مقالات

الإمام الحسني البغدادي .. مقاربات في سسيولوجيا الدين و التديّن

مهدي السعيد 

مرجع يرفض الإنخراط بعمل منظم ضد عبد الكريم قاسم :

وفي العام 1914 حين حاول البريطانيون احتلال العراق نشبت معارك الشعيبة قرب البصرة تطوّع العديد من رجال الدين للذود عنها وشارك فيها البغدادي، كما شارك في جبهة الكوت، وكان بصحبته السيد محمد هادي مكوطر وكانت الهوسة الشهيرة قد تردّدت: ثلثين الجنة لهادينا . . وثلث لكاكا أحمد وأكراده . . ومعروف إن السيد محمد سعيد الحبوبي (1849-1915) كان على رأس المجموعات التي تصدّت للاحتلال، وبعد عودته توفّي في الناصرية، أي قبل أن يصل إلى النجف .

وحين كانت عوامل وأسباب الثورة الكبرى تنضج كان الحسني البغدادي يستحثّ القادة ورجال الدين لتنظيم مضابط تدعو البريطانيين للاعتراف بحقوق الشعب العراقي، وقد كان الشيخ محمد تقي الشيرازي الحائري (1842-1920) هو القائد الفعلي، حيث انطلقت ثورة العشرين في 30 حزيران (يونيو) 1920. وقد حاول الحاكم البريطاني ليجمان استمالته بتقديم مفاتيح الروضة العسكرية في سامراء (مقام الإمام علي العسكري) إليه، وذلك بهدف زرع الفتنة الطائفية بين السنّة والشيعة، فكما هو معلوم بأن الغالبية الساحقة من سكان سامراء هم من الطائفة السنّية، ومن جهة أخرى حاول تحريض الشيخ ضاري المحمود ضدّه وضدّ الشيعة ، فما كان من الأخير إلّا أن أجابه “إنه مرجعنا” فباءت محاولته بالفشل، الأمر الذي أراد الانتقام منه بإهانته في وقت لاحق لكنّ الضاري ردّ له الصاع صاعين وقام بقتله.

وقد تم تسفير النائيني والأصفهاني إلى خارج العراق 1923 لاعتراضهما على خضوع الملك فيصل الأول للإنكليز، مثلما تم تسفير الخالصي إلى الهند ومنها إلى إيران، وقد عاد النائيني والأصفهاني “عودة مشروطة” بالتعهد بعدم ممارسة النشاط السياسي، في حين رفض الخالصي ذلك وتوفي في إيران العام 1925 وعاد نجله الشيخ محمد الخالصي إلى العراق في العام 1949 ليترأس المدرسة الخالصية في الكاظمية.

وكان البغدادي منذ البدايات ضد “المؤسسة الفارسية الدينية” في العراق، وكان يعتقد إن دورها سينتهي وتأثيرها سيكون محدوداً بعد أن أصبح العراق دولة، وإن ما يأتي من “عملة صعبة” بزعم دعم المرجعية والعتبات المقدسة سوف لا تكون الحاجة إليه شديدة، كما هي حينذاك، فضلاً عن أن تخلّف العراقيين سوف لا يستمر طويلاً. وكان ذلك قد جاء في حوار له مع السيد محسن الحكيم (العام 1923).

لأنه ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه
أو ماذا يعطي الإنسان فداءً عن نفسه
السيد المسيح

الحسني البغدادي والعدوان الثلاثي

اتّخذ الحسني البغدادي مواقف راديكالية من النظام الملكي بشكل عام، وعند حدوث العدوان الثلاثي الأنكلو – فرنسي “الإسرائيلي” على مصر بشكل خاص، العام 1956? وحين حدثت الهبّة الجماهيرية في النجف وبغداد والحي والموصل ومناطق أخرى من العراق، تضامناً مع الشقيقة مصر، جابهتها السلطات الحكومية بالقمع وقامت بإطلاق الرصاص على طلبة المدارس المنتفضين في النجف، وسقط ثلاثة من أبناء النجف، وهاجت المدينة المنتفضة، حيث تمكّن المتظاهرون من السيطرة على المدينة لنحو 9 أيام، وكان الجيش قد أرسل لضبط الأمن والنظام دون أن يتدخّل في ردع المتظاهرين.

وحاولت السلطة امتصاص حالة الغضب الشعبي، فأرسلت الدكتور محمد فاضل الجمالي لزيارة بعض رجال الدين، والتقى الحسني البغدادي به في منزله في النجف، وذلك بهدف التهدئة واستعادة زمام المبادرة كي لا يفلت من يد الحكومة. وكانت الزيارة برفقة محمد علي كمّونة، رئيس بلدية النجف حينها، وقد نقل له الجمالي تحيات الملك فيصل الثاني واعتزازه بمواقفه وطلب منه التعاون لتهدئة الموقـف.

وقد بادره الحسني البغدادي بالقول: ما كنت أرضى بمقابلة أحد من أركان النظام، بل كنتُ سأغلق الباب في وجههم، ولكن اختياركم من جانب الملك جاء لأن والدك ” عباس″ صديقي، والمرء يُحفظ بولده، وإن مجيئك كان بسبب توجيهي رسالة شديدة، تندّد بالموقف الرسمي بشأن العدوان، الذي استنكرته الجماهير في كل مكان، رجالاً ونساءً .

وعلى ذكر النساء، فقد كانت إحدى التظاهرات التي قادها الشيوعيون في النجف مجموعة نسوية شاركن فيها، كما إن التظاهرات التي استمرت لعدّة أيام كانت عامة شارك فيها الجميع من القوميين والبعثيين والشيوعيين والوطنيين بشكل عام , وختم حديثه لقد قابلتكم للاعتبارات التي ذكرتها، ولكن قطيعة بيني وبين النظام قد حصلت، وقد جئتم “بعد خراب البصرة”.

جدير بالذكر الإشارة إلى أن الحركة الوطنية في النجف آنذاك أرسلت وفوداً إلى عدد من رجال الدين لحثّهم على استنكار مواقف الحكومة العراقية والتضامن مع المتظاهرين، فضلاً عن إدانة موضوع إطلاق النار وقتل عدد منهم، وكان جدار الصحن العلوي المواجه للسوق الكبير قد تعرّض إلى إطلاق نار، وقامت السلطات ليلاً بمعالجة الأمر، ولكن آثاره ظلّت واضحة، واعتبرت حينها وصمة عار في جبين النظام الملكي، لكن نظام صدام حسين استخدم السلاح داخل الصحن العلوي في النجف، والصحن الحسيني والعباسي في كربلاء، وخصوصاً خلال أحداث ما سمّي بالانتفاضة الشعبانية بعد انسحاب القوات العراقية من الكويت (آذار /مارس 1991 ولاسيّما في كربلاء والنجف.

استقرار عواطف

وأتذكّر أن قمصان الشهداء عبد الحسين الشيخ راضي وأحمد الدجيلي والخياط، وهي مضرّجة بالدم، كانت مرفوعة فوق رؤوس المتظاهرين وهم يجوبون الشوارع والأسواق والصحن العلوي، وذلك بهدف استدرار العواطف من جهة، وممارسة ضغوط على رجال الدين لاتخاذ موقف واضح ضد سلطة نوري السعيد من جهة أخرى، ولذلك فقد توجّهت بعض التظاهرات إلى بيوت بعض رجال الدين، وكان الجمهور الغاضب يطالبهم باتخاذ موقف صريح وحازم، لاسيّما محاسبة المسؤولين عن إطلاق النار على المتظاهرين، وعلى الرغم من أنّ الإدانة عامة وشاملة، لكن الاستجابة كانت متفاوتة، خصوصاً باتخاذ موقف الإدانة الشديد.

وأتذكّر أيضاً وهذا ما كان شائعاً في صفوفنا حينذاك، إن تجاوب السيد الحسني البغدادي كان شديداً وقوياً، وكانت برقيته استنكارية إلى الحكومة العراقية لموقفها المتفرّج إزاء العدوان الثلاثي من جهة ومن موضوع التعرّض للمتظاهرين من جهة ثانية، فضلاً عن دعوته لإقالة نوري السعيد رئيس الوزراء العراقي المعتّق , وقد حاولت العثور على نصّها فوجدته منشوراً لدى عبد الحميد الراضي وفي كتاب : ” محمد الحسني البغدادي- المسيرة الجهادية والفكرية في قراءة حوارية ووثائقية ” اكثر من سبعة عقود من الزمن في قسم الوثائق- (وثيقة 7)? وكان قد نشرها عبد الرضا فرهود أيضاً في مجلة الكوثر، العدد 6421422. ولكنها بدون عنوان أنقلها بالنص (نص برقية البغدادي إلى الملك):
“إن الموقف المتفرّج تجاه العدوان الثلاثي المسلح على مصر مخالفة للشريعة الإسلامية، وإنه إلغاء لحقيقة استقلال المسلمين من سلطة المشركين وليس لهذه الوزارة برئاسة نوري السعيد مفعول قانوني. نناشدكم بإقالتها في الوقت الذي نؤكد لكم إن قيامكم بهذا الواجب يجمع كلمة المسلمين، ويقطع طمع الكافرين والله سبحانه ولي النصر، وهو حسبنا ونعم الوكيل، والسلام على من اتّبع الهدى”.

وحين حدثت ثورة 14 تموز (يوليو)1958 استبشر بها الحسني البغدادي، وقد أرسل برقية تهنئة عاجلة إلى الزعيم عبد الكريم قاسم رئيس مجلس الوزراء، واستلم جواباً تحريرياً، وكانت جريدة البلاد (البغدادية) قد نشرتها وهي بالعنوان التالي- سيادة الزعيم الركن عبد الكريم قاسم المحترم بطل الثورة العراقية ،السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،“نبتهل إلى الله تعالى بنهضتكم رفع أعلام الدين وإعزاز الإسلام والمسلمين . . قاضية فوراً على كل قوة استعمارية في جميع أوطاننا العربية والإسلامية” (محمد الحسني البغدادي). وكانت البرقية بتاريخ 6 محرم 1378 . وكان جواب الزعيم الذي ندوّن نصّه :
سماحة الفقيه الأكبر السيد البغدادي دامت بركاته، ” كان لكتابكم أطيب الأثر في نفوسنا , نرجو من الله أن يوفقنا إلى خدمة دينه وحماية شريعته والقضاء على الظلم والظالمين.”

الزعيم الركن عبد الكريم قاسم – رئيس الوزراء – 8 محرّم 1378

وقابل الحسني البغدادي وفداً عسكرياً برئاسة فؤاد عارف الذي جاء إلى النجف باسم قيادة الثورة وكان يأمل أن تسير الأمور بما يحقّق طموحات الشعب العراقي، لكن قلقه بدأ يكبر ونقده أخذ يزداد بالتدرّج، وسرعان ما أصبحت كفّة النقد أثقل، خصوصاً بعد أن يئس من استقرار الأوضاع بسبب الصراع السياسي الحاد الذي بدأ بعد الثورة بين القوميين والشيوعيين، واتّسع شق الخلاف بدخول الإسلاميين حلبة هذا الصراع، وكانت مواقفهم النقدية من حكم قاسم أقرب إلى القوميين، حتى وإن اختلفت المنطلقات.

وكنّا نعرف أنّ الحسني البغدادي متضايق من “انحراف” الثورة كما أسماه، ومن هيمنة الشيوعيين وإرهابهم الفكري، كما مورست عليه بعض الضغوط من “جماعة العلماء” الأكثر تشدّداً في مواجهة ما سمّي بالمدّ الأحمر، فاضطرّ لكتابة نص يؤيد فيه منشوراتهم، علماً بأنهم كانوا على خلاف شديد مع السيد محسن الحكيم الأب الروحي للجماعة، أشار فيه أنه مقدر دعوتها إلى التمسّك بالدين ووحدة الأمة ووحدة الكلمة، وأن عملها مشكوراً، لأنه لم يخرج عن الحق والواقع.

وللأسف فلم نكن نصغي إلى ذلك كثيراً، وأصابنا نوع من الغرور والتعالي، حتى على أوساط كانت مقرّبة منّا، أو يمكن تحييدها على أقل تقدير باستثمار الصراعات الداخلية في صفوفها، ولأن قوانا الذاتية كانت كبيرة ونبالغ فيها أحياناً، فقد كنّا نستخفّ أحياناً بالجبهة الواسعة التي أخذت تتشكّل ضدنا، سواء بصورة رسمية “الجبهة القومية التي ضمّت البعثيين والقوميين على تعدّد مجموعاتهم” أو بصورة غير رسمية، حيث جمعت القوميين والبعثيين والإسلاميين وبعض رجالات العهد الملكي والمتضرّرين من الثورة من الإقطاعيين وغيرهم.

وبالطبع كان هناك بعض الخيوط التي ترتبط بشركات النفط والدول التي تقف وراءها، والتي أعلنت صراحة عن عدائها للحكم الجديد، في محاولة لإعادة “حصان تموز الجامح” إلى الحظيرة، وخصوصاً بعد الخروج من حلف بغداد الاستعماري وفكّ الارتباط بالكتلة الاسترلينية، وبالأساس في الخوف من وقوع العراق في قبضة الشيوعية ودائرة النفوذ السوفييتي.

ليس هذا فحسب، بل إن معسكر الخصوم كان قد امتدّ إلى داخل الوسط الديمقراطي أيضاً، سواءً في الحكم أو خارجه، الذي جرى الاستهانة به في إطار نزعة تسيّدية استعلائية سادت صفوفنا، وانعكست على علاقتنا بـ”الحزب الوطني الديمقراطي” بقيادة كامل الجادرجي وجناحه الآخر “الحزب الوطني التقدمي” بقيادة محمد حديد، وشخصيات محسوبة على عبد الكريم قاسم، عسكريين ومدنيين.

وتلك للأسف كانت السياسة العامة السائدة، وظروف الصراع التي اتخذت طابعاً متعصّباً ومتطرّفاً وإلغائياً على تناقضاته في إطارات يسارية طفولية في الممارسة اليومية، ويمينية في الموقف من استلام السلطة، وهو ما ينطبق على جميع القوى السياسية دون استثناء بشكل أو بآخر حتى وإن كان على نحو معاكس، وأعتقد إننا بسببها، إضافة إلى أسباب أخرى مهمة، دفعنا ثمناً باهظاً ونالنا من حملة تنكيل ما لم ينل أحداً، سواء في فترة عبد الكريم قاسم، وخصوصاً بعد خطابه الشهير في كنيسة مار يوسف واتهامه الشيوعيين بالفوضوية في أحداث كركوك أو بعده، في ظل حكم انقلاب شباط (فبراير) العام 1963 وما بعده، حين انفلت العنف على مصراعيه، ليتم قتل المئات تحت التعذيب، واعتقال عشرات الآلاف من الشيوعيين وأنصارهم ومن الوطنيين العراقيين بشكل عام.

هل الدين غير الحب
الإمام جعفر الصادق

جماعة العلماء

نشطت بعض المجموعات الدينية القريبة من “المرجعية”، وكان أكثرها تأثيراً وأبرزها حضوراً “جماعة العلماء” التي عملت بدعم غير مباشر من قيادة السيد محسن الحكيم في التصدّي للمدّ الشيوعي، وكان رئيسها الشيخ مرتضى آل ياسين، بمساعدة محمد تقي بحر العلوم ومحمد جواد الشيخ راضي وإسماعيل الصدر، وحظيت بدعم أبو القاسم الخوئي ومهدي الحسيني الشيرازي وعبد الهادي الشيرازي وعبد الكريم الجزائري وبدعم محدود في البداية من السيد الحسني البغدادي، ولم يتجاوب معها عدد من رجال الدين، بل وقفوا ضد توجهاتها وفي مقدمتهم السيد حسين الحمّامي والشيخ فاضل القائيني والشيخ عبد الكريم الزنجاني، خصوصاً وقد رافق تحرّكها بعض الإشاعات التي شكّكت بمقاصدها، لاسيّما وقد كان باكورة هذا التحرّك هو تكفير الحزب الشيوعي، وكان البغدادي يتّفق معهم من حيث تحريم “الشيوعية الإلحادية” التي هي بنظره “المسألة الكبرى”، إلّا أنّه يختلف وإياهم في “المسألة الصغرى”، لأنه لا يجوز الإفتاء بإلحاد الشيوعيين، لأنها تؤدي إلى احترابات وفوضى وهو ما حاول السيد “الحفيد” توضيحه (انظر أحمد الحسني البغدادي تأصيل معرفي بين الثورية واللّاثورية، ج 5 القسم الثاني، 2011 ص 30 وما بعدها ).

وبقدر ما كانت تتودّد “الجماعة” في البداية لكسب “الزعيم المحبوب” و”ربّان السفينة الأفضل” كما أسمته في منافسة مع ما كان يخاطبه به الشيوعيون بـ”الزعيم الأوحد”، وفي محاولة استرضائية لغروره، فإنها حاولت أن تصبّ جام غضبها على الشيوعيين، مستغلة الأخطاء التي وقعوا فيها والاندفاعات التي قامت بها المقاومة الشعبية، حيث عملت على دق الأسافين بين الزعيم وبينهم، خصوصاً باستثمار بعض التصرّفات الصبيانية التي أظهرتها وكأنها معادية للدين. وكانت جماعة العلماء قد أصدرت مجلة باسم ” الأضواء الإسلامية” العام 1959 واستمرت حتى العام 1962. وكان رئيس تحريرها محمد باقر الصدر الذي كان يكتب افتتاحياتها (لخمسة أعداد) ثم تلاه الشيخ محمد مهدي شمس الدين وكان من بين محرّريها محمد حسين فضل الله.

وفي البداية كانت بياناتها تذيعها إذاعة بغداد (الراديو الرسمي) وكان معظمها يكتبه محمد باقر الصدر. وقد سمح لها بتأسيس مدارس ابتدائية ومتوسطة وإعدادية (في بغداد والبصرة والحلّة والنعمانية) كما قامت بتأسيس “كلية أصول الدين” بإدارة السيد مهدي الحكيم والسيد مرتضى العسكري.

لكن الحسني البغدادي لم يرغب في الانخراط بعمل منظّم ضد حكم قاسم، والأمر يعود لعدم رغبته في ممارسة عمل سياسي مباشر، وكان يفضل العمل الدعووي والوعظي غير المباشر، وثانياً وهذا مهم، لتعارض توجهات عمل جماعة العلماء، مع منهجه، يضاف إلى ذلك الإتهامات التي حامت حولها، لاسيّما بشأن دعم إيران والسافاك الإيراني لها، خصوصاً وأن نشاطاتها انصبّت على السعي لمنع تغلغل الحزب الشيوعي في مؤسسات الحكم، وذلك بعد رفع الحزب شعاره بالدعوة إلى إشراكه بالحكم في 1 أيار (مايو) 1959 والذي سرعان ما تم سحبه والتخلّي عنه.

وبالمناسبة فإن شعار الدعوة للمشاركة بالحكم في مسيرة الأول من أيار لم يصدر بقرار من المراجع الرسمية للحزب، بل وجد ضالته عبر طرحه في المسيرة من قبل أوساط متحمّسة حزبية وحتى غير حزبية، ولم يكن سلام عادل الأمين العام للحزب (حسين أحمد الرضي) الذي قتل تحت التعذيب العام 1963 يمانع في ذلك، بعد أن استشار بعض أعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية، الذين أبدوا استحساناً، وبعضهم حماسة لطرحه لأنه داعب ما كانوا يفكّرون به، ولامس جزءًا من طموحاتهم، وهكذا استمرأوا الترويج له، وكنت قد رويت جزءًا من ذلك في حديث خاص مع آرا خاجادور القيادي الشيوعي العمّالي حينها في مقالة موسّعة كتبتها عنه بعنوان “آرا خاجادور وزيارة التاريخ” (صحيفة الزمان العراقية ابتداء من 28/1/2016).

وكان الشعار قد انتشر مثل النار في الهشيم، ولم يعد ممكناً التراجع عنه، ولعلّ ذلك واحد من أخطاء القيادة الشيوعية، التي انساقت وراء أهوائها واضطرّت إلى مداهنة الشارع والسير خلف عواطف ورغبات بعض القياديين، دون حساب موازين القوى الداخلية والعربية والعالمية، وردود الفعل المحتملة فضلاً عن ذلك دون وضع استراتيجية لكيفية وضع هذا الشعار موضع التنفيذ الفعلي، في حين كان عليها قيادة الشارع لا السير في ذيله، خصوصاً برفع شعارات ذات طابع شعبوي وديماغوجي، إذْ لا يجوز طرح مثل هذا الشعار الستراتيجي وتبنّيه بمثل تلك الخفّة دون دراسة وتمحيص لنتائجه الخطرة وتأثيراته على مستقبل الحزب.

الأديان التي تعلّم ” الحب الأخوي” استخدمت ذريعة للقتل، وأعظم اكتشافاتنا العلمية صارت أداة دمار شامل .

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com