مقالات

قصة قصيرة : ( نصف المبلغ )

في احدى الليالي منذ سنوات عديدة , تعطلت شاحنتي الخاصة للمتجر الذي كنت أمتلكه في ضاحية المدينة والتي كنت أستعملها لنقل المؤن الخاصه للمتجر من بضائع مواد غذائية، خضار، فاكهة، وكل ما يحتاجه المتجر من مواد أخرى متنوعة .
هذا المتجر كان من أوائل المتاجر التي تم افتتاحها في المدينة . . خدماته كانت موجهة للمهاجرين في تلك الضاحية، لذلك كنت أحرص على عرض كل المواد الغذائية التي تلزمهم والتي تُذكِّرُهم وتربطُهم بالبلاد التي أتوا منها . . ! و على هذا نشأت علاقاتٌ و روابطٌ هي أقرب للصداقة منها للتجارة , فقد أصبح المتجر مقصداً و مكاناً يجتمع فيه الأفراد وذلك لغرض شراء المواد التي تلزمهم وكثيرٌ من الأحيان لتبادل الأحاديث و الأخبار و يصحبها حلولٌ للمشاكل العالقة في تلك الضاحية , بل أكثر من ذلك، كان المتجر مكاناً للقاءات والاجتماعات الفردية والعامة.
وقد جرت العادة أن نساهم نحن أصحاب هذا النوع من المتاجر و المحلات التجارية , و على قلتها في ذلك الوقت بإرسال مبالغ من الأموال لمساعدة الأشخاص المحتاجين وخصوصاً إلى البلدان التي أتينا منها , ولذلك كان الكثير يأتون إلينا طالبين هذا النوع من المساعدات , وكنا نقوم بتلبية الطلبات قدر المستطاع , و ذات يوم أتى إلي أحدهم طالباً مني مساعدة إحدى العائلات التي قام أحد أبنائها بفقء عين طفلٍ آخر عن طريق الخطاء وذلك لدفع ديّة العين المفقوؤة.
شرح لي أنه يقوم بجمع المال لكي يرسله إلى تلك العائلة في الوطن الأم , رحّبتُ بالفكرة وقلت له إنني لا أحمل المال المطلوب الآن، لذلك طلبت منه أن ينتظر بعض الوقت بينما أحضر أنا المال , و صعدت إلى منزلي الكائن في الطابق الخامس فوق المتجر وأحضرت مبلغاً من المال ولم أستعمل المصعد على غير عادتي بل تسلقت الأدراج صعوداً وعدت بعد أن أخذت المبلغ ونزلت إلى المتجر وقدمت النقود للرجل الذي قام بدوره بإيصالها للعائلة المنكوبة، فشكرني الرجل و أثنى علي و ذهب في حال سبيله.
هنا كان الوقت قد أزف لكي أعرض الشاحنة على مختصٍ للتصليح فطلبت من صديقٍ لي أن يلحق بي بسيارته على أن أقوم أنا بقيادة الشاحنة إلى ورشة التصليح التي تقع عند أطراف المدينة , هذه الورش هي عبارة عن سوقٍ لتفكيك السيارات وبيع الخردة، وأصحابها استطاعوا أن يحوِّلوا هذه الورش إلى مكانٍ يجمع بين العمل والترفيه واللقاءات , فقد كانت بعيدةٌ عن المدينة لذلك تجد فيها مكاناً مخصصاً للطعام ولصنع القهوة والشاي، وغالباً ما يتوسط هذه الأماكن مدفأةٌ نظراً لبرودة الطقس .
قدت الشاحنة إلى إحدى الورش وصديقي يتبعني من ورائي، ركن سيارته في مكانٍ ليس ببعيدٍ ولحق بي بينما كنت أتحدث إلى صاحب الورشة الذي قال أنه يريد فحص السيارة قبل أن يتمكن من معرفة العطل (عملية تشخيص) , ولذا لا يستطيع الْبَتَّ في الأمر قبل التشخيص وطلب مني أن أعود مع صديقي إلى عملي وأن أرجع إليه لاحقاً لإحضار الشاحنة كخيارٍ أول، أم أنه يقوم بالتشخيص وإصلاح العطل بشكلٍ فوريّ كخيارٍ ثانٍ، ولكنّ هذا يتطلب مني ومن صديقي الانتظار، وأخبرنا بأنه يمكننا الجلوس في تلك الغرفة الدافئة ونحتسي القهوة أثناء عمله , و بالفعل دخلنا إلى ذلك المكان وكان في صدره أريكةٌ جلديةٌ سوداء متسخة وفي إحدى زواياه ماكينةٌ لصنع القهوة وإلى جانب تلك الماكينة لفتت انتباهي بندقيةٌ هوائية كنا نستعملها فيما مضى لاصطياد العصافير والأرانب والجرذان عندما كنا صغاراً.
و أذكر أنني كنت أجيد استعمال تلك البنادق الهوائية التي تعمل على ضغط الهواء، فقلت لصاحبي إنها فرصةٌ لا تُعوّض لكي نطلق بعض الطلقات الهوائية بانتظار إصلاح الشاحنة، ولكن هل بإمكاننا استعمالها . . ؟ فجاء الرد من صاحب الورشة : بالطبع يمكنك ذلك إن كنت تعرف كيفية استعمالها . . !  رمقتهُ بنظرة استعلاءٍ و تباهٍ قائلاً : أأجيد استعمالها . .! قلتها و أنا أسحب سيجارة من علبة السجائر لكي استعملها كهدفٍ أصوِّب عليه قائلاً سترى مني ما لم تره من قبل , وتفحصت المكان فوجدت عجلاً كبيراً خاصّاً بالجرافات مركونٍ إلى حائط في الورشة فاخترته قاعدةً لكي أضع السيجارة عليه في وضعٍ قائمٍ و رحتُ أصوِّب البندقية إلى تلك السيجارة وأطلق طلقةً تلو أخرى , وصاحبي و أنا تبادلنا التصويب على السيجارة، وطلقات تلك البندقية عبارةٌ عن قطعةٍ من القصدير صغيرة الحجم مقعورة الجوانب، تضعها داخل البندقية ثم تقوم بدك البندقية بالهواء لتطلقها وتسمى حبة خردق .
حان دوري مرة أخرى للتصويب والاطلاق فقمت بأخذ نفسٍ عميقٍ و وجهت عيني اليسرى إلى تلك السيجارة وأطلقت حبة الخردق تلك ثم رفعت عيني لأرى إن أنا أصبت الهدف، لكنني وقتها رأيت الطلقة ترتطم بالعجل المطاطي لترتدّ وبشكلٍ مستقيمٍ تجاهي مباشرةً لا بل باتجاه عيني وقد رأيتها تسابق الريح لتصيبيني في عيني اليسرى تماماً في البؤبؤ . . ! وسمعت صوت ارتطامها في عيني كمن يرى النجوم في عز الظهر , فصرخت بصاحبي، لقد أُصبت . . لقد أُصبت . . ! خذني إلى المشفى.
و وضعت كفي على عيني والألم يعتصرني، ولم أجرؤ على رفع يدي وصرت أسأل صاحبي إن كان هناك دماء . .؟ فأجابني : أجل ولكن ليس بالغزير ! خذني إلى المشفى وبسرعةٍ قلتها له بصراخ . . ! تحملق جمهورٌ من الناس حولي شاخصين أبصارهم تجاهي ومنهم صاحب الورشة نفسه متسائلين باستغرابٍ عمّا حصل ,  وأنا أقول لهم لا شيء، فقط افسحوا لنا المجال للخروج وقام صاحبي بإحضار سيارته وجلست فيها وأنا أتلوّى من الألم، قدني إلى الطوارئ يا صاحبي بسرعةٍ أرجوك  . . خلال الرحلة رحت أصرخ وأقول له : نصف المبلغ . . ! نصف المبلغ . . ! ثم أعود لأتلوى مجدداً من الألم واضعاً كفي على عيني ثم أعود للصراخ قائلاً : له نصف المبلغ . . ! سألني صاحبي باستغرابٍ، نصف المبلغ ماذا . .؟ ماذا تقصد وأنا أصرخ : له نصف المبلغ  . . ! عندها رغم ألمي ووجعي رويت له أنني كنت قد أعطيت مبلغاً من المال لرجلٍ سألني أن أساهم في دفع دية عينٍ ولم يشترط عليّ مبلغاً معيّناً فصعدت إلى منزلي وأخذت مبلغاً من المال إلا أنني وخلال نزولي مترجلاً اقتسمت المبلغ إلى نصفين لأنني فكرت أن المبلغ الذي نويت أن أعطيه إياه كبيراً . . ! فلماذا لا أقسمه بيننا خاصةً بأنني لم أبُح للرجل بقيمته . . ! وقلت لصاحبي، لو أنني استعملت المصعد فلن يكون وقتها متسعٌ من الوقت لقسمته . . ! لذلك أقول الآن : “له نصف المبلغ، له نصف المبلغ” عندها لم يَدْرِ صاحبي ماذا يفعل أيضحك أم يبكي راثياً على حالي .
بقلم الكاتب
ماهر دبور
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com