بفخرٍ كبير لم أشعر به طوال حياتي؛ لأن اسم استاذي الودود سابقاً وصديقي الحميم حالياً يظلل هامتي وهو ينتصب على ذلك العمود، فقد أعادتني الذاكرة إلى أيامٍ كان خلالها السماوي يبدي حرصه الدائم على النصح بضرورة تمسك طلبته بالتفوق والنزاهة، فقد تعلمنا من أبويته – وصداقته معاً – أيام الدراسة أنَ نكران الذات هو الفرق بين الأنانية من جهة والتضحية والإيثار من جهة اخرى، ولا عجب في ذلك ما دام يحيى السماوي يحمل هذه الصفة بجدارة “.

وَمِن بَيْنَ مَا سجله أبو شكاك فِي شهادته مَا نصه ” تذكرت ومضته الرائعة التي قال فيها :

سُئل عاشق ما تتمنى أن تكون ؟

قال : أتمنى أن أكون ناعوراً  أسقي آنية الآخرين وأكتفي بأنيني

وأنا سُئلت فقلت : أتمنى أن تكون لي أخلاق التنور، فالتنور يمنح خبزه للآخرين ويكتفي برماده ..

ومضة السماوي هذه التي لمْ تفارق صورتها مخيلتي منذ أن سمعتها، تعبر بصدق عن نقاء قلب السماوي وتفصح عن إنسانية أفكاره التي تفجرت منذ فجر الشبيبة وهي مملوءة هيبة ومودة وجمالا “.

ويختم أبو شكاك شهادته قائلاً ” عرفت الأستاذ يحيى السماوي مدرساً متمكناً في مادة اللغة العربية قبل أن أعرفه شاعراً نادرا شفيف الروح، قصائده ندية كالورد، فقد كان مدرساً خلوقاً هادئاً متسامحاً متواضعاً، واباً حنوناً وصديقاً ودوداً لجميع طلبته، فمن أعمق ما كنا نشعر به – نحن طلبة درسه المحبب لنفوسنا – هو شفافيته وسلاسة أسلوبه الذي أسر عقولنا بفضل لهجته ونظراته التي تتفحص ذواتنا الخفية، فنراه يحنو على طلبته من شريحة الفقراء، حيث كان – كما شاهدت بعينيّ – دائم الشعور بهم، فضلا عن مساعدة من يشعر بحاجته منهم إلى المال “.

 

*

 

سَــئِـمَ الـسـنيـن تـمـرُّ مـوحِـشـةً

لـو تُـخْـزلُ الأعمارُ لاخـتـصَـرا

 

سـلــواهُ جـرحٌ راح يـنـبــشـــهُ

لِــيُـطيـلَ في أوجاعِـهِ الـسَّـهَــرا

 

ولــربّــمـا يــغــفــو عـلى أمَــلٍ

أنْ يـلـتـقـيـهـا في سـريـر كـرى

 

حسناءُ لا أحـلـى إذا ضـحِـكـتْ

سَكَرَ المدى وأخو الـتـقى سَـكـرا

 

عـشِـقــتْ ربـابـتـهُ فـحـيـثُ شـدا

رقصتْ وفاضَ حُـبـورُها غُـدُرا

 

تـلـهــو وتـجـهــلُ أنّ مُـنـشِـدَهـا

نـذرَ الــفــؤادَ لـهـا ومــا جَـهَـرا

 

عَـشِـقـتْ ربابـتـه ومـا عَـلِـمـتْ

أنْ حــبّـهــا مَـنْ حَـرَّكَ الـوَتَــرا

 

كـم حَـجَّ فـي صـحـوٍ وفي حُـلُـمٍ

وتـلا رســائِـلَ سـعــفِـهـا سُــوَرا

 

يـشـكـو ولـكـنْ  فـي ســريـرتِـهِ

دامي المُـنى يـسْـتـنـطِق الصُّوَرا

 

ولـربّـما صـلّـى الـعـشـاءَ عـلى

وِتْـرٍ وصامَ وفي الضُّحى فَـطَرا

 

صَـبٌّ أغـاظَ  الـصّـبـرَ تـحـسَـبُـهُ

فــرطَ  الــتـجـلّــدِ جـامِـداً حَـجَـرا

 

قـد غـادَرَ الـنـهـريـن وهـو فـتـىً

صـافـي الـمـرايا كالـنـدى خَـفِــرا

 

حَـمَـلَـتْـهُ قـسْــراً عـن شــواطِـئِـهِ

زُمَــرٌ  تـرى فـي الظـلـمِ مجدَ ذُرا

 

ضـاق الـعــراقُ وكـان ذا سَــعــةٍ

ودجـى وكان الـمُـشمِـسَ الـنـضِــرا

أزرى بـهِ الأوغـادُ فـاحــتــبـسـوا

عـن  حـقـلـهِ الـيـنـبـوعَ والـمـطـرا

 

عـرضـوا عليـهِ ظِـبـاءَ واحـتِـهـمْ

والـجــاهَ والأنــعــامَ  فــاعــتــذرا

 

فـأبـى سـوى أنــثـاهُ يـسـكــنـهــا

وطـنـاً مـن الأحـلامِ لـيـسُ يُـرى

 

ويحي عـليَّ كـتـمـتُ حشـرجـتي

أحسـو مُضـاغَ الجمـر مُصطـبـرا

***

ثَمَّةَ لقاء جمعني قبل سنوات بالسَماويّ يحيى فِي مقهىً بغدادي عَلَى شاطئ دجلة، وَبينمَا كنا نتجاذب أطراف الحديث عَنْ الظروف الراهنة إذ خطر عَلَى باليّ مَا جعلني أسأله سؤالاً مفاده : يا سيدي حتى ربيعنا غدا صيفاً قائظاً، وربما يصبح فِي القادم مِن الأيام زمهريرا، فما الذي تبغيه مِنْ كتابة القصيدة فِي ظلِ هَذَا الواقع؟، فأجابني بثقة وَمِنْ دُون تردّد قائلاً :  ” في القصيدة أعوّض ما فاتني من كرامة، نعم حينما أهان بصفعة شرطي، أتعرف ما معنى أن يبصقَ بوجهي شرطي الأمن؟ كل انهزاماتي تذوب في القصيدة، أرسم الحياة التي أريدها بأدق تفاصيلها، أعوّض حطامي، أحلامي الذبيحة، أعوّض الشباب الذي ضاع في المعتقلات، السجون، فصل المطاردة، النقل القسري، ما كان معتماً الآن صار قوس قزح، الغد أصبح يتسع للفرح، فعلى الأقل أصبح بإمكاني أن أغفو مطمئنا أن أطفالي لن يُجلدوا ذات الجلد الذي جلدت فيه، ولن تعد من ضفيرة أختي مشنقة لمجاهد “، فازددت تَيَقُّناً أنَّ السَماويّ يحيى إنْسَان يعيش فِي وجدانه وطن.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com