مقالات

سلام عادل .. الدال والمدلول وما يمكث وما يزول “ح 5”

أهم خدمة تقدم للعدو هو إخفاء أخطاء الحزب والزعم بصواب سياسة قياداته

عبد الحسين شعبان

ويروي عبد اللطيف الشوّاف عن حالة قاسم بعد إعدام الطبقجلي والحاج سرّي، فيقول إنه من فرط حزنه وتأثّره أصيب بنوع من الانهيار والخلل العصبي ، وقد سمع أنه في إحدى المرّات في وزارة الدفاع طلب ثلاث أقداح للشاي وأمر بوضع واحد للحاج سرّي وآخر للطبقجلي والثالث له، لمشاركتهما في احتساء الشاي في جزء من توهماته وحالة الاضطراب النفسي  التي عاشها، على الرغم من أنه كان يردّد أنّهما دقّا اسفيناً في الثورة وهما وراء موقف عبد الوهاب الشوّاف، ولولا تحريضهما وإسنادهما له لما أقدم على ذلك، لكنها انسحبا بعد ذلك وتركا الشوّاف يلاقي مصيره وحده .

ويقول عبد اللطيف الشوّاف الذي أصبح وزيراً لدى قاسم إن إعدام الطبقجلي والحاج سرّي كان مأساة حقيقية لعبد الكريم قاسم الذي استمر لبضعة أيام عصبياً وحزيناً وبائساً مثلما بقي الفريق محمد نجيب الربيعي رئيس مجلس السيادة في حالة حزن وتردّد وقرف من الوضع الذي آلت إليه الثورة .

وكان تبرير قاسم بعد حين أنهما لم يتركا له خياراً إلّا تنفيذ حكم الإعدام. وكنت قد استمعت إلى روايته تلك لأول مرّة في القاهرة  في مطلع العام 1971 حينما كنت أحضر مؤتمراً بمناسبة ميلاد الزعيم العربي جمال عبد الناصر وذلك بعد وفاته بنحو 4 أشهر أقيم في جامعة القاهرة، وقدمت  فيه بحثاً بعنوان: “عبد الناصر وحركة التحرر الوطني العربية”.

(انظر: عبد اللطيف الشوّاف- عبد الكريم قاسم وعراقيون آخرون، ذكريات وانطباعات، دار الورّاق، لندن – بيروت، ط1، 2004، هامش ص 88 و89 ويمكن مراجعة كتابنا: عامر عبدالله – النار ومرارة الأمل، مصدر سابق، ص 64 و65 وما بعدهما).

واستغل قاسم الصراعات الداخلية في الحزب الشيوعي، وخصوصاً بين سلام عادل وكتلة الأربعة المشار إليها، ووجود مشاكل أخرى مع عضوين من اللجنة المركزية هما سليم الجلبي ( الذي كان عضواًمركزياً في الخمسينات) وداوود الصائغ وهو أحد مثقفي الحزب وكان عضواً قيادياً وشارك في حركة تكتلية في الخمسينات عُرفت باسم “رابطة الشيوعيين” التي تم حلّها بعد توحيد الحزب أسوة بالمجموعات الأخرى ، حيث تم اعتراف متبادل بالأخطاء، بما فيها تخطئة إدارة بهاء الدين نوري وحميد عثمان التي اتخذت إجراءات متشدّدة بحق عدد من الرفاق القياديين وخطوات سياسية طائشة.

أقول استغلّ قاسم الوضع الداخلي في الحزب فاستمال داوود الصائغ وأوحى له بالتقدّم بإجازة باسم الحزب الشيوعي واستجاب الأخير لهذا الإغراء مدفوعاً بمشاكله مع إدارة الحزب وشعوره بالغبن، وحين تقدّم الحزب الشيوعي (الأصل ) بطلب الحصول على الإجازة القانونية، على الرغم من استيفائه للشروط، رُفض طلبه بزعم وجود حزب آخر بالاسم ذاته، فاضطر الحزب إلى استبدال اسمه إلى ” اتحاد الشعب” اسم جريدته المركزية، ولكن وزارة الداخلية رفضت طلبه مرّة أخرى بدعوى أن أهدافه قريبة من أهداف الحزب الشيوعي (جماعة المبدأ- داوود الصائغ) .

وكان طلب الحزب الأصلي قد تقدّم به زكي خيري أكبر الأعضاء سناً، الذي كان حينها وبعض إدارات الحزب أكثر مقبولية لدى قاسم من سلام عادل، ولذلك لم يدرج اسمه ضمن الهيئة المؤسسة بسبب تشنجات قد حصلت بينه وبين قاسم إثر مقابلة نظمها له عامر عبدالله وهو ما ترويه ثمينة ناجي يوسف في كتابها (سلام عادل- سيرة مناضل، جزءان، مصدر سابق).

وقد اتخذت قيادة سلام عادل سلسلة من الخطوات التكتيكية  لسحب ثقة  الجمهور بجماعة المبدأ وإظهاره بمظهر المؤسّس من السلطة ذاتها، وكانت عملية الاختراق قد حصلت بأن أرسلت إدارة الحزب إلى داود الصائغ عدداً من الكوادر للانضمام إليه، وحين أعلن عن أسماء الهيئة المؤسسة انسحب هؤلاء بصورة جماعية بحيث فقدت الهيئة المؤسسة شرعيتها المطلوبة ضمن إطار قانون تنظيم الحياة الحزبية، وحين تم استبدال الأعضاء المنسحبين بأعضاء جدد وأعلنت الأسماء مجدداً، انسحب هؤلاء مرّة أخرى لإحراج قاسم من جهة والصائغ من جهة أخرى، وهكذا أصبح الحزب الذي حظي بدعم السلطة مصدر تندّر وحينها ظهرت نكتة الحزب الشيوعي لصاحبه  (؟)

لكن سلام عادل لم يكتفِ بهذا القدر من التكتيك، بل حاول فتح حوار مع الصائغ نفسه لإقناعه بخطأ توجهه ودعوته للتنسيق مع الحزب والاستفادة من منبره العلني، لاسيّما بعد أن زاد حجم التضييق على الحزب واعتقلت السلطات المئات من كوادره وأعضائه (قيل إن العدد كان عشية انقلاب 8 شباط/فبراير/1963 خمسة آلاف معتقل) وتم الاتفاق سرّاً معه على أن يدعم الحزب جريدته ” المبدأ” ويقوم كادر من الحزب بتحرير موادها الرئيسية، وهكذا عمِلَ الحزب ظلّاً لجريدة المبدأ.

أتذكّر هنا حدثاً شخصياً مؤثراً بالنسبة لي، فقد كان موسى مشكور أحد أعضاء الهيأة المؤسسة لحزب داود الصائغ موظفاً لدى جدي الحاج حمود شعبان (في خان شعبان  في سوق المرادية للتجار ببغداد) وقصته كالتالي : فقد كان قد خرج من السجن بعد استشهاد شقيقه مهدي مشكور في سجن بغداد العام 1953، ويروي عبد الجبار وهبي (أبو سعيد)  في كتابه “من أعماق السجون في العراق” الذي نشره باسم مستعار (محمد راشد) في العام 1955 ، أن الرفيق مهدي ظلّ يردّد في اللحظات الأخيرة ” أني ما أريد أروح … ما أريد … أنا شاب أريد أن أبقى معكم يا رفاق… أنا شاب عمري عشرين ” لكنه فجأة بدأت تتغير ملامحه حيث كان مصاباً  بجرح إثر هجوم الشرطة على السجن، ثم توفى .

كان والد موسى مشكور شيخ  معمم قد طلب من  جدي إيجاد عمل لموسى مشكور لديه  في الخان حيث كان يعمل في تجارة  الأقمشة بالجملة، ولاسيّما بالاستيراد ، لأنه من الصعب عليه الحصول على عمل، خصوصاً لعدم تمكّنه من الحصول على شهادة ” عدم محكومية” التي عُرفت لاحقاً ” تحقيق هوّية” ، ووافق جدي شريطة ألّا يقوم بأي نشاط سياسي خلال عمله في الخان، واستمر هو في العمل حتى الثورة، وظهر كمسؤول للأسواق التجارية، ثم برز ككادر قيادي  في الهيأة المؤسسة لجماعة الصائغ (العام 1960).

لم يعرف أحد منّا خطة سلام عادل لتفليش ” جماعة الصائغ” ولذلك تقاطر على الخان، في محاولة لثني موسى مشكور عن انضمامه إلى الصايغ،عدد من الأقارب بينهم  شوقي شعبان وحسن شعبان وناهض شعبان ووهاب شعبان ومعين شعبان ونعمان شعبان  وكان عدد من الأصدقاء يتساءل عن أبعاد تلك ” الخطوة” مثل عبد الواحد الخلف والمحامي عبد الوهاب عباس وصادق الحسني وحسين خليفة ومنعم الصائغ  وحسين قويزي وعلي الغرباوي وآخرين . وكنّا جميعاً نحاول أن نقنعه بالانسحاب من الجماعة أو نفهم مبرراته على الأقل، ولم يكن يردّ علينا سوى بابتسامات مبهمة وأجوبة غامضة أكثر منها إفصاحاً عن موقف، حتى إن خالي ناصر شعبان  سأله مرّة وبحضور خالي رؤوف وخالي جليل ووالدي عزيز شعبان: ما سبب اختياره الصائغ وتفضيله على الحزب الأصلي الذي كان بعنفوانه وألقه، فلم يسمع منه سوى إجابات مبهمة وهي تنمّ عن اختيار له ظروفه وخصوصياته، وأن الأمر متروك للزمن!.

وحين تم انسحاب الغالبية الساحقة من الهيأة المؤسسة في المرّتين الأولى  والثانية وانكشفت اللعبة فهمنا ذلك، وكنّا قد عرفنا في وقت لاحق خطة الحزب، وكان هو يضحك ويحمرّ وجهه ويردّد آن الأوان لتعرفوا الحقيقة.

وبالمناسبة فقد كانت اللجنة المركزية أو المكتب السياسي تجتمع أحياناً في منزله بالكاظمية قرب الكورنيش، وقد اضطر إلى الهرب في اليوم الأول لانقلاب 8 شباط/فبراير وبعد عدّة أشهر ظهر في السعودية يؤدي فريضة الحج ويرتدي العمامة البيضاء، وقد التقاه هناك موسى شعبان وأبلغنا بذلك، ثم انتقل إلى الكويت وعاش فيها لغاية الغزو العام 1990، وكنت قد التقيته في الكويت أول مرّة العام 1965 مع خالي المحامي جليل شعبان، ومرّة أخرى في العام 1970 حين اضطررت الهرب إليها بعد ملاحقتي. وقد لاحظت اتساع أعماله، لاسيّما بعد أن تعرّف على أحوال السوق مثلما عرف التجار الكويتيون أمانته ودقة عمله، ولكنه خسر الكثير من أمواله وممتلكاته، بعد غزو القوات العراقية للكويت في العام 1990، وصادف أن كان حينها في لندن، وقد التقيته فيها، ثم في الولايات المتحدة حيث يعيش في ساندياغو واستضافني فيها وكان حين يسألونه عن العلاقة بيننا يردّد وبكل تواضع “ أنني تعلمت التجارة في بيت شعبان” (حديث خاص مع موسى مشكور، ساندياغو،1998  وقد استعد معه بعض تفاصيل تلك الفترة).

أعود إلى اتفاق للظل مع داود الصائغ لتحرير المبدأ التي كانت تصدر بصورة علنية، حيث أوكل سلام عادل الأمر إلى بديع عمر نظمي وهو أحد مثقفي الحزب حينها وقد نشر وترجم العديد من الكتب المهمة وعدنان البراك أحد المثقفين والإعلاميين البارزين في الحزب وقتذاك وقد استشهد العام 1963 ومجيد الراضي وهو شاعر ومثقف وابراهيم الحريري وكان يكتب عموداً في صحيفة اتحاد الشعب باسم ” صديق حمدان” أو ” حكايات حمدان” وتكفّل الحزب حسب رواية الحريري بكل شيء يتعلّق بمكتب جريدة المبدأ، عدا الحارس الذي كان موظفاً مرسلاً من الأمن (حديث خاص مع ابراهيم الحريري، دمشق، 1984).

ولعلّ حكاية جريدة وحزب المبدأ تصلح وحدها للتأكيد على العقل الديناميكي لسلام عادل والحيوية البالغة التي يتمتع بها، وكذلك على المرونة العالية التي يتحلّى بها مع المبدئية وبُعد النظر، وخصوصاً في تشخيص الجوهري من الأشياء والقضايا.

النقد والنقد ثم النقد

للأسف لم يراجع تاريخنا بما فيه الكفاية، ولم تسلّط الأضواء على أخطائنا ونواقصنا، وغالباً ما زعمنا إن العدو سيستفاد منها، ولذلك حاولنا أن ندثّرها بأكثر من غطاء لكي لا يطّلع عليها المتربّصون بنا في ظل صراع محموم، وهكذا كانت تتكرّر وتتناسل تلك الأخطاء والنواقص، لأنه لم يتم كشفها ومساءلة المسؤولين، ولم يسهم النقد في كشف أخطاء الماضي، الاّ بحدود الصراعات الدائرة، بين هذا الطاقم القيادي أو ذاك، وتصفية حسابات بين الفرقاء، أما التاريخ فقد ظل “صامداً” ككتلة صمّاء، لا يمكن الاقتراب منها، وقد يكون بعضهم مسؤولاً عنها، والآخر لا يريد ذكر الحقيقة ويخشى الاقتراب منها، لأنها تتعلّق بفترة سكوته وصمته لسنوات طويلة، اعتاد فيها على تلقّي التعليمات وإعطاء الأذنين الصاغيتين دائماً.

لم نلحظ هناك من نقد حقيقي لتاريخنا، خصوصاً مسلّمات الماضي وعيوبه، لاسيّما إذا كان المعنيون قريبين من الطاقم الإداري أو من متفرّعاته، وحتى حين كُتبت الكثير من المذكرات، ظلّت الكثير من العقد الأساسية دون مساس، وإن جرى التعرّض لها، فمن باب إلقاء الحجة على الآخرين، وفي أحسن الأحوال سمعنا نقداً مثيراً للشفقة، لمن يقول أنه يتحمّل المسؤولية وهو بالطبع كذلك، لأنه كان على رأس الهرم أو من المحيطين به أو من حواشيه.

والغالب الأعم يتحدّث هؤلاء باستمرار عن  صواب سياستنا التي أثبتها التاريخ، والدفاع عن نقاوة النظرية وإن كان الأمر معكوساً، ففي تاريخنا بعض المطبّات والانحرافات التي علينا مراجعتها مثلما فيه الكثير من الإشراقات والإيجابيات التي يمكن استلهامها، كما لا يكفي الحديث عن إننا نمتلك “أعظم” نظرية في العالم، علماً بأنها لا ينبغي أن تكون بمعزل عن البراكسيس، وفي حين نحن تركنا المنهج، حوّلنا التعاليم النظرية إلى نصوص مقدسة وتشبثنا ببعض الأحكام والتطبيقات أو الممارسات التي كانت تصلح لعهود مضت، في حين علينا استنباط الأحكام التي تتلاءم مع ظروفنا ودرجة تطور مجتمعاتنا.

لاحظتُ إن جميع القوى السياسية ” الشمولية” سارت بالاتجاه ذاته، فحزب البعث أو الجماعات المتبقّية منه تتحدّث عن كل شيء باستثناء صدام حسين، وغالباً ما ينزّه ويمجّد، وإنْ جرى الحديث عن الارتكابات والجرائم، فهي ليست سوى أخطاء هناك من يقوم بها، وقد لا يعرف بها “الرئيس” وإذا انتقدت توجّهاتهم وحاورت في الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان، فإنك ستكون حاقداً أو مشبوهاً وفي أحسن الأحوال فإنك جاهلٌ.

أما القوميون العرب فلا يمكن المساس باسم جمال عبد الناصر أو حتى نقده، فالنقد سيضعك في خانة العداء للقومية العربية أو في صف “الشعوبية”، وحتى لو ذكرت مشروعه السياسي بملاحظات أو آراء، بخصوص قضية الحريات ووحدانية التنظيم السياسي وملاحقة اليسار وهزيمة 5 حزيران/يونيو/العام 1967، فإن ذلك ليس سوى تفاصيل بالنسبة لهم، إذْ لا يمكن المساس باسم الزعيم ” الخالد” والأمر يتعلق بغياب النقد الذاتي، وعدم قبول نقد الآخر.

ولم نسمع نقداً للمشروع الإسلامي من داخله، باستثناء مناكفات في فترة المعارضة بين جماعات سياسية، وإلاّ فإن المرجعية “مقدسة” والتعرّض لها سيجعلك في عداد الملاحدة أو من يتنكّرون لدورها التاريخي، وأحياناً تعتبر من طائفة أخرى، حتى لو كنت من صلب الانتماء الديني أو المذهبي، ضمن التصنيفات السائدة. صحيح إن بعض الارهاصات النقدية قد بدأت، لكنها ظلّت أقرب إلى نقر في السطح وليس حفراً في العمق، حسب تعبير ياسين الحافظ بتوصيفه للثورة.

وإذا كانت الحركة الكردية قد عصفت بها رياح عاتية من داخلها، وواجهت نقداً حاداً وشديداً، وصل حدّ الاتهامات، فإن هذا النقد غالباً ما يطوى على حساب المصالحات السياسية الظرفية، وبذلك يضيع النقد الموضوعي الذي هو حاجة ماسّة وضرورية للتطوّر والتقدّم، وأحياناً تضيق بعض القوى الكردية بالنقد حتى إذا كان انحيازك لصالح الشعب الكردي وحقوقه العادلة والمشروعة، وفي مقدمتها حقه في تقرير مصيره، مثلما هناك تواطؤ أحياناً بخصوص علاقاتها الخارجية مع القوى الدولية بما فيها المعادية لمصالح شعوبنا فما هي المصلحة من السكوت أو تبرير علاقة مع “إسرائيل” وبعض دعاة التفكيك في السابق والحاضر.

النقد فضيلة، ولاسيّما في السرديات الثقافية، وغيابه يجعلنا أمام حالة من الصدام والاحتدام المستمرين، خصوصاً في النظر إلى الآخر، أما على صعيد الآخر من الداخل فسيكون بديله الاستكانة والخنوع أو الاحتقان والاختناق حتى يحصل المحذور، لذلك فإن الكثير من التمرّدات والانشقاقات ليست بعيدة عن ذلك، إذْ أن الإلغاء والتهميش واحتكار الحقيقة وادعاء امتلاك الأفضليات ستقود إلى نتائج أخرى في ظل غياب النقد ، وهو ما حاول الباحث تسليط الضوء عليه باعتباره الأساس في فقْه الأزمة.

وإنْ كنتُ قد قدّمت قراءات انتقادية للحركة الشيوعية وتاريخها، فلأنني معني بها أكثر من غيرها وما أريده لها أن تكون معافاة وسليمة، كما إنني عندما أسترجع جزء من التاريخ، فلأنه يحتاج إلى إعادة نظر بروح رياضية ودون خشية من النقد والاعتراف بالأخطاء والاعتذار عنها، والأمر قد ينسحب على الإدارات المسؤولة التي ارتكبت الكثير من الأخطاء، وظلّت تنكر أو تتصرّف باعتبارها فوق النقد، خصوصاً في ظلّ غياب المساءلة والشفافية، الأمر الذي يحتاج إلى نقد شفاف وجريء دون تجريح أو إساءة، بقدر ما يهمّ تاريخنا وعلاقاتنا الرفاقية ونظرتنا المختلفة إلى الماضي وإلى الحاضر وإلى المستقبل، ناهيك إلى الحياة ذاتها بما فيها من مستجدّات ومتغيّرات، بما فيها محاولة قراءة الماركسية بروح القرن الحادي والعشرين وبمنهج ماركس الذي لا يزال يمتلك حيوية، لا بتعاليمه التي تصلح لعصره، وعفا الزمن على الكثير منها.

وأخيراً فالنقد لتاريخنا الشيوعي واليساري هو نقد  من الداخل، وهو نقد مسؤول للذات ونقد لمسار يعني جميع الشيوعيين والماركسيين، بل وعموم الوطنيين، وكل من هو حريص على المستقبل الشيوعي، إذْ لا يمكن الحديث عن تاريخ الدولة العراقية، دون المرور على تاريخ اليسار العراقي الذي لعب دوراً مهماً منذ تأسيسها.

والهدف من النقد تسليط الضوء على بعض النواقص والثغرات في مسيرة اليسار والحركة الشيوعية، لكي لا تتكرّر ولكي يتعرّف عليها الجيل الحالي والمستقبلي وينتفع منها، ونقد التاريخ هو أيضاً نقد للبرامج والسياسات والممارسات والشخصيات وما علق به من سلوكيات غريبة. ولعلّ أهم خدمة تقدّم إلى العدو هو إخفاء أخطائنا والزعم بصواب سياستنا على طول الخط، فتلك المهمة الإيمانية التبشيرية الاستكانية لا تصلح الاّ للدعاة والمروّجين المنحازين، وهي غير المهمة النقدية العقلانية التساؤلية، التي يضطلع بها من يبحث عن الحقيقة.

ولعلّ واحداً من أهداف هذه الاستعادة التاريخية في المسيرة البطولية لسلام عادل هو الحرص على الحقيقة كي لا تضيع بما فيها من آلام وعذابات ودروس وعِبَر، وهو ما حاول الباحث فيه تسليط الضوء على بعض الجزئيات التي يهتم بها بما فيها المنسي أو المُهمَل أو غير المرغوب استذكاره أو غير المسموح الحديث عنه، كي لا تندثر أو تتبدّد أو يطويها النسيان، وذلك استكمالاً لصورة المشهد من زواياه المختلفة.

لعلّ القراءة المفتوحة ودون عقد مسبقة كانت هي الأكثر استقبالاً وحفاوة للنصوص الجديدة التي تركت الآيديولوجيا جانباً والتشدق بالأفضليات وحاولت التفتيش عن الحقيقة من خلال النقد، ولا أحد يعفي نفسه منه.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com