مقالات

بصري بين الجبال ١٠من ١٢ .

هيئة التحرير .

الباحث عبد الحميد برتو .

قرار العودة الى الوطن

بعد أن وقع الإحتلال الأمريكي لبلادنا في 9/4/2003، توزعت مواقف المعارضين العراقيين للنظام السابق في الخارج، أفراداً وجماعات وأحزاباً، بصدد نوع وشكل وطرق العودة للوطن الى مواقف متنوعة. يقررها ويتحكم بها العديد من العوامل والمؤثرات، منها: نوع الروح الوطنية والطبقية، مستوى التربية السياسية والإجتماعية، المهارات المهنية، المصالح الشخصية وروح الإنتفاع، الإنتماءآت الضيقة دون الوطنية العراقية، وحتى نوع التربية والقيم العائلية.

تَحَوَّلَ العديد من المعارضين السابقين الى أداة رخيصة بيد الأمريكيين، وكل الطامعين بنوع من الهيمنة والنفوذ السياسي والإقتصادي في العراق. وقع ذلك التَحَوَّلُ قبل الإحتلال وبعده والى يومنا هذا. عاد قسمٌ خلف غبار الدبابات الأمريكية، وعبر الشحن الجوي أو البري وبملابس القوات الغازية. دخل قسم على هيئة فصائل مسلحة عبر الحدود العراقية مع إيران. كما عاد أفراد ضمن جماعة سياسية دينية أو عرقية أو علمانية.

تنوعت العودة الشخصية بعد الإغتراب المديد للأشخاص بدورها أيضاً. أخذت أشكالاً وأهدافاً كثيرة، مثل: اللقاء بالأهل، إنهاء الإغتراب الطوعي أو القسري، العمل عبر عقود سنوية مع الخارجية الأمريكية أو “سي آي أي” C.I.A وكالة المخابرات المركزية. كما تلقى المئات تدريبات عسكرية وأمنية في المجر وغيرها، تحت إشراف واشنطن. عاد قسم من المعارضين بمؤهلات علمية أو مهنية أو فنية، وقسم آخر من دونها. كما نظمت دول الجوار أتابعها، خاصة إيران لتكتسب حُظْوَة مؤثرة في توجهات البلاد السياسية والإقتصادية اللاحقة، كان حَضُّ هؤلاءِ العائدين وافراً بالمناصب عبر الولاء أو إزدواج الولاء أو الخيانة الوطنية. قسم حصل على إمتيازات بسيطة بالمقارنة بأعمال النهب واللصوصية مثل: التقاعد، الرتب الوظيفية والعسكرية دون مؤهلات وغير ذلك.

لا توجد إحصاءات دقيقة عن عدد العائدين أو الذين رفضوا العودة. ولكن المؤشرات المتوفرة تشير الى أن الأغلبية لم تعد نهائياً. والأسباب هنا متنوعة أيضاً. منها في الغالب أو المعدل العام يغلب عليها الحس الوطني والكرامة الشخصية والوطنية. قسم رفض العودة الى أن يتضح الموقف. ولهؤلاءِ أيضاً رؤى وأهداف ودوافع مختلف. طبعاً لا يستوعب هذا الحيز الصغير موضوعة العراقيين في الخارج، وهو موضوع يستحق الدراسة والعناية الكبيرة من زواياه الإنسانية والوطنية والإجتماعة وغيرها.

يصف صاحبنا عودته الى الوطن في الشهر الثامن من عام 2003 بالقول: “أكملت 28 عاماً من الغربة”. إنه يسعى الى وضع حد للغربة الإضطرارية. يسعى لخدمة بلاده عبر جهده العلمي، وفي إختصاصه. والعمل على إعادة توظيف تجربته العلمية والتدريسية تحديداً. قرر زيارة العراق عن طريق القامشلي، مروراً بكردستان العراق، ومن ثم الى بغداد، والتوقف في النجف لزيارة ما تبقى من عائلة زوجته، ليحط الرحال في البصرة المعطاة.

يقول عن محطته الأخيرة: “دخلنا البصرة عن طريق المطار، حتى تقاطع خمس ميل، وهنا شاهدت الخراب الذي حل بمدينتي البصرة الفيحاء، التي حين تركتها عام 1975 كانت أجمل من مدينة دمشق آنذاك. أسْتُقْبِلْتُ بحفاوة في مسقط رأسي، وشعرت في حينها بالواجب الذي يجب أن نفعله من أجل الشعب رغم أن الصورة لم تتضح بعد عن مزاج الجماهير ووعيهم”. (تجربتي ص 150)

بدأ السعي للعمل في مكانه الطبيعي جامعة البصرة، كدين في رقبة إبنها. فالمدن تحنو على أبنائها وعليهم رد الجميل. قَدَّمَ الوثائق المطلوبة. بَقِيَّ في العراق نحو ثلاثة أسابيع. عاد الى دمشق ومن ثم الى كوبنهاﮔن للتشاور مع زوجته لترتيب العودة النهائية الى العراق. أتم إجراءآت العودة في منتصف الشهر الخامس 2004. تابع معاملات التعيين في جامعة البصرة. على الرغم من كل التطمينات التي تلقاها، لم يُفلح بشيء ملموس. إستمر في عمله حتى الشهر السابع من عام 2005 في دمشق. لم ينقطع عن المحاولة للعمل في الوطن، وحصل على دعم للعمل في السليمانية.

أبْلِغَ بعد ذلك بأن الأستاذ الدكتور سامي المظفر، وزير التعليم العالي والبحث العلمي يطلب حضوره في مكتبه. طرح عليه فكرة السفر الى السليمانية. أبدى المظفر إعتراضه، وطلب منه الوثائق اللازمة للتعيين بعد أن أخبره بما حصل له بجامعة البصرة. أصدر قراراً يقضي بالعمل في مركز الوزارة. تحديداً بمكتب الوزير. يقول الحجاج: “وقبلت بالراتب الزهيد فرحاً بعودتي الى وطني”. (تجربتي ص 155)

جاء الفرج بعد تعينه مدرساً في جامعة البصرة. ولكن لم يغيب شعوره بالمرارة من الإهمال، الذي عانى منه على طريق حصوله لحق العمل في بلاده ومدينته. لم يبخل بتقديم كل جهوده لخدمة الجامعة وطلابها. ظل يعتز بإنشائه لمختبر الهندسة الوراثية في جامعة البصرة، وإعداد كتاب مرجعي في إختصاصه، والأشراف على طلبة الدراسات العليا (الماجستير والدكتوراه)، والمشاركة في العديد من الندوات والورش العملية والعلمية لتدريب الكوادر العلمية والفنية. إستقبال المختبر أكثر من 30 طالبَ دراسات عليا وباحث من مختلف أقسام وكليات جامعة البصرة وجامعات أخرى، مثل جامعة ميسان وذي قار.

بعد إختياره في عام 2014 ـ 2015 لرئاسة قسم علوم الحياة بكلية العلوم قدم مشروعاً لنظام تعلمي وإداري تطويري ينصف طلبة الدراسات الجامعية الأولية، والإرتقاء بحالتهم وظروفهم. لم يروق ذلك لأصحاب المصالح الأنانية الخاصة. ظل يرصد تردي الحياة الإجتماعية والجامعية أيضاً، دون أن تنكسر إرادته إتجاه عمله. ففي تلك الظروف والأجواء بادر الى طبع كتاب متخصص في البيولوجيا الجزيئية عام 2016 على نفقته الخاصة.

لم يتردد في توجيه النقد اللاذع لكل مظاهر وتجليات وصفات النفاق والكذب والغش وإنعكاس ذلك على المجتمع الجامعي. وأشار بغضب وحسرة وألم الى الأوضاع الإجتماعية التي سادت العراق والبصرة تحديداً. قال عنها إنها وصلت الى حالة مريعة.

لاحظت إهتمام صاحبنا بما حققه في إطار العمل من أجل إستمرار الحياة بكرامة ودون عوز، ومن أجل خدمة البلاد والإختصاص العلمي. ولم يغفل مساهماته في العمل السياسي. هذا التناول المكثف والتفصيلي أوحى لي بأنه يريد مخاطبة رفاقه ليقول لهم: هذا ردي على موقفكم، وهذا ما حققته في العمل والتدريس والمهنة عامة. لم يطل إنتظاري لنتيجة هذا التصور أو الإنطباع، حتى جاء تعلقيه على الموقف بصورة عامة بالفقرة التالية في كتابه (تجربتي ص 163). وكتب في خاتمة حديثه عن منجزاته العلمية، بأنه توصل الى نتيجة تفيد بأنه سلك الطريق الصحيح.

جاء في تلك الفقرة: “وهكذا كانت إنجازاتي العلمية، التي، أفتخر بها بتواضع، والتي تثبت أن قراري كان سليماً حينما خرجت من كردستان، ولولا هذه الخطوة، كما أعتقد، لكان مصيري – ربما ـ أشبه بالضياع، والغريب في الأمر أن (إصرارهم) لسلوكهم السابق لازال قائماً، ولم يسألني أحد باعتباري كادراً علمياً (لا أزال موالياً؟؟) عن ما أطمح اليه، وقد وزعت (الغنائم) كبقية الأحزاب الأخرى بطريقة المحاصصة وحصرت لقلة من (الكوادر القيادية للحزب وبعض المقربين منهم) كما يعلم القاصي والداني والبعض منهم لا يستحقونها لا من بعيد ولا من قريب وحصلوا عليها بالوراثة أو المحاباة كما كان سابقاً”.

أدعو رفاقي في الحزب وخارجه الى العمل بصبر وواقعية في التعامل مع مصائر المناضلين. والإنتباه الجدي الى كل ما يؤلمهم من تصرفات سابقة وحالية ولاحقة. في المؤتمر الأخير ـ العاشر صدر قرار يدعو الى المتابعة الجدية لأوضاع الرفاق. ولكن لم أسمع عن معالجة حالة واحد. لتكون قدرة الآذان أقوى على سماع الشكوى مهما بدت حدية، وحتى جائرة في نظر القائمين على الأمر. لا تتوهموا أن القسوة إتجاه أي شحص تضر به فقط. هي في الواقع معول تدميري يتطلب حساً حقيقياً للشعور بخطره. تابعت شكوى وضجر وغضب هذا النصير السابق، ووجدت فيها حنيناً يُمكن أن يتحول الى موقف إيجابي مفيد للحزب. أطلب إعادة قراءة وصايا الرفيق فهد في كل يوم، ففيها الكثير مما يعزز الوحدة الداخلية، ويزيدها صلابة، ويعمق الإلتفاف الإجتماعية والمجتمعي حول الحزب، ويمد الجسور القوية إتجاه كل الآخرين، الذين حافظوا على الوطنية العراقية حسب. لا تتركوا أية شكوى دون جواب شافياً وافياً.
يتبع …

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com