مقالات

المقاومة الفرنسية للاحتلال الألماني .

هيئة التحرير .

الشعوب تقاوم ترجمة لأربعة مصادر عن المقاومة د. ضرغام الدباغ الطبعة الأولى برلين / 2020 صورة الغلاف : المقاومة في ميناء سيباستوبل للرسام السوفيتي الكسندر دينيكا ) Alexander (Deyneka

صادر عن المركز العربي الألماني برلين

2

النسخة مجانية المطبوع رقم : 10

فهرس

المقاومة الشعب الألماني ضد النظام النازي ارتهان القرار السياسي بيد المؤسسة الدينية

3

المقاومة الفرنسية المقاومة السوفيتية المقاومة التشيكية المقاومة اليونانية

أهداء
قادة المقاومة العربية ضد الغزو والعدوان إلى الأبطال الذين لم يبيعوا أوطانهم حملوّا السلاح، أو القلم، أو راية الرفض كل حسب طاقته … قاوموا المحتل وارتضوا التضحية بكل شيء وكسبوا الشرف والتاريخ
إلى كل مقاوم شريف

4

المقاومة الفرنسية للاحتلال الألماني

1940 ــ 1944

ترجمة : د. ضرغام الدباغ برلين

2017

5

هنري آمور

كتب التقرير : ھنري آمور )Henri Amouroux( دير شبيغل )Der Spiegel( : الأعداد : 20 / 21 / 22 / لسنة 1990 ھامبورغ ـ ألمانيا : )Hamburg — Deutscjland( عنوان الكتاب بالألمانية : الفرنسيون تحت الاحتلال الألماني: متعاونون ـ أبطال ــ خونة Die Franzosen unter Deutsche Besatzung

Kollabos , Helden und Veräter

ترجمة : د. ضرغام الدباغ برلين : 2017

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الفهرس

المقدمة الفصل الأول : الحرب ــ الاحتلال الغير منتظر الفصل الثاني : الفرنسيون تحت الاحتلال الفصل الثالث : الشعب ينخرط في المقاومة الفصل الرابع : التحرير … فرنسا حرة

6

ارتهان القرار السياسي بيد المؤسسة الدينية مقدمة

كنت قد قرأت ھذا الكتاب الذي نشر على حلقات ثلاثة في مجلة دير شبيغل )Der Spiegel( الألمانية المشھورة ولكني لم أعثر إلا على الفصل الثاني، وترجمته في حينه )وقت صدوره(، إلا أن الكومبيوتر سھّل لي العثور على الحلقتين الأولى والثالثة، فاكتمل الكتاب عندي.

لا أنكر أني فرحت جداً بقراءة تفاصيل الحياة الفرنسية تحت الاحتلال، التي اختار لھا كاتبھا عنواناً صادقاً، بقوله : متعاونون، أبطال وخونة. وقرأت مقاطع رھيبة في التضحية من أجل الوطن، ليس بھدف أن نتعلم فحسب، بل شعبنا في كل مكان : المغرب، الجزائر، تونس، ليبياـ مصر، السودان، اليمن، فلسطين، سورية، العراق وأقطارنا الأخرى، ق ّدمنا تضحيات غالية تستحق أن يتعلم منھا شعوب العالم

الطامحة للتحرر والانعتاق.

وإذا كانت البطولة والاستشھاد من أجل الوطن يحملنا على الوقوف احتراماً لذكرى الأبطال الذين بتضحياتھم جعلوا الغد ممكناً ….. أبطال قدموا حياتھم بسرور بوعي للأجيال المقبلة، مكتفين من المجد بحب الوطن .. وأن تذكر أسماؤھم على أعمدة… نعم أعمدة ھي ركائز وجود الوطن الذي شيدته دماء

وتضحيات ھؤلاء الأبطال.

سنقرأ ھنا كيف أن الاحتلال لوحده يمثل إھانة، ومواقف البشر حيال ھذه الإھانة يختلف من فرد لآخر بحسب تكوينه العقلي والثقافي والسياسي، وبحسب قدراته في الصلابة والصمود. فمن المعروف أن الأشخاص التافھين سيجدون)الذرائع( لكي لا يظھروا أي مقاومة لمحتل الوطن، ثم ذرائع أخرى ليظھروا )التفھم والتقبل( وأخيراً السقوط الأخلاقي الذي لوحده فصل في الانھيار النفسي يتجسد في التعاون مع

العدو المحتل.

التعاون مع العدو المحتل: ھو ما تطلق عليه القوانين )الخيانة العظمى(. وفي اللغة العربية رغم ثرائھا في المفردات، إلا أنھا لا تضع كلمة أو مفردة أو مصطلح خاص للمتعامل مع العدو المحتل، فنحن نقول خائن على كل من يخون الأمانة من أبو رغال وحتى من يخون ثقة صديقه، وحتى لمن يخون زوجته مثلاً، وفي اللغة الألمانية، وأظن في لغات أوربية أخرى كالإنكليزية والفرنسية، ھناك مصطلح إنساني / سياسي / قانوني للمتعاون مع العدو المحتل )Collaboration( والقوانين قاطبة تعتبر ھذه ذروة الخيانة، ولكن

بعض المتساقطين يفعلونھا بسرور وھذا ما يدل دون ريب على سقوطھم الداخلي قبل سقوطھم الخارجي.

المتعاون: لذلك قلما نجد بين المتعاونين مع العدو عبر التاريخ وفي كافة دول العالم، شخصاً يستحق الاحترام، فھناك دائماً ثغرة في تكوينه الشخصي، نعم إن المتعاونين مع العدو ھم شخصيات محطمة نفسياً وعائلياً، أو فاشلة سياسياً واجتماعياً، والعامل المشترك الأعظم بينھا، ھو المعاناة من ھزيمة داخلية، تتمثل بفشله في تحقيق شيء أراد إنجازه وفشل في تحقيقه، وأبرز دليل على صواب ھذا التحليل، ھو أن قوى الاستخبارات حين تقرر تجنيد شخص ما تخضعه للدراسة والفحص والتمحيص وفي ملفه سؤال جوھري ” لماذا قرر ھذا الشخص أن يخون وطنه ” وبعبارة شبه مھذبة، لماذا تريد التعاون معنا ؟ فيمطروه بالأسئلة الكثيرة المعقدة والمكررة والماكرة لعلھم يكتشفون أين ھي الثغرة، ثم يخضعونه لجھاز كاشف الكذب، وأخيراً يضعونه تحت التجربة والاختبار، فأن يخون الإنسان وطنه شيء شاذ غير معقول، ونشبھھا بجريمة الزنا بالمحارم. قد تكون لدى أي شخص ملاحظات حول الوضع في البلاد، ولكن إدخال الأجنبي للبيت ليعبث كما يشاء، يسقط أي اعتبارات لھا علاقة أولاً بالشرف، وحتى في الاعتبارات العقلانية لمن يبحث عن المصلحة فيما يعمل ويھدف. العدو المحتل ما جاء بجيشه وقواه السياسية وتجشم

7

المتاعب والخسائر، إلا من أجل مصلحته، فھو حريص على تأمينھا، وليس للمتعاون سوى المبلغ الذي يدفعون له، شريطة تواصل )التعاون( وأن يكون طوع الإشارة، وإلا فالمتعاون شخص رخيص جداً وتصفيته لا تغضب أحداً.

الاحتلال )Occupation(: ھو عمل كبير تقوم به الدولة المعتدية، وتأتي لبلد ما وتقھر إرادته، وتلغي استقلاله وتعبث بمقدراته وموجودات البلاد، وتقمع أي قوة تعارض ما تقوم به وتوازن القوى يؤشر لصالح المحتل بالطبع، وليس ھناك محتل شريف ومحتل غير شريف، الاحتلال من أولى أھدافه البديھية، تدمير إرادة المقابل، وتدمير قواه السياسية والاقتصادية والعسكرية بالطبع في مقدمة الأھداف. والمحتل بداھة لا يحترم استقلال البلاد، وبداھة مرة أخرى لا يعمل على تعزيزھا، ومن الطبيعي أن يفًكر باستًعادة ما فقده خلال عملية الاحتلال التي رآھا العدو، أنھا تتويج لعملية سياسية بالأصل، بلغت حدا معلوما من

تناقض الإيرادات، بلغت مرحلة الصراع المسلح، واستخدام القوات المسلحة.

معسكر المقاومة )Resistanc(: إلا أن الشعب المحتل لديه قوة مادية لا تنضب تتمثل برفض الاحتلال ومقاومته. ومفردة المقاومة بدورھا عريضة جداً، تبدأ من مقاومته بالسلاح، وتبلغ درجة عدم إلقاء التحية، أو التعاطي بأي شيء معه. ومن مظاھر المقاومة في بلادنا العراق، تتمثل أن كل أو معظم جنود جيوش الاحتلال في العالم يرتادون المقاھي والمطاعم والأماكن العامة، ومنھا فرنسا موضوع كتابنا ھذا حيث كان الألمان يرتادون أي مكان يريدون في فرنسا، ولكن المحتلين في العراق لا يأمنون في الخروج من

معسكراتھم ومناطقھم الآمنة ..!

ًًً
والمقاومة ذروتھا مواجھة العدو بالسلاح، أو مقاطعته سياسيا، واجتماعيا، وثقافيا، وعدم الحديث معه، بل

وعدم إلقاء التحية، وأن تحاول بأي وسيلة متاحة أن تعبر فيھا أن العدو غير مرحب به في بلادنا.. ” من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، وإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان “. والفرنسيون لم يكونوا كلھم متعاونون، ولا كلھم مقاومون، ولا أرى فائدة لنحصي أي معسكر كان أوسع وأقوى، من يكسب المعارك ليس بالضرورة أن تكون القوة المادية المسلحة لجانبه، بل وأن تكون خطواته

على أسس عادلة، ويقبلھا الشعب بصفة عامة.

لا أريد في مقدمتي أن أستبق الكتاب، ولكني أريد تسھيل مھمة القارئ. ألمانيا احتلّت فرنسا، وھم كانوا يبحثون داخل المجتمع الفرنسي عن متعاونين، وھو دأب المحتلين وتحدث في كل البلدان التي تتعرض إلى غزو واحتلال. سينبري أشخاص يدعون أتباع ً الحكمة ومسايرة القوة التي احتلت البلاد، ومنھم من يعتقد ضرورة تجنيب البلاد الًدمار، ولكن ھناك دائما من يريد اغتنام الاحتلال كفرصة ليصفي حسابات داخلية، وھناك انتھازيون دائما، والباحثين عن الأمن والمكاسب، ووظيفة الدفاع عن اًلوطن مھمة لغيرھم، ومقاومون للاحتلال من مشارب شتى، وطنيون، وقوميون، واشتراكيون، وأيضا يحتمل ھذا المعسكر شقاوات وزعران، وأشقياء، بل ومجرمين ھاربين حتى..! لا نستطيع مناقشة من يريد أن يقاوم احتلال بلاده.. لماذا تقاوم … الطبيعي ھو أن يقاوم، والشاذ ھو من يرتمي تحت أقدام المحتلين، لا مبرر ولا عذر

لھم .. ولذلك صمت الماريشال بيتان )المتعاون( ولم ينطق بحرف واحد طيلة محاكمته بعد التحرير.

لقد قاوم الفرنسيون بالسلاح، وقاتلوا قتالاً مجيداً، وقدموا التضحيات السخية من أجل بلادھم، ولكن بينھم من قاوم بالكلمة: ــ الشاعر الكبير بول أيلوار الذي كتب يمجد سقوط صديقه غابريل بيري : إلى غابريل بيري، أحد أبطال المقاومة الفرنسية وقت الفجر أوثقوه إلى خشبة الإعدام وقد أرعبه ثقل جسده عالماً بأن الملايين … الملايين من الرفاق

8

لابد آخذون بثأره لقد ھوى……. ثم أشرق النھار

ــ الشاعر الفيلسوف بول فاليري الذي كتب:

أ ّواه كم رأيت وجوھاً ف ّر الشرف من جباھھا……

ً
وكتب أيضا:

ليس ھناك نھار أكثر ألقاً من اليوم الذي يقتل فيه الخونة………

ــ وكتاب القصة والرواية مثل فرانسوا مورياك، وفيركور بعمله الكبير “صمت البحر”، والشاعر الكبير رينيه شار، الذي كان يكتب باسم مستعار، والشاعر روبير دينوس، والشاعر الكبير لوي أراغون …وآخرون كثيرون….. معسكر الشرفاء أيضاً كبير ..!

المقاومة كانت تجد طرقاً كثيرة لتوزع أعمال الكتاب الأحرار، وقد أسسوا اتحاداً للأدباء والكتاب الأحرار، كانوا يضعونھا سراً في صناديق البريد، أو يوزعونھا في الليل تحت جنح الظلام، وأحياناً كانت تقذفھا الطائرات البريطانية من الجو، كما لعبت إذاعة حكومة فرنسا الحرة برئاسة الجنرال شارل ديغول

دوراً مھماً في نشر الأدب المقاوم.

رسامون كاريكاتور، وتشكيليون، ومغنون، جنود معروفين ومجھولين في جيش المقاومة الذي ھو في النھاية جيش الشعب كله … اطرح منھم الخونة والمتعاونين، والأنذال، يكون الشعب كله معك، حتى الخائف الساكت في بيته ھو لك، الشعب خسر فقط أولئك الذين لم يكفھم جبنھم أو نذالتھم، فصاروا عوناً للمحتل …. وشطبھم من رصيده، ھل تريد أن تسمع منھم الذرائع بلغة خسيسة ملتوية )سأكتبھا بحروف

مائلة، كجذوعھم المائلة بل الخائرة ..(:

أنا .. قلت لن أستطيع أن … في الواقع، ھم جاؤوا علي .. أنا كنت … لا أدري فقد كان كل شيء … الحقيقة … صعب الوضع صعب … أنا أردت أن … ثرثرة لا معنى لھا، ومختصرھا : أنا أنزلق في بئر الخيانة … قالوا لي … غيري انحرف فانحرفت معه …إلخ

يا للأسف يا وطني … يا للأسف … أبناؤك الذين أطعمتھم وسقيتھمً من مائك الطھور … وشموا ترابك الحر المقدس المعطور … خانوك .. يا حيف … ولكن ھناك أيضا أبناؤك الذين يرددون بوجه الخائن قصيدة السياب :

بعد أكثر من نصف قرن على رحيل السياب يھتف باسمك يا وطني شاعر عراقي شيخ يقاوم احتضارهً باسمك، فارس الكلمة والقافية … العراقي الكبير … عبد الرزاق عبد الواحد أمير الشعر، رحل تاركا ساحة الشعر حتى إشعار آخر إمارة بلا أمير، مكانة ليس من السھل أن يبلغھا اليوم شاعر، مھمة شاقة حقاً بلوغ مكانة كالذروة التي تربع عليھا عبدالرزاق عبدالواحد. فقد حجز بوقفته الشجاعة مكانته في الصف

الأول من شعراء الأمة في القرن العشرين .. ما قيمة ما تكتب إذا لا ينفع الوطن والشعب ..؟ 9

الشمس أجمل في بلادي من سواھا، والظلام حتى الظلام – ھناك أجمل ، فھو يحتضن العراق

إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون أيخون إنسان بلاده؟ إن خان معنى أن يكون، فكيف يمكن أن يكون ؟

ويتميز المقاوم البطل عبدالرزاق عبدالواحد، الشاعر مقاتل الكلمة، بوصفه مقاوم، مناضل يمتشق سيفه …! نعم ھو شاعر يحلق في سماوات ھي غير فضاءات البشر، يرسم رؤى، ولكنه على الأرض مقاتلاً. ھكذا كانت رؤية عبد الرزاق عبد الواحد لوظيفته الشعرية والثقافية والإنسانية والوطنية، عبد الرزاق عبد الواحد، ابتدأ حياته مناضلاً وختمھا مناضلاً، منذ مقاعد الدراسة شاباً فتياً، والعراق ھمه وھاجسه، لا يرى الغد والمستقبل إلا من خلاله، إلى يوم غادرنا فيه،ً كان يحتل موقعه القيادي في قيادة الثورة العراقية

يحتضن راية العراق ويھتف بملئ فؤاده وروحه ھنيئا لمن لا يخون وطنه …

يا عراق، ھنيئاً لمن لا يخونك ھنيئاً لمن إذ تكون طعيماً يكونك ھنيئاً لمن وھو يلفظ آخر أنفاسه تتلاقى عليه جفونك.

أشھد أنه مضى ليومه بكبرياء القائد العراقي … يفيض عزماً وقوة … مخلصاً وفياً حتى النفس الأخير … عبد الرزاق عبد الواحد قضى ويده على قبضة السيف … أتحدث عن عبدالرزاق عبد الواحد المناضل القائد … سلام عليك يا أبا خالد … وھنيئاً لك حب العراق والعراقيين …

المقاوم يقدم حياته، وھي ثمينة بلا شك، ولكن ھل ھناك شيء أثمن من الوطن … والحياة من يستحق أنً تقدم له ً سوى الشعب، الملايين ليس فقط التي تعيش الآن، بل تلك الملايين التي ستأتي من بعدنا لتجد وطنا محررا …. يا لھا من تضحية شريفة ..!

الشعر العربي المقاوم يزخر بصور الإرادة عندما تتحول إلى قوة مادية يستحيل قھرھا، يجسدھا الشاعر الفلسطيني العربي الشھيد عبد الرحيم محمود المجاھد .

وألقي بھا في مھاوي الردى وإ ّما مما ٌت يغيظ العدى

ورودالمناياونيُلالمنى

ولكن أغ ّذ إليه الخطى ودون بلادي ھو المبتغى

فقلبي حدي ٌد وناري لظى فيعلم قومي بأنّي الفتى

سأحمل روحي على راحتي فإ ّما حياة تس ّر الصديق

ونف ُسالشريفلھاغايتان

لعمرك إنّي أرى مصرعي
أرى مصرعي دون حقّي السليب

بقلبي سأرمي وجوه العداة
وأحمي حياضي بح ّد الحسام

ويتوعد الشاعر العرقي الكبير معروف الرصافي قتلة الشھداء وينشد في حفل جماھيري :

برئت ذمة المروءة منّا إن نُبسي يوم شنقكم أو تُنُوسي

وللشاعر العراقي عدنان الراوي قصيدة شھيرة يحرض الجماھير على النھوض والثورة ومقاومة الأنظمة الديكتاتورية الدموية، ألقاھا بمناسبة إعدام كوكبة من ضباط الجيش العراقي الوطنيين والقوميين، نقتطف منھا :

10

الراجفين من الغد ھناك بالطين الردي

قول من لم يحمد ليل العراق الأسود

المعطور تجمعھا يدي وكل حر أمجدي

للنار أي مخلد بين مط ّوق ومش ّرد

بزحفك المتج ّرد

قل للجلاوزة الطغاة العاجنين دم الشباب

المسكتين عن الحقيقة الظالمين الشعب في

يا حفنة من رملك قسما بابطال العراق

بالكاشفين صدورھم وبقية الأحرار فك الرھائن يا عراق

أقسم با? العلي العظيم … ما م ّرة شربت ما ًء بارداً إ ّلا وتذكرت العراق وأھلنا … أقسم با? العلي العظيم … ما م ّرة ضحكت، إلا خجلت بعدھا من نفسي، وأحدث نفسي : ولك عيب استحي وطنك محتل وأنت تضحك …. يا ليتني م ّت ألف مرة وصرت ھبا ًء منثوراً قبل أن أراك محتلاً يا عراق …

لن أزيد …. السيف أصدق أنباء من الكتب ……..

نريد العراق … لا ذرة تراب أكثر …. ولكن أرواحنا دون ذرة تراب مسلوبة … ليحكمه كائن من كان ولكن بشرط أن عراقياً، أي كان ولكنه مخلص للعراق ويأخذ راتبه من خزينة الدولة وليس من صناديق السفارات …

أنا أدعو الق ّراء إلى الدقّة في القراءة، والتأ ّمل في أبعاد الأحداث … ھذه أحداث مھمة جرت في بلد متحضر … اقرؤوا واستخلصوا النتائج والعبر .. لنستفيد من تجاربنا وتجارب غيرنا .. اقرؤوا رجاء .. لقد تعبت كثيراً في إنجاز ھذا الكتاب للقارئ العربي، دون أن أكسب لنفسي شيئاً ولا قرشاً واحد …!

ضرغام الدباغ برلين : 2017

لوحة الغلاف

لوحة رسمت بالمق ّص )السلويت ــ Silhouette( موضوعھا ……. مقاومة.. الشعب يقاوم, رجال نساء عمال فلاحون ومثقفون … الشعب يقاوم

11

الفصل الأول : الحرب ــ الاحتلال الغير منتظر

أطلق الروائي الفرنسي رولاند دورجية زمور سيارته عندما شاھد فجوة في رتل لا نھاية له من السيارات العسكرية الألمانية، وأخرج جسمه من النافذة ھاتفاً ” ھل بوسعنا يا للشيطان المرور ؟ “. الشرطي الفرنسي الذي كان يوجه حركة السير، كان يتصرف وكأنه يريد أن يسيطر بإشاراته على الجيش الألماني

المنتصر، فأردف القاص الفرنسي قائلاً ” الآن لا مجال للقصص ھنا، الألمان أولاً “.

كلن ذلك نھاية حزيران / 1940 في بوردو، والجيش الألماني يواصل غزوه لفرنسا منذ ستة أسابيع، ويقف الآن قبالة المدينة الفرنسية الجنوبية بوردو، في الوقت الذي كانت فيه حكومة باريس قد ھربت، وطوال أسبوع كامل، يقف ھذا الجيش المنتصر، ينتظر لكي يعطي الوقت للطرف المھزوم أن يتدبر حاله ويتفاوض بشأن البلاد. ورئيس الحكومة باول رينو يتواجد منذ مساء يوم 16/ حزيران في بوردو، وھو في اتصال مستمر مع الماريشال فيليب بيتان، البطل المنتصر في معركة فردان، وبطل الحرب العالمية الأولى، وعلى استعداد للانسحاب لصالحه، وكان قد ناشد مواطنيه عبر الإذاعة بأنه سيسعى للتوصل

للھدنة مع الألمان.

كان الألمان لم يدخلوا بوردو بعد، ّ ولكن الحرب الألمانية الصاعقة، والھزيمة التي عاناھا الفرنسيون، لم يكونوا قد عايشوا مثلھا من قبل، مثلت صدمة للبلاد التي لم تكن قد أعدت لحرب كھذه، ولا ھزيمة كارثية كالتي حدثت. وفرنسا 1939 طبعت في تلك السنة كتاباً لروبرت لافونت باريس بترجمة باول أوتو شمت في 24 / تشرين الأول: أن الدخول في حرب مع الألمان أمر لا يفھمه أحد، دون إلقاء نظرة قصيرة على السنوات التي سبقت الحرب. وفرنسا اعتباراً من حزيران 1944. لا يمكن فھمھا دون الانبھار، الذي خلقه

الانتصار الألماني لدى الكثير من الفرنسيين.

أي شعب كان ھذا .. الفرنسيون عام 1939؟ … لماذا لم يكونوا قادرين على اتخاذ أي قرار .. والذي بدونه لا يمكن خلق تحدي كبير. الفرنسيون ما يزالون يرابطون على أرضية الذكريات التاريخية الحزينة للحرب العظمى 1914 / 1918. على الرغم من أنھم كانوا يدركون، ولكن دون أن يعترفوا بذلك، أن فرنسا قد فقدت مكانتھا الأولى في أوربا، ولكنھا رغم ذلك ما تزال )فرنسا( تنصب نفسھا حامية للدول

الصغيرة )1(

والفرنسيون كانوا قد فوجئوا بأن التنمية الاجتماعية قد أفسدت التقاليد الفلاحية، والكاثوليكية، والعائلية وباختلاط قيمھا وقواعدھا ببعض أ ّدت إلى إرباكھا. ولم تنجح حكومة الجبھة الشعبية التي تشكلت عام 1936 من قبل الاشتراكيين ومدعومة من الشيوعيين، تمام النجاح، وداعمو اليمين لم يكونوا مرتاحين لھا، واليساريون لم يكونوا راضين، لأنھا لم تتمكن من إنجاز سوى نصف برنامجھا. كان الشعب الفرنسي )14.194,000مليون( يعيشون في بلد لم تشھد شيئاً يشيد فيه منذ عام 1914، ولم يخترع شيء، ولم يشيد

شيء. بل كانوا يزينون حياتھم بذكريات الماضي.

12

)لوحة فرنسية معبّرة ,ھتلر وموسوليني ينثران الطائرات والمدافع والمدمرات والقنابل ويتساءلان، : ترى ماذا سيكون الحصاد ….؟(

الرجال أو النساء، فلاحين كانوا أم من سكان المدن، أثرياء أو فقراء، كانوا منقسمين بعمق وكانوا غالباً يكنون الكراھية العمياء بعضھم لبعض، رغم أنھم كانوا يواجھون مخاطر متصاعدة يعترفون بھا، ولكنھم كانوا يبخسون أھمية الوحدة الوطنية الضرورية أكثر من أي وقت مضى. اليمين واليسار، الاشتراكيين والبورجوازيين في تمزقات ونزاعات لفظية وحشية وغالباً ما تتطور إلى عنف جسدي. وفي عام 1936 ساھم مليونان ونصف عامل في إضرابات كثيرة، أو كانوا من المتضررين بھا، بلغ عددھا )16.907(

13

إضراب. ودخل 32 نائب شيوعي من منطقة باريس فقط إلى الجمعية الوطنية )البرلمان(، وقام العمال الشيوعيين باستعراض قواھم، بتظاھرة إذ تجمھروا وقاموا بقبضاتھم المرفوعة بمسيرة في شارع المواطن.

وللمرة الأولى يتقلد فيھا يھودي، مھام رئيس الوزراء في فرنسا )ليون بلوم(، وكان ھناك تصاعد كبير في الأجور، لكن يقابلھا زيادة في الأسعار وكان التضخم الحاد يلتھمھا، وستحتاج البرجوازية لفترة طويلة لكي تتعافى من ھذه الأزمة، لم يكن عام 1939، ولا حتى عام 1940 كافياً للشفاء والتعافي منھا.

في الرابع عشر من تموز / 1939، كانت فرنسا تحتفل بالعيد الوطني بينما الحرب كانت تقترب، حيث

أقيم استعراض عسكري ھو الأضخم منذ يوم 14 / تموز / 1919 )بعد الانتصار في الحرب العالمية

الأولى(. وكانت فرنسا قد شھدت في العام الأسبق الاحتفالات بالذكرى العشرين للنصر الفرنسي على

ًًًً
ألمانيا، الآن ھي الذكرى 150 على الثورة الفرنسية. وكان استعراضا عسكريا رائعا. ولكنه كان شيئا

ً
يستحق السخرية حقا.

الموكب كان رائعاً من خلال الحشود البشرية، والعتاد الحربي وما وفرت له الدعاية، ولكن الأمر كان يستحق السخرية، وخاصة لمن يعرف قوة الجيش الألماني، ولكن من كان يعرف ذلك، المھزلة ھي بحسب رؤية اليوم، ھذا نعرفه الآن، بعد مرور سنة تقريباً على تمزق وھزيمة قواتنا وإبادتھا. ومھزلة أخرى تكمن بالمقارنة بالحشود المتفرقة التي كانت تستعرض بعد سنة أمام الجنرال ديغول في لندن، أو

الماريشال فيليب بيتان في فيشي. )2(

وكان الصحفيون قد أحصوا أكثر من 16,000 ألف راية في منطقة الإليزيه فقط، وكان ھناك أيضاً الكثير منھا في ضواحي باريس الحمراء )3( وحضور الاحتفال والحصول على مكان جيد للرؤية تكلف 500 فرنك، وكانت ھناك قطارات خاصة، ولكن لا أحد يدفع، جنود الفرقة الأجنبية )4( الذين كانوا يبتون في

العراء لكي يقفوا في الصف الأول لرؤية العرض الفخم.

ثم الطائرات، وحتى بريطانيا أرسلت سرباً من الطائرات، حلقت سوية مع سلاح الطيران الفرنسي منح لحشد البسطاء المتفرجين إحساساً مزيفاً بالأمان. ثم كان ھناك القوات الاستعمارية، من الھند الصينية والجزائرين والمراكشيين، والسنغاليين، الذي حضروا للدفاع عن الوطن الأم. ثم المسيرة البطيئة المھيبة لقوات الفرقة الأجنبية، وفي الختام المدرعات/ 100 دبابة ثقيلة كان ھديرھا له وقعه في الجمھور

الصامت، وتترك أنطباعاً واحداً : كم ھي قوية قواتنا المسلحة.

” أبداً … لم يكن لدينا في فرنسا جيشاً آلياً كالذي شاھدناه يسير في الاستعراض ” كتبت الصحافة في اليوم التالي، الجموع كانت معجبة، وحصل لديھا انطباع أنھم شاھدوا قوة لا يمكن مقاومتھا، ھذا الشعور الخادع سيتواصل لفترة طويلة … قوة …لا .. تقاوم …!

في 1 / آب / 1939، قبل شھر واحد من اندلاع الحرب كان تعداد القوات المسلحة الفرنسية الفاعلة )1 مليون و15 ألف رجل(، وبعد إعلان التعبئة العامة، في 2 / أيلول بلغ تعداد الجيش )6 مليون و 104 ألف رجل( منھم )4 مليون و 654 ألف رجل( في القوات المقاتلة، وحتى ھذه المرحلة كانت القوات الألمانية

ً
التي تواجھھم ضعيفة نسبيا.

وكان ھتلر من أجل أن يستطيع أن يخوض ھجومه ضد بولونيا بقوات قوية، قد سحب كل قواته من الجبھة الغربية، وفيما كانت الجبھة الشرقية تضم 62 فرقة، كانت ھناك 43 فرقة في منطقة الراين، ولكن من

14

بينھا لا يوجد سوى 11 وحدة فعالة، ولا شيء من الطائرات تقريباً، ولا دبابة واحدة، مقابل 2500 دبابة فرنسية.

وفي أوامره ليوم 31 / آب، و3 أيلول / 1939، ق ّرر ھتلر، أن المسؤولية في افتتاحية العداء تقع على عاتق فرنسا وإنكلترا بوضوح تام. وفي الجانب الألماني كانت الأوامر مشددة: ممنوع بقوة أي محاولة اجتياز للحدود بين فرنسا ــ ألمانيا بدون أوامر مباشرة من ھتلر، لدرجة أن الأوامر كانت تنص:” في حالة وجود دوريات معادية داخل الأراضي الألمانية، ينبغي أن يطلب منھا، أن تغادر الأراضي الألمانية دون

استخدام القوة “.

كانت سلبية الألمان ھي نتيجة لقرار اتخذ في القيادة، بمنح الأولوية في تركيز كافة القوى في بولونيا، وھكذا كانت السلبية الفرنسية فلسفة أقل ما يمكن من الجھد. لا بل أن القائد العام الفرنسي موريس غاملان، كان يحمل انطباعاً أن الألمان بكل قواھم يريدون الاندفاع في بولونيا، ولكن البولونيون كانوا يحثون القيادة الفرنسية ويحاولون أن يحملوھا على اتخاذ إجراءات عسكرية فعالة على جبھتھم، ولكن

الفرنسيين كانت لھم العديد من التحفظات.

كان ھناك حديث عن ” فعاليات تحضيرية ” ولابد أولاً من التعرف ” كم ھي قوية قطعات العدو التي تقف مقابلنا ” وبالتالي ينبغي التعامل بحذر شديد في استخدام قواتنا العسكرية. ” وقلق دائم، والتصرف باقتصاد ليس فقط مع المشاة، بل أيضاً مع المدرعات والمدفعية”.

وھكذا تم إخلاء مئات الألوف من الزاسيين )من عروق ألمانية في مناطق الألزاس( من مناطق الحدود إلى داخل البلاد، بل وبسببھم ظھرت في صحف ناطقة بالألمانية. وفي الجبھة حدثت بعض المناوشات التي بالغت الصحافة الباريسية ووصفتھا بالمعارك المنتصرة ..!

ھذا المزاج في التعامل مع العدو )الألماني( في الضفة الثانية من نھر الراين، سرعان ما وضعت له تسمية، ” الحرب الغريبة ” وأيضاً ” الحرب المضحكة ” وھذه التسميات كانت تمعن في زيادة خفض الروح المعنوية لشعب بأسره.

ولم يتحول الأمر إلى الجدية إلا 10 / أيار / 1940، حيث جاءت الطائرات الألمانية مع قنابلھا ورشاشاتھا، وصفارات الإنذار أخذت تدوي، وتساقطت فوق القوات الفرنسية التي لم تفقد ھدوءھا وشجاعتھا، بشجاعة أجدادنا الغاليين الذين ما كانوا يخشون شيئاً إلا أن تسقط السماء فوق رؤوسھم، وھذا

ما حدث في فجر ذلك اليوم. )5(

أصابت ھذه القنابل الجنود الفرنسيين في الصميم، والعديد من أولئك الذين أحنوا ظھورھم، والذين ھربوا بعيداً، والذين ھتفوا لأمھاتھم، والذين أخذوا يصلون، محاولين السيطرة على خوفھم، كانوا قد عاشوا تجربة الحرب 1913 / 1918، وقد عانوا من قصف المدفعية الرھيبة في فردان، و تصرفوا آنذاك وصمدوا، ولكن الآن انقلب الموقف خلال ثوان من حرب غريبة وحرب مضحكة إلى حديث يدور عن

حرب صاعقة، وھذا كان ثقيلاً عليھم.

لم يكن الفرنسيون ليستوعبوا ماالذي يحدث ” أتحل نيران الجحيم محل نيران الروح المقدسة، تقتل وتدمر وتبيد، وھذا لا يمكن أن يكون إلا في دماغ ھتلر المريض ..! “، كتبت صحيفة باريس ميديا يوم 12 / أيار / 1940 أن ما يزعج معظم الفرنسيين: أن الجيش الألماني )الفيرماخت( أربك خطط عطلة عيد )العنصرة

ــ Pfingstt( بشكل تام، ولكن لا أحد بوسعه أن يكتب ذلك …! 15

وإلى ھذه النھاية المريرة، كانت صحفنا وجنرالاتنا ووزراؤنا لا يزالون متعلقين بأحداث الحرب العالمية الأولى 1914 ــ 1918 ، كما لو أنه سيكون أمراً سھلاً استحضار شجاعة، ونجاحات، وجرأة تلك السنوات الآن. لا يمكننا إيقاف الدبابات الألمانية، ولا توجد طائرات ضدھا، ولكن وسط المعركة، في 14 / أيار / 1940، تخبرنا صحيفة المصور الفرنسية )L, Illusttration( وق ّراءھا، أن في شھر آب / 1914 تمكنت طائرة فرنسية واحدة، من تدمير فرقة خيالة ألمانية بأكملھا، وھا نحن نواسي أنفسنا بأقصى

ما نستطيع ..!

وعندما أسقطت طائرات الشتوكا )6( بعويلھا السماء، المفترض أن تكون آمنة، على رؤوس جنرالاتنا، بدأ الناس يكتشفون الخداع والحيل التي كان البعض يرددھا عن الكفاءات والقدرات، والحقيقة أننا كنا نفتقر إلى الطائرات، وإلى الأسلحة المضادة

للدروع، وأسلحة وأعتدة. )الصورة : الطائرة القاصفة / المقاتلة شتوكا (

وأصدر جنرال فرنسي توجيھاً للضباط في قواته، يوصيھم بكل جدية، أن يضعوا شراشف السرير على أبراج الدبابات المعادية ” وبھذا يصبح طاقم الدبابة كالعميان، ويضطرون لتسليم أنفسھم ” إذا كانوا يريدون البقاء على قيد الحياة وأن لا يحترقوا..!” منذ يوليس قيصر لم نتغير نحن الغاليين.)7(

ولكن الدبابات الألمانية لم تكن لتدعھم يغطونھا بالشراشف، ولسرعتھا كان لوحدات الدبابات دورھا الحاسم في تحقيق الانتصار، ومن المؤكد أن الألمان استخدموا أسلحة أفضل، ولكن قبلھا كانت استراتيجيتھم أفضل. الدبابات الفرنسية كانت التي كانت سرفاتھا )سلاسلھا( لا توفر اتصالاً وثيقاً بالمشاة، وأقصى تقرب للدروع من المشاة لا ينبغي أن يكون من 2 كيلو متر، وفي ھذه المسافة التي تبلغ خمسة

أو عشر دقائق، إذن سيقومون بمناورة لا معنى لھا حتى يصلھم المشاة بعد نصف ساعة.

كان شارل ديغول أحد القلائل من الضباط أدرك الحقائق والمؤشرات، وكان قد درس التقدم الألماني في غزو بولونيا، وكتب خطياً آراءه حول دروس المعركة وأبلغھا لرؤسائه، وبعد أن كان قد توصل إلى أن وحدات مشاة لا يمكنھا أن تؤدي المھمة. ” ولا يمكن إيقاف وحدات آلية، إلا بوحدات آلية مثلھا”.

وأدى تنامي القوات المدرعة الألمانية في وقت قصير، إلى إشاعة الذعر في الجبھة الفرنسية بين القوات، وفي الأركان العامة. وكتب أحد ضباط المدفعية من الجيش الفرنسي التاسع، أواسط أيار ” أن من بين 70.000 رجل والكثير من الضباط، لا توجد وحدة في الجيش حتى الوحدات الصغيرة، ما تزال تستمع إلى قادتھا، كانت الفوضى ضاربة أطنابھا والأمور متداخلة، سواء في القطعات المقاتلة، أو الوحدات

الإدارية الخدمية للجيش “.

وعلى مدار قرون، كان على جنرالات الجيش الفرنسي أن يقدموا التقارير إلى الملك، أو إلى رئيس الوزراء، فيما يخسرون في معركة من معاركھم، ولكن لا ھزيمة كان لھا الكثير من العواقب، كالتي حدثت في أيار / 1940، لم يكن وزن تاريخي لمحادثة كالتي جرت في 15 / أيار / 1940 في الساعة 20.30 بين القائد العام للقوات المسلحة الفرنسية الجنرال موريس غاميلان، ووزير الدفاع إدوارد ديلاديه، ولو لم

16

يكن السفير الأمريكي في باريس ويليام بوليت موجوداً في مكتب ديلاديه، لكانت الأجيال اللاحقة لا تدري عن ھذا الحوار شيئاً .

الجنرال غاميلان اتصل ليخبر أن رتلاً من الدبابات الألمانية قد وصلت 130 كم شمال باريس، بلدة ريتل )شمال شرق باريس( وبلدة لاون )شمال غرب باريس(. فصرخ ديلاديه، إذن يجب الانتقال إلى الھجوم المقابل، كما حدث عام 1918.

” ھجوم … بماذا …؟ سأله الجنرال غاميلان ” أنا لم يعد لدي ما يكفي من القوات الاحتياطية بين باريس ولاون، ولا أستطيع أن أجد وحدة متكاملة واحدة “.

“ھل يعني ھذا ” سأل ديلاديه بوجه متحجر ” أن الجيش الفرنسي قد أبيد ؟ ” ويقول السفير الأمريكي بوليت ” كان لدي انطباع أن ديلاديه قد صغر حجمه “.

” نعم ” أجاب الجنرال ” لقد أبيد الجيش الفرنسي “.

)الجنرال غاملان يستقبل في باريس رئيس أركان الجيش البولوني( 17

خوف ھتلر وقلقه، كان فقط أن تتعرض أرتال الدبابات الألمانية المندفعة للخطر)كمين أو تطويق( ولاسيما أن قوات الجنرال غودريان كانت قد توغلت عميقاً، لا بل حتى أصدر أمراً )لساعات معدودة( بعزله من منصبه، الأمر الذي منح الفرنسيين فرصة لالتقاط الأنفاس، والقيام بعمليات عسكرية، فعلى سبيل المثال بناء مواقع دفاعية في منطقة بريتاني، رغم أنھا جاءت متأخرة، ولم يكن قد تبقى مجال سوى للاعتبارات

والجھود السياسية.

كان شارل ديغول قد تق ّدم بمقترح وافق عليه رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، أن على فرنسا وبريطانيا أن يك ّونا اتحاداً، وأن كل مواطن بريطاني ھو مواطن فرنسي تلقائياً، وكل فرنسي ھو بريطاني تلقائياً، وھذا سيكون مقدمة لكل القارة لأن تكون أمة واحدة ولن يستطيع ھتلر أن ينتصر عليھا، وتمكن شارل ديغول أن يكسب رئيس الوزراء باول رينو لجانبه، ولكن في 16 / حزيران، في الجلسة الأخيرة

لحكومة الجمھورية الثالثة، لم يعد رينو في الحكم. )8(.

كان شارل ديغول خلال الحرب العالمية الأولى

ضابطاً في وحدة قائدھا الماريشال فيليب بيتان.

وفي الحرب العالمية الثانية استلم يوم 15 / أيار

الفرقة المدرعة الرابعة، وفي 5 حزيران/

1940 عيّنه باول رينو بوظيفة سكرتير الدولة

ً
في وزارة الدفاع، وأصبح ديغول سياسيا.

وعندما عرض فيليب بيتان وقف إطلاق النار والھدنة على الألمان، ق ّرر ديغول مواصلة القتال ضد الألمان من خارج البلاد، )9(، وغادر يوم 17 / حزيران مدينة بوردو على متن طائرة بريطانية، وش ّكل في لندن حكومة مھجر، ولكن أوج عمله الذي سيدخل التاريخ لم يكن قد حان بعد، وكان عليه أن يواصل القتال من بريطانيا ومن أفريقيا، حيث سيكون

أسطورته.

وكان خصمه )الماريشال فيليب بيتان( قد خلف مجده وأسطورته خلفه، فيليب بيتان ماريشال فرنسا، ولولاه لكانت فرنسا ربما قد تحطمت، وھو الذي واصل القتال في معركة فردان التاريخية في الحرب العالمية الأولى، ومن خلال الانتصار الذي حققه على الامبراطورية الألمانية أنقذ فرنسا، وفي ساعة الھزيمة حزيران / 1940، اعتبر بيتان أن الواجب

يناديه من جديد، لينقذ فرنسا .. وتقريباً كلُ الشعب الفرنسي رأى فيه أنه المنقذ الوحيد من المأزق. )الصورة: الماريشال فيليب بيتان : رجل ل ّوث تاريخه(

وفي غضون فترة الاحتلال الألماني لفرنسا 1949 ــ 1944، انھار المنقذ فيليب بيتان تحت الطلبات المتصاعدة للسادة الجدد)المحتلين الألمان(، ثّم كان عليه فيما بعد 1945 أن يجتاز محاكمة مھينة، ويحكمً عليه في نھايتھا بالإعدام. وھو الحكم الذي خففه فيما بعد شارل ديغول الذي كان قد غدا بعد التحرير رئيسا

18

لوزراء فرنسا، إلى السجن مدى الحياة، وكان بيتان قد حكم على ديغول بالإعدام غيابياً، وديغول يصبح منقذ الأمة، وينقذ فرنسا مرة أخرى من ورطة الحرب الجزائرية، ويؤسس الجمھورية الفرنسية الخامسة.

)الخارطة بعد اتفاقية الھدنة: باللون الأحمر والوردي: مناطق احتلال ألمانيّة، باللون الأصفر والتضليل على البنفسجي مناطق احتلال إيطاليّة، المساحة البنفسجية ھي أراضي حكومة بيتان(

ولا يمكن فھم انتصار وصعود فيليب بيتان في حزيران 1940. دون معرفة التسييس الذي حدث في تلك المرحلة، والذعر والحزن الشديد لدى الناس لخسارتھم الحرب، حتى جاء الوقت والظروف لإدانته، وكذلك لا يمكن فھم انتصار وصعود شارل ديغول عام 1944 إجماع الشعب في عھد التغيرات والبنى

والھياكل الاجتماعية والسياسية. )10(

بين أعوام 1949 و 1944 وبين بيتان وديغول تغير الفرنسيون كثيراً بعد أشنع ھزيمة تكبدوھا في تاريخھم، وفي أعقاب ھزائم وانتصارات الألمان، والإنكليز، الروس، والأمريكيون، أطلقت ھذه مشاعر متفاوتة في بلادھم المحتلة، مشاعر دفعت البعض ليتعاون مع المحتل، ولكنھا دفعت الآخرين إلى المقاومة

والجميع إلى حرب أھلية.

19

وتحت أشعة الشمس المحرقة لشھر تموز 1940 كان الفرنسيون يبحثون عن مأوى، خلف عجوز )الماريشال فيلب بيتًان( كان يبلغ سنه يومذاك 84، ولكن الفرنسيون كانوا يًھللون ليس فقط لأنه ” عجوز طيب ” ولكن أيضا ًلأنه رجل انتصر على شيخوخته ومنح من نفسه مثالا يُحتذى به، وبدون أن يجعل نفسه سخرية، رمزا ليقف مقابل جيش ھتلر. كان بيتان لبعض الناس رجل العناية الإلھية، وللآخرين كان يمثّل خيار أھون الش ّرين، وبالنسبة لخصمه شارل ديغول، كان : الماريشال أعظم الممثلين في عصرنا،

فنان حقيقي .

في بداية حكمه وقفت فرنسا بأسرھا خلف الماريشال، ھذا الرجل الذي كان يوماً معتقلاً في القرن التاسع

ًً
عشر، ابنا لفلاح، ثم جنديا، في بداية حكمه كان 40 مليون فرنسي يعدون أنفسھم ” بيتانيون “.

وفي كارثة 1940، كان بيتان الصامت الأعظم، وكان قد كتب حول الروح المعنوية الھابطة للجيش الفرنسي إلى القيادات العليا في البلاد، ولكنه رفض بحزم الدخول في الحكومة، بيد أنه لم يكن ليدع الشك أن عھده قادم، بل كتب ھو يقول ” في النصف الثاني من 1940 سوف يكونون بحاجة لي ” ھكذا تنبأ.

وفي النصف الثاني 1940، احتاجوه فعلاً، بأن يتولى منصب نائب رئيس الوزراء، لأنه يعتقد أنه يختلف في نھجه وخططه عن رئيس الوزراء باول رينو، لأنه لا يثق بالإنكليز، وكان الجنرال ًالإنكليزي سبيرس قد أبلغه بصراحة قاطعة ” أنھم “الإنكليز” ليسوا في وضع أن يساعدوا فرنسا حتى جويا “.

” أن الماريشال بيتان يعتقد ” ، ھكذا يكتب السفير الأمريكي في باريس بوليت في تقريره ” أن الإنكليز لا يعارضون بعد وقت قصير اتفاقية توافقية مع ھتلر، وبالنسبة للماريشال، ليس أمامه سوى عقد اتفاقية ھدنة مع ألمانيا “.

وعلى العكس من ديغول، قال بيتان: أنھا لخيانة ترك أرض الوطن ” إنه التزام الحكم للبقاء في البلاد، فرنسا تعيش حالة ارتباك، وإنھا تحتاج لمن يدافع عنھا، وإخراج العدو، وإلا فإن معنويات الفرنسيين ستموت وآمالھم في إعادة النھوض والبناء ستصبح غير ممكنة “.

” اتفاقية الھدنة ” يواصل بيتان ” ھي في نظري الشرط الضروري لمواصلة وجود فرنسا “، وفعلاً فور استلامه لمھامه كرئيساً للحكومة، قام بالمفاوضات مع الألمان وتوقيع اتفاقية الھدنة.

التقى الوفدان الألماني والفرنسي في 21 / حزيران / 1940 في غابة ومبيني، في نفس المكان، الذي كان فيه الألمان وقّعوا الھدنة مع فرنسا في الحرب العالمية الأولى، وكانت بتقديرھم اتفاقية مذلة،ً وفي نفس عربة القطار تلك في تشرين الثاني / 1918، وكان قد حضر وفد ألماني بقيادة ھتلر شخصيا، مع الوفد الفرنسي، الذي كان يرأسه الجنرال شارل ھونت سيغير. وكان الألمان يرغبون في ذات المكان الذي شھد إذلالھم فيه في الحرب العالمية الأولى، أن يشھد ھذه المرة انتصارھم ) في مسح لذلك العار برأيھم(. ومارسوا ھذه )Fetshism( الفتشية.، وكانت الكثير من فقرات اتفاقية الھدنة مشابھة للكلمات التي أملاھا

الماريشال الفرنسي فوش، في العام 1918. )11(

أعلن الجنرال فيلھام كايتل رئيس ھيئة الأركان العامة للجيش الألماني، باسم ھتلر ” أنه قد تم تحديد ھذا المكان غابة كومباني التاريخية ولإصلاح العدالة على ھذه الطريقة مرة واحدة وإلى الأبد، وإطفاء ما يعتمل في الذاكرة، التي لم تكن فصلاً مجيداً في تاريخ فرنسا، ولكن بالنسبة للشعب الألماني مسحنا أعمق

عار في تاريخه “.

20

في بوردو، كان وزير الدفاع الفرنسي ينتظر ندا ًء ھاتفياً أقيم بمساعدة الألمان في الساعة 20,30، وويغان لم يكن يعرف قبل بدء التوجه، المكان الذي سيتوجه إليه الوفد الفرنسي الذي سيجري مفاوضات الھدنةً مع الألمان. ولما علم بالوجھة )عربة القطار التذكارية في غابة كولومبي( تمزق قلبه، فقد كان ھو شخصيا

ضمن الوفد الفرنسي عام تشرين الثاني 1918 .

المواد الأربعة والعشرون التي تألفت منھا اتفاقية الھدنة، إلى جانب الفقرات والمواد الكلاسيكية التي تتضمنھا الاتفاقيات، كانت ھناك مواد غير منتظرة. الكلاسيكية منھا كانت تتضمن نزع سلاح القوات، وتسليم للمعدات الحربية، وإحصاء الجيش الفرنسي، والدفع لجيش الاحتلال. وبشكل غير منتظر، كانت المساحة تحت الاحتلال كبيرة التي كانت تمثل 3 إلى 5 من مساحة فرنسا 60%، بما في ذلك العاصمة باريس، الشمال بأكمله، والغرب، وعلاوة على ذلك، التأكيد في الفقرة الثالثة أن الحكومة الفرنسية إذا أرادت أن تحرك مقرھا إلى باريس، وختاماً كانت الفقرة الأھم : أن الحكومة الألمانية تؤكد أنھا لا تنوي

استخدام أسطولھا بحال من الأحوال ضد بريطانيا، وھي لا تنوي ذلك، كما أنھا لا تنوي مصادرتھا.

ولأن العاصمة المؤقتة بوردو، أصبحت ضمن المساحة المحتلة من قبل الألمان، انتقلت الحكومة الفرنسية إلى مدينة كليمونت فيراند، وھو موقع حسن ولكن لم تكن ھناك مباني مناسبة لعمل الحكومة، لذلك انتقلت بعد وقت قصير إلى مدينة فيشي )Vichy( رغم أنھا )الحكومة( كانت تخشى في البداية وأن يرتبط اسمھا تاريخياً باسم المدينة / المنتجع الطبي، و بسبب بنك القمار المشھور في المدينة وكازينو القمار ريغيمي

المشھور.

وبحسب كلمات ھتلر الحكومة الفرنسية كان عليھا ” أن تبقى عنصراً ذات سيادة، وبذلك يمكننا فقط أن نعتبر أن المستعمرات الفرنسية ستبقى تحت السيادة الفرنسية، ولا تسقط بأيدي الإنكليز “.

وبھذه الأفكار، ومشروع وثيقة الھدنة، التي أعدھا العميد ھيرمان بومه )من الجيش الألماني(، الذي يظھر ألمانيا منتصرة وكريمة ومستعدة لرحمة خصمھا المھزوم، وراغبة في تأسيس نظام أوربي جديد، ستجد بريطانيا نفسھا في نھاية المطاف معزولة عنه. وكان يراد من اتفاقية الھدنة أن تعكس وجھة نظر لحلً سريع لحل شامل واتفاقية سلام، تكون فيھا فرنسا بحجم سويسرا، وكان في الإشارة 490 / 1940 بلدا

سياحياً، وربما أيضاً بلداً منتجاً لأنواع من المودة والتقليعات…..!

أيقن ھتلر بسرعة، أن التوصل إلى اتفاق مع إنكلترا )تشرشل( لم يعد ممكناً، لذلك فھو كان بحاجة إلى القواعد في المستعمرات الفرنسية، ولكن للسيطرة عليھا تعوزه القدرات والوسائل، لذلك فھو كان يحتاج إلى الأسطول الفرنسي سليماً، ولذلك كان عليه أن يترك جانباً من فرنسا تحت سلطة حكومة الماريشال

بيتان، وأن يبقي لحكومته سيادة مشروطة.

21

)لقاء ھتلر وبيتان(

في 23 / تشرين الأول / 1940 التقى ھتلر مع فيليب بيتان في محطة قطار حتى ذلك الوقت لم تكن معروفة، لبلدة مونتوري الصغيرة )Montorie( وما رسخ في ذاكرة معظم الفرنسيين عن ھذا اللقاء، المصافحة بين المنتصر والمنھزم. وفي محاكمة بيتان التي جرت بعد خمسة سنوات، عرض المدعي العام أمام المحكمة الصورة مكبرة، من أجل ملاحظة وتمييز جوانب الصورة، على أنھا كانت أكثر من

مصافحة بالأيدي، كانت ھناك كلمة.

حول اللقاء في بلدة مونتوري ھناك فقط الملاحظات التي أدلى بھا مساعد بيتان، بيير لافال، والمترجم الألماني باول أوتو شمت، وخلال المحادثة الذي كان على بيتان أن يتوجه للقاء ھتلر دون تحضيرات، حاول ھتلر أن يأخذ الماريشال إلى حديث يبحث في التعاون المشترك ترجمھا المترجم شمت “بالمتعاون ”

)Kollaboration( وھذه الكلمة طبعت المحادثة بطابعھا.

بعد اللقاء مع ھتلر، ألقى بيتان خطاباً كئيباً متشائماً ويبدو عليه الحذر )ربما كانعكاس للمحادثة / المترجم(، والذي معظم ما قاله تقريباً، جاء بشكل غامض، ولكن مما قاله بيتان أيضاً ” أنا اليوم ماض في طريق التعاون )Kollaboration(“.

وسجل مساعد بيتان: ھنري مولين دي لابارتيت ملاحظاته قائلاً „ الماريشال ارتكب غلطة واحدة، إذ كان عليه أن لا يمضي أبداً في التحدث عن التعاون )Kollaboration( أن ھذه الكلمة يمكن أن تصبح رصاصة، ” يمكن أن تكون تقريباً كرصاصة قاتلة “.

22

معبر: ھتلر بالسلام من ويعبئ

)كاريكاتور يتحدث فوھة مدفع الملايين في جيوش للعدوان(

كان الألمان يأملون بتعاون سياسي، بل أن بعض الطوبابويون )الخياليون( تخيلوھا تحالفاً عسكرياً ضد إنكلترا. في الوقت الذي لم يكن بيتان على استعداد لذلك. ” إنه لمن المحتمل ” يكتب الماريشال بيتان لصديقه مكسيم ويغاند النائب عن شمال أفريقيا / الفرنسية، )الجزائر( ” في يوم من الأيام سيحل الحديث فيه عن التعاون )Kollaboration(، ولكني سأھتم أن ينحصر الأمر في الشؤون الاقتصادية، أو في الدفاع عن ممتلكاتنا الأفريقية، ولن أوافق على أي ھجوم على بريطانيا العظمى، وقد قررت بصدد ھذا الموضوع أن لا أنحني لا للإيطاليين، ولا للألمان”. وبالمناسبة فإن الفرنسيين لا يعلمون شيئاً عن ھذه

الرسالة.

والألمان أنفسھم لم يكن موقفھم حيال التعاون الاقتصادي يفھمونه كشركاء، وقد أوضح ذلك ھانز ريتشارد ھيمن رئيس الوفد الاقتصادي الألماني في لجان الھدنة، في فيزبادن )منتجع ألماني / المترجم( بعد أيام قليلة بقوله ” التعاون يمكن أن يكون فقط ضمن النظام الاقتصادي الألماني “. وما ينبغي فھمه في الواقع،

فالفرنسيون سيعلمون ذلك.

في مدينة نوير، سجل فريديك موريت في 4 / أيلول / 1940 في مذكراته : ” لم يعد ھناك خوخ في الرفوف، كما لم يعد ھناك كيك لدى باعة الحلويات “. في بلدة فيرينس بتاريخ 14 / آب / 1940، كان 23

على جميع الذين لم يسحبوا للعمل، أن يسلموا دراجاتھم الھوائية، في ليون صادر الألمان قبل أن ينسحبوا من المدينة بحسب اتفاقية الھدنة، صادروا ما مجموعه 24,000 طن من المواد الغذائية، والمواد الحارقة والسلع الأساسية، التي جمعت خلال أربعة أيام، واستُخدم في شحنھا 1800 سيارة شحن، و162 عربة

قطار ونقلوھا إلى المناطق التي بقيت تحت احتلالھم.

بالطبع دفعنا نحن كامل تكاليف الاحتلال حتى نفقات شراء شجرة عيد الميلاد، ونفقات الإقامة للعاھرات المريضات. ومع ارتفاع نفقات الاحتلال اليومية إلى ما يقرب من 400 مليون فرنك، كان بوسع الألمان أن يديموا 18 مليون جندي بھذه الموارد، فيما كانوا )الجيش الألماني( لا يحتاجون في الساحة الفرنسية إلا إلى 30.000 جندي، فيما كانوا يحصلون خمسة أضعاف ما يحتاحونه لقواتھم في فرنسا، وطيلة سنوات

الاحتلال الأربعة، كان الألمان قد وضعوا اليد على ثروات فرنسا ومواردھا.

” أنتم تأخذون كل شيء “، أصبحت ھذه جملة تقليدية في المحادثات. وحكومة الماريشال، كما كان يطلق عليھا في البداية،، قبل أن تنتقل إلى المدينة / المنتجع فيشي، وتستقر ھناك، ويكون لھا علاقاتھا، وكانت تحاول أن تحصل على مزايا من اتفاقية الھدنة قدر الإمكان، ويتخذ منھا درعاً بوجه الطلبات المتزايدة

للألمان.

التعاون في المجال الاقتصادي، وبالطبع لصالح ألمانيا، يمكن القول، المنھج الأقل من التعاون، بل ھو تعاون سياسي أكثر من شيء آخر، يسعى الألمان من جانبھم، السفير الألماني في باريس أوتو أبيتز من خلال علاقاته وكانت له اتصالاته المھمة في باريس وفي حكومة بيتان التي شكلھا فيما بعد بيير لافال،

الذي كان يعتقد أن الھيمنة الألمانية على أوربا ستكون طويلة الأمد.

بل وأكثر من ذلك، لافال نفسه كان لا يتواني من تسمية نفسه من المتعاونين )Kollaboration(، وكان متحمساً للتعاون مع ألمانيا معجباً بھا التي كان يرى فيھا أنھا ظاھرة ستستمر وقتاً طويلاً، وكذلك كان في باريس من ھو معجب بألمانيا، ويرون مجالاً للتعاون معھا.

من بين المتعاونين مع الألمان، كالأكثرية ممن عملوا وتعاونوا مع حكومة فيشي علناً وصراحة، كان ھناك من المتعاونين في باريس من الحركات العسكرية، والخلاف الذي كان مثار جدل، ھي بين سياسة واقعية ذرائعية )Pragmatism( سياسة آنية، وبين سياسة عاطفية )وطنية( )12(.

في حرب لا يعرف لھا مخرج، كانت ألمانيا أمام عدو، ينبغي تقديم التنازلات له إن كانت جيدة أو سيئة، عداء سيجلب معھا الھزيمة، ھو للبعض منتصر تاريخي، وللبعض الآخرين ممن ينتظر المرء منھمً المساعدة الأخوية، لينقذوا فرنسا الملوثة بالديمقراطية، واليھود والماسونيين، ويعيد نھوض فرنسا معنويا

ً
قبل أن تكون ماديا.

منذ الساعات الأولى للھزيمة، يقارن المتعاونون فرنسا والفرنسيون، بالنموذج الألماني، نموذج ويقولونھا بصراحة تامة، إنه نموذج لا يمكن مقارنته بھم، لا يمكن مجاراة الرياضيين الألمان في ألعاب الساحة والميدان، وكذلك الجندي في ميادين القتال، يبدو أن ” الإنسان الفرنسي” غير قادر أن يبلغ مستوى

“الإنسان الھتلري”.

” الأدب المتعاون” واصل العزف على ھذه النغمة ” الأقل قدرة أو قيمة” والمقال الذي ظھر على صحيفة المصور ” ))L, Illustration في 21 / شباط / 1942 في قرار بوضوح تام “نحن نستطيع، وينبغي أن نفعل ذلك، أن نسترشد في إصلاح طباعنا، ونتخذ من الاشتراكية الوطنية )الحزب النازي( مثال لنا نتعلم

منه.

24

من كان ھؤلاء المتعاونون الذين في باريس الذين كانوا يسيطرون بمساعدة جھاز الدعاية الألماني، على الصحافة والإذاعة، كانوا معادين للسامية، ومعادين للماسونية، وأكثر من ذلك، كانوا معادين للنزعةً البرلمانية من كافة الأنواع، وللذين كانوا في وقت ما في الماضي معادين للنازية في ألمانيا، ھؤلاء جميعا

يبدون اليوم الانبھار والإعجاب بالقوة والنظام والضبط والرجولة.

قوة الاحتلال كانت تصطاد متعاونين معھا وتزيّن نفسھا بھم كالعباءة السحرية، لتمكنھم أخيراً للحصول على قدرات الشعور النفسي والمعنوي النوعي للمنتصر، „ أنا أحب القوة كثيراً ” كتب الكاتب بيير دريو لاروشيل ” عندي امتدادھم )بھاءھم( في بلدي ھي أفضل الأوقات المثيرة للإعجاب، لنشاھد إعادة

نھوضھم، وھم جاؤوا إلينا، لكي لا نذھب ونبحث عنھم ونتعرف عليھم”.)13(

ھناك حيث ھي، ھذا يعني أنه لھا: عند الجنود الألمان إنھا مناقب ومآثر للثقافة العظيمة الآفلة )الغاربة( إنھم يحافظون عليھا، وللمتعاونين المھمة تمثلت فقط في الدفاع عن الحضارة المسيحية، وكيف عاش الفرنسيون ھذا الأفول..؟

” أنا كنت متعاون )Kollabo(” ھذا جاء في رسالة استلمتھا، بعدھھا تلقيت رجاء أن أدلي بذكرياتي الشخصية أيام الاحتلال وأن أعرضھا للنشر. ” 1940 كنت في سن السادسة عشر، كنجل لضابط وكنت معادياً للسامية )Antisemite( بحسب سذاجة أفكاري آنذاك التي دفعتني لمغامرة، دون التفكير في عواقب وأي قدر حزين كان أن أشاھد الفرقة الفرنسية التي مرت أمامنا بوضع بائس، ولم تكن قد قاتلت حقاً، وف ّكرت فقط بإنقاذ جلودھم، بلا كرامة، بلا فخر ! المھزومون كانوا ممن يحتسون البرنو، ويلعبون

في الشوارع بالكرة الحديدية )لعبة شائعة في فرنسا / المترجم(، ويجلسون في البارات المنحطة. )14(

” وعلى الجانب الآخر ؟ شعب وصف لنا كقبائل بربرية، ولكنھم كانوا شبان ذو أجسام رشيقة، بمظھر صحي، وأظھروا شجاعتھم وكفاءتھم أيضاً، وھذا ما يجب ببساطة الإقرار به، ولم يكونوا أعداء متعطشين للدماء، وبوسعنا احترامھم، ويكونون غداً حلفاء لنا، ما لم نقل أصدقاء “.

كان الجنود الألمان بعد نھاية القتال يحاولون إظھار أنفسھم بأفضل الصور والحالات، بالغي التھذيب حيال النساء، وفي المترو )قطارات الأنفاق تحت الأرض / المترجم(، كعاشق لوجبات الطعام اللذيذة في المنازل الريفية، كانوا يحترمون الملكيات الخاصة وھو مھم جداً في فرنسا، وكانوا يبدون الاحترام لنمط حياة

الناس العاملين.

أظھر الجنود الألمان الإعجاب التام لنُصب الأبطال )بويلوس( في حرب عام 1819/1914 ووقفوا بعفوية واحترام أمام الشعلة الأبدية في قوس النصر بباريس، ھم كانوا مبھورين بانتصارھم الباھر، والفرنسيون الذين قد قرؤوا ھوراس، كانوا يواسون أنفسھم بجمله لھوراس ” اليونان المقھورة المھزومة، قھرت إرادة

المنتصرين ” . )15(

وكما في أي حرب، الفائز المنتصر له رغباته واحتياجاته، في باريس كان ھناك منزل واحد على الأقل، والذي لم ينقطع عن العمل حتى في يوم التقدم الألماني، وعندما ھرع بقية السكان من الرعب الذي أحدثه ضجيج الدراجات البخارية واختفوا، قامت مديرة النزل بتعليق قطعة على الباب ” سنعيد فتح المنزل بعد الساعة 15 )الثالثة ظھراً( “. وسرعان ما عادت جميع المومسات إلى باريس في قافلة من سيارات

الراھبات، حيث كن يربحن الكثير من الأموال، وقد صادر الجيش الألماني 40 من بيوت الدعارة. 25

وبطبيعة الحال، أظھر المنتصرون الكرم، حيال الفرنسيين الذين في أفضل الحالات فقط يبتسمون. وھكذا طلبت الوحدة الألمانية رقم )47438( التي كانت تعسكر في بريشك ليس باينس )Pechaq les Bains(، في 15 / نيسان / 1941 من الموظفين الفرنسيين 60 مكنسة، و60 جاروفة، 20 أنبوب مطاطي، 35 صندوق كارتون، 25 وعاء لجمع النفايات، و25 سطل لجمع النفايات، و20 علبة مسحوق غسيل، و20 علبة صابون، ومواد غسيل وتنظيف، والألمان أرادوا أن يظھروا لسكان البلدة الصغيرة التي لا يتجاوز

عدد سكانھا 500 نسمة، كم ھم مھتمون بالنظافة، وكم يھتم الجيش الألماني بنظافة المكان والأفراد.

الصحافة الفرنسية المتعاونة تصاعدت ولم تنخفض. وبالنسبة لھم لم يكن الجندي الألماني الذي غزا فرنسا ليماثل أولئك الألمان الذين قاموا مفتونين بالمسيرات في نورمبرغ، والاحتفالات المھيبة للحزب النازي ، وتلك مظاھر فاتنة كانت تعني لھم بأنھم يلتحقون بديھياً بالركب المتعاون، والكثير من الكتاب المتعاونين

أبدو الاشمئزاز من تصرفات الفوضوين الفرنسيين.

للفرنسيين العاديين الذين يريدون أن يتمتعوا بحياتھم، يمضون لصيد السمك، ولھم ميل للأطعمة الشھية، ويلعبون أحياناً دور البطل، يطرح المتعاونون بالمقابل المواطنون الفرنسيون في العھود السالفة، الذين يھتمون بالمتع والراحة.

فرنسا في عيون الكتاب والصحفيين المتعاونين الذين وجدوا الرحمة، كانت فرنسا الحروب الصليبية، وأغنيات رولاند، امتدا إلى عصر كارل الكبير)شارلمان( وأغلبھم كان يقول أن إمبراطوريته لم تكن ألمانيّة، ولا فرنسيّة/ فرنسيّة، بل كانت أوربيّة

26

ن ّص الخطاب التاريخي الذي وجھه الجنرال شار ديغول إلى الشعب الفرنسي ترجمة كلمات التوجيه، وكلمات الختام :

” إلى جميع الفرنسيين ….

فرنسا خسرت معركة ….! ولكن فرنسا لم تخسر الحرب …!

كلمة المترجم في تحليل الفصل الأول :

يريد المؤلف في ھذا الفصل الأول أن يقول: أن فرنسا: بقيادتھا السياسية المترددة واقتصاد يعاني من متاعب، وقيادتھا العسكرية التي كانت تعيش على أمجاد ماضية، غافلة عن التطور الكبير في السلاح وصناعة الأسلحة لا سيما الدروع والطائرات، اللتان غدتا الأسلحة الأساسية في الحرب، كما قاد التطور التكنولوجي إلى تطور في نظريات التعبئة والسوق )التكتيك والاستراتيجية(، وبينما دخل الألمان بعزيمة قوية وقيادة جسورة، وقوات برية آلية، ومدرعة، وأسلحة حديثة، وقوات جوية متطورة، واقتصاد ناھض وقوي، كان الفرنسيون على العكس من ذلك، يعانون من مشكلات جوھرية في كافة المجالات، وھو

السبب الحقيقي في ھزيمة فرنسا بسرعة لم تكن متوقعة في فرنسا.

المؤلف يريد أن يشرح الظروف التي أدت إلى أن يحتل الجيش الألماني فرنسا بسھولة شديدة، بريد أن يشرح الظروف الذاتية والموضوعية للانھيار الفرنسي. بقوله أن ما كان ينقص الجيش الفرنسي ھو السلاح المتطور وخاصة في الدروع والطائرات، ولكن النقصان الأكبر كان في فقدان استراتيجية واضحة، وتسيب حكومي واضح، قاد إلى فقدان إرادة القتال ليس لدى الجندي فحسب، بل وحتى عند

القيادات السياسية.

وخلاصة ھذه الثغرات ھي أن فرنسا عام 1940 كانت بعيدة عن الجاھزية للدخول في الحرب، وأنه لمن الخفة والبساطة تشبيه ظروف 1914، بظروف 1940.

ويشير المؤلف إلى نقطة، نعتقد أنه لم يمنحھا الأھمية اللازمة، في حين نجدھا بالغة الأھمية، 27

إن وطننا يواجه خًطر الموت. دعونا نقاتل جميعا لإنقاذه ..!

الجنرال شارل ديغول

المق ّر العام ل . كارلتون غاردنز لندن

S. W. I.

*****

“والفرنسيون كانوا قد فوجئوا بأن التنمية الاجتماعية قد أفسدت التقاليد الفلاحية، والكاثوليكية، والعائلية وباختلاط قيمھا وقواعدھا ببعض أدت إلى إرباكھا. ولم تنجح حكومة الجبھة الشعبية التي تشكلت عام 1936 من قبل الاشتراكيين ومدعومة من الشيوعيين، تمام النجاح، وداعمو اليمين لم يكونوا مرتاحين لھا، واليساريون لم يكونوا راضين، لأنھا لم تتمكن منً إنجاز سوى نصف برنامجھا. كان الشعب الفرنسي )14.194,000مليون( يعيشون في بلد لم تشھد شيئا يشيد فيه منذ عام 1914، ولم يخترع شيء، ولم يشيد

شيء. بل كانوا يزينون حياتھم بذكريات الماضي”.

فرنسا كانت تجتاز مرحلة تاريخية من التحولات السياسية والاقتصادية، ” وللمرة الأولى يتقلد فيھا يھودي، مھام رئيس الوزراء في فرنسا )ليون بلوم(، وكان ھناك تصاعد كبير في الأجور، لكن يقابلھا زيادة في الأسعار وكان التضخم الحاد يلتھمھا، وستًحتاج البرجوازية فترة طويلة لكي تتعافى من ھذه

الأزمة، لم يكن عام 1939، ولا حتى عام 1940 كافيا للشفاء منھا ” .

ھوامش الفصل الأول

تلميح لإعلان فرنسا ضمان استقلال بولونيا وھو سبب إعلانھا الحرب على ألمانيا / المترجم. ش ّكل الماريشال فيليب بيتان حكومة فرنسية غير خاضعة للاحتلال في المناطق التي تركھا الألمان تحت السيادة الفرنسية كانت عاصمتھا فيشي، فيما ش ّكل الجنرال ديغول ما أطلق عليه فرنسا الحرة في لندن /

المترجم. مناطق شعبية يسيطر عليھا الشيوعيون الذين لم يناھضوا الاحتلال ..! / المترجم ھي فرقة قوات خاصة من المتطوعين أو المرتزفة الأجانب / المترجم الفرنسيون القدماء / المترجم مقاتلة قاصفة ألمانية / المترجم نسبة إلى أبناء بلاد الغال، الاسم القديم لفرنسا / المترجم. إذ كان كل شيء قد انتھى، واستقال باول رينو وخلفه بيتان المتعاون مع الألمان / المترجم المستعمرات الفرنسية : المغرب ، الجزائر، تونس / المترجم

28

حين وقّع الھدنة مع المحتلين، وترأس الجزء الغير محتل من فرنسا التي سميت بحكومة فيشي، لأنھا اتخذت من مدينة فيشي مقراً لھا / المترجم . الفتشية باختصار شديد، إرھاصات نفسية لھا تداعيات جنسية / المترجم. يستخدم المؤلف مصطلحاً مثيراً باللغة الألمانية )Tagespolitik( وفي القاموس السياسي بالإنكليزية )Daily Politics( أو )Day to Day Politics( أي السياسة الآنية، تعبيراً وتمييزاً عن السياسة المبدأية القائمة على أسس نظرية، وھي براغماتية بھذا المعنى، لمنح السياسة مرونة في العمل والتعامل / المترجم ھذا الكاتب الفرنسي يتغنى بالاحتلال لسوء حظه، وينحدر لمستوى الخيانة العظمى، ُحكم عليه بالإعدام عام 1945، ولكنه انتحر / المترجم مشروب مس ّكر / المترجم ً ً ً

ھوراس Horaz، شاعر روماني)روما( درس الفلسفة، قاتل اليونانيين، وكان ضابطا مقاتلا مجيدا، كشعره الذي كان له تأثيره على تطور الشعر الإنكليزي / المترجم

29

الفصل الثاني : أبطال ومتعاونون خونة

كانت الأشھر التي أعقبت ھزيمة فرنسا أمام ألمانيا، زمناً ھيمن فيه فقدان الشعور والإحساس، وضرباً من الاستسلام للمقادير والصمت. ولم تكن المقاومة إلا شيئاً لا يھتم به سوى بضعة ألوف من الفرنسيين، وھؤلاء الذين أطلقوا شعاراً ” لا بد من فعل شيء” ھكذا كان الأمر في بدايته. لذلك كانت فعالياتھم نادراً ما

تلحق الضرر بشكل واضح وصريح، ولم تكن موجھة حتى ضد سلطة الاحتلال.

فعلى سبيل المثال: لم يقم مسؤول مقاطعة جيروني Gironde بأي فعالية طيلة أشھر نوفمبر ـ تشرين الثاني وديسمبرـ كانون الأول / 1940 بأي فعالية للاصطدام بسلطات العدو المحتل. وفي ينايرـ كانون الثاني/1941 تم تسجيل حادثتين لقطع خطوط الھاتف، وقد سجلت ھذه ” إن الفاعل)المخرب( ربما يكونً أحد المقاومين للوجود الألماني. وللعلم فإن الأسلاك المقطوعة كانت في المرة الأولى بطول 80 مترا

و150 في المرة الثانية، ربما استخدمت كمصائد لصيد الأرانب البرية.

وفي مايو / أيار / 1941 حدث ما لم يكن في الحسبان وقوعه، إذ حدث اعتقال لسارق بنزين وكان شريكه جندياً من قوات الاحتلال الألمان، ُحكم فيھا على السارق بالسجن لمدة سنة وثلاثة أشھر في معسكر العمل)العمل الإجباري ـ السخرة(. وفي شھر يونيوـ حزيران/1941 تم تسجيل حوادث سرقات أخرى،

ترى ھل تسجل ھذه على أنھا من أعمال المقاومة ؟ أم أنھا أعمال سرقات وجرائم عادلة ؟

المقاومة بدأت تؤسس وتتشكل ببطء، ففي نھاية عام 1940 تشكلت ثلاث مجموعات مقاومة، وفي مقاطعة إندرا Indre تش ّكل فصيل المقاومة كومبات Compat. وفي خريف عام 1941، أي بعد 15 شھراً من الاحتلال ووقف إطلاق النار ولم يكن لديھا أكثر من 50 من المنتسبين )المقاومين( ولم يكن الحال يختلف

كثيراً في المقاطعات الأخرى.

الفعاليات الأولى المعادية ًللألمان كانت تنحصر في العادة بتوزيع المنشورات، مكتوبة بخط اليد أو بالآلة الطابعة، ولكن كانت دائما بأوراق من صنف رديء، وكانوا يدعون الناس فيھا للاستماع إلى إذاعة ديغول من لندن، وكان الصليب اللوثري ھو رمز المقاومة، أو المطرقة والمنجل للشيوعيين ومن معھم.

والمقاومين الأوائل كانوا من اليمين، أو من اليمين المتطرف، على الرغم من أنھم كانوا يدعون إلى احتقار وازدراء الماريشال بيتان وكانوا يتخذون من السيف والدرع رمزاً، كان ديغول يمثل السيف وبيتان الدرع، ومن أجل تھدئة الخواطر، فإنھم كانوا يذ ّكرون بالصلات الو ّدية التي كانت قائمة بين ديغول وبيتان الذي يرأس الآن حكومة فيشي متناسين أن ھذه الصلات قد تمزقت منذ زمن طويل. ولكن الأمر يتعلق بالتناغم

الفرنسي وتقييمھم للقيم الفلاحية وخشيتھم من الحرب الأھلية. )1(

وكان خارج موضع الشك والتساؤل، بأن فيليب بيتان عام 1940 لم يطبخ مع الألمان في قدر واحد، وأن فيشي كانت لجميع الفرنسيين، بدت وكأنھا منفذ للھرب والالتجاء. وبعض المقاومين الأوائل يقرون أو يعترفون، أن المنطقة غير المحتلة في فرنسا )القطاع الذي تديره حكومة فيشي( كانت شيئاً لا يمكن الاستغناء عنھا لبناء منظمات المقاومة، وأن بيتان كان قد سھل لھم، على الأقل لأشھر طويلة، العمل من

خلال سياسته الصراحة والوضوح.

في الأشھر العشرين الأولى من عھد الاحتلال، كان من السھولة ملاحظة الفرق بين المنطقة المحتلة)التي يديرھا الألمان مباشرة( والتي كان الألمان يأمرون وينھون فيھا بواسطة الشرطة التابعة لھم، وكذلك العناصر المتعاونة مع المحتلين. أما في الجانب الآخر منطقة حكومة فيشي فقد كان ھناك ماريشال فرنسا

بيتان يحكم، ومعه وزراء وجنرالات وموظفين، ولكن ربما لا يسع المرء أن يأمل منھم الكثير. )2( 30

بعد أن قرر شارل ديغول الذي كان قد خسر الحرب في الميدان الفرنسي، مواصلة القتال وقيادة فرنسا من إنكلترا، حيث بدأ على الفور بتوجيه نقد عنيف لبيتان من أجل تكوين اتجاه معادي لبيتان الذي أدرك على الفور ھدف معركة الوجود ھذه: إنقاذ ضمير وروح الشعب الفرنسي.

وفي بعض أوساط حكومة فيشي، وأيضاً في جيش الھدنة )بقايا الجيش الفرنسي الذي بقي بإمرة بيتان( الذي لم يكن يقبل الھزيمة. كان ھناك من ليس ديغولياً، أو شيوعياً، ولكنه يرغب بالمقاومة، وكانت المقاومة تعني، أولاً: عدم الانصياع إلى أوامر المحتل المنتصر، ولا يشترط في ذلك أن يكون محسوباً على معسكر الديغوليين أو الشيوعيين، ولكن كلما غيرت فيشي سياستھا بضغط من الألمان، كان معسكر

الديغوليين يتسع وتعلو كلمتھم.

وبعد 22 / يونيو ـ حزيران / 1941، عندما غزا الألمان الاتحاد السوفيتي، اكتسبت حركة المقاومة ضد

ًًً
الألمان الاتحاد السوفيتي، اكتسبت حركة المقاومة للألمان طابعا جديدا تماما. وفيھا انض ّم الشيوعيون

الفرنسيون بالاتفاق والنضال مع الديغوليين. وفي الواقع فإن قبل ذلك، لم تكن للمقاومة أي قيمة عسكرية، ولم تكن الضربات ضد الجيش الألماني أكثر من وخز دبابيس، وكانت تكلف مرتكبيھا ثمناً باھضاً، ولم تكن ًأھميتھا بأكثر من أنھا كانت إيقاظاً للروح الوطنية الفرنسية الذي جعل من شعب الھزيمة الكارثية،

شعبا يرفض ذلك.

وكان تحالف ھتلر وستالين قد جعل ذلك صعباً على الشيوعيين الفرنسيين المخلصين لسياسة موسكو، وكان خطابھم السياسي خالياً من أي كلمة ضد المحتلين الألمان وكانت كافة مقالات صحيفة اللومانتيه )صحيفة الحزب الشيوعي الفرنسي( ونشرات الحزب تھاجم حكومة بيتان في فيشي فقط، وكانوا يبدون

وكأنھم لا يشاھدون الألمان أو كأنھم غير موجودين بالمرة.

وبعد بضعة أيام من الھجوم الألماني على الاتحاد السوفيتي، ظھرت ردود الفعل الأولى من الحزب الشيوعي الفرنسي. بعدم مساندة العمل لصالح ماكينة الحرب الألمانية إذ أن ” ھذه الأسلحة موجھة ضد العمال وفلاحي الكولخوزات السوفيت ” ، والدعوة إلى القيام بأعمال تخريب ظھرت في صحيفة اللومانتيه يوم 2 / يوليو ـ تموز تحت شعار ” كل ما ينفع ويفيد ھتلر يضر بفرنسا، وكل ما يلحق الضرر بھتلر ينفع

ويفيد القضية الفرنسية والاتحاد السوفيتي أيضاً ” .

وفي نشرة صدرت في يوليو ـ تموز / 1941 خاطب فيھا الشيوعيون ” إخواننا الديغوليون ” ويدعونھم فيھا إلى النضال المشترك ” الذي يستعد له الحزب منذ يونيه ـ حزيران /1940 ” إن الحزب الشيوعي الفرنسي الذي لحمته من لحم شعبنا قد بقى حياً، على الرغم من كل الضربات التي وجھت له، نحن نناضل منذ يونيه ـ حزيران / 1940 جنباً إلى جنب، وقد وقفنا معاً ضد الھدنة التي وقعھا الخائن)ويقصد به

بيتان(.

****

والغزو الألماني للاتحاد السوفيتي، لم يؤ ِد فقط إلى احتدام المقاومة ضد الاحتلال الألماني نوعياً فحسب، ولكن أيضاً أوجد أبعاد للتعاون مع العدو. وفي تلك الفترة اعتقد كثير من المتعاونين مع العدو، بأن الأفق قد اتسع لأوربا جديدة، لا يكفيھا القلب الوجل الخائف الذي يدير محل جزارة في فيشي، ولكنھا تحتاج إلى

الرجال الشجعان الذين يدفعھم الإيمان بالمبادئ الفاشية. 31

وقد كتب الكاتب الفرنسي المتعاون مع العدو، دي شاتبريان ” أنه أعمى من لا يعرف الدور الذي أوكله القدر إلى ألمانيا، بل منحطة وملعونة أي أمة أوربية لا تحمي ھذا السيف المرفوع “.

الشھور الأولى التي قادتھا الدبابات وأجھزة الدعاية على السواء ضد السوفيت الذين بدا عليھم وكأنھم يترنحون، ظھر المتعاونون مع العدو، وھم يمنحون كل ذلك طابعاً من الضرورة وحكم القدر، وبدا أن كل من ھو معادياً للسامية يأمل بأن الدولة بمساعدة النازية سوف تظھر ھي الأخرى كراھيتھا.

ولم ّ يطل ذلك كثيراً، حتى أرغم اليھود في الجزء المحتل من فرنسا على حمل شارة النجمة اليھودية. وعلقت الصحيفة المتعاونة مع العدو، بيلوري على ھذه الإجراءات في 7 / حزيران ـ يونيو / 1942 ” من اليوم فصاعداً، على جميع المارة في الطرقات الانتباه”.

ولكن ردود الأفعال كانت مختلفة تماماً، وعلى غير ما كان الألمان والمتعاونيين معھم يعتقدون، فإن جميع اليھود الذين شاركوا في الحرب العالمية الأولى، حملوا النجمة اليھودية والأوسمة التي منحت لھم في الحرب 1914 ـ 1918، وبعض اليھود قاموا بتطريز النجمة اليھودية من الحرير، كما جاء ذلك في بعض

التقارير الخاصة.

وبعض الذين حملوا النجًمة اليھودية لم يكونوا من اليھود، فلكي يظھروا تضامنھم مع اليھود، فقد حمل البعض ممن ليسوا يھودا النجمة وكان يضمنھا عبارات فتازية مثل Jenny أو Pa Pou بل أن أحدھم صنع حزاماً من ثماني نجمات يھودية وكل منھا تحمل حرفاً من عبارة Victorre أي النصر. وفرنسية قامت برسم الصليب المسيحي فوق النجمة اليھودية، وأخرى قامت لدى مرورھا بنقطة سيطرة للشرطة، إعطاء النجمة لصديقتھا، وآخرين من الذين يعتبرون أنفسھم أصدقاء لليھود توجب عليھم قضاء بضعة أيام

في التوقيف مقابل إظھار تضامنھم مع اليھود. )3(

نعم كان ھؤلاء الفرنسيين، على الأقل في بداية الأمر، يمثلون الاستثناء فقد وصفت الصحف المتعاونة مع العدو ھذه الفعاليات بأنھا طًبيعية وأنھا نابعة من الغيظ، وأن محرقة الجثث ھي للجميع بدون استثناء من الشيوخ إلى المولودين حديثا.

وفي صحيفة بيلوري المتعاونة، كان الحديث يدور عن ” عرق غير محترم، وھؤلاء ھم آخر من يمثله، مع الافتراض بأنه في عام 2142، حسب ما تنعي الصھيونية، بأنه سينقرض، وذلك أفضل”.

ويحاول الآن الكثير من اليھود إخفاء نجمته، إذ كان الترحيل )التسفير( إلى آوشفيتز قد بدأ وحتى 11 / يونيو ـ حزيران / 1941 كان قد رحل بحدود 22 ألف إلى 30 ألف يھودي من باريس، و26 ألف من بقية المناطق الفرنسية المحتلة، و50 ألف من المناطق غير المحتلة. )4(

وبالنسبة لكل يھودي، كما كان الألمان يسمونھم، كانوا يطلبون 14 ألف فرنك فرنسي عن كل واحد منھم عند الاستسلام، أي ما يساوي 700 مارك ألماني )في ذلك الوقت( وحكومة فيشي أعلنت أن جميع الذين تم تسليمھم ھم بدون جنسية، أو أنھم يھود أجانب، ولكنھا رفضت أن تساھم الشرطة الفرنسية في مناطق

حكومة فيشي في اعتقال اليھود.

وتحت اسم مستعار )الريح المبكرة(، باشرت 888 مجموعة من الشرطة الفرنسية بالعمل. ففي صباح 16 / يوليو ـ تموز / 1942 بين الساعة الثالثة والرابعة فجراً، بالحركة لاعتقال 22.000 ألفا من اليھود الأجانب في باريس. وفي المساء كانوا قد اصطادوا 12,884 فرداً كان من بينھم 5802 من النساء

و4051 طفل.

32

وكانت لدى الشرطة أوامر صارمة بأن لا يسمحوا بأي محادثة أو مناقشة مع المعتقلين، ولكن مع ذلك كان ھناك قبول لرشا ٍو، من حلى ذھبية من أجل إنقاذ حياة، فقد كان ھناك من الشرطة من يعاني الفقر والضنك، وبعبارة أخرى مختصرة، كانت الجملة التالية دارجة:” سنعود بعد ساعة ” أو بتسريب إشارة يفھم اليھودي

مغزاھا، أن عليه الھروب.

ويشير تقرير ألماني، أن غالبية السكان )الفرنسيين( كانوا رافضين للنظرة العنصرية، ولكن بالمقابل كان ھناك بعض الناس ممن أسمتھم الشرطة بالصيادين، الذين كانوا يخبرون الشرطة عن اليھود الھاربين، كما حدث مع السيدة أبرامسكي، وابنھا اللذان انتظرا قدوم الشرطة وھي تغلق الممر مستخدمة القوة لمنع ھرب

اليھود من البناية.

وبعض الصحف المتعاونة مع العدو انتھجت بكل صراحة دور المبًلّغ )المخبر( فصحيفة بيلوري المتعاونة، اشتكت من الذين يأوون اليھود. وأحد الخدم وشى بـ 22 شخصا كانوا عند اليھودي رولان ماير الذي كان قد صرفه قبل يوم واحد من العمل. فأرسله إلى المعتقل و ُسفّر مع 70 ألفاً من اليھود إلى غرف

الغاز الألمانية.

وعندما اشتدت المطالبة كمخبرين، كيف فھم صغار النفوس ھذه الحالة ؟ فقد تحول العمل كمخبر إلى دليل للوطنية، ولكن ألم يكن ذلك وسيلة لكسب المال أو النفوذ، أو لنيل المناصب، أو كونھا وسيلة رخيصة لتسديد فواتير نزاعات عائلية قديمة. ألم تكن تنطوي على إجابة لسؤال ” لماذا ھو وليس أنا ؟ ” والكثير من الفشل والإخفاق: ت ّجار على حافة الإفلاس، كاتب لا ق ّراء له، أو رجال فاشلون، أو رجال ونساء بسطاء الذين يصعب عليھم أن يتخيلوا بأن نجاح من يتنافسون معھم قد حصل لأنھم قدموا ما يستحقون عليه النجاح، وليس من خلال الانتماء إلى عرق أو عنصر معين أو إلى حزب أو جمعية.

ومن تلك: قام خمسة أطباء من الشمال بالوشاية على طبيب يھودي روماني لقاء جائزة مالية، وأخبر طبيب يھودي من بولونيا على أحد أعضاء جمعية يھودية سرية، وقد أودى بثلاثة أطباء يھود آخرين كانوا يمارسون المھنة وھم ممنوعون من ممارستھا، وأنه ذھب للعلاج لديھم وقد حصل على موعد مع اثنين

منھما.)5(

وقد عرض الطبيب لورينت فيكوير في تقريره بأن عائلة ليفي التي كانت قد اختفت بعد صدور الحكم

بحقھا، وأنه يقوم بأعمال بيطرية بمعالجة الخيول، وإنه قد جمع حوله عشرين من اليھود، ولديھم مخزون

ً
من الأغذية للشتاء. وقد كتب فيكوير في تقريره أيضا: ” إن على العمدة أن يستخدم المعلومات لديه، وأن

يقوم بمسؤولياته “.

وقد أخبر أحد حراس ً مقبرة بيري لاشايز عن زميله أيليا كوجل بقوله: ” يھودي مئة بالمئة ” . ومخبر آخر، يكتب أن يھوديا صانع للقبعات، ما يزال في ورشته يعمل بتثاقل. ويھودي آخر يكتب ھكذا: ھناك مصبغة )محل لتنظيف الملابس( يھودية في شارع فوريلار التي على مقربة من شارع لافاييت.

كانوا يخبرون عن اليھود، وعن أصدقاء اليھود. وقد كتب أحد المخبرين قائلاً ” إنھم يكدسون الأثاث في الطابق الرابع، إن مالك الشقة السيد ن … ھو صديق حميم لليھودي بلوم، بل يؤكد بعض الناس أن الأثاث يعود له، ولكن بواب العمارة استلم علبة عليھا اسم السيد ن …” أو بلاغات مثل ” إن السيدة لاليمنت بوابة العمارة تمتلك حلى ذھبية ونقود وعدد 2 غطاء سرير جميل جداً من الحرير، وھي مودعة لديھا أمانة من

قبل يھود قبل أن يھربوا”.

33

وھناك بروفسور من مدينة طولون، أخبر عن يھودي ھنغاري، شيوعي له صلات بالمقاومة وكان عشيقاً لزوجته، بل ھو يكتب في بلاغ الإخبار ھكذا :” وبدون ھذه الإجراءات)أي اعتقالھم له( لا يسعني أن أتأمل بأن تؤدي زوجتي واجباتھا، إن الأمر يتعلق بإنقاذ عائلة فرنسية، وإن ھذا الشخص لا يكفيه بأنه يھودي، بل يسلب امرأة فرنسية من زوجھا، دافعوا عن النساء الفرنسيات من اليھود، وھذه أفضل وسيلة دعائية،

وكذلك تعيدون رجلاً فرنسياً إلى زوجته “.

ترى أي كراھية كانت تتملك السيد كاربنيتر الذي كان يعيش منفصلاً عن زوجته اليھودية ذات العشرين عاماً، بحيث يدعھا تعتقل أمامه في الشارع، أو طبيباً فرنسياً الذي أخبر عن كنته اليھودية الشابة وتسبب باعتقالھا ولاحقاً في موتھا ؟… كما أن من المؤكد أن الأسباب التي دعت السيدة ماريا روزا بأن تسلم عشيقھا إلى الألمان، ھو أنه كان قد أخبرھا في 10 / يناير ـ كانون الثاني / 1943، بأنه لا يريد الزواج منھا، وفي اليوم التالي لم تجد الجندرمة أي صعوبة بإلقاء القبض عليه وبحوزته قطعة سلاح ناري، وتلك حادثة أخرى تدل على البواعث المختلطة التي كانت تدفع الناس إلى ارتكاب جريمة التعاون مع العدو، فھذه سيدة تدفع بزوجھا بين يدي الألمان، لأنھا لم تعد راغبة بالعيش معه، وأنھا تريد أن تقيم علاقات غرامية مع ضباط الاحتلال، فوشت بزوجھا على أنه يزور البطاقة التموينية. ترى كم ھي الحالات التي كانت فيھا نساء فرنسيات يرغبن أو يقمن فعلاً علاقات مع الضباط الألمان لتنعم فيھا ومن خلالھا بالأمن

تحت نفوذ مطلق بقوة السلاح، ولكن مقابل كراھية واحتقار الجيران ومشاعرھم الوطنية.

وھنا مقاطع من الدعاية الوطنية المعادية للألمان:

” لقد جعلھا الأعداء تنتفخ ” إذ كانت السيدة مارسيل تنطر طفلاً من أحد رجال الاحتلال الألمان. وبسبب ذلك اعتقلت ھذه السيدة ً )بعد تحرير البلاد( ونالت عقاباً بالسجن لمدة سنتين. وھناك رج ٌل نال عقوبة السجن لمدة سنتين أيضا، لأنه كان يعمل في بيت يسكنه الألمان وأنه كان يقضي خدمته في الفراش بدل

المطبخ، لذلك لقب ” العاھر “.

وكان ھناك أيضاً يھود مخبرون عن يھود، فھناك يھودي يدعى ليفي في باريس المنطقة الحادية عشر، وكان لا يفھم شيئاً عن آراء ھتلر وملاحقته للسامية، وكان يظن بأن الألمان يفرقون بين يھود)طيبين( ويھود )سيئين(، وھو بالتالي، قام بالإخبار عن يھود مثله باعتبارھم تجار في السوق السوداء. وكتب في

بلاغه :” أنقذونا من ھؤلاء الناس الذين يسيؤون إلى العوائل اليھودية الشريفة ” !!

وھناك، من تحول إلى مخبر ومتعاون مع العدو بسبب الأوضاع المعاشية والتموينية الصعبة، ومنھم من فعل ذلك)الخيانة العظمى( من أجل لتر حليب واحد ! وھناك مثلاً الآنسة روشا التي كانت تسعى من أجل صحة أفضل لنفسھا، وكانت عاطلة عن العمل منذ عدة شھور، ولكنھا حصلت على بطاقة عمل، ثم نالت بموجب ذلك بطاقة الحصول على الحليب، فمن أجل ذلك كتبت إقراراً خطياً بأنھا لم تعد تنتمي إلى

العنصر اليھودي، أي أنھا تحولت عن ديانتھا.

****

في 21 / أغسطس ـ آب / 1941، حدثت الضربة الأولى ضد سلطات الاحتلال. ومن ثم توالت الضربات. ففي مدينة نانتس، قام قائد إحدى الوحدات الشيوعية المقاومة، وھو جيلبرت برو ستلاين، بقتل القائد الألماني المقدم فريتز ھونز، وفي بوردو أطلق بيير ريبرية النار على رئيس الإدارة العسكرية والدكتور ھانز جوتفريد رايمز، ولم تكن ھاتان الشخصيتان الألمانيتان من العناصر النازية، ولم يكن لدى المواطنين

الفرنسيين سبب للاستياء منھما، فقد قُتلا بالصدفة بتواجدھا في مكان الضربة. 34

وبعد مقتل المقدم ھوتز، وضعت مكافآت كبيرة للاستدلال على الفاعلين. وبناء على ذلك، فقد تلقى عمدة البلدة عدة بلاغات مع أوصاف دقيقة للشيوعي بروستلاين وأفراد جماعته. وقد تسبب ذلك في تقليص نفوذ الشيوعيين في البلدة، فقد كان إطلاق النار على الرھائن من قبل الألمان أمر مخيف. ولكن بعد التحرير ص ّرح أحد القادة الشيوعيين وھو ألبرت اتسولياز، وھو يرد على الكثيرين من الفرنسيين ” لا بد من قتل

العسكريين الألمان ولا سيما القادة منھم”.

)عسكريون ألمان في المقاھي الفرنسية(

واليھود ك ّونوا بأنفسھم وحدة خاصة لھم لمقاومة الألمان. وكمثال على ذلك، تسلل يھوديان، ليون باكين وإيليا فالاخ، في يوم 8 / مايو ـ أيار / 1942 إلى منزل خياط فرو يھودي، لأنه يصنع القفازات للجيش الألماني، ّولكنه ھذا بدأ بالصراخ بصوت عا ٍل دفاعاً عن نفسه، بحيث ھرع الجيران إليه لإنقاذه، وفي الممر وسلم العمارة تعرض الرجلان إلى الضرب من اليھود وغير اليھود. وقد وجد شرطيان صعوبة في تخليص الرجلين الذين كانا ينتميان إلى المقاومة، ثم سلموھما إلى الألمان الذين أصدروا حكماً بإعدامھما

رمياً بالرصاص بعد أسبوع.

وفي 23 / أغسطس ـ آب / 1041، وبعد مرور يومين على الضربة الأولى ضد المحتلين الألمان، ظھرت في كافة الصحف التي تصدر في المنطقة المحتلة من فرنسا بيان صادر عن القائد العسكري العام الفريق أوتو فون شتولب ناغل والذي جاء فيه ” إن كافة الفرنسيين الذين يُعتقلون من قبل الإدارات والموظفين الألمان، يمكن اعتبارھم كرھائن “وفي حالة حدوث ضربة جديدة ” وبحسب أھمية الضربة، فسوف يطلق

النار على عدد من الرھائن”.

35

)عملية تخريب قطار تقوم بھا المقاومة(

وفي 29 / آب ـ أغسطس / 1941ُ، تم الإعلان عن أولى عمليات الإعدام التي وصلت إلى ذروتھا يوم 22 / أكتوبر ـ تشرين الأول / عندما أعدم رمياً بالرصاص 48 من الرھائن كثأر على اغتيال المقدم الألماني ھوتز.

وكان الألمان يختارون الضحايا من بين نزلاء المعتقلات، وتؤلف منھم ثلاث مجموعات، وكان الشيوعيون يس ّخرون على الأغلب في أشغال تكسير الحجارة بالقرب من المدينة، وعندما تقع حوادث، كانوا يتقدمون بأنفسھم لاختيارھم ضمن المجموعة التي تقرر إعدامھا. وكانوا يرفضون شد عيونھم عند إطلاق النار عليھم فيما كان 90 من رجال الأس أس SS الألمان يتولون إطلاق النار على الضحايا

المختارين.

وفي رسالة على الشعب الفرنسي، أعلن الماريشال بيتان)رئيس حكومة فيشي( الذي كان يتلاعب بالأفكار، أنه مستعد ليقدم نفسه كرھينة وقال عبرً الإذاعة:” أن خمسين فرنسيّاً دفعوا حياتھم اليوم ثمناً لمجرمين لا اسم لھم، وخمسين آخرين سيعدمون غدا إذا لم يسلم الفاعل نفسه، إن تيار الدم يسيل في فرنسا، والثمن ھو مرعب لا يدفعه الفاعلين الحقيقيين، أيھا الفرنسيون، إن مسؤوليتكم واضحة: فقد ألقينا السلاح، ولا يحق أن

نرفعه مرة أخرى، وأن نطلق النار على الألمان في ظھورھم ” .

وفي 15 / ديسمبر ـ كانون الأول / أعلن القائد العسكري الألماني، بأن مئة من الشيوعيين اليھود والفوضويين سيُعدمون رمياً بالرصاص، وحسب ما يًذكر المواطن الألماني أرنست يورغن الذي ترجم العديد من رسائل اًلرھائن، أن ھتلر كان قد أصدر أمرا في 16 / سبتمبر ـ أيلول / 1941، بإعدام 50 إلى

100 شيوعي رميا بالرصاص مقابل كل جندي ألماني يُغتال أو يُقتل في فرنسا. )6(

كيف كان مفعول ھذه العقوبات الانتقامية والتنكيل على الفرنسيين ؟

المعادين للشيوعية كان لھم رأي ق ّدره أحد الموظفين الإداريين في المناطق المحتلة التي يديرھا الألمان في تقرير له مؤرخ في يناير ـ كانون الثاني / 1942 ” الذين ما يزال لھم النشاط والفاعلية يق ّل عددھم

36

باستمرار بعد العقوبات الانتقامية الألمانية “. وعلى كل حال فإن الإعدامات ” كان لھا مفعول مؤسف لدى كافة السكان الفرنسيين ” والرھائن الذين تم إعدامھم رمياً بالرصاص كانوا حوالي 500 شخص للفترة من سبتمبر ـ أيلول / 1941 وحتى يونيو ـ حزيران /1942، وكان الناس يعتبرونھم شھداء. ويضيف أحد القادة الألمان قائلاً: بأن 18 عملية إعدام في ديجون، وھذه المنطقة لم تشھد إلا أحداث بسيطة، تنعدم فيھا

حالياً أي فرصة للتعاون مع الألمان، وھناك عاصفة من الكراھية حلت مكانھا تجاه العدو المحتل.

وفي تموز ـ يوليو / 1942 أعلنت حركة المقاومة بأنھا ” قتلت 131 من ضباط وجنود العدو، وكذلك 3 من الخونة المتعاونين ” ونشرت صحيفة اللومانتيه )صحيفة الحزب الشيوعي الفرنسي( التي واصلت صدورھا سراً، بأن لابد من تشديد النضال وقتل المزيد من العدو والخونة.

وفي أقل من سنة، تغيرت الأحوال جذرياً في المناطق المحتلة من فرنسا، وكان الشيوعيون فعلاً ھم الذين ُسعروا من النضال ضد المحتلين، وخلف صور الضحايا التي تحاط بحاشية سوداء للحداد في إعلانات الصحافة لم يعد الكثير من الفرنسيين يشاھدون صور الضباط القتلى من الألمان، بل وجوه الرھائن

الفرنسيين الذين قُتلوا كعقوبة وثأر.

وفي شھر أبريل ـ نيسان / 1942، أعلن الألمان بأنھم سيقومون بإعدام 20 من الرھائن بعد كل عملية )منھم 5 في مكان العملية(، بالإضافة إلى ترحيل 500 فرد إلى مناطق أخرى. والآن فإن ھذه الإجراءات لم تعد تشمل الشيوعيين واليھود فقط، بل وكذلك العناصر الآرية والمعدمين والقوادين والمجرمين.

)صورة شھيرة في أرشيف المقاومة : مناضل يبتسم ويضحك عند إعدامه(

وفي 10 / يوليو ـ تموز / 1942 ضاعف الألمان من عقوباتھم الانتقامية والتنكيل، والآن وبقيادة أحد كبار ضباط أس اس، قائد الشرطة كارل البرشت أوبيرغ، شمل بعقوباته أسر وعائلات الفاعلين وجعلھم مشاركين في المسؤولية، وأصبحوا مھددين بنفس العقوبات على الرغم من أنه لم يستخدم ھذا التھديد بشكل

ثابت، وھنا في ھذه الوثيقة نجد دليلاً على روح القوة والسلطة:

1 . جميع الأقرباء من الذكور، بما في ذلك الأصھار وأبناء العم وأبناء الخالة من البالغين سن 18فما فوق، يع ّدون من الرھائن ويعدمون رمياً الرصاص.

2 . جميع النساء من نفس درجة القرابة، يساقون إلى معسكرات العمل الإجباري. 3 . كافة الأطفال تحت سن 18، وكذلك النساء والرجال من الأقرباء خارج ھذا التحديد

37

يوضعون تحت المراقبة )الحضور والتوقيع وتحديد الحركة(.

في البدء اعتقد الألمان أن ً شيئاً من الإحباط والھبوط في المعنويات سيصيب الشعب الفرنسي من خلال تنفيذ عمليات الإعدام رميا بالرصاص، وقد اھتم مناضلو المقاومة، ليس الشيوعيين فقط، اھتموا بأن لا تھبط معنويات الشعب وشجاعته، بل أن تتصاعد. والألمان من جھتھم كانوا عبر إعلاناتھم وبياناتھم كانوا يھدفون إلى إخافة الناس والسيطرة عليھم. والمقاومة من جھتھا كانت تسعى عبر بياناتھا إلى رفع معنويات

الجماھير.

وكان الألمان يعلنون أسماء الذين يعدمونھم كرھائن في العمليات الانتقامية كنظرة ازدراء واحتقار، والمقاومة كانت تحيط بأسمائھم وتسبغ عليھا التضحية والشرف. الألمان كانوا يدعون الناس أن يتعاونوا معھم، كمخبرين وعملاء، والمقاومة كانت تدعوھم للنضال والكفاح. )لاحظ نص ترجمة الإعلان الألماني

في ختام التقرير ـ المترجم(

أ ّما رجال الأمن والمخابرات الفرنسيين الذين كانوا يعملون لصالح الغستابو )جھاز الأمن والمخابرات الألمانية ـ المترجم( كانت لديھم الصلاحيات منذ أكتوبر ـ تشرين الأول / 1940 بمنح مبلغ 1000 فرنك فرنسي لقاء الإبلاغ عن كل يھودي و300 فرنك عن كل ديغولي. وكان الإبلاغ أو كشف إخفاء سلاح

تقابله مكافأة تتراوح بين 5000 إلى 30،000 فرنك فرنسي .

والمخبر العادي إذا جاز التعبير، كان يُمنح أجراً منخفضاً، وبعد أن تقدم الألمان واحتلوا المناطق الغير محتلة سابقاً )منطقة حكومة فيشي(، فقد كانت المكافأة في المناطق الغير محتلة 100 فرنك على سبيل المثال في مقاطعة الألب/ مارتميز. أما كم حصلت مثلاً السيدة B عن تسليمھا 22 طفلاً للألمان والذين

قُتلوا فيما بعد في مستوصف مدرسة ليون ؟.. فذلك ما يتعذر حسابه !!

كانت أجرة المخبرين عالية إذا ح ّذر المخبر من عملية اغتيال أو تخريب، أو إذا سلّم إلى الألمان شخصاً قام بعملية. وھكذا فإن مواطناً فرنسياً حصل في التاسع من مايو ـ أيار /1942 على مبلغ قدره 100 ألف فرنك، وكان ذلك يعادل في تلك الأوقات راتب ثلاث سنوات، لأن ھذا الرجل ومن خلال المعطيات التي ق ّدمھا، م ّكن الألمان من اعتقال شيوعي)إرھابي(. وبعد يوم واحد على ذلك، تم ّكن شاب فرنسي من المناطق المحتلة وبفضل بلاغ منه، من إحباط عملية حرف قافلة عسكرية ألمانيّة عن طريقھا، فإنه بالإضافة إلى المكافأة المالية التي استلمھا، نال وعداً باستثناء قريته من العقوبات التأديبية. بل وفضلاً عن ذلك فقد جرى بحث ما إذا كان ممكناً إطلاق سراح أسير حرب فرنسي جراء ھذا العمل الذي اعتبرته

السلطات الألمانية في غاية الإيجابية.

وبعد حوادث الاغتيال والتخريب الأولى في باريس، بدأت المكافآت تتصاعد، وأن مدير شرطة باريس دفع مرة مليون فرنك مكافأة. وبعد حادثة اغتيال المقدم ھوتز من نانس رفع القائد الألماني العام فون شتولب ناغل المكافأة إلى 15 مليون ًفرنك. وبذلك يكون مفھوماً بأن الإبلاغيات والإخباريات حتى الأشھر الأولى من عام 1944 كانت نادرا ما تكونّ بتوقيع مجھول، ولكن في جميع الأحوال فإن البلاغات

الألمانية لم تكن تذكر الأسماء )المخبرين والمبلغين(.

وبالمناسبة، فإن الكثير من الإخباريات كانت من اليھود. ففي السادس عشر من ديسمبر ـ كانون الأول / 1942 أبلغ أحدھم المفتش المخت ّص بقضايا اليھود، عن محل اختفاء سيدة يھودية قائلاً ” لأن ھذه السيدة يھودية، ونحن الفرنسيون ينبغي أن نعيل عوائلنا، وأنا قد رتبت الأمر بأن أنال ما لديھا من حاجات ولوازم، ولكن لا بد أن تُفحص أولاً فيما إذا كانت تملك أشياء أخرى أو أنھا أخفتھا لدى يھود آخرين “.

38

ومعماري من مدينة كوت ّدي آزور أرسل إلى مفتشية الشرطة قائمة تضم أسماء أكثر من 200 محل يھودي، وھو يرجو أن يتسلم أحدھا.

ولكن بالمقابل كان ھناك نقد صريح لفعاليات المخبرين. وقد كتب أحد مسؤولي الإدارة بأن ھذه الفعاليات قد أشاعت ج ّواً لا يحتمل من الشبھات، كما تسببوا في العديد من الحالات المؤسفة. لذلك فإن الإخباريات المجھولة التوقيع سوف تُحال إلى تحقيق الشرطة لإجراء اختبارات الخطوط عليھا وطبعات الأصابع.

وقد اقتنعت إدارة البريد الفرنسية ّ عن إجراء رقابة على بريد اليھود، أو الإبلاغ عن ذلك إلى الشرطة، وبعض الناس العطوفين كانوا يحذرون اليھود بأن إلقاء القبض سيتم بحقھم، وبعض رجال الشرطة كانوا يمتنعون من سماع أو اتخاذ إجراءات عن إخباريات بوابي العمارات.

وقد أعلن المذيع في إذاعة باريس بّأن كل رسالة إخبارية مجھولة المرسل والتوقيع سوف تُقذف في سلة المھملات. وحتى الضباط الألمان ملوا سماع مثل ھذه الإخباريات. وكان القائد العسكري لمنطقة إيفرو بين 1941 وحزيران ـ يونيو / 1942، لم يعد بوسعه الاعتماد على المخبرين حتى الذين يخبرون عن مرسلي رسائل بواسطة الحمام الزاجل )من أنصار المقاومة( أو إخباريات عن حيازة معدات عسكرية، أو البلاغ

عن مخازن ممنوعة.

بل أن العديد من المحاكم أدانت مخبرين، إذ توجب على أحدھم مثلاً، دفع غرامة قدرھا 50 ألف فرنك لأنه قدم بلاغاً مزيفاً بأن أحدھم ھارب من معتقل أسرى الحرب ومخبر آخر حكم عليه بالسجن لمدة عام واحد مع دفع غرامة 100 ألف فرنك لأنه أرسل رسالتين مغفلة التوقيع إلى القيادة العسكرية لمنطقة إيتاجس

متھماً فيھا جاره بإخفاء أسلحة في داره.

وإن شئنا تصديق كبير المفتشين مارسيل مانير، فإن جميع السكان من مدينة بوردو لم يعد أمرھم يھم قسم الشؤون اليھودية، فإن العقوبات قد جعلت من جميع الناس سواسية، ولم يعودوا يكترثوا لھا. وبصورة غير مباشرة فقد وردت مثل ھذه الأفكار في تقرير في خريف 1943 وجاء فيه : ” أن سكان مقاطعة جيروندا يُظھرون روح العداء لليھود مع بدء الإجراءات ضد المواطنين اليھود، ولكن الشطط والوحشية غيّرت من

ھذا الشعور “.

في الرابع والعشرين /نوفمبر 1940، كان 70 يھودي بولوني متواجدين في المدينة الصغيرة شلايس، حيث استقبلھم السكان ھناك بأقل قدر من التعاطف، وعندما ساقتھم الجندرمة في 14 / مارس ـ آذار / 1942 إلى معتقل بالقرب من بويترز، ومنھا أرسل معظمھم إلى الموت، أظھر الكثير من سكان المدينة الارتياح وكان السبب لدى القليل منھم ھو لكونھم من اليھود، والأغلبية كانوا لا يرتاحون لھم لأنھم غرباء،

وإلى لغتھم وتصرفاتھم. )7(

وفي عام 1942 يصف عمدة نوارتابل المسافرين المارين من بلده من اليھود :” فظيع حقاً … إنھم يمرون عبر البلاد ويشترون كل شيء وبأي سعر كان “. وكان الكثيرون من اليھود قد ف ّروا على المنطقة غير المحتلة من فرنسا)منطقة حكومة فيشي(، لا سيما بعد حملة التحري والتفتيش عام 1942، واستقروا في القرى القريبة من الحدود الإسبانية، ويكتب أحد سكان القرية:” كان يأتي 50 منھم على الأقل يومياً، ليس

أكثر، ويشترون كل شيء حتى بأغلى الأسعار “.

وكان أقسى صدام بين السكان المحليين واليھود ھو ما حدث في مدينة كوت دي آزور ولا سيما في منطقة ينزا. ورحل كثير من اليھود إلى مدينة مرسيليا بعد ھزيمة الفرنسيين في الحرب، وبعد فترة قصيرة كانت حالة المواد الغذائية قد وصلت إلى حد النفاذ، وكانت حصة الفرد الواحد ھي 50 غرام من الزبد و50

39

غرام من الجبن فقط في الشھر الواحد، ھكذا يكتب أحد سكان بلدة ينزار في سبتمبر ـ أيلول / 1941، واختفت الفواكه تماماً من الأسواق، وكانت النسوة يتضاربن فيما بينھن من أجل القليل من الطماطم والبطيخ الأحمر.

وكسبب لقلة الغذاء يقول أحد الكتاب: ” إن الجفاّف التقليدي، ّوكذلك كسل الناس ھنا سبب، ولكن السبب الرئيسي ھو ما يفعله ھنا الغرباء اليھود الذين حلوا ھنا، وتوزعوا على القرى الجبلية في المنطقة والذين أخلوا بتوازن الإنتاج يمارسون الاحتيال في السوق السوداء، بل أنھم يشعلون السوق السوداء بأسعارھم

العالية ويبعثون بھا إلى جماعتھم اليھود في القرى الساحلية.

****

لم تبعث الإجراءات المعادية للسامية لدى الأوساط الروحية القيادية أي مقاومة لھذا الاتجاه، ولم يكتب سوى القليل وبشكل سيء عن طبيعة النازية، بل أن أحبار الكنيسة اعترفوا صراحة بحق الدولة اتخاذ ھذه الإجراءات. )8(

فكتب أسقف كنيسة مرسيليا بتاريخ 6 / سبتمبر ـ أيلول / 1941 ” إننا نعلم جيداً جداً أن المسألة اليھودية تتسبّب في مشاكل وطنية ودولية صعبة، إننا نعترف أن بلادنا لھا الحق أن تتخذ كافة الإجراءات ضد ھؤلاء الذين التجؤوا إليھا بصورة تفوق المعتاد “.

ولكن الكنيسة الكاثوليكية وأيضاً البروتستانتية قامت ببعض المبادرات الشخصية والتي كانت بدون شك تعبّر بالدرجة الأولى عن الرحمة المسيحية. ولكن سرعان ما حصلت على صبغة سياسية. وبعد أن أقرت القوانين الفرنسية بتاريخ 2 / يونيو ـ حزيران / 1941، التي تنص على: ” إن عدم الانتماء إلى الديانة اليھودية من خلال الانتماء إلى دين أو معتقد آخر يمكن إثباته ” تسببت ھذه الفقرة في تسابق لصيد

المنتمين الجدد.

وقد احتفل القس بيتزيل راعي أبريشية سانت ايتان دومونت في باريس في أكتوبر ـ تشرين الثاني / 1943 بإقامة المعمودية 100 شخص انتمى إلى المسيحية )ھرباً من الملاحقة بتھمة اليھودية( والمئات من القساوسة كانوا كرماء، بحيث أن مدير قسم اليھود في الشرطة سرعان ما سيعتمد الشھادة التي يمنحھا

السقف بأن حاملھا معترف به كإنسان محترم.

وبسبب طيبة القلب والرحمة، فقد بعض القساوسة ببساطة وسذاجة القدرة على الرؤية الدقيقة للأشياء، وھكذا فمن بين الآلاف من المعتنقين الجدد للمسيحية )حوالي: 1810 ـ 1820 ( لم يستمر على الدين الجديد سوى عشرات منھم والباقين كانوا مزيفين.

40

)الصورة : إعدام رھائن (

وبالنسبة إلى موظفي الإدارة، كانً من السھل إثبات أن عدد اليھود في المقاطعة لم يكن يزيد عددھم على سبعة أفراد. وأصدر الألمان حكما على اثنين من القساوسة الذين كانوا يمنحون شھادات مزورة بالسجن لمدة 24 شھراً في المحاكم الفرنسية.

والكنيسة كانت تعلم جيداً بأن ھذه الموجة من الانتساب إلى الكاثوليكية، إنما كانت للتخلص من الملاحقة فحسب. وعلى الرغم من ذلك، فإنًھا كانت تقيم دروس تعليم الدين لمدة 6 أشھر، أو سنة واحدة. وكانت ستة أشھر كافية لشخص يريد حقا دخول المسيحية، أما بالنسبة لمن يريد استخدام ذلك لخداع الجستابو،

ً
فإن ھذه الشھور الستة تكون قاتلة له، وذلك ما كان يحصل غالبا.

والكثير من اليھود الفرنسيين الذين كانوا قد ھربوا إلى المنطقة غير المحتلة من الألمان )القطاع الذي تديره حكومة فيشي( ظلّوا بعيدين عن الإجراءات المعادية لليھود لأن حكومة فيشي لم تكن ضد أن يباد اليھود كأفراد، ولكنھا كانت تمارس التأثير على الرأي العام لإعاقة ذلك.

وھكذا كانت حكومة فيشي بالنسبة ليھود المناطق المحتلة، الأمل الأخير. والمنطقة الحرة )منطقة فيشي( كانت تعني لھم الأمان، ھكذا يقول الحاخام اليھودي فيليب أيرلانكر الذي كان أحد مؤيدي حكومة فيشي بالطبع، ولكنه استطاع الھرب قبل أن يصل الألمان إلى مرسيليا بتسعة أيام، وبحثھم عنه.

ولكن كل شيء تغيّر عندما احتل الألمان والإيطاليون في 11 / نوفمبر ـ تشرين الثاني / 1942 أخيراً ما تبقى من فرنسا التي كانت تحت إدارة فيشي.

**** إعلان إلى :

41

المجرمين الجبناء الذين يعملون كمرتزقة لصالح إنكلترا وموسكو. إن المجرم الذي أطلق النار من الخلف على القائد العسكري لمدينة نانس في يوم 20 / أكتوبر ـ تشرين الأول / 1941 لميل ِقالقبضعليهلحدالآن. ً وكتكفير عن ھذا الإجرام، قررت الإعدام رميا بالرصاص لـ 50 من الرھائن: إذا لم يسلّم الفاعل نفسه في مجرى ساعات يوم 23 / أكتوبر / 1941، فإن الإعدام رمياً بالرصاص سيكون من نصيب 50 آخرين من الرھائن. إلى جميع السكان الذين يساھمون في إلقاء القبض على الفاعل، فإني سأدفع مبلغاً قدره :

15 مليون فرنك ولكل إبلاغ يدل على الإخلاص سيتخذ كل مركز شرطة ألماني أو فرنسي الإجراء اللازم

باريس 21 / أكتوبر / 1941 القائد العسكري العام في فرنسا الفريق شتولب فون ناغل

*********

تحليل المترجم للفصل الثاني :

الفصل الثاني مك ّرس لبدايات المقاومة، يستعرض المؤلف الظروف السياسية والاجتماعية / الاقتصادية التي قادت جزء غير بسيط من الفرنسيين للتعاون مع الاحتلال لأسباب شتّى، في مقدمتھا عاملان رئيسيان : * الخوف من سطوة المحتلين. * الإغراء المادي.

المحتلون كانوا يضربون بوحشية وبلا رحمة، من السجن والتعذيب وحتى الإعدام، لمن يخالف أوامرھم وتعليماتھم. وكانوا يكافئون من يقف لجانبھم، والأفضل أن يساعد أجھزتھم، فينال المساعدات على شكل : مكافآت نقدية سخية، ترقيات وظيفية، الأولوية في المھن والعمل، وترجيح في التقدم على غيره.

ومن الواضح أن العناصر في ھذين المجالين، ھم ضعاف الناس، ومنحطّي الشخصية الاجتماعية والسياسية، وسلطات الاحتلال وأجھزتھا مدربون تدريباً ممتازاً وكانوا يكتشفون ضعاف النفوس بسرعة وسھولة ويوقعوھم في شباكھم بيسر، لأن أفراد ھذه الفئة مھيئة ذاتياً للسقوط، والخائفون ساقطون من الداخل مستعدون للعمل بإشارة، والصنف الثاني المحب للمال وصعود السلم بسرعة ودون استحقاق، ونيل

المراتب والدرجات دون كفاءة، وھكذا يندر أن يتعاون مع المحتل شخصية محترمة.

وھناك صنف آخر من المتعاونيين، وھو في كل الأحوال يوضع في عداد المتعاون، الخيانة في درجتھا العظمى، وھم المتعاونون العقائديون، الذي تتفق توجھاتھم العقائدية / السياسية / النظرية / الدينية مع المحتل، فيتعاون معه في احتلال البلاد أولاً، ثم يساعده على الاستقرار فيھا، ومن ثم يكون عوناً له في قمع مقاومة أھل البلاد للمحتل، فھو بنظر سلطات الاحتلال متعاون ممتاز، وبنظر أھل البلاد كالذي

سقطت عنه صفة الوطنية، والناس يخشونھم ويعاملونھم تعامل المحتل. 42

قرأت مرة في مذكرات ديغول ما معناه : أن الاحتلال يخلف الفساد، ورغم أني تمعنت بالكلمة، ولكننا ندرك اليوم سواء بمطالعاتنا، أو بمشاھداتنا كم دقيقة ھذه الجملة، وجوھر المسألة أن الاحتلال عار، عارً على من يقوم به، وعار على من يتعاون معه، وعار على من يتحمله دون أن يثور عليه، ومن يقبل عارا

بدرجة الخيانة العظمى، فما ھي قيمة رزمة أوراق سيان كم تبلغ قيمتھا ..؟ الاحتلال والمتعاون، المخبر، لغة واطئة، كالمصطلحات التي تدور في البارات الواطئة، والمواخير ….

ھوامش الفصل الثاني :

1 . بيتان، فيليب 1856 ـ 1951: ماريشال، بطل الدفاع عن فردان /1910 خلال الحرب العالمية الأولى، عقد بيتان صلحاً مھيناً مع الألمان ونقل العاصمة فيشي. وكان قد وقّع الھدنة مع الألمان في 22/ يونيو ـ حزيران / 1940، حكم عليه فيما بعد بالإعدام ثم ُخفف بسبب كبر سنه وماضيه الوطني، ومات

في السجن. المترجم 2 . التعاون مع العدو collarantion ، لھا لفظة خاصة في اللغة الإنكليزية والألمانية، وھي كلمة أسوأ من كلمة خائن أو جاسوس، وقى الله شعبنا شر المتعاونين. المترجم 3 . لا شك أن الإرھاب النازي في أوربا ضد اليھود أو غيرھم خلق حالة من التعاطف بين السكان، كما خلق حالات أخرى من الكره والعداء. المترجم 4 . آوشفيتز : أحد أشھر المعتقلات النازية ويقع في بولونيا . المترجم 5 . إذن فھناك يھود يشون ببعضھم، وأن الأمر لا يتعلق فقط بضعف شخصية وانحطاط المرء ليتحول إلى مخبر، ولكن ھناك وكما قال الجنرال ديغول : حقاً أن الإرھاب يخلق التفسخ. فالإرھاب وھذه الأمثلة ھنا خير دليل. فالإرھاب أي إرھاب ! يفسخ الإنسان ويجعله قابلاً لفعل أي شيء. 6 . الفوضويون: Anarchism جناح انشق عن الماركسية بقيادة باكونين، وكان ھذا الجناح يعتمد العنف في مواجھة الدولة. وقد ازدھر ھذا التيار في إسبانيا وفرنسا في الثلاثينات والأربعينات من ھذا القرن. المترجم 7 . يتحدث يھود أوربا عدا لغات الدول التي يعيشون فيھا، لغة اليديش، وھي خليط بين لغات عديدة أھمھا : الألمانية والسلافية والعبرية وغيرھا. المترجم 8 . المقصود بالأوساط الروحية: الأوساط القيادية في الكنيسة الفرنسية. المترجم

43

الفصل الثالث : الشعب ينخرط في المقاومة

في شباط 1943 اعتبر كافة الفرنسيين البالغين ملزمين بأداء ما أطلق عليه : الخدمة الإلزامية للعمل ” STO)” Service du Travail Obligatoire( للعمل الإجباري في ألمانيا، وبھذا ابتدأت مرحلة جديدة في التطور السياسي، والنفسي في فرنسا. تفوق ملاحقة اليھود والشيوعيين، وأثرت ھذه الملاحقات والإجراءات مئات الألوف من العائلات الفرنسية حتى آخر قرية في فرنسا ، وھذه قادت إلى مقاومة كافة

الإجراءات، بما في ذلك تلك التي كانت تنطوي على خطورة لألمانيا.

بضغوط من فرتز ساوكل، الجنرال المطلق الصلاحيات من ھتلر لتوفير القوة العاملة، وكانت الحكومة الفرنسية ملزمة دائماً بتوفير المزيد من القوى العاملة، من المصانع ومن الريف، والطلاب، وموظفين، وكسبة. ومن يمتنع عن السوق للعمل الإجباري )السخرة( لا يمكنه الحصول على فرصة عمل رسمية في فرنسا، وبدون ورقة العمل وبموجب تعليمات صدرت مطلع عام 1943، سوف لن يحصل أيضاً على الوجبات التموينية، وبھذا لم يعد بوسع الفرنسيين التجول بحرية، وبھذا نشطت أيضاً السوق السوداء وخاصة للمواد الغذائية المعيشية، ولكن صعوبة الحركة كانت قاسية لدرجة لم يعد بوسع الناس الذھاب إلى

دائرة البريد. )1(

” وضد تواطؤ الشباب ومحاولاتھم الھروب من سحبھم لخدمة العمل الإجبارية )السخرة( ” قررت حكومة فيشي أن يعاقب المتھرب بدفع غرامة قدرھا 100,000 ألف فرنك فرنسي بل وتعاقب حتى أسرة المتھرب. والألمان من جھتھم اتخذوا الإجراءات الأكثر صرامة، فكانوا ينظمون الغارات وحملات التفتيش، ففي 19 / شباط / 1943، اعتقل البوليس الألماني في مدينة ليون، 20 من الرجال بتھم غذائية، وفي 1 / مارس اعتقلوا حوالي 300 رجل، الذين كانوا في الساعة السابعة مساء في بلدة بضواحي ليون،

وبعد أربع ساعات فقط، ُسفّروا إلى ألمانيا.

ولكن ليس كل المسفّرين إلى ألمانيا للعمل الإلزامي )السخرة( وصلوا ألمانيا بالفعل، فحيثما لم تكن ھناك محطات القطار محروسة من الشرطة الألمانية، كان المسفّرون ينزلون من القطار ويھربون، ولم يبق من 300 مسفّر للعمل، سوى 8 أفراد فقط سفّروا للعمل في المصانع الألمانية. وبحسب ما تذكره صحيفة الحزب الشيوعي الفرنسي ” اللومانتية ” )L; Humanite( فإن 50 رجل من ھؤلاء أعيد اعتقالھم في

بيوتھم.

الكثير من الممتنعين، كانوا يعتمدون على مساعدات الإدارة الفرنسية، التي كانت مساھمة. في باريس كان مفتش العمل العام، جان أيسيولاري استفاد من الثغرات الموجودة في القانون، وسعى في محاكم الاستئناف، التي سمحت بكثير من حالات الاستثناء، وبعد نھاية الحرب، ظھر أن 13642 من الملفات التي تم الحفظ عليھا الذين كانوا قد ف ّروا من خدمة السخرة الإلزامية، كما كان عدد 100,000 نالوا الإعفاءات من عمل السخرة، والألمان كانوا ساخطين لھذه المقاومة السلبية من موظفي الإدارات، فأحالوا

21 من موظفي وزارة العمل على التقاعد.

في المحافظات، وخاصة غرونوبل د ّمر الموظفون قسم من ملفات العمل الإلزامي. وفي باريس، أحرقت مجموعة من المقاومين في شباط / 1944 حوالي 200.000 من كارتات التسجيل، وساھم الأطباء في التخريب الإداري أيضاً، وبحسب التعليمات التي أصدرھا الألمان، تم ّكن بعض العاملين الشجعان في المجال الطبي من إعفاء عدد كبير من الشبان من العمل الإلزامي )السخرة(. وفي ھذا استغل الأطباء الفرنسيين، خوف الألمان من الأمراض المعدية، وتواصلت تداعيات ھذه حتى بعد الحرب، فقد حدث

44

لأحد الأطباء أن أصدر وثيقة بأن رجلاً مصاباً بمرض زھري )سفلس( وزوجة الرجل اكتشفت الوثيقة، ولم تصدق إلا بعد عدة شھادات من عدة مختبرات، وكادت القضية أن تصل إلى المحاكم.

ولكن كانت ھناك إدارات، تعمل بدقة وضبط، وترسل من عمال السخرة أكثر مما ھو يطالب الألمان أنفسھم، وكانوا يرسلون الشبان الذين قد حصلوا على إعفاءات وبعض الأحيان عن طريق رشوة الألمان، وفي حالة ما امتنع ھؤلاء من مغادرة فرنسا، فليس سوى فرصة واحدة للبقاء على قيد الحياة، “تحت

الأرض” ھي الاختفاء التام.

” اذا طالبنا ساوكل )مدير عام التشغيل الألماني(، 500.000 رجل ” يقول الشاعر الفرنسي المتعاون، روبرت براسيلاش في رسالة يكتبھا لصديق له : فھذا يعني أن 499.000 منھم من عصابات المقاومة. وبالطبع ھذه مبالغة كبيرة من الشاعر. ورغم إجراءات الألمان والمتعاونين، فإن أعداد الممتنعين عن

العمل الإجباري )السخرة( كان في ارتفاع دائم. )2(

وحتى شھر نيسان وأيار 1943 كان 20 ـ 25 % من الفرنسيين المطلوبين للخدمة الإلزامية )سخرة( قد امتنعوا، وھذه النسبة كانت تتصاعد حتى بلغت 50 ــ 70% وبعض الأحيان أكثر من ذلك. وفي دائرة لوت، لم يتقدم سوى خمسة أفراد من مجموع 200 شخص مطلوبين للخدمة، وفي شارلفيل لم يراجع أي

فرد من مجموع 65 فرداً من المطلوبين.

إلا أن في الأيام التي سبقت إنزال الحلفاء في نورماندي في 5 / حزيران / 1944 وكان التحاق الشباب بالآلاف إلى المقاومة قد تكاثف لدرجة كبيرة خاصة في الأدغال والغابات والجبال في الجنوب والوسط، والتحقوا بمجاميع الشبان ھناك.

كم كان عددھم ھناك ..؟ ً في البداية كان عددھم قليل جدا، خمسة في بداية عام 1943 في منطقة ماكويز، وفي محافظة نيفره 3 مقاومين. وفي بداية عام 1944 بلغ عدد المقاومين في ماكويز في 12 مقاوم، وفي منطقة قريبة منھا 22، وأخرى تابعة لماكويز 17 مقاوم.

ولكن كان ھناك الكثير من المواطنين يساعدون المقاومة، وھكذا كان أسكافي بالقرب من فيغناًل يوفر الطعام لكي يعطيه لھم، كما صنع لھم أحذية قوية، والطحان مولر ليو رويار كان يطعم يوميا 12 من الممتنعين على عمل السخرة، وكذلك كان خبّاز يقوم بذات الشيء، وج ّزار وھؤلاء كانوا يساعدونھم دون

مقابل.

في أنحاء بلدة نيفره، التابعة لكوريزر، كانت ھناك عائلة مونيحر وھو صاحب كراج، الذي كان يزود المقاومين في ماكويز، وكان كل يومين يقوم بجولة حتى يصل إلى ماكويز. وعندما راقبته الشرطة السرية الألمانية )الغستابو(، أخذت زوجته وجبة المساعدات الغذائية، ثم بعد ذلك ابنته سوزان، وأخيراً ابنته

بيروت، التي كانت تأخذ المساعدات بدراجتھا، أو تضعھا في حقيبة ظھر.

وفعلاً كان تقريباً جميع الفلاحين الفرنسيين في المناطق المحتلة من الألمان مؤيدين للمقاومة، وحتى ضد حكام منطقة فيشي )المناطق غير المحتلة تحت الإدارة الفرنسية( رغم أنھم كانوا يستثنون الماريشال بيتان من الاحتقار، كانوا يساعدون المقاومين، وكلما زاد عدد المقاومين، كانت المساعدة تصعب أكثر، كما

كانت تش ّكل وعورة الطريق مشكلة أخرى.

45

في الأيام الأخيرة من أيلول 1943 قتل رئيس بلدية بلدة أوسنباري من قبل اثنين من الشباب )قتل في باريس( ممن يعملون في السوق السوداء للغذاء. وفي 23 / تشرين الأول، في خلال دقائق معدودة جرى تبديل 70,000 ألف بطاقة من مركز تقنين، نوغين سور مارنا، وكنتيجة للتعاون مع المقاومين، قتلت آنسة وعضو تعاونية في قرية ثلاثة من الشبان، أحدھم كان يرتدي ثياب بوليس، بصلية من مسدس

رشاش )غدارة(.

صاحبة مقھى متواضع في منطقة مايسون، قُتلت أمام أنظار شقيقتھا، من قبل عشر شبان، توقف اثنان من المقاومين أمام محل يبيع الأغذية )وجبات سريعة(، وبعد أن أخذوا طعامھم أطلقوا النار على صاحب الكشك.

” لصوص جبناء، ” قتلة مشعلي حرائق ” كتبت اللومانتية جريدة الحزب الشيوعي الفرنسي، ” الذين كانوا مع بيتان والخائن لافال )رئيس وزراء حكومة بيتان( الذين يقبعون تحت سقف واحد، يريدون أن يسيؤوا إلى سمعة المقاومين الأبطال “، أما إذاعة لندن فقد علقت في شھر كانون الأول / 1943، أنه إلى

جانب أبطال ووطنيين حقيقين، ھناك ” عناصر مشبوھة ” و” خرفان سود”.)3(

وفي ذلك الوقت، لم يكن اسم ماوتسي تونغ يعني لھم شيئاً )غير معروف(، ولكن بعض المقاومين من ماكويز، لاحظوا وق ّرروا أ ّن عليھم العمل والحركة بسرعة بين المواطنين كالسمك في الماء. ولذلك واجھوا العناصر المشبوھة، بعد أن اشتكى تاجر من شاسينويل من أفعالھم. بأن أحد المقاومين من ماكويز قد سرق ساعته واتھم أحد المقاومين، فما كان من رئيس نلك المجموعة إلا أن أخذ معه اثنان من المسلحين بالرشاشات، وواجه تلك العناصر المشبوھة التي تزعم أنھا من المقاومة، وطالبھم بأن يظھر سارق الساعة، أو أنھم سيطلقون النار على كافة أفراد العصابة المشبوھة، وعلى الفور ظھر الل ّص، وسلّم الساعة

للمقاومة الذين أعادوھا إلى ّصاحبھا. )4( ً في الحديث عن مقاومة مسلحة ضد الاحتلال الألماني لفرنسا، حتى عام 1943، لم يكن إلا القليل جدا من المقاومة بالسلاح، وكان لھذا أسبابه : كان المقاومين الماكويز يقاتلون في المقام الأول من أجل المواد الغذائية والمأوى، والأسلحة كانت نادرة للغاية. وقيادات المقاومة لدى اجتماعھا في تشرين الأول / 1943 وجرى التباحث على قضايا التسليح للمجموعات في المناطق الغير محتلة )منطقة حكومة فيشي(، وكان

مستوى التسليح كما يلي:

المنطقة الثانية : )مرسيليا و6 مناطق تابعة لھا(: عدد 2 رشاش خفيف )MG( مع 151 بندقية وأربعة ــ خمسة صناديق قنابل يدوية )رمانات(. المنطقة الثالثة : )مونبليه و 7 مناطق تابعة لھا( : 655 مقاوم ماكويزر، ك ّل منھم مسلح بمسدس رشاش )غدارة(، وعدد 40 رشاش خفيف )MG(، ورشاش ثقيل، ولكن بدون عتاد. المنطقة الرابعة : )تولوز و7 مناطق تابعة لھا( 1295 مقاوم ماكويزر، يمتلكون 254 بندقية، و13 مسدس رشاش )غدارة( و50 مسدس،ورشاش خفيف )ھوشكيس( مع عتاد قليل. المنطقة الخامسة : )ليموز و4 مناطق تابعة لھا( وبفضل إمداد السلاح بواسطة القذف بالمظلات من طائرات الحلفاء، وكان ھناك 3310 مقاوم ماكويزر بحوزتھم 200 مسدس رشاش، بالإضافة إلى 50 رشاش خفيف)MG( ، و400 بندقية، و300 قنبلة يدوية، و 100 قنبلة حارقة، و300 مسدس، وكمية كبيرة من المتفجرات. المنطقة السادسة : )كليرمون فيران مع 4 مناطق تابعة لھا( 1301 مقاوم، مع بعض المسدسات الرشاشة )غدارات(، والكثير من المتفجرات. المنطقة الأولى : )ليون وأرجاءھا 6189 مقاوم ماكويز( 6180 مقاوم، لا يمكن تحديد تسليحھم، لأن المسؤول لم يكن بوسعه حضور الاجتماع.

46

وفي عموم المنطقة الجنوبية بأقسامھا الـ 37 كان يتواجد في تشرين الأول / 1943 ما مجموعه 14639 مقاوم ماكويزر، قليل من الأفراد وقليل من السلاح، بما في ذلك لو أحسبنا الـ 5000 مقاوم من الحزب الشيوعي بينھم، فسوف لن يكون تعداد حركة المقاومة الفرنسية في ھذه المرحلة إلا

بنحو 20 ألف مقاتل. )5(

وقد تح ّدث ممثلين عن حكومة فيشي )حكومة بيتان(، وكذلك الألمان، وممثلين عن المقاومين الماكويز، تحدثوا عن جھل أو كدعاية، عن المبالغة والأرقام الكبيرة، ووحدھا ھضبة ميليفاشيس كما تق ّدر حكومة فيشي، كانت تضم نحوً 10 آلاف رجل مقاتل، ” يتلقون يوميا السلاح والعتاد بواسطة مظلات من الطائرات البريطانية “. وأكد وزير الأمن الإمبراطوري الألماني أرنست

كلينبرونر، يوم 4 / تموز / 1943 في تقرير أرسله لھتلر،أن مجموع قوة المقاومة الفرنسية المناھضة للاحتلال الألماني لفرنسا تبلغ 80 ألف رجل.

)طائرات الحلفاء تقذف السلاح للمقاومة بالمظلات(

وأكثر من ذلك، ذھب المقدم فاليت دي أوسيا الذي أبلغ ديغول، أن الأقسام المتاخمة لسويسرا )الحدود الفرنسية / السويسرية( أن ھناك 300 ألف رجل جاھز ومستعد للقتال تحت شعار حكومة فرنسا الحرة )الصليب اللوثري(، إذا وصلتھم الأسلحة المناسبة، وھذا ھو ما كان ينقص المقاومة الفرنسية. )6(

” ومن بين 2000 رجل فقدتھم المقاومة منذ أيلول / 1943″ يكتب القائد المقاوم ميشيل براولت في تقرير مؤرخ 16 / شباط / 1944 )قبل أربعة شھور ونصف من تحرير فرنسا(.

كان التوتر والاضطراب قد أصاب جيش الاحتلال الألماني بسبب الاغتيالات، التي لم تكن في الواقع مرتفعة،)19 بين 1 / آب و31 تشرين الثاني / 1943( في إطار منطقة عمل مجموعة الجيوش 74 ، التي كانت تعتبر اغتيال أي منتسب للجيش الألماني، أو من القوات الفرنسية المحلية المتعاونة معھا، أمراً له عواقبه، والأبعد من ذلك، موقف الفرنسيين عامة، الذين بدؤوا يتعاطفون بوضوح مع

المقاومة.

47

وكانت أھداف المقاومة وعملياتھا في ھذه المرحلة تستھدف معدات الجيش الألماني أكثر من ضباطه وجنوده وأيضاً كانت عمليات قطع الخطوط الھاتفية مھمة، وخطوط السكك الحديدية.

وكتبت اللومانتيه )صحيفة الحزب الشيوعي الفرنسي(، أن قطاراً يحمل مجازين بين ريينز ونويال أيسيغنه، قد خرج عن خطه في 10 / تموز، واصطدم به قطار تابع للقوات جاء في ذلك الوقت. والنتائج كانت : تدمير قطارين، 200 قتيل، 300 جريح، ولكن بموجب متحدث باسم الجيش السابع يوم 10 / تموز، اعترف بوقوع الحادث ولكن أعطى نتائج مختلفة، 8 قتلى، 30 جروحھم خطيرة في قطار المجازين، و50 جروحھم خفيفة في قطار القوات، إذن كانت أرقام صحيفة اللومانتيه، مضاعفة، ولم تكن

ھذه المرة الوحيدة التي تضاعف فيھا المقاومة من أرقام خسائر عدوھا. )تخريب سكة حديد، العملية المفضلة للمقاومة(

في تموز / 1943 كان 36.000 شاب فرنسي قد اقتيد للعمل الإجباري في ألمانيا، وھذا الرقم ھو أقل بكثير مما طلبه مدير عام العمل الألماني ساوكل )المار ذكره( وھو 160.000 إلى 180.000، وبھذا يمكن اعتبار برنامج العمل الإجباري للشباب الفرنسي في ألمانيا قد فشل، ولكن الألمان لم يسلموا بھذه النتيجة، فاتفقوا مع الطرف الفرنسي )المتعاون( أن يتم العمل الإجباري ولكن في فرنسا بدلاً من ألمانيا

…!

وعقد كل من ألبرت سبير وزير الصناعات العسكرية الألماني اتفاقاً مع جان بيلشوني وزير الصناعة الفرنسي , بأن يقوم عمال فرنسيون من نحو 150 ألف شركة في فرنسا بصناعة )إنتاج( سل ٍع للاستخدام اليومي في ألمانيا , وفي الواقع فإن الشركات الألمانية المنتجة لھذه السلع ستتوجه للإنتاج الحربي , وأن العمال الفرنسيين المكلفين بھذه الأعمال سيكونون في مصانعھم الفرنسية كعمال سخرة )عمل إجباري( , ولكن العمل سيكون لصالح ألمانيا في خارج ألمانيا,ّ و يعني للكثير من الشباب أن يلجؤوا للعمل الكفاحي

الس ّري , وھذه السياسة أ ّدت إلى اشتداد النضال المسلح المقاوم وجلبت لصالح المقاومة الكثير من الناس .

السياسة الجديدة سحبت من المقاومين أعداداً ليست قليلة من عناصرھم، ھل كانت ھذه فرصة لألمانيا ؟ ولكن ھذا كان متأخراً.. وما كان في العام 1940 مجرد حلم من الأحلام، يلوح الآن في الأفق: نصر الحلفاء وھزيمة لخصم قوي ھو ألمانيا.

في الأسابيع الأولى من عام 1944، مضى المحتلون الألمان إلى اتخاذ إجراءات انتقامية لمن اعتبروھم رھائن من سكان المدن والقرى، ويقتادونھم إلى أماكن مختلفةـ لأنھم لم يتمكنوا من ترويض المقاومين، وفي آذار / 1944 جرى في نلمس للمرة الأولى ھذا الأسلوب، الذي طبقوه في روسيا منذ زمن بعيد،

إعدام مدنيين غير مشاركين في أعمال المقاومة.

عندما كان ھنري نوغور يقود دراجته عبر شوارع نلم )Nlmes( ، اكتشف ستة جثث معلقة من على حاجز جسر لسكة الحديد: ” وكلما تمر سيارة من تحت الجسر، ترتطم بأقدام المعلقين، القليل من المارة عندما يشاھدون ھذا المنظر يھرعون بعيداً ولا يجرؤون على النظر عالياً إليھم „.

وحادثة أخرى ع ّرضت منطقة كاملة إلى الاضطراب جرت في ليلة 1 /2 نيسان / 1944، إذ تع ّرض قطار مح ّمل بـ 400 رجل من قوات )SS( ومحمل أيضاً بـ 60 دبابة وعربات، تعرض لتفجير في محطة قطار بلدة آسك )Ascq( . والأضرار كانت: العربات أصيبت بأضرار لكن يمكن إصلاحھا في غضون

ساعات، إطارين للسيارات وأجزاء من محرك، دون إصابة أي جندي.

48

والمقاومين كانوا غير حذرين وتصرفوا بإھمال، وھذا ما كان يكلفھم حياتھم. وكان رد فعل الألمان على عملياتھم وحشياً، ولا سيما من ھؤلاء الجنود المعتادين على مثل ردود الأفعال ھذه ضد الفدائيين في الاتحاد السوفيتي.

مجموعة صغيرة من رجال )SS( كانوا يمرون من خلال بلدة، يضربون على الأبواب والنوافذ، ونھبوا 25 منزلاً، وقتلوا قسيساً واثنين من اللاجئين، كما جاؤوا بمساعد القسيس وخمسة من مرافقيھم، ثم اقتادوا حوالي 80 من سكان البلدة الذين ما يزال النعاس في عيونھم، وأطلقوا عليھم النار من مسافة قريبة،

وعندما جاءت عربات الإسعاف، أحصى الممرضون 86 جثة و8 جرحى.

ھل حصل الألمان على راحتھم بالانتقام ..؟ في بعض الحالات نعم، على الأقل لفترة محدودة، فيما إذا كانوا قد تمكنوا من إضعاف المقاومة، فھذه مسألة أخرى، المقاومة كانت قد ترسخت بصلابة في وسط وجنوب غرب فرنسا.

الطبيب البيطري )م( الذي تم إرساله إلى بلدة كوريز لمراقبة الإنتاج في مصانع تعليب اللحوم بتاريخ 31 / أيار / 1944 كتب يقول: ” في الساعة 18 )السادسة عصراً( كنت في المصنع والمدير أخبرني أن ليس بوسعه أن يضمن سلامة الإنتاج، لأن المقاومين يسيطرون على بيته ومخزنه وھو قد أصبح ھدفاً لعمليات سطو مسلحة، وخاصة المواد الغذائية، وقد تم الاستيلاء عليھا وبما في ذلك أيضاً حاجات شخصية أخرى

“.

” في الساعة 23 )11 ليلاً( احتل فصيل من المقاومة )منظمة شيوعية للمقاومة FIT( المدينة وابتدؤوا كالعادة، بعمليات الإعدام، والمصادرة „ بعدھا ھاجم المقاومون باب المصنع وطالبوا بسيارة شحن كانت معبأة بالإنتاج )لحوم(. وفي اليوم في فترة بعد الظھيرة التالي أردت أن أذھب بسيارتي إلى بلدة أخرى ولكن بعد عشرة كيلومترات صادفت المقاومين الشيوعيين FIT، واستولوا على السيارة، كما ألقوا القبض على السائق. وفي المساء أردت أن أقوم ببعض التحصينات، ولكن فاجأنا ھجوم للمقاومين، ولكن

الأضرار لم تكن كبيرة “.

في عام المعارك الحاسمة )1944( كانت المقاومة قد أصبحت عنصراً سياسياً، وكان يبدو جلياً أن الشيوعيين يؤيدون شارل ديغول في لندن، وكانت وحداتھم العسكرية المقاومة، في الخط الأمامي يقودون العمليات العسكرية ضد الجيش الألماني، ويتلقون الدعم الإعلامي من لندن، فيما كان ديغول والإنكليز يھتمون قبل كل شيء بدور المقاومة، في يوم )X( وھو اليوم الذي ستقوم به قوات الحلفاء بالإنزال في فرنسا، وھنا تأتي مھام المقاومة بإنزال ّ ضربات سريعة وتتعب بھا الخطوط الخلفية للقوات الألمانية

وتعرقلھا، وتغلق عليھا الطرق وتعرقل تنقل قواتھا.

كانت قوة فصائل المقاومة قد تصاعدت كثيراً في الإدارة 13 ، المنطقة العسكرية تولوز كان موجود فيھا من المقاومين يوم 1 / تموز / 1942، )4.519( رجلاً فقط، وبعد عام واحد، كان العدد قد أصبح) 16.962 ( مقاتل. وفي 6 / حزيران / 1944 )يوم الإنزال X( كان الموجود ) 75.452 ( رجل في ھذه

المنطقة العسكرية، وھذا الرقم تضاعف خلال شھور الصيف لنفس العام.

في ھذا التوسع كان لشارل ديغول من لندن مساھمة مباشرة. ” أيھا الفرنسيون ” ھكذا توجه بالخطاب في 6 / حزيران ” أن ساحة قوس الشرف قد جاءت، في غضون ال 24 ساعة القادمة، على كافة الرجال الذين أعمارھم بين 20 ــ 46 عليھم التواجد لدى رؤساء البلديات، وأن يسجلوا أسماءھم، لكي يساھموا

بتحرير بلادھم، كل فرنسي يتجاھل ھذا النداء، سيعامل كالفا ّر من الخدمة العسكرية “. 49

)إذاعة لندن لعبت دوراً مھماً في مقاومة الاحتلال(

في العاشر من حزيران، استمع الفرنسيون إلى إرسال مزعج من لندن: ” أوقفوا حالاً الأعمال الفدائية )وقوف( حالياً لا يمكن إمدادكم بما يكفي من السلاح والعتاد )وقوف( اقطعوا كافة الاتصالات وابدؤوا مرحلة إعادة التنظيم )وقوف( تجنبوا التجمعات الكبيرة ونظموا أنفسكم في مجاميع صغيرة معزولة “.

وكان السبب لھذه البرقية )وفق الصيغ العسكرية(، ھي أن الحلفاء كانوا محتاجين لكل طائرة لدعم القوات البرية ولإنزال المظليين، ولم يكن لديھا الطائرات لإمداد المقاومين.

وكان أكثر ما يساعد الحلفاء، ھو التخريب الذي كانت المقاومة توقعه في خطوط السكك الحديدة، وبھذا كانت الإمدادات الألمانية إلى جبھة النورماندي تكون بطيئة. وفي آب / 1944 لم يعد في كل فرنسا اتصالات، ولا خطوط حديدية في مدن كمرسيليا، وطولون، ونيس، وبين بريفا وتولوز، )200 كم( لم يكن ھناك إلا قطار واحد فقد كل أسبوعين. فرقة المشاة 257 للجيش الألماني وجدت نفسھا في منطقة ريدون، على مبعدة 200 كم من الجبھة، ولم تصل القطعات الأولى إلى ھناك إلا في 11 حزيران، سيراً على

الأقدام. أما الفرقة 276 فقد احتاجت إلى ما مجموعه 22 يوماً لتتقدم 650 كم. 50

وفي عملية واحدة د ّمر مقاتلو المقاومة 52 عربة قطار للجيش الألماني، وكانت حراسة عقدة مواصلات السكك الحديدة في أمبريو كان ھناك 50 جندياً ألمانياً في الحراسة، فيما كان 200 ــ 300 جندي في مكان قريب من ھذه النقطة الھامة، وكان مقاتلو المقاومة الفرنسية قد تأكدوا أن الجنود الألمان كانوا يبحثون عن ملجأ يقيھم من الغارات الجوية. لھذا فقط أطلقوا في مساء يوم 7 / حزيران صفارة الإنذار، وتفرغوا ھم

للقطارات. بعد 30 دقيقة، جاءت الإنفجارات متلاحقة وكذلك عطّلوا عمل بعض معدات التحويل.

وبالمقارنة، بين 19 / أيار و 1/ حزيران / 1944، دمرت طائرات الحلفاء ما مجموعه 257 عربة وألحقوا الأضرار 183 أخرى من خلال 3400 ھجوم، وھذا يعني أنھم كانوا يحتاجون 13 عملية لكي يد ّمروا عربة قطار واحدة.

وعمل فرانسوا ديبورتر مدير محطة قطار مونتكورنيت، ما من شأنه أن يجعل 14 عربة قطار محملة بالعتاد، واحتجز طريق 1500 من جنود المشاة المتجھينً إلى جبھة نورماندي، ثم سأله الألمان عن طريق التفافي يتجنبون فيه العائق، اقترح عليھم ديبورت طريقا عبر بلدة ھيرسون، ثم أبلغ قادة المقاومة، الذين

اھتموا بأن لا يواصل القطار سيره ويصل إلى ھدفه.

في 13 / حزيران وصل قطار حتى بلدة بوسي، حيث كان المقاومين قد حشدوا قواھم وأغلقوا الطريق،

ً
ولكن القطار وصل ھدفه، ولكنه من أجل مسافة 32 كم استغرق سيره 15 يوما.

كانت القوات الجوية التابعة للحلفاء تطلق النار على كل شيء يتحرك، لذلك كانت خسائر عمال السكك الحديدية الفرنسيين عالية، فقد كان إجمالي خسائرھم 8938 قتيل، وكان 2000 من ھؤلاء في الواقع ضحايا القًمع الألماني، توفي منھم 1157 من عمال السكك الحديدية في المعتقلات النازية، منھم 809 لقى

حتفه رميا بالرصاص.

ولكن كيف كانت تجربة الجنود الفرنسيين الذي ھبطوا الأرض الفرنسية مع قوات الحلفاء ..؟ فبعد نزولھم صاروا يصادفون مواطني بلادھم الذين غدوا أحراراً .. بشكل مختلف تماماً عما شاھدناه في فلم ھوليود ” أطول يوم في التاريخ ” الذي فيه يصف الممثل بوفيل الذي يشرب الشمبانيا في قبعة إطفائي الذي كان يتحرك بخفة بين الانفجارات وأعشاش رشاشات ال )MG( فيما زميله الممثل ليدوكس يتجول

بين الانفجارات حاملاً الراية يلوح بھا.

أحد الجنود الفاتحين، المحررين الحقيقيين جاك سيدني كجندي في جيش ديغول )فرنسا الحرة(، قابل الفرنسيين بعد النزول، ” خرجوا إلينا من الأقبية، مرھقين بعد 48 ساعة ” كانت ھناك قنبلة غير منفجرة على الأرض وقفوا حولھا ” كان موقفاً رھيباً، وكنا أوائل الفرنسيين المحررين، كنا نعتقد أنھم سينفجرون من الفرح، لكنھم كانوا غاضبين جداً، شعرنا بخيبة أمل شديدة، سألونا بغير صبر متى سينتھي ھذه المشھد ويمضي. وھنا جاء رجل جندرمة ضاحكاً وانضم إلينا قائلاً: اليوم تحديداً كان علي أن أذھب إلى ألمانيا في عمل إجباري )سخرة(، ولكن ھذا مضى، وبوسعي أن أبقى ھنا … وأنتم حقاً جئتم في الوقت المناسب، وربما كنا خشنين معه بعض الشيء، بقولنا، إن الحرب لم تنتھي بعد وربما ستأخذ وقتاً أطول. فبدت عليه

ملامح الحيرة ومضى بعيداً.

شكراً ? أن الفرنسيون لم يكونوا كلھم كذلك، عندما سار الجنود الفرنسيون من الفرقة الرابعة بين أطلال مدينة سانت أوبين أركويني، التقوا ببعض السكان الذين اعتقدوا أنھم جنود إنكليز، أو كنديين من المقاطعة الفرنسية كيوبيك، أو أمريكيين، وعندماً سمعوھم يتحدثون معھم باللغة الفرنسية، اقترب أحدھم منھم قائلاً ” أتتحدثون الفرنسية ؟ “. ” نعم، طبعا، نحن فرنسيون ! “. ” عجيب ھذا يصعب تصديقه، فرنسيون ـ كنديون أليس كذلك ؟ “. ” لا ويحك … نحن فرنسيون … فرنسيون … من جنود فرنسا الحرة “. ” يا إلھي

51

.. فرنسيون أحرار ! “. وركض صوب بيته، وعندما عاد بعد بضعة دقائق، عاد وملء ذراعيه قناني خمر كالفادوس يقول ” ھذه القناني قد خبأتھا لكم ” قالھا ودموع الفرح تملأ عينيه.

في باريس حل يوم إنزال الحلفاء على ساحل نورماندي، كانت مفاجأة حتى للمقاومة، والألمان بعد صدمة قصيرة، عادوا بعدھا إلى الثقة. فرنسا في ھذا اليوم كانت بلد التنافضات، النورماندي كانت تحترق، وباريس في سلام وھدوء، ولكن بعض الإدارات نھضت.

كان خطاب إذاعة )BBC( بلھجة متحمسة، والبيانات الثورية لمنشورات الشيوعيين، والأنباء عن قتال ھائل في الشرق )الجبھة الشرقية / السوفيتية(، وتفوق السلاح الجوي البريطاني، وفي الكثير من أرجاء فرنسا كانت قوة الجيش الألماني تضعف، ومن جھة أخرى كانت جرائم الأمن الألماني الجستابو )Gestapo( ًتكثف من نشاطھا وقمعھا، والقوة المتأرجحة لسلطة فيشي )سلطة بيتان( وحتى شخص بيتان نفسه، وأخيرا القناعة والثقة بأن مرحلة جديدة قادمة، وھذا ما دفع أعداد كبيرة من الفرنسيين إلى اتخاذ

مواقف وطنية.

ووفق تقرير من المقاومة، أن إنزال الحلفاء أطلق ضرباً من الإعجاب في كليمونت فيران، ففي اليومين التاليين، غادر المدينة 10.000 شخص، وانضموا للمقاومة، بكل وضوح، العمال في مصنع إطارات ميشلين، وموظفو بنك فرنسا، )Banque de France( موظفون، وأبناء تجار، غادروا بالقطار بحقائب

على الظھر نحو بلدة لوبراسي وبشاحنات منضمين للمقاومة.

في البداية، رد المحتلون على ھذه الظواھر التعبئة العامة،” أنا مستعد دائماً لمثل ھذه الحالات” أوضح الجنرال الألماني قائد منطقة برون ” كان بوسعي أن أشن الھجمات منذ اليوم الأول، ولكني ف ّضلت أن يشكلوا مجموعات، وھذا سيسھل علينا ھزيمتھم في ثمانية أيام، بوسعي أن أؤكد لكم ذلك بأنه سوف لن

يكون ھناك جيشاً سرياً في ھذه المقاطعة” وبعد الثمانية أيام عانت المقاطعة، معاناة فظيعة.

ما كان ينقصھم ھو السلاح الثقيل، الحقيقة أن القادمين الجدد كانوا مستعدين تماماً لمستلزمات الحرب الحديثة، والأكثر بعد ھو الحماس غير المنضبط في الكثير من الأحيان، قادت بعد الإنزال إلى حوادث درامية. وھكذا فقد حدثت يوم 8 / حزيران معركة بين المقاومين في منطقة غرولياس )Grolejac( بين وحدة من المقاومين 28 مقاوم، ورتل من القوات الألمانية )SS( المعركة كانت قصيرة، ولم يكن بحوزة المقاومين سوى رشاشة خفيفة، وبعض قطع سلاح من الحرب العالمية الأولى، وقنبلتين يدويتين لدى اثنان من المقاتلين، ومحصلة المعركة كانت مقتل اثنين من المقاومين وخمسة مدنيين. وكلفت الألمان توقف الرتل لمدة 20 دقيقة، على الرغم من ذلك ھناك لوحة تذكارية قرب الجسر )موقع المعركة(، بفضل

تضحيات الوطنيين تمكنوا من إيقاف رتل ألماني وكلفوھم خسارة وقت طويل “.

وكان مقاتلو المقاومة قد أقاموا حاجزاً أمام قائد دراجة نارية أًلمانية، قُتل فيھا أحد المقاومين. وجنود من الفرقة الألمانية )SS( الذين ذھبوا إلى مقھى وقتلوا 13 فرنسيا، بينھم 8 نساء، وفتاتين. وخلال مواصلتھم لمسيرتھم، قتلوا سيدتين في كارلوكس )Carluux( ومقاتل مقاوم في بيرلي، وبذلك أشاعوا الذعر، بما

يلطّخ اسم ھذه الوحدة إلى الأبد.

في الأسابيع التي تلت الإنزال، كانت فيھا قوى الاحتلال ما تزال لم تفقد قواھا بشكل تام، وسقط الكثير من رؤساء بلديات البلدات في مواقف مأساوية، فقد كانوا يحاولون تجنب الأسوأ، وسقطوا بنفسھم كرھائن. وغالباً ما كانوا يحملون المسؤوليات التي لا يد ً لھم فيھا. ومثال على ذلك ما جرى للدكتور تيمبورال رئيس بلدية سانت رامبرت الذي أعدمه الألمان رميا بالرصاص مع أحد عشر من الرھائن في 7 / تموز وكان

كل ما فعله: أن سكان بلدته قد ساعدوا المقاومين في قتال الشوارع يوم 12 / حزيران. 52

ومثال آخر ھو ما جرى لرئيس بلدية سانت بول دو ليون وكان كل فعله : أنه لم يمنع دخول مجموعة غريبة عن البلدة، في نشوة التحرير، وأسروا جندياً ألمانياً، واستولوا على كمية كبيرة من السلاح.

ومن أجل حماية الأسرى الألمان، كان رئيس البلدية قد احتجزھم في غرفة الغسيل بمقر الجندرمة القديم، وفي اليوم التالي كان رتل ألماني ومعھم وحدة روسية متعاونة يدخل البلدة، بدأ السجناء بقرع الشبابيك ليدلوا رفاقھم على مكان وجودھم، وسرعان ما ابتدأت مطاردة البشر، واقتيد سبعة شبان مشدودي الوثاق إلى الأسفل واستلقوا على أرضية الشارع، وجندي روسي اقتاد اثنين من المدنيين أمامه وأمرھم بالركض،

ً
ثم أطلق عليھم النار جميعا. )7(

في المساء اعتقل الألمان رئيس البلدية وموظفيه واقتادوھم إلى الساحة، حيث كانوا قد جمعواً عدد من المواطنين الآخرين، وأحد الضباط سأل أين ھي الأسلحة المسروقة، وھكذا قتلوا 14 فرنسيا بما فيھم رئيس البلدية في ُنفس المكان والزمان صرعى بنيرانھم، كما اقتادوا 13 آخرين بينھم سيدة، أخذوھم إلى

بلدة أخرى حيث أعدموا ھناك.

وھناك بلدتان يمكن اعتبارھما مثالاً حقيقياً لوحشية الألمان، وھما : تولا وأورادور، ولا سيما تولا التي كانت عاصمة إقليم )محافظة( كوريزا )Correze( وھنا كان نتيجة لتھور المقاومين الشيوعيين، الذين بدون أسلحة ثقيلة، ولا استعدادات ضرورية، أرادوا زج سكان البلدة )20,000 نسمة( للوقوف بوجه

القوات الألمانية.

في أيار 1944 كان جميع سكان محافظة كوريز قد أُخلوا تقريباً، وكان القلة القليلةً من الجنود الألمان وخاصة كبار السن منھم، كانوا ينسحبون إلى المدن. وھكذا في تولا حيث كانت مقرا لسريتين من اللواء 95 الأمني، وكانت قد اتخذت من مدرسة للبنات مقراً لھا. في 7 تموز احتل المدينة حوالي 1350 مقاوم حتى مدرسة البنات. وفي صباح اليوم التالي، باشروا الھجوم على مدرسة البنات، واشتعلت النيران في

السقوف )من الخشب والقرميد(.

” الألمان ” صرخت سيدة وحاولت أن تنفذ من خلال الشوارع الفرعية وتنفذ نفسھا، ولكن المقاومين تلقوھا من خلف المتاريس من براميلً النبيذ الخشبية التي أخذوھا من تجار النبيذ وعندما كان الألمان يحاولون الخروج كانوا يصبحون أھدافا سھلة لھم.

في معركة تولا قتل 69 ألمانياً، معظمھم لقى مصرعه عند محاولته ترك المدرسة، ووجد رئيس الجندرمة ھناك ” الكثير من الجنود الألمان، منھم الكثيرين قُتلوا بنيران المدافع الرشاشة )الرشاش الخفيف MG( ومن

مسافات قصيرة، لذلك كانت الجثث مشوھة. )الصورة : الرشاش الألماني الخفيف الشھير (MG

وب 17 قتيل تصاعدت خسائر رجال المقاومة، ففي الساعة الثامنة مسا ًء، أبلغ المقاوم كليبر المحافظ عن نفسه بوصفه القائد الجديد لمنطقة تولا. وعندما عبر المحافظ عن مخاوفه من ھجوم ألماني مضاد، سخر منه المقاوم )القائد الجديد كليبر( بقوله ” إذا شاء الألمان يشنون الھجوم، ويزورونا، فسوف نعد لھم حفل

ونستقبلھم أفضل استقبال “.

53

بعد ساعة كانت المقدمات الأولى للألمان قد حضرت، وغادر المقاومون المدينة فراراً، وإذا شئنا تصديق بعض شھود العيان، فإن بعضھم ألقى بشاراته وسلاحه في الحدائق وأطلق ساقيه للريح. )8(

في ساعات الفجر يوم 9 / حزيران، اقتاد جنود )SS( الألمان أشخاصاً بدون تمييز )اختيار عشوائي(، من أسرتھم وجمعوھم سوية، لأنھم لم يتمكنوا من أسر أي من رجال المقاومة، واختاروا من بينھم أشخاص لا على التعيين لأسباب لا معنى لھا، سواء كان اسمه ذو مؤشر غريب )أجنبي(، أو أوراق مزورة، وھو أمر

كان شائعاً في تلك الظروف.

وأمام ُأعين العشرات من أھل البلدة الشبان الذين أجبروا على مشاھدة عملية الإعدام، جرى شنق 99 مواطن على أعمدة النور في الشوارع، أو معلقين من على شرفات البيوت ولم يسمحوا بدفن الجثث في المقبرة، بل قذفھا إلى مكبات النفاية. ورغم أن الألمان أطلقوا سراح كثير من المواطنين الفرنسيين قبيل انسحابھم من فرنسا، ولكنھم أخذوا معھم 149 معتقل إلى ألمانيا وأودعوھم

المعتقل الس ّيء الصيت داخاو )Dachau( لقي 43 منھم حتفھم خلال عملية النقل، وفي نھاية المطاف لم يعد إلا 48 شخصاً إلى

بلدته على قيد الحياة. وأكثر من مدينة تولا )Tulle(، كان مصير بلدة أورادور )Oradour( التي ذاقت ويلات الانتقام

الألماني.

)طابع بريدي فرنسي يخلد مجزرة أورادور(

في 9 حزيران / 1944، تمكن المقاومون من أسر أحد قادة وحدات النخبة )SS(، وكان قائد كتيبة SS )الفوج( حاول عبثاً أن يفاوض المقاومين لإطلاق سراحه، مقابل إطلاق سراحه بـ 30 معتقلاً وفدية نقدية. ثم

استلم قائد)SS( الأمر في بلدة أورادورــ غلان إطلاق النار على 50 من أھالي البلدة.

لماذا تم اختيار بلدة أورادور ــ غلان)Oradour – Glan( للانتقام التي لقى فيھا في نھاية المطاف 642 فرنسي حتفه، فھنا لغز، حيث يفترض أن تكون ھناك مقرات ومخابئ للمقاومة، ولكن ھذا الأمر مشكوك به بدرجة عالية، ففي يوم 10 / حزيران / 1944 في الساعة 14.00 قام رجال من وحدات )SS( الألمانية بتجميع سكان بلدة أورادور، و تم عزل النساء والأطفال في الكنيسة، واقتيد الرجال إلى الكراجات

ومخازن الغلال )الشونة(.

54

في مخزن الغلال فقط كان ھناك 60 من المواطنين، وجاء الإيعاز إلى سائر الأماكن في نفس الوقت، فانطلقت زمجرة المدافع الرشاشة ” كنا نھدف إلى الصدور ” قال أحد رجال )SS( خلال محاكمته وزملائه لاحقاً ” كانوا يقفون وخلفھم جدار، كانت الظلمة قد حلت ولم نكن نرى جيداً، ولكننا كنا نطلق

النار “.

من كنيسة أورادور التي قتل فيھا 202 طفل، و240 سيدة، ھناك شاھد واحد: السيدة روفانشي، التي فقدت طفلين في المذبحة. وفي المحاكمة التي جرت عام 1953، أدلت بإفادتھا، كيف أن الألمان سحبوا حاوية إلى الكنيسة، ووضعوھا فوق كرسيين وفجأة فجروا الحاوية بصوت انفجار ودخان كثيف عبّأ قاعة

الكنيسة.

ولم يكتشف الناس المدى الحقيقي للوحشية إلا في اليوم التالي. ويقول مفوض الشرطة ” كان رماد الموتى يصل إلى حد الركب، ذھبت حتى آخر الكنيسة حيث يقف جوقة المنشدين، التي يفصلھا عن الكنيسة سياج معدني مشبك، للخلاص من النيران، وحاول الأطفال تسلق ھذا السياج، ولكن الأطراف المدببة للسياج المعدني كالرماح كانت تعيقھم، أيدي متفحمة حرقاً وأجساد الأطفال كانت مرمية على الأرض عند الشبكة

ھذه.

لماذا لم تقاتل المقاومة على نحو فعال، كان عليھا أن تحاول على الأقل. قبل أن تنادي الفرنسيين إلى النھوض والانتفاضة العامة، التي كلفت الفرنسيين الكثير من الأرواح، التخطيط لانتفاضة عسكرية منظمة للمقاومة ضد الاحتلال الألماني.

المعركة المفتوحة الأولى للمقاومة ھي القتال من أجل قواعدھم في جبال الألب نھاية عام 1944، وكانت بريطانيا قد حذرت من انتفاضة عامة للمقاومة سابقة لأوانھا، لأنھا لم يكن بمقدورھا إمداد المقاومين بالقوات، ولا حتى بالسلاح، كما كان معظم قادة المقاومة متفقين، أن قتالاً مفتوحاً مع الجيش الألماني يمكن

أن يقود إلى كارثة، ولكن بعض آخر كان لھم رأي آخر.

كان الشعار الذي أطلق من لندن : ” أن ثلاث بلدان في أوربا تبدي المقاومة بوجه الاحتلال، وھي اليونان، يوغسلافيا، وھاوت سافوي )Haute – Savoie( “،ً وكان قائد المقاومة ثيودوس موريل مقتنعا بإمكانية مواجھة الألمان. وفي نھاية كانون الثاني / 1944، تمركز نحو 450 مقاوم في المناطق المرتفعة، كان العدد والعدة يكفي بما لا يجعلھم يھزمون، وقليل ليحتلوا منطقة واسعة وليدافعوا عنھا بفعالية. وفي الواقع كان القائد موريا بحاجة إلى ما لا يقل عن

ً
1200 مقاتل ليدافع عن المنطقة، وعدا ذلك فقد كان ينقصه السلاح، والزحافات، وكان جيدا إذ أمن الحلفاء

له تلك الاحتياجات، وقذفوھا له بالمظلات، ولكنھا جلبت انتباه الألمان وأنذرتھم.

)الصورة : الجنرال ديغول يلقي خطاباً من إذاعة لندن )BBC( (

في آذار/ 1944، ھاجمت الفرقة الجبلية الألمانية 157 حصون ومواقع غليرس )Glieres(، ولأن المقاومين كانوا أقل مقدرة من الألمان، لذلك أصدر قائدھم أمراً بالانسحاب إلى المناطق الشاھقة في منطقة

55

غليرس، وأكد الجنرال ديغول من خلال إذاعة )BBC( في 8 / نيسان / 1944 ” أن 12.000 جندي ألماني )انتبھوا رجاء 12.000( بعد 14 يوماً )انتبھوا رجاء 14 يوم( خاضوا معركة ضد 500 فرنسي الذين لم يسعھم التراجع، بل صمدوا بدلاً من الاستسلام”. في الجانب الألماني كان ھناك 400 قتيل، ومن

المقاومين 100 قتيل. )9(

بعد الحرب ارتفعت أرقام خسائر المقاومة، فعندما افتتح أندريه مالرو وزير الثقافة في حكومة ديغول النصب التذكاري لمعركة غليرس في مطلع السبعينات، ارتفعت أعداد المھاجمين الألمان من 12.000 إلى 20.000، وكتب الجنرال ديغول في مذكراته أن عدد قتلى الجيش الألماني كانوا 600 جندي ألماني.

الفرقة الجبلية الألمانية كان موجودھا في معركة غليرس 6714 رجل، منھم 3085 رجل ساھم في القتال.

في مقبرة الجيش الألماني في داغنو )Dagneux(ھناك 289 قبر فقط، في مقاطعة ھاوت سافوي، )شرقي فرنسا الجبلية(، وبحسب أبحاث الجنرال الفرنسي ناتويل أنه لا يمكن تحديد الأرقام بناء على القبور والشواھد المثبتة عليھا في المقبرة العسكرية، لاختلاف الأسماء، ووفاة جنود في أماكن أخرى. ومن بين 11 قتيلاً بتاريخ 27 / آذار ليس ھناك سوى واحد ھو كارل فيشر الذي قتل في نورتردام دي جيس، إذن بالقرب من المواقع الأمامية القريبة للمقاومين ، وربما أن ھناك قتلى آخرين قد أخذت جثامينھم إلى

ألمانيا و ُدفنوا ھناك. وبصفة عامة تبدو أن الأرقام الفرنسية الرسمية مبالغ بھا.

حتى في المعارك التي دارت في مونت موشيه )Mont Mouchet( قد بولغ بھا، ويؤكد أميل كلاودون في أفريغ )Auvergne(، أحد قادة المقاومة، أن فرقة ألمانية معززة، ھاجمت يوم 10 / حزيران / 1944 قوات من المقاومة يناھز عددھا 3700 مقاتل، ، من بينھم 2700 مقاتل ممن شاركوا في معارك مونت موشيه، كانت القوة الألمانية تبلغ 15.000 رجل الذين قاموا بالھجوم. وبحسب أرشيف الجيش الألماني، لم تكن القوة تبلغ أكثر من 2000 جندي. وھنا مرة أخرى فارق كبير في المعطيات، وفي خسائر

الألمان.

في 20 / حزيران / 1944 كتب كولاودون في صحيفة لامور دي أوفيرغني)La Mur d Auvergne( ” كان لدينا 150 قتيل فقط، وحوالي 100 جريح، فيما كان العدو لديه أكثر من 1400 قتيل، و1700 جريح “. وبحسب سجل الحرب الألماني أن القوات المشاركة كانت 40 فقط …!

ولكن ما يھم في نھاية المطاف ھي الأحداث، تسجل ليس أعداد الذين قُتلوا من قبل المقاومة، الجنرال الفرنسي لابار دي نانتويل، ق ّدر خسائر الألمان من 1 / كانون الثاني / 1944، وحتى يوم التحرير تتراوح بين 4000ــ 5000 قتيل على أيدي رجال المقاومة، وھذا يمثل 2% من مجموع خسائر الجيش الألماني في فرنسا. في الجبھة الشرقية )الجبھة السوفيتية( كانت خسائر الجيش الألماني على أيدي المقاومة

الروسية 5 ـ 6% من مجموع خسائرھم العامة على أيدي المقاومين السوفيت. )11(

والعامل الحاسم أن الألمان كلما شعروا بوجود المقاومة، تضطرب خططھم، ورجال ينبغي أن يوضعوا في أماكن بعيدة عن الجبھة. والأھم، لابد أن يكون السلاح في متناول اليد.

عندما كان في بدايات عمل المقاومة يتعين على المقاومين أن يمولوا أنفسھم ذاتياً، ولم يكن الأمر ليخلو من القيام بعمليات تكاد تكون ابتزازية، وأشبه بأعمال العصابات، لذلك كان كقاعدة منذ أواسط 1944 التمويل الاضطراري، وفي المقدمة كانت عمليات الاستيلاء على أموال تابعة لحكومة فيشي )حكومة

بيتان الموالية للألمان(.

56

وأكبر عملية نجحت فيھا المقاومة، حدثت بمساعدة فعالة من أحد كبار موظفي حكومة فيشي)محافظ فيشي(، ففي 26 / تموز / 1944 استولت المقاومة على القطار الذي كان يحمل شحنة من الأوراق المالية، من بنك فرنسا )Banque de France( ًالذي كان بين بيرجيو )Periguex( ومدينة بوردو )Bordeaux( وتم الاستيلاء على 150 كيسا )تزن ستة أطنان( من العملات الورقية تبلغ قيمتھا

الإجمالية 2.25 مليار فرنك.

واستخدام النقود لم يتم إيضاحه على أية حال، أعيد من المبلغ 797.9 مليون فرنك بعد التحرير. وبعد ثمان سنوات بعد الحرب، أدعي النائب اليميني ليوتارد عن 450 مليون فرنك، ولكن ما يزال خمس المبلغ مجھولاً، وفي يوم 28 / أيلول / 1944، شخص ما لم تعرف شخصيته، حولت له لشراء السلاح، ولم

يعرف أحداً حقاً مصير المال أو السلاح. من المؤكد أنه كان من الصعوبة بمكان، معرفة والحفاظ على مجريات الأحداث في المقاومة، كان أشبه بـ ” انھيار جليدي خارج السيطرة ” ھكذا أسماھا المناضل المقاوم جورج، من المجندين في المقاومة ضمن الموجة الثالثة ” لم يكن المتعاونون فقط الذين يمكنھم التسلل، ولكن أيضاً كان ھناك مجرمين، وسجناء جنائيون، وقوادون، الذين وجدوا فيھا وظيفة ممتازة “. )12(

وكيف يمكن للمرء أن يطھر نفسه من الذنوب ويغسلھا، كالذين تسببوا في اعتقال بشر، أو الذين حتى لمرة واحدةً أقنع نفسه بالسير وراء الماريشال بيتان، وفرنسيون كانوا يسعون لإفساد بعضھم ، ومن يلعبً أدوارا مزدوجة، ومن ينافق، والكثير من المتعاونين الذين يستحقون الإدانة، وخاصة لأنھم استفادوا ماليا

وربحوا من المحتلين، وكانوا يتملقون المحتل، بينما كان ھناك رجال كانوا يدفعون حياتھم للوطن.

57

تحليل المترجم للفصل الثالث

بموضوعية وحيادية، يعرض المؤلف مسار حركة المقاومة، التي لم تكن تعاني من شحة في الدعم السياسي، أو العسكري، أو المالي.والتصاعد في قوتھا: حجماً )عدد الأفراد( وتسليحاً، كان مرھوناً بعوامل عديدة في مقدمتھا :

مزيد من التبلور في الوضع السياسي الداخلي، من حيث تأخر انضمام الشيوعيين إلى المقاومة، تناغماً وانسجاماً مع الموقف السوفيتي حيث كانوا حلفاء لألمانيا. استغرق الأمر وقتاً لتكتشف الأغلبية الصامتة، أن الاحتلال ھو تدمير للبلاد وليس خلاف سياسي بين دولتين، أو سوء تقدير العلاقات الدولية كما كان الماريشال بيتان يحاول تصويرھا للشعب الفرنسي.

أخطاء كثيرة ارتكبتھا إدارة الاحتلال، ومنھا الضرائب الباھظة، والعمل الإجباري )السخرة(، والقسوة المفرطة. سماحھم للميليشيات المتعاونة بتنفيذ تجاوزات على أصعدة مختلفة ص ّعدت من التذ ّمر، وق ّربت فئات كثيرة من المقاومة. المقاومة نفسھا كانت مزيج بين قوى وھيئات وحركات، وشبان ساخطين وغاضبين على الاحتلال، وھاربين من العمالة الإجبارية )السخرة(، ولصوص وھاربين من السجون. ورغم أن المقاومة كانت ترتكب )كأفراد( أخطاء وأحياناً جرائم، إلا أن قيادات المقاومة في غالبھا كانت مدربة عقائدياً، يرفضون التجاوزات ويحاسبون عناصرھم علناً، ويردون المظالم. كان مستوى الدعم بالتسليح الخارجي )من الحلفاء( لا بأس به، مقبولاً، أو أقل من المقبول قليلاً. من مصادر أخرى، أن شخصية ديغول بقدر ما كانت قوية وحازمة، ويمتلك كاريزما قيادية يلتف حول الشعب الفرنسي، مقابل شخصية الماريشال بيتان التاريخية، إلا أن ديغول لم يكن مقبولاً بقوة من الإنكليز أولاً، ثم حتى من الأمريكان، الحلفاء الغربيون كانوا يفضلون شخصية توفيقية سھلة في التفاوض، ديغول كان صلباً في الحفاظ على موقع فرنسا القيادي، وتمكن بعد الاحتلال أن يضبط الموقف السياسي، لأنه كان يتمتع بتأييد القوى الرئيسية للشعب الفرنسي: الحزب الاشتراكي، الحزب الشيوعي، اليمين الوسط الذي بدأ يتبلور من خلال التيار الديغولي.

يبدو لنا أن الأحداث تجري في أماكن كثيرة وفق سياقات متشابھة، لجھة العناصر المكونة، التراكم التاريخي ثم النتائج، ولكن بسيناريوھات مختلفة، وإيقاع متفاوت، وأعترف أنني رغم دراستي وإقامتي الطويلة في ھذه البلاد، فوجئت بقوة وحدة الإيقاع والعنف فوق العادة والمفرط الذي تعامل به كافة

الأطراف … حقيقة شيء لم أكن أتوقعه.

58

هوامش الفصل الثالث

عمل السخرة باللغة الألمانية )Ywangarbeit( وباللغة الإنكليزية )Unfree labour ( وھو من الأعمال المخالفة لقواعد حقوق الإنسان. الماكويز)Maquis( جماعة ثورية من المقاومة )شيوعيون على الأرجح( كانت تتمركز في أحراش وغابات جبلية بوسط فرنسا لاحظ أن قوى الاحتلال تحاول أن تسيء إلى المقاومة الوطنية وتحاول أن تنسب لھم أعمال إجرامية، لإساءة العلاقة مع الشعب حاضنة المقاومة. ً من خلال مطالعاتنا لتاريخ الثورات الشعبية وحركات المقاومة، قرأنا الكثير جدا من ھذه القصص في الصين وحتى الاتحاد السوفيتي في مقاومته للاحتلال الألماني، وبتقديري أن الأمر ذو شقين، الأول فعل متقصد وموجه من سلطات الاحتلال وعملائھا، والآخر عصابات وشقاوات وقطاع طرق يعملون لحسابھم في جو الثورة وتفاعلاتھا. ً يتضح من ھذا الاستعراض، أن حركة المقاومة الفرنسية كانت تضم في البداية أفرادا ليس بالضرورة في إطار مقاومة سياسية منظمة، فقد كانت تضم في صفوفھا متمردين على السلطات، ورافضين للعمل الإجباري، وھاربين، وحتى شقاوات وقطاع طرق، ولكنھا بدأت تكتسب وجھھا السياسي بعد انضمام حركات سياسية كالحزب الشيوعي وغيرھم، وبدأ ارتباطھا ينتظم مع توجيھات حكومة فرنسا الحرة في لندن )ديغول(. إذا كانت المقاومة حتى تموز / 1943 لم يكن عودھا قد اشتد بعد، فذلك يعني أنھا تأخرت لوقت ً ليس قصير، والسبب ھو تأخر التحاق الشيوعيين بھا، ثم ردود أفعال الناس على تصرفات المحتلين، وثالثا يبدو أن الدعم البريطاني لحكومة ديغول قد تأخر لأي سبب من الأسباب. خلال الحرب، انشق عدد لا يعرف بدقة من الضباط والجنود السوفيت)من بينھم عشرة جنرالات(، أسروا أو التحقوا إلى جانب الألمان، ش ّكل الألمان منھم فرقاً عسكرية كانوا بقيادة جنرالات في الجيش السوفيتي أبرزھم الجنرال فلاسوف، وكان من الضباط الأكفاء الذين ساھموا في الدفاع عن موسكو، استخدمھم الألمان في أرجاء ومواقع متفرقة، وأخيراً استسلموا للقوات السوفيتية في جيكوسلوفاكيا عام 1945. وفق تكتيكات حرب العصابات، ليس من واجب مقاتل العصابات أن يتصدى لوحدات نظامية كبيرة تفوقه عدداً وعدة، إلا عندما يضمن أنه سيربح المعركة، فالانسحاب ليس عيباً أو خطأ، بل العكس صحيح فمواجھة قوات متفوقة ھو جنون لا داع له. ھاوت سافوي )Haute – Savoie( إقليم فرنسي يقع في شرق البلاد على الحدود السويسرية، يتميز بوعورة جبالھا. إعادة التأكيد في خطاب ديغول ھو لتأكيد الفارق في القوى، وتأكيد صمود المقاومين الفرنسيين. ھذه أعداد لا بأس بھا، فإذا اعتبرنا أن اللواء المقاتل يبلغ نحو 1000 رجل، فإن المقاومة الفرنسية قد أخرجت نحو 10 ألوية )عدا الجرحى والمعاقين(، والمقاومة السوفيتية التي كانت وفق ھذه الأرقام أشد وطأة على المحتلين الألمان، فقد خسر الألمان على الجبھة السوفيتية نحو 10 ألوية )عدا الجرحى والمعاقين(، وبالطبع من الخسائر المھمة التي ينبغي أن تجرد الخسائر في المعدات والآليات، وإعاقة الجھد الحربي ووضع الصعوبات أمامه، وخسائر في التفاصيل المادية والمعنوية.

59

الفصل الرابع : التحرير … فرنسا حرة

تحت عنوان ” نعي ” كتبت صحيفة ليون ” جان لونغ، 37 عاماً، سكناه في 18 كورس ھنري، الساعة العاشرة “. وكان مرسل النعي يود لو يضيف لھذا السطر، ” الجبان ً قتل في 22 / تشرين الأول / 1943 ” ولكن الرقابة لم تكن لتسمح ً بذلك. الطبيب جان لونغ كان معروفا بتعاطفه مع الديغوليين، كان الضحية

الأولى لمنظمة تشكلت حديثا أطلقت على نفسھا ” لجنة مكافحة الإرھاب “.

لم يكن الفرنسيون يناضلون ضد الألمان ً في فرنسا لوحدھم في الأعوام 1943 و 1944، بل كان ھناك فرنسيون يقاتلون ضد أبناء بلدھم، وأحيانا في الخط الأول، وھو ما ينذر بقلق لحرب أھلية.

” من أجل عين واحدة كلتا العينان، ومن أجل سن واحدة، الفكين معاً “. ھذه الصيغة الفظيعة كتبھا الكاتب الصحفي المتعاون مع الاحتلال جان ھنريوت في 13 / تشرين لبثاني / 1943. في مناوشات كتابية ونشرھا في صحيفة الميليشيا الفرنسية، ھذه المنظمة شبه العسكرية التي تأسست بعد أن طالب بھا ھتلر حكومة فيشي لتشكيل منظمة شبه عسكرية من “الفرنسيين” الموالين للاحتلال، فالشرطة الفرنسية ينبغي أن تُدعم من المنظمة التي تروج لفكرة أن الجيش الألماني ھو ھنا للدفاع عن فرنسا ضد الديغوليين والشيوعيين، وكان رئيس ھذه المنظمة، جوزيف دارناند الذي أثبت أنه كان من أشد المعادين للمقاومة.

)1(

دارنالد كان في أفضل الحالات وأسوئھا مغامر، كما كان يقول ھو بنفسه، ولكنه كان في نفس الوقت كان معادياً للبرلمانتاريا )للحياة البرلمانية( ومعادياً للسامية، وللشيوعية، وكان قد أصبح معادياً للديغولية، لأن الجنرال شارل ديغول كان قد أصبح خصماً للماريشال ًبيتان الذي كان قائداً للجيوش الفرنسية المنتصرة

في الحرب العالمية الأولى، التي خدم فيھا دارنالد متباھيا برتبة نائب ضابط.

وللدقة فإن حرب الفرنسيين ضد الفرنسيين كانت قد ابتدأت عام 1940 فور وقوع الھزيمة، وقد افتتحت صحف المتعاونيين مع الاحتلال كالمجلة الأسبوعية لا أبيل )L, Appel( أو جي سويسبارتوت ) Je suis Partout( حرباً باصطياد البشر )العمل كمخبرين علنيين( من خلال نشر أسماء وعناوين مطلوبين وطنيين وشيوعيين ويھود وماسونيين وحتى ديغوليين، وكانت الشرطة الألمانية تستفيد من ھذه المعلومات، ومنذ بداية عام 1943 وضعت المقاومة قوائم سوداء بأسماء المتعاونين، وتع ّرف عن كل منھم

ببضعة كلمات. )2(

ھذا الصراع كلّف الكثير من أرواح الفرنسيين، سواء كان المتعاونون حقيقيين، أو تعاونھم مزعوم وغير حقيقي، وعندما قتل رئيس بلدية بلدة إيزر المتعاون مع الألمان، وھو يھم بصعود سلالم بيته، تمكن القاتل من المرور بسھولة وھدوء خلال الناس المتجمھرين الذين حضروا على صوت إطلاق الرصاص، بل

وتمكن من أن يسرق دراجة ويستخدمھا في الھروب.

وحتى تموز / 1943 كان قد قتل ثلاثة من رجال الميليشيات المتعاونة مع العدو، ” حتى القتيل العاشر سنبقى ھادئين ” قال دارناند، ولكن أيضاً ” ” ولكن انتقامنا سيكون قاسياً “. والقتيل العاشر من الميليشيات كان رجل الميليشيا يوليس بيتيت، قتله عضو برلمان في 5 / تشرين الثاني / 1943 في الساعة 20.45، بعد طعام العشاء، عندما وصله القاتل عبر الشرفة في غرفة نومه. وفي 22 / تشرين الثاني أحصت

الميليشيا 29 قتيلاً.

اتخذ دارنالد قراره الحاسم برد دموي واسع، فاختار ستة ضحايا في بلدة أنسي، يھود، ماسونيين، ومقاومين.. وفي 23/ تشرين الثاني قرر رئيس الميليشيات في البلدة جوزيف ليكوسان، تنفيذ الأمر،

60

فاختار اليھودي إيليا درايفوس البالغ من العمر 70 عاماً، ” أيھا السيد، رفيقنا يواخيم قتله أصدقاؤكم بجبن، لقد حكمت الميليشيات، عليكم بالموت، إذا كنتم متدينين، صلوا إذن. لديكم ثلاثة دقائق مھلة، لتستعدوا للموت “. في اليد اليمنى كان ليكوسان يحمل ساعة.

بعد ثلاثة دقائق انطلقت عدة إطلاقات، أصابت درايفوس مقتلاً. وفي نفس اليوم قتل المقدم )أ. د( والماسوني فرانكو بوزون ولويس باغيت البالغ من العمر 53.

المقاومة لم تدعھم ينتظرون الرد طويلاً، ففيً 24/ تشرين الثاني )في اليوم التالي( قُتل بالرصاص عنصر الميليشيا كاميلي بارباريت الذي يمتلك مطعما في مارلي )Marlieux( أمام بيته. وبعدھا أخذ القتلة سلاح ودراجة النارية ومحفظة القتيل، حملوا جثة القتيل إلى غرفة الطعام، وقبل أن يذھبوا قذفوا بمادة حارقة

تحت سريره المزدوج.

حتى أعضاء المقاومة المعتدلين منھم طالبوا، ” بأن يكون تصفية الخونة بلا رحمة، وأن يكون الملف الأول الذي تشتغل عليه الحكومة بعد تحرير البلاد” . لذلك قدمت اللجنة المركزية لحركات المقاومة مذكرة بتاريخ 15 / تشرين الأول / 1943، يجب التأكيد أن جميع الموظفين الذين تعاملوا من خلال صلاحياتھم الوظيفية، ينبغي في غضون ساعات قليلة أن يُستبعدوا ويُستبدلوا “. ويجب أن تكون طلبات

مقاتلوا المقاومة في المحاسبة والانتقام شرعية ونظامية .

الخيانة، الانتقام، كانت من أھم الكلمات قبل التحرير، وبعدھا جرت ملاحقة الخونة الحقيقيين والمزعومين، بھمة ونشاط. ” بلد غريب ” ھذا ما ورد في رسالة مواطن من مقاطعة كوريزا ” بلد من المتعصبين، وضيقي الأفق، والأغبياء بوحشية … بوحشية بالغة “.

التبليغ ـ كانت كلمة ھامة لتبرير جرائم لا حصر لھا. فالصحيفة التي تصدر سراً )La Marseillaise( المارسيليز أوردت عام 1944 أسماء في عددھا لشھر آذار عشرات الأسماء، مع ملاحظات قصيرة، مثل ” يقبض من الغستابو )البوليس السري الألماني(، تسبب في إيقاف وطنيين عند ” أصدقائه الألمان ” ولكن

الظنون لوحدھا وكذلك بلاغين مخبرين لا تبرر التعذيب والإعدام، أو إطلاق النار على البشر.

وبالطبع كان ھناك مخبرين من أعطى للألمان قوائم بالأسماء مع العناوين. السيدة )ب( التي أدينت فيما بعد وحكم عليھا بالإعدام، كتبت في 2 / حزيران / 1944 إلى قائد منطقة سانت فلور، ” إن المقاومين يريدون إقامة نقاط سيطرة كل 100 ــ 200 متراً، سوف تتلقى جنودكم بالمدافع الرشاشة، أريد أن أخبركم بھذا، قبل فوات الأوان، فھنا توجد عصابة مخيفة، التي ھي ضد الألمان، إذا جاء أحد من عناصركم، بوسعي أن أعطيكم أسماء الأخطر فيھم، ولكن عليكم أن ترتدوا ثياباً تبدون فيھا كفرنسيين، وبعكسه فإن الحي المليء بالديغوليين سينذرون، ولأنني أخشى الانتقام، لأنه جرى تھديدي عدة مرات بأن يفجروا بيتي. ولكن ربما من الأفضل أن لا يأتي أحد من قبلكم، وأن تجدوا ھؤلاء السيئين بدوني، وأسماؤھم ھي

ًًً
:….” وھنا تكتب السيدة 26 اسما، وتضع أخيرا ما مجموعه 50 اسما، والسيدة )ب( تذكر في تقريرھا

اس َمي رجل وزوجته، وبعض الأحيان عائلة كاملة، ومن الأسماء التي ذكرتھا قتل بعضھم.

ولكن أيضاً كان مقتل العامل في السكك الحديدة )ل( الذي قتل في موربيان، واغتصبت زوجته ومدبرة البيت، فھل كان ھذا يخدم قضية سياسية ..؟. أو عندما قطعت أذن رئيس البلدية في إحدى دوائر كوريزا واقتلعت عيناه، كان على مقاتلي المقاومة أن يفھموا أنھم يقترفون أعمالاً بربرية كتلك التي يتھمون بھا

خصومھم.

61

وكان قد تم التسجيل في دوائر فويرون، المدينة الصغيرة، عدد سكانھا 15.000 نسمة، بتاريخ 20 / نيسان / 1944 موت الطفلة دانييل جوردان البالغة 3 سنوات من العمر، ووالدھا أرنست جوردان 43 عاماً، ووالدتھا فلورنتينا جوردان ووالدتھا ذات 81 عاماً واثنان من عناصر الميليشيا، اللذان كانا يقومان بواجب الحراسة ھناك. وكانت إذاعة لندن )BBC( قد نددت بأرنست جوردان في بيان يحمل عنوان ”

الشرف والوطن” بتاريخ 14 / نيسان / به كرئيس لميليشيا مدينة فويرون وحكمت عليه بالموت.

ًًُّ اتھم اثنان من تلاميذ المدرسة المھنية في البلدة، جان كولونا )20 عاما(، و إدوارد جيرار )19 عاما(

بأنھما ھما من قاما بتنفيذ تھديد إذاعة لندن، الذي لم يكن يعني قتل عشرة أفراد من العائلة في غضون أيام قليلة. صحيفة لي باتي باريسيان، نشرت سبعة صور للمجزرة، مع تعليق ساخر ” إمرأة فرنسية فظيعة )الطفلة عمرھا سنتان ونصف( يبدو أنھا على ارتباط وثيق بالألمان، لأن القتلة لم يكونوا يريدون أن ينالوا عقابھم العادل، أطلقوا رصاصاتھم في رأسھا، ومن أجل أن يأمنوا فرارھم، ھؤلاء الذين لا وطن لھم،

أطلقوا عليھا رصاصة رابعة “. )3(

في محكمة عسكرية في مدينة ليون، حيث سيق إليھا كلا الفاعلان )القاتلان( جان كولونا، وإدوارد جيرار، وكذلك مسؤولھما الذي أصدر الأمر إليھما باول دوراند، حكم على الثلاثة بالإعدام، واقتيدا لتنفيذ حكم الإعدام رمياً بالرصاص، حيث جرى ربط الثلاثة ووجوھھم إلى العمود لكي يتم الرمي من قبلة مفرزة

الرشق على ظھورھم. )4(

بعد يوم واحد من نزول الحلفاء في نورماندي، حشد رئيس الميليشيا دونالد قواته التي كانت تُدعى ” حراس فرنسا ” وھي القوات الخاصة والنخبة من الميليشيا وكان أفرادھا ناداھم “ميليشيا الفرنسية انھضوا … نحن من سينقذ البلاد، غداً ستكون عاصفة، ونستعيد النظام، آنذاك سوف نميّز المخلصين

والخونة، الخونة والجبناء سوف يعاقبون، كما يستحقون .” )5(

وبحسب بعض المصادر، فإن ھذا الخطاب لم ينفذه سوى 25% من عناصر الميليشيا، وحتى قبل إنزال الحلفاء، كانت معنويات المتعاونين قد ھبطت، ولم تعد مرتفعة كما كانت. وإذا كان 25% من العناصر لم تلتحق بالتعبئة، فإن 75 % الباقية ينبغي أن تكون قد التحقت في مواقعھا. في القطاع الجنوبي )الذي كان بإدارة حكومة فيشي(، كان عددھم يبلغ بحسب تقدير المؤرخ اندريه بريسوت، نحو 14.000، فيما يقدرھا المؤرخ جاكوب ديلبيري في كتابه ” تاريخ الميليشيا ” ب 8000 عنصر، الكثير منھم انضموا

للمليشيات بسبب كرھھم وعدائھم للشيوعية، والديغولية.

وبالتعاون مع القوات الألمانية )SS( قامت الميليشيات في المناطق بحملات تحت عنوان التفتيش، بالنھب وحرق المزارع، وقتلت وعذبت كل من ألقت القبض عليه من مناضلي المقاومة، ومن الفلاحين الذين يش ّكون في انتمائھم للمقاومة، وبعد قتال لوديس وتريبفان، استطاعت الميليشيا أن تأسر بعض المقاومين، وبعد تعذيبھم، قامت بإعدامھم رمياً بالرصاص. وبعد التحرير ُعثر في غابة لورجس على 38 جثة، كانوا قد ُع ّذبوا قبل إعدامھم بشكل فظيع قبل قتلھم، وكسروا لھم مفاصلھم وحطموا الفك الأسفل , و ُضغطت

صدروھم لدرجة تكسر الأضلاع، وكانت أفواھھم قد خيطت بأسلاك رفيعة.

والمقاومون ارتكبوا بدورھم أعمالاً مماثلة، وقتلوا من أسروا، ففي سانت أماند مونتروند،ً أسرت مجموعة من المقاومة في 6 / حزيران زوجات عناصر الميليشيا اللاتي تم مبادلتھن لاحقا برھائن، وأيضاً 13 من رجال الميليشيا. وفي عام 1967 كتب جورج شيلود أن المقاومين أُرغموا على قتل الـ 13

عنصر من الميليشيا لأن الألمان كانوا في أثرھم يتعقبونھم وعلى مقربة منھم. 62

” الألمان كانوا على مبعدة 200 متر فقط، وقد يسمعون صوت الإطلاقات، لذلك عمدنا إلى شنق سجنائنا، وقمنا بعمل الأنشوطة من حبال المظلات، ولم تكن لدينا الكراسي، وضعنا الحبل على فرع عال، والأنشوطة في رقاب الأشخاص، وسحبناھم إلى الأعلى بكل ما أوتينا من قوة “.

ولكن الحال لم يكن دائماً فظيعاً كما جرى في سانت أماند مونتروند. وفي إيموتيرز أًحال قائد الميليشيا جان بابيستا جيروموني إعدام 30 من الرھائن الذين كانوا عند الألمان فت ّم إعدامھم رميا بالرصاص.

وبالنسبة للكثيرين ممن تعرضوا للخطر بسبب تعاونھم مع الألمان، حان الوقت للھرب، إذ لم يعد بإمكانھم الاعتماد على الدرك الفرنسي لحمايتھم، ولا في الاعتماد على أبناء جلدتھم من الفرنسيين، وقد عزل المتعاونون وأدينوا لتعاونھم مع المحتل.

وفي إحدى صحفھم كتبوا، أنه تجري تصفيات، ففي إحدى القرى قتل 11 متعاوناً، من بينھم عدة نساء في الفترة ما بين 18ـ 20 / تموز / 1944. )وكان الحلفاء قد نزلوا في نورماندي وبدأت عملية تحرير أوربا.(

في الحقيقة، كان ھناك أكثر، فالصحيفة اقتصرت على الأعضاء من منظمة واحدة، والحقيقة أن الميليشيا وضعت خطة لتجميع كافة المتعاونين والمتناثرين في مركز المقاطعة وفي منظمة واحدة.

وبناء على نصيحة من الميليشيا، أخرج ھنري )X( وعائلته : والدته، والده، وجدته، وثلاثة شقيقات، وشقيقين، أخرجوا تحت حماية مسلحة مشددة إلى مدينة غرونوبل، ومن ھناك نقلوا في موكب عسكري مسلح إلى مدينة ليون. وفي 19 / آب وبالقرب من شامبير ھوجموا.. يتحدث ھنري ” تلقت والدتي رصاصة في ذراعھا وأخذت تنزف بشدة. وتلقى شقيقي رصاصة أخرجت جزءاً من دماغه، فأمسكت به بين ذراعي، ولم يكن يستطيع إلا التلفظ بكلمات مفككة، وشقيقتي الطفلة البالغة من العمر تسعة سنوات شخصت بعيونھا نحو السماء، أما والدي فقد كان يكرر جملة ” يا أطفالي المساكين … يا أطفالي

المساكين، كل ھذا ذنبي أنا “.

نحو 20,000 من عناصر الميليشيا وعائلاتھم، تحولوا في صيف وخريف عام 1944 )أي بعد إنزال الحلفاء في نورماندي وقد لاحت نھاية الاحتلال الألماني في فرنسا( باتجاه الشرق، ومعھم 5000 منتمون إلى منظمات أخرى، أو من الصحفيين ومسرحيين مفضوحين بتعاونھم مع الألمان، وأناس أبرياء، وآخرين مذنبين، ضحايا ومسؤولين لم يروا في المستقبل سوى الموت، أو السجن، أو المكوث في

المھاجر.

وبين إنزال الحلفاء في نورماندي، والتحرر النھائي لفرنسا من الاحتلال الألماني، كانت فرنسا في حالة من الترقب. حكومة فيشي لم يعد لھا حضور، المقاومون في الغابات والجبال لم تكن سيطرتھم ظاھرة كاملة بعد.

كانت الساعة قد دقت، ساعة الرجال الجريئين، والشجعان، العنف. وباسم فرنسا، أو المقاومة، أو الحرية، كانت العصابات تتجمع والذين لم يكن لديھم ميل قوي لمحاربة الألمان، بقدر ما كانوا يميلون للثرثرة مع الناس. رجال لديھم طموحات سياسية، يستعدون لصنع سيرة، والتخلص من منافسيھم واستخدام الإرھاب

لعمل جمعيات وتشكيلات.

كانت موجة التطھير خاضعة للسيطرة النسبية، خلال أيلول ــ وتشرين الأول / 1944، قد جرت قبل التطھير الرسمي. والتي كان فيھا عدد القتلى أكثر من التطھير الرسمي. بعض الذين قتلوا كانوا يستحقون

63

مصيرھم فعلاً، والبعض الآخر ممن قتلوا كانت تصفية حسابات سياسية قديمة، أو بسبب الھياج الدموي، أو أسباب مالية، بما يطلق عليه “العدالة الشعبية” المجنونة، ھو الانتقام الذي يمارسه المحررون.

يقول الكاتب والمؤرخ الأمريكي ھربرت لوتمان )Herbert Lottman( في كتابه التطھير ” أن التطھير يذكر دائماً وأبداً كم يترتب عليھا من معاناة، بينما المطھرون صامتين، وھذا يدور حتىً اليوم. ھذا الصمت ھو دفع الكاتب لوتمان أن يبحث في ملفات من تعرص إلى التطھير، ووجد فيھا غالبا

أنھا مزيج )كوكتيل ــ Coktail( بين الجنس والسادية “. )6(

والانتقاد الذي يوجه إلى القائمين بالتطھير ھو افتقارھم للأدلة التي تستحق التطھير، وبالتالي عدم تقديمھم تقارير مكتوبة عن ما قاموا به من تطھير. ولكن على المعسكر الآخر )الذي تعرض للتطھير( أن لا يتردد بتقديم شھادات وإفادات عما تعرضوا له.

ثم أن ھناك دليل، فإنني أحتفظ بمذكرات مقاتل من المقاومة الذي عمل في الفترة حزيران ــ تموز / 1944 )مع إنزال الحلفاء في نورماندي(، في منطقة سافوي وما دونه في مذكراته لا يحتاج أي تعليق ” 26 / تموز: تعذيب عنصر ميليشيا )س(، عمره 29 سنة، منذ ثلاثة أشھر، متزوج، وعليه أن ينشر الخشب وھو يرتدي البلوزة، والصدرية، ويُسقى الماء المالح، قُطعت أذناه بالكامل بالحربة، حفر قبره، واستلقى

فيه وھو حي. وبآلة حادة فُتحت بطنه، وبقي كذلك يومين حتى مات..

31 / تموز: سيدتان اعتقلتا. 1/ آب: اعتقال قائد الميليشيا )س(. 3/ آب: موت إحدى السيدتين، وتعذيب الميليشياوي ووفاته.

في شھر كانون الثاني / 1948 )3 سنوات بعد نھاية الحرب(، وفي مرافعة ومحاكمة عضو في حركة المقاومة سابقاً، وفي حادث تعذيب تعرضت له سيدة لأنھا كانت قد قامت بنشر الأخبار الألمانية. الصحفي جاك فورلاكو كتب عن المرافعة: ” كانوا يسحبونھا، ويضعون على جسدھا مواد محرقة، ويضعونھا في حظيرة خنازير، ويعيدون وضع الأقراص المحرقة على جسدھا، ثم يرغمونھا على وضع قدميھا في مياه تغلي، ثم يجلدونھا بالأحزمة، ثم يعرضون جسدھا لأعقاب السجائر والحرق بالمكواة، ويحرقون شعر رأسھا، وأخيراً عندما أرغموھا أن تجلس في مياه تغلي ُعلقت بعدھا من ذراعيھا وأطلقوا عليھا طلقة

مسدس “.

وفي نيسان / 1942 افتتحت إذاعة لندن، ما أطلق عليه المجموعة )T( بكلمة )Traltre( ” خائن “. بوضع إشارات بحرف )T( على باب كل بيت من يتھم بالخيانة، سواء بالتأكيد، أو مشتبه بالخيانة، ” لأن في يوم الحساب سيدفعون كل ما عليھم حتى آخر قرش “.

” الالتزام بالقتل ” كتب الكاتب المقاوم اليميني فيليب فياناي )Philipe Viannay( في 15 آذار 1944 في مقال بدأ بجملة ” نحن لسنا متحمسين )عاطفيين( قتلة ولكننا قبل ذلك متحمسين لحياة سلمية وسعيدة “. وواصل مقالته ” نقتل الألمان لكي ننظف أرضنا منھم ولكي تكون حرة، ولأن الألمان يقتلوننا. اقتلوا الخونة الذين يساعدون العدو، اقتلوا عناصر الميليشيا وأبيدوھم، لأنھم تطوعوا بإرادتھم، ليقوموا بإرسال الفرنسيين للعمل في ألمانيا، وھم كالكلاب النابحة علّقوھم على أعمدة النور في الشوارع، ھم كالحشرات للإبادة. اقتلوھم بلا رحمة، لا تدعوھم يعذبوكم، نحن لسنا جلادين، بل جنود. اقتلوھم بلا رحمة أو شفقة،

لأن ھذا واجبك، واجب مؤلم، الواجب عدالة “. 64

في 27 / حزيران / 1944 )بعد نزول الحلفاء( وصل العقيد برنارد أينسوك إلى بريساك مقاطعة شارينت، الذي كان سابقاً عضو في اللواء الأممي في إسبانيا )إبان الحرب الأھلية الإسبانية 1936 ـ 1939(، ومن كتاب صحيفة الحزب الشيوعي الفرنسي اللومانتيه. ومع برنارد جاء أولئك الذين يسمون أنفسھم ” العدالة

الشعبية ” محكمة مخيفة برئاسة أحد عناصر المقاومة الذي يطلق على نفسه ” القائد غاندي “.

برنارد ورجاله اعتقلوا حوالي 200 شخص، وأخذوا المعتقلين معھم، وابتدأت فوراً محكمة الشعب، وابتدأ العمل، برنارد أدان امرأة )س( وأولادھا الثلاثة، وحكم عليھم بالموت. كانت مشتبھة بالعمل لصالح الغستابو )الأمن الألماني(. وجرى نفس الشيء مع النجار )س( الذي كان ذنبه الرئيسي أنه كان على

خلاف في الرأي مع أحد أعضاء المحكمة.

المحكمة كانت بلا تحقيقات، ولا مع شكليات المحاكم. فالمتھمين لم يكن لديھم محامين، ولمن يحكم عليه بالإعدام لا يحصل على كاھن، ولا كفن لمن يعدم، وكان يتم كل شيء بين الاعتقال والإعدام في غضون ساعات قليلة. وكان قرًار الحكم ًلأكثرھم بالموت. ” أنتم بالنسبة لنا أعداء سياسيون وإننا سنقوم بإبادتكم “. وكان ھذا يشمل أيضا خصوما سياسيين من عھد حكومة الجبھة الشعبية )حكومة اشتراكيين 1936(، الذين كانت محاكمتھم قصيرة، أو مواطنين تم البحث عن ممتلكاتھم ونھبوا بشكل علني وعلى نطاق واسع.

في 4 / تموز جلبت السيدة فرانسواز بينكود إلى بريسك أيضاً، وكانت قد تزوجت منذ بضعة ساعات فحسب، جلبت مع زوجھا مباشرة من الاحتفال الديني أثناء عقد الزواج في الكنيسة، جلب معھم الكاھن أيضاً، الذي اتھم أنه ألقى كلمة قصيرة في جنازة أحد المقاومين.

بماذا يمكن اتھام السيدة بينكود ؟ في 13 / آذار/ 1943 كانت مؤيدة لبيتان، مثل كل البرجوازية في منطقتھا، وذھبت لحفلة أقامتھا الميليشيا،، وفي 6 / أيار / 1943 حصلت على شاًرة الميليشيا، وبعد ثلاثة أشھر استقالت منھا، ولم تعد تساھم إلا في الأعمال الخيرية. ولكنھا ارتكبت خطأ واحداً : إذ أتلفت جميع

المواد الدعائية للميليشيا، ولكنھا أبقت على شارة الميليشيا.

” بعد أن عثرنا على البرھان أن العروس كانت منض ّمة إلى الميليشيا، قرر المقاوم الملازم روبرت ، ” أنا سأطلق أيادي عناصري، أن يأخذوا المواد الغذائية وكل ما نحتاجه ” وأخذوا ما حمولته شاحنتين، ليس فقط سجناؤھم، ولكن فعلاً أخذوا كل شيء، من أطقم الشاي، حتى زجاجات النبيذ المعتقة، ومن

المجوھرات، حتى فخذ الخنزير المحفوظ.

وكان دفتر مذكرات زوج فرانسواز بينيكود وقع بيد القائد في المقاومة برنارد، الذي فيه إشارات إلى زوجته بأنھا لم تشارك في أي من أنشطة الميليشيا، وبعد حضورھا أربع اجتماعات استقالت وتركت الميليشيا، ومزق برنارد الصفحة 8 / آب / 1943 من المذكرات، وأعلن، ” نحن نحتفظ بالأدلة التي تھمنا،

وسنتلف الأخرى “.

” في اليوم التالي في الساعة الثامنة مساء ” أفاد الشاھد جورج بينيكود سمعنا صوت إطلاق نار. ثم جاء حارسان، ليأخذا فرانسواز، كما ھي في ثوب عرسھا، وعندما مرت بالقرب مني ، طلبت مني أن أصلي لأجلھا، وھي ستفعل لنا ذلك أيضاً وھي في الدنيا الأخرى، ونحو 500 متر خارج القلعة، أُعدمت رمياً

بالرصاص “.

بعد 40 عاماً من الأحداث، وبعد أن درست وبحثت في الملفات، الأقاويل وإفادات الشھود، عن الإرھاب الذي ساد المنطقة آنذاك، ولكن لا أحد من المواطنين يجرؤ على التحدث عنھا للصحافة، ما يزال الخوف يتملك المواطنون.

65

وإجمالاً، فقد قتل العقيد برنارد ورجاله ما بين 50 ــ 100 شخص رمياً بالرصاص، لا بل تحدث قاضيً التحقيق في مدينة أنغولم )Angoulemeً( عن إعدام 500 ــ 600 شخص، وبين من أعدموا رميا بالرصاص صبي يبلغ من العمر 16 عاما، وسيدة حامل في الشھر السابع، وصديقة رجل تشيكي كان

يخدم في الجيش الألماني، كانت قد رفضت أن تكون عشيقة ضابط برتبة ملازم في المقاومة.

في 7/ نيسان / 1954، تحدث النائب الاشتراكي جان بايل أمام الجمعية الوطنية في باريس )مجلس النواب( عن اغتيال رئيس البلدية الاشتراكي عن بلدة شامبيريت )Chamberet( رينيه بوزين. النائب جان بايل “إنني أخشى أن مأساة ھذه الناس في ليموزين )بلدة وسط فرنسا( ھي واحدة من بين الكثير في أماكن أخرى”. في الحقيقة كان من جملة تصفية حسابات بين الشيوعيين والاشتراكيين في إدارة

المقاطعة.

كان بوزين قد شكل في آب / 1943 جماعة مقاومة ديغولية، ولكنه سرعان ما اصطدم مع الشيوعيين في المقاطعات المجاورة، الذين يريدون أن يسيطروا على المنطقة بأسرھا لوحدھم . ومن أجل أن يحصل بوزين على السلاح، أجرى اتصالاً مع ثلاثة من الضباط الديغوليين، من أجل تأمين السلاح. ولكنه ومجموعته ھوجموا من قبل مقاومين من بينھم ضابط برتبة رائد اسمه شارلوت وقد تم نقل الضباط الثلاثة مع سائقھم، بعد تحقيق قصير اقتيدوا إلى غابة مجاورة، وھناك أطلقوا عليھم النار وأردوھم قتلى، ولم ين ُج

من المجزرة سوى السائق الذي أبلغ عن تفاصيل ما جرى.

ثم جاء الدور على بوزين وصديقه لير والملازم بيربغود، الذين أخذوا بالبحث عن الضباط الثلاثة المفقودين، وعندما ألقي القبض عليھم من قبل نفس الرائد شارلوت، الذي أدعى أنه يتحدث باسم غوينغوين، وطالب الثلاثة بالحديث مع غوينغوين، لذلك أخذوھم بالسيارة، لاحظ الملازم بيريغود بسرعة أن السيارة لا تسير في الطريق إلى مقر غوينغوين، وحاول الفرار، ولكنھم أطلقوا عليه النار فأصيب، وحاول الزحف لمسافة 100 متر، ولكنھم عاجلوه برصاصتين قضت عليه. أما بوزين وصديقه لير، فقد أُ ِخذا حيث ھناك بالقرب من مقر للرائد شارلوت، وأعدموھم بطلقة في رقابھم، و ُوجدت جثثھم في 26 /

آب / 1944 .

في 7 / نيسان / 1954 وخلال مناقشة ما جرى في مدينة ليموزين، في الجمعية الوطنية )البرلمان( قطعت الجلسة قبل منتصف الليل بقليل، وأ ّجلت إلى تاريخ لاحق، ولكنھا لم تبحث أبداً.

في العديد من الآبار والينابيع والمناجم في فرنسا بعد التحرير، وجدت جثث، الضحايا ھم ألمان، أو متعاونين، وفي معظم التحقيقات التي جرت، عرف القتلة وعوقبوا. ولكن لم يتحدث أحداً عن ينابيع فونز في مقاطعة أردبتش، ولو لم ينجح الصحفي غابريل دومنيك في التغلب على جدار الصمت ويبلّغ ع ّما جرى، ففي كانون الأول / 1950، كتب تقريراً في مارسيليا ميروديونال حيث أبلغ عن حفرة فيھا جثث،

مجزرة على الأرجح المقاومة مسؤولة عنھا.

وحتى يومنا ھذا، من غير الممكن القول، كم جثة في منجم الفحم المھجور ذو العمق 42 متراً. حيث الجير السائل، وصخور تزن الواحدة منھا حتى 60 كيلوغرام والحطام والأنقاض. أخصائيون من شركة غليسال وأعمالھا ويا للغرابة، لم يكن الدفع لھا ومن الدولة الفرنسية، بل من الألمان ، ولأن حتى ھناك جنود ألمان قذف بھم إلى المناجم، وفي عام 1959 انتشل 34 ھيكل عظمي، والصحفي دومنيك نفسه تحدث في

البداية عن 215 ميت، ثم ارتفع إلى 292.

66

باستثناء موريس شافنت، وھو مقاتل سابق في المقاومة، كانت إفادته، نشرھا دومنيك، بصمت القضاة السابقون، ومن تولى الإعدام، ومن بينھم على الأقل اثنان على قيد الحياة، وعبر القائد السابق في المقاومة، فورنيه عن رغبته بإيجاد المسؤولين ومعاقبتھم، لكن موقف الصحافة الشيوعية ظل غامضاً جداً ” من يعتقد ” ھكذا كتبت صحيفة الحزب الشيوعي فالمي )Valmy(” بسبب جثث بعض جنود )SS(

الألمان يحاولون تقسيم السكان وتسميم الأفكار”.

واحدة من أكثر الصور الصادمة المثيرة للاشمئزاز، بين الفرنسيين ھي بلا شك النساء اللاتي تم تدميرھن. والصور معروفة في كل فرنسا، وھذه رسالة من بيرجيو، سيدة معاصرة للحدث: النساء اللاتي أقمن علاقة ما مع ألمان، توجب عليھم المعاناة ًأكثر من غيرھن. عاريات حتى الخصور، اقتدن عبر شوارع المدينة، وقد ُحلقت شعور رؤوسھن تماما وبعض الأحيان فروة رؤوسھن، كان الدم يتدفق من جروح رأسھن بغزارة، وأحياناً رسم وشم الصليب المعقوف بين نھودھن )الصليب المعقوف رمز النازية( لأن

شعر الرأس ينمو من جديد، ولكن الوشم لا يزول ” .

غالباً كانوا يجلبون النسوة إلى ساحة كدار البلدية مثلاً، على أية حال في مكان يستطيع أي شخص مشاھدتھن، ثم يجلسن على كراسي ويشد وثاقھن من قبل الرجال، بعدھا يجري جز شعور رؤوسھن، كان أحياناً يتم تعريتھن كاملاً، لكن على الأغلب يبقين بالسروال الداخلي وحمالة الصدر، ويسرن في شوارع

المدينة، بعدھا يذھبن إلى السجن، ولكن الھو ُن والإذلال لم يكن قد انتھى بعد …!

و

ھنا إفادة شخص يدعى سيرج )V( ” لما كنا في نوبة حراسة، كنا نقتادھن، زملائي وأنا إلى العمل، في الساحة، كنا ندفعھن بأعقاب البنادق لحملھن على السير أسرع. وإذا يذھبن إلى المرحاض، ويقفلن الباب، كان الجنود دائماً يدفعون الأبواب، حقاً كانت سادية “.)7(

67

كانت ھناك أساليب أخرى لتعذيب النساء، في رويشيايلي بالقرب من بلدة غرونوبل، جاءت اثنتان من السجينات المجزوزات الشعر، كان آثار الحرق على ظھورھن، إحدى السيدات كانت تعمل كمخبرة وسلمت 24 رجلاً، وفي المحكمة العسكرية بتاريخ 3 / شباط / 1950 .

” اعتقلت أولفيرا سوية مع زوجھا، وأمرت بأن تخلع ملابسھا كاملاً وتصبح عاريةً، وجرى التحقيق معھا من قبل أربعة رجال )م/ ق / م / ج( وحاولا قص شعر العانة في جسدھا. ووفقا للائحة الاتھام نفسھا، جيء بسيدتين سجينتين، وجرى فحصن فيما إذا كن يصلح للعمل في بيت دعارة “، ولكنھن ” لم يستطعن

ذلك ” كما قال شاھد عند قاضي التحقيق.

في بلدة سانت فلور )Saint Flour(، كان ھناك في القرن 12 في جدار الجسر، الغرفة التي كان بابھا مبنياً، في داخلھا كانت سيدة سجنت نفسھا حتى نھاية حياتھا ھناك اختياراً، لتحمي نفسھا وغرفتھا من الطاعون، ومن خلال رفوف وفتحات، كان سكان البلدة يقدمون الغذاء لھذه السيدة التي كانوا يطلقون عليھا

)سجينة نفسھا(.

بعد ثمانية قرون جرت أحداث مماثلة في سانت فلور عينه، اعتقلت السيدة أستر البوي ً مع أربع نساء أخريات. كانت أستر البوي قد اعتقلت في 24 / آب / 1944 عندما كان عمرھا 20 عاما كان لھا علاقة مع جندي ألماني، وبعد أن حلق شعر رأسھا أرغمت على أن تعلق لافتة كتبت عليھا عبارة مشينة. وفي 20 / تشرين الأول . فيما بعد أشغلت أستر في البريد، واعتقلت مرة أخرى لأنھا شوھدت تتحدث مع أحدھم باللغة الألمانية، وبعد عدة شھور من الاعتقال تبين أن ھذه الادعاءات لا نصيب لھا من الصحة

فأطلق سراحھا.

وكان شعرھا قد نما مرة أخرى، ولكن شرفھا، وھو أكثر ما يفتخر به الفقراء، كان قد ذھب. أكثر من 38 عاماً، وسكنت في بيت صغير للراھبات الكرمليين، ومعھا والدھا ووالدتھا، وشقيقتھا تيرزا التي كان عمرھا آنذاك 19 عاماً، وشقيقھا ريمي وكان سنه آنذاك 17 سنة، والطفل ھوبرت الذي ولد عام 1941

ليحيا الحياة اللعينة.

يتحدثون في سانت فلور، ولكن ما لا يقولونه، أن أستر كانت تغادر البيت فقط مساء، وبرفقة والدھا، بعض تجار المواد الغذائية كانوا يجلبون ھذه المواد، ويضعونھا بباب الكوخ. في مجرى السنوات توفي الأب والأم، ثم تخلت تيرزا عن ھذا الانعزال )الحبس( الاختياري، وأخيراً توفي الشقيق، واحتفظت أستر بجثته، بجانب الغرفة التي ينامون فيھا ويأكلون، وأخيراً في 20 / تشرين الأول / 1983 قامت الإطفائية

بتحطيم المعتكف )الكوخ(.

وقد حصل لفتاة فرنسية صديقة لجندي ألماني ما يشابه ذلك، كلاھما كانا يسيران في الشارع، بين الناس الذين كانوا يتفرجون معجبين، في آب / 1944 عرض الجيش الديغولي في باريس بقيادة الجنرال لوكلريك، عنصر الجندرمة مرسيل يتذكر أنه بذل جھداً كبيراً لحماية ھذا الجندي الألماني الذي كان قبل 14 يوماً قد سلم نفسه طوعاً دون مقاومة. وقد نجح في إنقاذه من أيدي رجال المقاومة، وقد لوحقا حتى وصولھما دائرة الدرك، لكن الصديقة الصغيرة أبت أن تتركه بأيدي رجال المقاومة، وعادت بعد 20 دقيقة، لم تعد تعرفه، كما عبرت ھي بنفسھا، ” كان الرأس قد حلق بالموس كبيضة، ولحسن حظھا لم يكن

لديھا عذابات أخرى. الفتاة الشابة والجندي وقفا قبالة بعضھما يبكيان بحرقة “. )8(

وضد غضب سكان باريس، كان على العقيد جاك ماسو )آنذاك، وفيما بعد جنرال وقائد القوات الفرنسية في ألمانيا( حماية 150 سجين ألماني. وأحد المتعاونين السابقين )مع الألمان( ھجم وبيده سكين على السجناء وھو يصرخ ” يجب أن أقتل أحدكم ….. يجب أن أقتل أحدكم “. )9(

68

والعقيد ماسو لم يكن بوسعه أن يكون في كل مكان، ويبدو أنه ليس جميع الـ )4200( الألمان الذين قتلوا في باريس، قتلوا في معارك نظامية، فھناك أعداد لا يمكن معرفتھا من المساجين والأسرى الألمان قتلوا على أيدي مقاومين، وأشخاص آخرين.

ولكن ليس في باريس فقط جرت أعمال انتقام، بل وفي سائر المقاطعات وخاصة جنوب شرق وجنوب

غرب فرنسا. وبعد مذبحة أورادور، وعمليات الإعدام في تولا، وفي مناطق أخرى، وحيث جرى قتل

ً
الجرحى الألمان أيضا. في فرنسا عام 1944 حدث كل شيء من أعمال وأعمال مقابلة.

وليون فارج، الذي كان خلال فترة الاحتًلال والمقاومة، يعمل في النضال السري، الذي أصبح بعد الاحتلال مفوض دولة )وزير( حاول عبثا العثور و البحث عن مسؤول ألماني لكي يحول دون إعدام المزيد من المقاومين، واليھود، وسجناء، بعد أن قتل فعلاً 200 شخص منھم. وكعمل انتقامي، قام بعد

تحرير مدينة نانس بإعطاء الأمر بإعدام 80 أسير ألماني من بين 1200 أسير لديه.

حدث ھذا في 23 / آب / 1944، ولكن الأمر لم يثار قبل عام 1964، عندما أرادت مدينة نانس ً الفرنسية، عقد اتفاقية صداقة مع مدينة بايروت الألمانية، أحد سكان المدينة الفرنسية، الذي كان شخصيا في آب / 1944 كان سجيناً في نانس، أخبر صحيفة بايروت اليومية عن الإعدامات التي كل من الذين أعدموا فيھا

لم يكن قد قُدم للمحاكمة.

ُوأدلى كاھن بروتستانتي، وكاھن آخر كاثوليكي، اللذان كانا حتى الساعات الأخيرة إلى جانب الذين أعدموا، أبلغا أن بين السجناء الألمان كان العديد من الشبان من صيادي الجبال، الذين كانوا قد وصلوا إلى نانس قبل أيام معدودة فحسب، ولم يكن لھم علاقة بأحد ولا بأي قدر.

ولكن دماء كثيرة سالت، تدفع إلى مزيد من الداء … ھذا من جانب، ومن جانب آخر، لم يكن أحد لينظر في ھذا الصيف الحار لعام 1944، والوحشية التي جرت فيه إلى أعمار الضحايا، ولم يفكر أحد أن يفصل بين الأبرياء، ومن ھو من والمسؤولين عما حدث وجرى، والوقت لم يكن قد حل بعد للتھدئة أو للمصالحة، ولم

يكن قد مر وقت يكفي للنسيان. انتھى .

69

تحليل المترجم للفصل الرابع

يستعرض المؤلف في ھذا الفصل، الذي وضع ھذا العمل ونشره عام 1990 أي بعد 46 عاماً على الأحداث، وأقوى علاقة سياسية واقتصادية وعسكرية اليوم في أوربا ھي بين ألمانيا وفرنسا، وقد جرت مياه كثيرة في العلاقات الفرنسية / الألمانية، وھذه الأحداث يفترض أنھا أصبحت من الماضي.

حدث وأن اطلعت مرة على استفتاء أجري في فرنسا، فيما إذا كان الناس مستعدون لفتح صفحة جديدة

ً
)ھي مفتوحة رسميا( بين الشعبين، كانت النتائج من شبان وشابات ولدوا بعد نھاية الحرب بسنوات طويلة،

مخيبة للآمال … قد تكون ذاكرة الأفراد حيال ذكرياتھم الشخصية تضعف بمرور السنوات، ولكن ذاكرة الشعوب الجمعية قوية، وھذه نتيجة مھمة توصلت إليھا كمؤرخ مجاز.

المبالغة والتطرف والإسراف في كل شيء ولا سيما في العنف )القتل( وإطلاق العنان للغرائز غير الإنسانية، ستجر إلى مواقف مماثلة. نحن نقرأ التاريخ، ندرسه، نشرحه وندرسه بھدف تكوين الخلاصات المفيدة، وأن نتعلم من تجارب غيرنا، ومن يقرأ ھذا الكتاب سيتأكد أي درك منحط كان فيه ھؤلاء من

ارتكبوا ھذه الجرائم والمسؤولون السياسيون بالدرجة الأولى، وھنا لا يفيد أن يتذرع أي شخص …: ” لم أكن أدري ” ، ” لم أوافق “، ” أمرني مسؤولي ” ھذه ذرائع لا تنجي من المسؤولية السياسية أو الجنائية.

70

هوامش الفصل الرابع

لا أنكر أني أترجم ھذه الفقرة بسرور وفرح، إذ ثبت لي أن الخونة والمتعاونيين موجودون في كل مكان، وفي كل بلد، والصلاحية ھي في جوھر الفكرة تكمن في قاعدة: ” أن المتعاون خائن في كافة قوانين الدول ويستحق الاحتقار، وأن المقاوم بطل مضحي لشعبه ويستحق الاحترام “.

ھنا بضعة سطور عن حرب مخبرين دارت، فرنسيون يخبرون ضد فرنسيين، لأسباب عديدة، منھا

ًًً
أسباب كيدية، إضافة إلى الأسباب السياسية. وأجواء المخبرين دائما منحطة ووضيعة شكلا ومضمونا.

ھذه أحدات فظيعة، جرت في فرنسا خلال الاحتلال، والاحتلال غير قانوني، وفعل لا إنساني، وبالتالي ستكون له ردود فعل يقوم بھا الناس، يقوم بھا شبان ورجال غير مؤھلين قانونياً وسياسياً، والكثير من الأفعال وردود الأفعال لا علاقة لھا بالسياسة، تدخل في إطار الأعمال والفعاليات شبة العسكرية.

يطلق على المفرزة التي تتولى الإعدام رميا بالرصاص ” حظيرة الرشق “.

تشير المعطيات أن ميليشيا حراس فرنسا ھي في الأساس حركة سياسية فاشية، وأن تعاونھا مع ألمانيا كان تحت ھذا الإطار الفاشي، ولكن بالطبع دخلھا الانتھازيون والباحثون عن المكاسب.

أوافق على ھذا التحليل، من خلال معطيات تاريخية، أن الذين يقومون بالتصفيات ھم مرضى نفسيون في الغالب، ولايخلو من السادية وجذرھا ھو الجنس.

السادية )Sadisem( نزعة جذورھا جنسية، يقوم المصاب بھا، بتعذيب الشخص الآخر من أجل أن يتلذذ بالتعذيب، وبمعنى جنسي.

من العجيب أن بني البشر بمجرد أن يتوفر لھم غطاء قانوني، وظيفي، ديني، وطني، ثوري، يبدأ بالفتك بالبشر الآخرين سيان درجة مخالفتھم لآرائه ومعتقداته، ھنا نشاھد وحشية غريبة، صحيح أن الفلاسفة اليونانيين كانوا قد كتبوا، وورد في القرآن الكريم ” النفس أمارة بالسوء ” إن البشر اعتدائي بطبعه، ولكن القانون يردعه، والقانون ھو شرعي أو وضعي، ولكن بمجرد أن يفلت من ھذا الوازع، يتحول إلى حيوان

مفترس, قليلة ھي الحيوانات التي تأكل بعضھا، ولكن البشر في مقدمتھا.

يبدو أن ھذا الخائن المتعاون، يريد أن يقتل جندي ألماني سجين، ليبيّض صفحته السوداء، وفي مثل ھذه الظروف، كل شيء يطفو على السطح، أبطال، أوغاد، خونة، شجعان، جبناء، أبرياء، مجرمين …إلخ .. كل شيء جائز في القدر الذي يفور ويفور …!

71

المقاومة السوفيتية ضد الغزو الألماني

1941 ــ 1945

ضرغام الدباغ برلين

2017

72

الفهرس

مقدمة

الفصل الأول: التعريف ــ الوضع القانوني ــ واجب المقاومة ــ دورھا في الحروب الفصل الثاني: حرب المقاومة في الاتحاد السوفيتي الفصل الثالث: المقاومة السوفيتية. الفصل الرابع : مشاركة النساء في المقاومة

صورة الغلاف : تمتال فولاذي لمقاوم سوفيتي .. يحمل الغدارة السوفيتية المشھورة ” شباغن ” .

إهداء

إلى المقاومين الأوائل في وادي الرافدين

73

الشھيدة البطلة نوشة الشمري الشھيدة البطلة وداد الدليمي

مقدمة

منذ مطلع شبابي وأنا متولع بقراءة كتب الثورة بالمقاومة، فكراً وأدباً، وتأريخ حركات المقاومة في العالم،

وأدب الرفض، أضافت لھا تجربتي السياسية والنضالية الكثير، وفي سنوات السجن الطويل، زارني

الصديق والرفيق القديم الدكتور رًشدي طالب الرشدي، أستاذ الأدب الألماني )اختصاص أدب المقاومة

العربي / الألماني( ورشدي أيضا زميل الدراسة الجامعية، إذ تزاملنا في مرحلة الدكتوراه في جامعة

لايبزغ / ألمانيا، وسألني عما أحتاج، فطلبت منه كتب ألمانية فقط. وفعلاً أھداني عدة كتب أدبية وكلھا من

أدب المقاومة، غير التي عندي، فاشتغلت كثيراً في السجن وترجمتھا وغيرھا إلى العربية، كانت الكتب

ًً
خير معين لتح ّمل تلك السنين، فترجمت نحو عشرين كتابا، وبقدرھا أو أكثر تأليفا. حتى أني طلبت من

صديقي الصدوق طيب الله ثراه كتباً باللغة الألمانية، فقلت له أن الكتاب والعمل أصبح بالنسبة لي قضية حياة أو موت، فغر فاه دھشة رحمه الله، وفعلاً أمدني بالكثير منھا، كان يبحث عنھا في كل مكان ببغداد.

كنت قد ترجمت في وقت بعيد )1986(، كتاب ” الحرب الأھلية الإسبانية “، ووقتھا عرض علي مبلغ 10,000 دولار ولم أبيع الكتاب، ولكن عندما طبع ونشر عام 2012، لم استفد بسنت واحد منه .. لاحظ تغير أحوال الدنيا.. ولكن الكتاب حظي بتقريض كبير. وتوالت أعمالي في تاريخ حركة المقاومة، في العديد من البلدان، في إسبانيا، والمقاومة الفرنسية، ًوتاريخ الثورة الأمريكية، وتاريخ الثورة الكوبية،

وتاريخ المقاومة الألمانية ضد النازي )رواية(، وأخيرا المقاومة الروسية.

الأحداث تتكرر كما أسلفت، وخير من وصف ھذه المتوالية التاريخية الكاتب الفرنسي الكبير ھنري آمور بقوله ” الاحتلال الألماني لفرنسا : مقاومون أبطال ــ متعاونون خونة ” ھذه الثنائية تتكرر عبر التاريخ وفي كل البلدان، ومن يتأمل ويفھم التاريخ بوصفه علماً مادياً يفھم ھذه الثنائية مع وجود عناصر أخرى جانبية. المقاومون لھم منطقھم أن لابد من الحفاظ على الوطن، المحتل مھمته تدمير البلاد، ولم يشھد التاريخ لليوم مستعمراً شريفاً، والقضية لا تحتاج إلى ثقافة، بل غيرة الإنسان على بيته فقط. وأذكر أني قرأت مرة نصاً بليغاً، كان جنرال فرنسي مستعمر يحدث رؤساء القبائل في المغرب أو في الجزائر، يحدثھم ويسھب في الحديث، وأخيراً بعد أن شاھد عدم تفاعلھم مع حديثه، قال:” أنتم لا تفھمون، نحن سنعمر ھذه البلاد ونعلمكم الحضارة “. فأجابه أحد زعماء القبائل، نحن نفھمك ونريد أن نصدقك، ولكننا لا نرى معكم سوى المدافع والقنابل والطائرات والجنود، ولم نشاھد طابوقة واحدة. ولم تبني فرنسا ولا بريطانيا ولا أميركا ولا إيران، وإيران ليست دولة استعمارية )كوصف علمي، المستعمرون دول صناعية( بل توصف حسب تكوينھا وسياستھا دولة ھمجية، فكل ما شاھدناه ھو التخريب والقتل

ومحاولات لمحونا …!

مرة سألت بروفسور ألماني في كليتنا، قلت له: نحن ندرك بشكل علمي رياضي، أن الاستعمار والإمبريالية خسروا ويخسرون وسيخسرون كافة مشاريعھم التوسعية، وإذا كنا أنا وأنت نعرفھا، ألا يفھمھا الإمبرياليون والمستعمرون، قال طبعاً ولذلك تراھم يبالغون في القتل والنھب، ويبتكرون طرقاً

جديدة يعتقدون أنھا ستنقذ نظامھم.

كتبت وترجمت، وقرأت عن تاريخ ثورات وحركات عديدة، من أميركا الشمالية )الولايات المتحدة( وأميركا الوسطى )كوبا(، وأميركا اللاتينية )فنزويلا( والمكسيك، وأوربا )إسبانيا، فرنسا، بلجيكا، النرويج، ألمانيا، اليونان، جيكوسلوفاكيا، والاتحاد السوفيتي ” روسيا وأوكرانيا، وفنلندة، وبيلوروسيا ” وفيتنام والصين الشعبية، والمغرب، والجزائر،ً وليبيا(. بھذه الحصيلة الوفية من القراءة والكتابة والترجمة، وسماع أناشيد كثيرة بكلمات بليغة جدا، )كنشيد كومونة باريس، وأغنية التضامن من تأليف بيرتولد برشت وغناء أرنست بوش، ونشيد المقاومة الإيطالية بيلا تشاو، ومشاھدة أفلام وثائقية وسينمائية/ ومشاھدة لوحات تخلّد المقاومة والمقاومين والشھداء بعض تلك الأعمال سيبقى خالداً مثل لوحة بابلو

74

بيكاسو لوحة غورنيكا عن القصف الألماني الوحشي للقرية الإسبانية / الباسك غورنيكا، ولوحة فرانسيسكو غويا الإسباني إعدام ثوار، وأعمال الرسام الألماني الكبير آرنو رنك، ولوحة ديلاكروا عن ثورة شعب باريس 1830، وأعمال ونصب وتماثيل وجداريات ذات قيمة فنية ھائلة، خلقت لدي حصيلة

فكرية وذھنية وتصور إنساني قبل كل شيء عن الثورة والمقاومة والمقاومين …

قرأت جملاً كثيرة ومصطلحات وعبارات، قرأت وترجمت أشعاراً في غاية التأثر وصفحات كنت أترجمھا وأنا أبكي .. قرأت كتابات وترجمتھا تقرع في صدغي لا تقبل أن تغادر فكري وضميري : خطاب القائدة الشيوعية الإسبانية دوريس أيباروري، في وداع المقاتلين الأجانب في الحرب الأھلية الإسبانبة ضد الفاشية، شعر بول إيلوار، كلمات لا تنسى للشاعر والكاتب التشيكي يوليوس فرجيك وھذه

نفحات منھا :

” كنت أتوقع الموت ولكن ليس الخيانة ”

” كنا سنذوق الموت أنا وھو، ولكن سائر الرفاق كانوا سيبقون على قيد الحياة ولواصلوا العمل في الطريق الذي سقطنا من أجله. إن الجبان قد يفقد أكثر من حياته، لقد ضاع، فر من جيش المجد، وألحق بنفسه عار الخيانة والقذارة. وحتى من أجل الحياة …! الخائن لم يعد على قيد الحياة، لأنه وضع نفسه خارج المجموع، لقد حاول فيما بعد أن يفعل شيئاً جيداً، ولكنه لم يفلح أبداً في محو ما فعله في السجن من

فظاعات كما لم يحدث أبداً ”

“المخلص سيبقى صامداً، والخائن سيخون، الضعفاء سيصابون بالحيرة، والأبطال يناضلون. في داخل الإنسان تستقر غالباً عوامل القوة والضعف، الشجاعة، الخوف، التماسك، الاھتزاز، النقاء، القذارة، وإلى جانب بعضھم البعض، ولكن ھنًا، لا يمكن إ ّلا لأحدھم البقاء، أو عندما يحاول امرؤ، ويا للعجب، أن يرقص بينھما، فإنه سيكون عجيبا، كالذي يريد أن يرقص بريشة صفراء على قبعته، وبيده عصا ملونة في

مسيرة جنائزية.” بوسعكم أن تنتزعوا منا الحياة … ولكن ليس شرفنا …!

الرفاق الذين سيبقون أحياء بعد ھذه المعركة، والذين سيأتون إلينا، إنني أشد على أياديھم ، فإننا قد نفذنا الواجب. إنني أكرر مرة أخرى: ومن أجلكم سوف نموت

” وما ھي الحياة بالمقارنة مع مجد البطولة …!!”

” امض بشجاعة في ھذا الدرب، أو دع الخوف يتملكك وتنح عن الطريق، إنك لن تقدر على ذلك في كل الأحوال، والفساد لا يتسلل إلا من خلال الخوف فقط ”

قبل أن يعدم يوليوس فوجيك ً بقليل، ينھي دفتر مذكراته ” تحت ظلال المشنقة ” يقول : ” أردت أن أرسم لكم صورا، ولكن للأسف لم يتبق إلا ساعات قليلة، أقل مما يكفي لإنشاد أغنية قصيرة “.

إن الأدب الثوري، يعلّم الشرف، والوطنية، وأن تكون صلباً بوجه أعتى الأعاصير والمحن، أن يقدم الإنسان حياته بسرور لما يؤمن به، شاھدت صورة يعجز عقل الناس اليوم من فھمھا، شاب روسي مقاوم، يعدم مع رفيقته، ينظر إليھا وھي تھوي في آخر أجزاء الثانية يبتسم ترى ماذا كان يفكر : لقد ربحت ومت قبلي، أو إلى اللقاء .. أو لن ينسانا رفاقنا .. بل قًل أيھا الشاب البطل لن تنساكم الإنسانية بأسرھا ورفيقتك البطلة .. ھا ھي صورتكما تظھر بعد 75 عاما في بلد غريب عنكما ھو العراق سيقرأ الناس أمثولتكما،

75

وتضحيتكما ًلم تضع سدى ..! أمثال ھؤلاء الشباب بالملايين لا يعرفھم أحد وھذان البطلان يُكتب عنھما بعد 75 عاما ..

)لاحظ الابتسامة الصادقة على وجه الشاب والحبل في رقبته يبتسم لرفيقته(

الأدب الثوري، يعلّم الناس القيم الشريفة، قيم تخدم الناس، أمثولات في خدمة الوطن والشعب. لا أدب يخدم الغايات الدنيئة للأفراد، ” اضرب ضربتك ” الّي ضرب ضرب، والّي ھرب ھرب ” عبر وحكم سخيفة تمجد الانتھازية، والخيانة والسفالة والرشوة والفساد وخيانة الشعب.

إن في قراءة التاريخ بوصفه علم، لا حكايات ومسليات، بل بوصفه العلم المادي لفھم التاريخ، بھذه وحدھا تتحول القراءات إلى خزين ثقافي علمي يرشد للمواقف السليمة، يعلم كيف نفھم الحياة والتطور، وما معنى التراكمات، وتحولاتھا، كيف تنضج مرحلة وتسقط أخرى، ولماذا ؟ ما ھي المستحقات التاريخية ومتى يحين أوانھا .. عزيزي القارئ إن تعلمت ھذه العبر تصبح وكأنك تعيش الحياة في كتاب مفتوح .. لا

أسرار ولا غوامض ولا مفاجآت.

الأعمال التي أقدمھا كھذا الكتاب مثلاً، فالمًصادر في اللغة الألمانية وفيرة جداً، ولا سيما في الإنترنيت، فأنا أقوم بتجميع بحوث، أترجم بعضھاً نصا، وأخرى أستقي منھا، وفي الأخير أرتبھا وفق سياقات القراءة المفيدة، وھناك سلسلة كتب رائعة جدا اسمھا التاريخ المصور، كتب مختصرة مفيدة مدونة بشكل علمي موثوق لأن الكتّاب كلھم أساتذة في أكاديمية العلوم الألمانية والسلسلة المتوفرة عندي 54 عدد، ھناك بعض الأعداد تنقصني، أبحث عنھا في الإنترنيت لدى ھواة الكتب. نحو 10ـ 15 منھا كلما أنظر إليھا أتأسف

ملئ روحي لأنھا بعيدة عن متناول القارئ العربي، وسأحاول أن أترجمھا بقدر ما يسمح الوقت والصحة.

ً
أريد أن أقول أيضا: إن مفردات النضالات الثورية قد تكون مفيدة ولكن دراسة العبر السياسية والنضالية

ھي ما ينبغي التركيز عليھا. والواقع التشابه في جوھر مسألة المقاومة ھو واحد تقريباً في كل البلدان، ل ّخصھا الكاتب الفرنسي ھنري آمور ” المقاومة الفرنسية : مقاومون أبطال وخونة متعاونون” نعم في 76

كافة البلدان التي أطلعنا على تجاربھا، ھناك وطنيون تدفعھم غيرتھم للمقاومة، وھناك خونة يلھثون وراء امتيازات لا يستحقونھا في الواقع، وھناك من يخون لأنه منحط يريد من يحترمه ولو كذباً، المحتل لا يحترم المتعاونيين نعم .. يقبل تعاونھم مقابل شيء، ولكنه لا يحترمھم.

إقامة التحالفات الوطنية مسألة مھمة، ينبغي إقامتھا والسعي نحوھا بلا كلل أو ملل، والطرف القوي ھو من ينبغي أن يضحي من أجل إقناع قوى صغيرة، ينبغي التراجع من أجل إحراز تقدم، ھذه ليست تكتيكات في سوق السياسية، بل ھي أن لا تترك قوة لا تعبأھا سواء من أجل تحرير الوطن، أو بنائه وإعماره، والإعمار أصعب من الثورة، لأنك ستكون على تماس مع قوى خارجية ھي خارج إرادتك. في الإعمار ينبغي أن تستوعب السياسة بفروعھا، والاقتصاد بفروعه، والاجتماع بفروعه .. فما أشق ھذه المھام، وما

أسھل من يثرثر مجاناً على قاعدة الجھل نور ..!

الثلاثمائة أسبارطي الذين ماتوا دفاعاً يكتب اليوم في موقع بطولتھم .. ” أيھا الما ّر من ھنا …. عندما تذھب إلى أسبرطة، أعلن ھناك: أنك رأيتنا راقدين ھنا … كما يأمرنا به القانون …….” .

يسرني غاية السرور من يطلب مني كتبي المنشورة وبحوثي ودراساتي السياسية، فالھدف الأول والأخير ھو خدمة الثقافة العربية، وھو ما أعمل له بكل قواي .

ضرغام الدباغ برلين ــ أيلول / 2017

77

الفصل الأول : التعريف ــ الوضع القانوني ــ واجب المقاومة ــ دورها في الحروب

التعريف

ـــ المقاوم ھو المناضل المسلح الذي لا ينتمي إلى القوات المسلحة لدولة ما. يخوض الفدائيون/ المقاومون عملياتھم القتالية في المناطق التي لا تتواجد فيھا قوات مسلحة أخرى )جيش أو شرطة(، في أرض لھا من يطالب بھا. المقاوم يقاتل غالباً في أرض بلاده وأرجائھا، ولكن ليس دائماً مناطقياً، كما حصل في حرب الاستقلال الإسبانية )1808 ــ 1828( أو الحرب النابليونية على أرض شبه جزيرة إيبريا )إسبانيا ــ البرتغال ــ جبل طارق( حيث ظھر المقاومون، أو كما في الحرب الإسبانية، أو في الحرب الألمانية ــ السوفيتية، وفي نضالات جوزف بروز تيتو وماتسي تونغ. وھوشي منة وأرنستو جيفارا المقاومون يتواجدون في الحروب الأھلية، أو في الصراعات الداخلية، وأحياناً على شكل انتفاضات ضد الحكام كما فعل فيدل كاسترو، أو المحتلين، من المستعمرين. وفي عام 1785 افتتح جون فون إيفالد في مدينة كاسل )ألمانيا( رفضه للحروب الصغيرة التي باعتقاده وحسب خبرته، لھا صلة أو امتداد للانتفاضات في المستعمرات شمال أميركا.

الفدائيون عامة مجھزون بالأسلحة الخفيفة. والتخريب ھو من بين أساليبھم القتالية، وكذلك التجسس، وشن الھجمات على وحدات عسكرية صغيرة للعدو، ومكافحة الخونة المتعاونين مع العدو، والمقاومين غالباً ما يعملون بحماية وتغطية من السكان المدنيين، يحجزون القوات النظامية البطيئة الحركة، التي لا تستطيع

الھجوم، مستفيدين من معرفتھم الدقيقة بالأرض، وتعاون السكان المحليين معھم.

من وجھة النظر العسكرية، فإن مصطلحات: المقاوم، الفدائي، محارب العصابات، تستخدم كمفردات للمقاتل المقاوم. والمقاومون الذين برزوا في النضال ضد قوات المحور )ألمانيا ــ إيطاليا( في المناطق التي احتلتھا في أوربا سميوا عادة فدائيين / مقاومين )Partisan( فيما أطلق على الحركات المناھضة للاستعمار مصطلح عصابات

(1) .(Guerlleros)

)الصورة : شعار منظمة المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال الألماني( ــ الوضع القانوني : ً ً ً القانون الدولي لا يعرف للمقاومة تعريفا ووضعا خاصا، ومن ثم فھي تندرج تحت إطار أحكام اتفاقيات الحرب الدولية ذات الصلة التي تنص على أربعة معايير رئيسية لتحديد ما إذا كان الأشخاص الذين وقعوا في أيدي العدو يعتبرون أسرى حرب : في المقدمة، الشخص الذي يعد ھو المسؤول عن مرؤوسيه. الذين يحملون علامات وإشارات معترف بھا. يحملون السلاح بشكل مكشوف. يلتزمون بقواعد وأعراف الحرب في عملياتھم.

فيالبروتكولينالإضافيينالمؤرخين8/حزيران/1977 ُعّدلتھذه المتطلبات، بحيث يكون حمل السلاح علانية في المسير العسكري والھجوم، كافياً لاعتباره )Combatant( مقاتلاً. )2(

78

وھم الأشخاص الذين لا يستوفون كافة المعايير المذكورة أعلاه ولكنھم رغم ذلك يشاركون في القتال، يتمتعون بالرغم من ذلك بالحماية التي ينص عليھا البروتكول )1( المادة )75(، من القتل العمد والتعذيب، ھم يتحملون المسؤولية للعقوبات التي قاموا بھا وفقاً للقوانين المعمول بھا وقت وقوعھا. وفي ذلك من الضروري، اعتقال المتھمين بھا ساعة وقوع العمل: والمقاوم الذي انتھك المعايير المذكورة أعلاه، ولكنه

لم يقع بأيدي الأعداء، إلا بعد نجاح الفعل، لا يفقد حقوقه.

ــ التطور التاريخي: بحثت اتفاقية لاھاي عام 1907 عن فكرة توفيقية في حالة القناص الفرنسي ــ البلجيكي في الحرب الفرنسية ــ الألمانية عام 1870 ــ 1871 : وكشرط لذلك، أن يشخص ھذا المحارب بتشخيص قيافته الرسمية كمقاتل وتعريفه )شخص له مزايا المحاربين ــ Combatant( في القانون الدولي، وطالبت المحكمة مغزى التعريف بوجود شارة واضحة، وحمل السلاح بوضوح. )الصورة : شعار منظمة المقاومة البلجيكية(

وتواصل مفعول لائحة لاھاي لعام 1907 بعد الحرب العالمية الثانية، من خلال اتفاقيات جنيف الأربعة، )12/ آب / 1949(، والآن حتى بعض معارك الفدائيين )المقاومة(

اعتبرت معارك نظامية ونالت بموجبھا حقوقھا.

وإذا انتھك أحد الطرفين ما ن ّص عليه قانون الحرب من حظر لعمل معين، محل الدفاع عن النفس في محله،. وإذا ھوجم جنود من قبل غير محاربين )شخص له مزايا المحاربين ــ Combatant( يحق لھم أن يصدوا الھجوم بما يتوفر بأيديھم من سلاح، حتى لو يلحق ضرراً بمدنيين

غير مشاركين في المعارك.تعتبر أضرار جانبية.

ــ واجبات المقاومة. في بعض الدول مثل: ھولندا ، أو بلجيكا، ھناك وجھة نظر في حالة تقع حرب عدوانية، وھو ما يناقض ويخالف القانون الدولي، ووجود مقاومة ضد الاحتلال الغير شرعي، وتعتبر حركة المقاومة مشمولة بمزايا الفدائيين / المقاومين )Partisan( فيما يطلق على الحركات المناھضة للاستعمار مصطلح عصابات )Guerlleros(. إذا ما استوفوا شروط ومعطيات ھذه الحالة)الإشارات والعلامات الواضحة، وحمل السلاح علانية(. )3( )الصورة : شعار منظمة المقاومة الھولندية(

وقد اعتبر الإعدام رمياً بالرصاص بحق أعضاء الحركة البلجيكية المنتسبون إلى ) Armée secrète( أو المنظمة السرية الھولندية المقاومة )Binnenlandse Strijdkrachten( جريمة قتل، وكذلك منتسبي حركة المقاومة السرية الفرنسية ) ,Forces Francaies de l )interieur، الذين قاتلوا فيما بعد إلى جانب الحلفاء في تحرير فرنسا، واعتُبروا أبطالاً ونالوا الأوسمة

و التكريم. )4(

79

)الصورة : مفرزة ألمانية في الاتحاد السوفيت تح ّذر من وجود فدائيين في ھذه المنطقة(

في عقيدة الدفاع للجيش الأحمر )Military Doctrine( كان قتال المقاومين )Partisan( حتى أواسط

الثلاثينات ضمن خطة الدفاع عن البلاد. أما الجيش اليوغسلافي فقد اعتبر قتال المقاومة بعد عام 1945

)بعد النصر والتحرير( استراتيجية رئيسية في الدفاع عن الوطن، والمقاومة الفرنسية اعتبرت أن النضال

ضد المتعاونين، كواحدة من الواجبات الرئيسية لھا. وفي اليونان أيضاً، لعبت المقاومة ضد الاحتلال

ًًً
الألماني وكذلك المقاومة )DILAS: DSE( خلال الحرب الأھلية، دورا مھما وحاسما.

قتال المقاومة في الحرب العالمية الثانية. وحدات من قوات ال )SS( والشرطة العسكرية )الانضباط العسكري(، قاموا بتنفيذ عدة مجازر بحق السكان المدنيين في عملھم ضد المقاومين )الحقيقيين أو المفترضين( وھناك الكثير من الدراسات عن جرائم الجيش الألماني الھتلري. والأساس لھذه الجرائم ھو قانون الحرب على الاتحاد السوفيتي وخطة الھجوم التي سميت )بارباروسا ــ Barbarossa( بقانون جرى إعداده من قبل القيادة العامة للقوات المسلحة،

وتمريره بتاريخ 14 / أيار / 1941، ووقعه الفيلد مارشال )المشير( فيلھام كايتل. وكان ھذا ينص على أن: ” الفدائيين )المقاومين( الذين يدخلون بين القطعات، ينبغي مقاتلتھم وملاحقتھم وقتلھم بلا رحمة “. وأيضاً ورد ” كافة الھجمات الأخرى من سكان مدنيين، ينبغي مكافحتھم بكافة الوسائل حتى الإبادة، حتى يتم

إفشال الھجمات “. )5(

)الصورة: إعدام مدني سوفيتي في محاكمة فورية(

وقد نفذت القيادات الميدانية للجيش الألماني، ھذه الأوامر بشدة وقسوة وتحديداً في الجبھة الشرقية )الاتحاد السوفيتي(، فكانت تقتل وتعدم عشوائياً، وتقتل رھائن وارتكبت فظائع تاريخية. وحتى صدور ھذه التعليمات القانونية الحربية، كانت التعليمات والقوانين الألمانية مع محاكمة، ولكن المرسوم الأخير تحت لافتة مكافحة الفدائيين والمقاومين، وكان يطلق عليھم وقتئذ بـ )عصابات القتل( أتاح المرسوم خوض حرب إبادة في احتقار للقانون الدولي، وحلت ھذه التعليمات )المرسوم( محل القضاء العسكري، يتحكم بالسكان المدنيين، في ” إنزال العقوبة الفورية ” فيما سمي بقانون الكتيبة / الفوج / اللواء.. إلخ ، وھذا ما

وضع الجنود الألمان في وضع المجرمين، شرعت بتطبيقه منذ اليوم الأول لغزو الاتحاد السوفيتي.

وكانت مكافحة المقاومين كانت قد اعتبرت سياسة نال توصية “كسياسة إبادة ” )Ausrottungspolitil( باللغة الألمانية وبالإنكليزية ـــ Extermination Police” يؤكد على ذلك حديث ھتلر في قيادات الحزب النازي : ” لقد أعطى الروس الآن الأوامر لخوض حرب مقاومة خلف خطوط جبھتنا، وحرب المقاومة

ھذه لھا أيضاً ميزة: أنھا تعطينا الفرصة لكي نبيد، كل من يقف بوجھنا “.

80

)الصورة: جنود ألمان يعدمون مقاومين روس(

وعلى خلفية ھذا الفھم، لوحق بصفة خاصة اليھود، الذين عوملوا وكأنھم مقاومين. وفي 8 / تموز / 1941 )بعد نيف وشھر من بدء الحرب على الاتحاد السوفيتي( وفي حديث له مع ًضباط الوحدات الخاصة )SS( ومع ضباط الشرطة، في مدينة بيالياستوك السوفيتية، قوله ” اعتبروا أساسا أن كل يھودي ھو مقاوم “.

ومنذ عام 1942 فصاعداً، ومع تصاعد نشاط المقاومة السوفيتية خلف خطوط المواجھة، بدأت تشكل

تھديداً ملموساً للجيش السوفيتي، بدرجة تفوق ما كانوا )الألمان( يتصورونه في خططھم عن قيام مقاومة،

لذلك كانوا يبخسون قدرھم، ولكن القتال بدأ يتصاعد منذ 1942 بين المقاومة والجيش الألماني، ليبلغ

ًًً حدودا شرسة ليتخذ أبعادا إجرامية فيما بين الطرفين، وليتسع ويشمل السكان المدنيين أيضا.

وقد تجاوز الجيش الألماني في ممارساته وأفرط بعيداً عن قواعد مكافحة المقاومة، وأساليب التعامل القانونية متجاوزاً توجھه نحو المقاومة، إلى من يشتبه بأنه مع المقاومة، دون دليل، وكانوا يقتلون بشكل عشوائي.

وكانت مكافحة المقاومة لا ترتبط بنشاط المقاومة ولا علاقة لھا بشخصية معينة، وكانت البلدات والتجمعات السكانية . والسكان اليھود كانوا بصفة عامة مؤيدين للمقاومة، أو مساعدين لھم، وكانوا يعدمون لذلك. وأكثر من ذلك يستحق الملاحظة، أنه بالرغم من نداء ستالين )زعيم الحزب والدولة السوفيتية( في 3 / تموز / 1941 أن التمييز يصعب في زخم الأحداث في المناطق التي انسحب منھا الجيش النظامي ًوالباقين من الجنود في تلك المناطق ھم في الغالب جنود غير نظاميين، الذي قد اختبؤوا

في أماكنھم خوفا من الجيش الألماني.

وفيما يتعلق بقتال ھؤلاء الأشخاص يتحدث مراقب ” في الفترة الزمنية ما بين 1941 وحتى 1942 كان

ھناك ” مقاومة بدون مقاومين “، ومع ذلك يقدر عدد البشر الذين قتلوا على يد الألمان على أنھم مقاومين

ً
بلغ )345,000( ، أقل من 10% من ھؤلاء ربما كانوا مقاومين حقا. )142,000( بشر بينھم )14.000(

يھودي قتلوا في )55( معركة فقط.

81

القيادة العامة للقوات المسلحة الألمانية أعلنت في مذكرة رقم )69 / 2( بتاريخ 6/ أيار / 1944 حول مكافحة أعمال المقاومة، ولكن لھذه المذكرة وتفاصيلھا كانت لھا الأھمية اللاحقة في فكر واستراتيجية حرب العصابات ، ضمنھا اثنان من الضباط البريطانيين أوبري ديكسون )C. Aubrey Dixon( وأوتو

ھيلبرون )Otto Helbrunn ( في مؤلفھما عن تكتيكات واستراتيجية حرب العصابات.

أسماء منظمات مقاومة منتظمة Sowjetische Partisanen mit dem Zentralen Stab der sowjetischen Partisanenbewegung die Polnische Heimatarmee die Jüdische Kampforganisation (polnisch Żydowska Organizacja Bojowa, ŻOB) im Warschauer Ghetto die Fareinikte Partisaner Organisatzije, eine jüdische Widerstandsgruppe gegen die deutsche Besatzungsmacht im heutigen Litauen Bielski-Partisanen die Résistance Frankreich die Resistenza Italien die Österreichische Freiheitsfront im besetzten Belgien Jugoslawische Partisanen (Tito-Partisanen)

Griechenland Nationale Befreiungsfront EAM und Griechische Volksbefreiungsarmee ELAS Andarten auf Kreta EKKA in Mittelgriechenland rechtsnationale und royalistische Widerstandsgruppen „Waldbrüder“ im Baltikum, v. a. Litauen, gegen die Sowjetunion (bis ca. 1953) „Verstoßene Soldaten“ in Ostpolen und „Curzon-Polen“ während des Zweiten Weltkriegs und kurz nach dem Krieg Ukrajinska Powstanska Armija in der Ukraine 1941–1953 Peschmerga, Kurden im Irak PKK, Kurden in der Türkei

أسماء شخصيات مقاومة معروفة

Tadeusz Komorowski in Polen Mordechaj Anielewicz in Polen Peter Gingold in Frankreich und Italien Josip Broz, genannt Tito, in Jugoslawien Milovan Đilas in Jugoslawien Falk Harnack in Griechenland Soja Anatoljewna Kosmodemjanskaja in der Sowjetunion Wolfgang Abendroth in Griechenland

82

Ernesto Che Guevara in Kuba Ahmad Schah Massoud in Afghanistan Andreas Hofer in Österreich Đbrahim Kaypakkaya in der Türkei (TIKKO) Augusto César Sandino in Nicaragua Max Bair in Österreich, Spanien und Jugoslawien

لاحظ رجاء : من بين أسماء المقاومين لا يوجد عربي واحد رغم أن تاريخنا يزخر بالمقاومين : عبد القادر الجزائري، عبد الكريم الخطابي، عمر المختار، ياسر عرفات وعشرات غيرھم

كما لاحظ أن من بين حركات المقاومة لا يوجد اسم منظمة عربية واحدة رغم أن منظمة التحرير الفلسطينية معترف بھا دولياً ولھا مقعد في الأمم المتحدة، فيما أقحموا اسم منظمة “بي كا كا” الكردية / تركيا رغم أنھا مسجلة على قائمة الإرھاب ….. لاحظ موضوعية الغرب الديمقراطي ..!

* ھذا الفصل مترجم بمعظمه عن الموسوعة الألمانية

هوامش الفصل الأول

. تعتبر قانوناً اليابان ضمن مصطلح المحور مع ألمانيا وإيطاليا، ولكن قلما كان ھناك تنسيق فعلي بينھا والطرفين الآخرين. . كومباتانت : )Combatant( ھو الشخص “الأشخاص” الذين يعتبرون مقاتلين وفق القانون الدولي المتواجدين في مناطق القتال، مستقلين عن المشاركين في النزاع، والحرب ويع ّدون باتفاقية جنيف إن وقعوا بالأسر. نفس المصدر.

منظمة )Armée secrète( اعتبرت فرعاً لمنظمة المقاومة الفرنسية.، و) Forces Francaies de Binnenlandse ھي المنظمة الفرنسية لمقاومة الاحتلال الألماني لفرنسا.، أما منظمة ،(l,interieur Strijdkrachten(، فھي منظمة المقاومة الھولندية. ھذا القانون )لائحة عمل / تعليمات( جرى إعدادھا في القيادة العامة للقوات المسلحة ووقعه رئيس الأركان العامة، قبل نشوب العمليات الحربية بنحو أسبوعين.

83

الفصل الثاني : حرب المقاومة في الاتحاد السوفيتي

بعد أن قامت ألمانيا بھجومھا على الاتحاد السوفيتي في 22 / حزيران / 1941، و ّجه جوزيف ستالين نداء إلى الشعب السوفيتي في المناطق التي احتلھا الجيش الألماني، يدعوھم لتنظيم حرب شاملة خلف خطوط العدو، في المناطق التي احتلھا العدو. ومع ذلك كان قسم من المواطنين المدنيين في البداية ينتظر، بل أن بعضھم أبدى الصداقة للألمان. لا سيما سكان مناطق البلطيق وأوكرانيا الذين كانوا يحيون الجيش

الألماني ويرون فيھم محررين من النظام الستاليني.

)بوستر شھير : روسا الأم تدعو أبنائھا للدفاع عنھا(

84

ومع تصاعد وحشية سلطات الاحتلال، كان الدعم يتصاعد بالمقابل من السكان للمقاومين. وفي مطلع عام 1942 بدأت حرب مقاومة شعبية ًفعالة ضد الألمان، التي قادت من الجانبين إلى قسوة لا متناھية، وشددت من كراھية الشعب للألمان وأيضا بسبب ومن خلال الاستغلال )النھب( الاقتصادي للسكان، مما أدى إلى

تراجع متواصل للمستوى المعيشي للسكان.

ومع ذلك فإن حركة المقاومة لم تبلغ الدرجة التي أرادھا ستالين )الحرب الشعبية(. في البداية كان ھناك كتائب المقاتلين السرية، تتألف أساساً من جنود الجيش السوفيتي الذين تقطعت بھم السبل، وابتعدوا عن وحداتھم، وبقوا في الأراضي التي تم احتلالھا من قبل الألمان، ومن الشبيبة السوفيتية )الكومسومول ــ

. (Komsomol

وفي مسارات الحرب اللاحقة، بدًأت منظمات المقاومة تتشكل، وفي بعض الحالات كانت إجبارية للذكور في المناطق المحتلة، ولكن أيضا من النساء والأطفال، تواجدن بين صفوف المقاتلين. ومنذ شھر أيار / 1942 فصاعداً، كانت حركة المقاومة السوفيتية تدار من قيادة الحزب الشيوعي السوفيتي )KPdUSR( والجيش الأحمر )السوفيتي( وجھاز الأمن، ووزارة الداخلية ومنظمة الشبيبة السوفيتية )Komsomol( تدار وفق النظم والھيكلية العسكرية وكانت تشتد كقوة منظمة. ومنذ أيار / 1942 وحتى كانون الثاني 1944 تأسس ما أطلق عليه ” رئاسة الأركان المركزية لحركة المقاومة “.

تصاعد العدد التقريبي للمقاومين من حوالي 30,000 مقاتل إلى حوالي 200,000 ، ولكن مع تواصل استرداد الأراضي السوفيتية من الاحتلال الألماني، من خلال عمليات الجيش الأحمر، بدأت الأعداد تنخفض )مع تقلّص مساحة الأراضي المحتلة( . وبصفة عامة قاتًل تحت راية المقاومة من السكان المدنيين بين 1941 وعام 1944 )وھو عام نھاية الاحتلال تقريبا( بأرقام تقدر ب 400,000 إلى 500,000 من الرجال والنساء المواطنين السوفيت، قانلوا في إطار المقاومة ضد الجيش الألماني ومن

معه من الجيوش الأجنبية. )1(

.ً وكانت قوات المقاومة غالبا تعمل في مجموعات تبلغ من 300 مقاتل إلى 2000، )المنتقمون للشعب( كما

كانوا يطلقون على أنفسھم.وكان تدريبھم العسكري غير موحد، يتنوع بين أختصاصيين كالقناصين، أو مختصين بالتفجيرات، معلمين. وفي الأماكن التي كان يأوي إليھا المقاومون، في معسكرات وخيم مموھة في غابات ومستنقعات كتلك الموجودة في روسيا البيضاء، واسعة ويصعب ً الوصول إليھا، وكذلك الأجزاء المحتلة من أوكرانيا، وروسيا. وكان تأمين السلاح والعتاد كان يتم غالبا بواسطة طائرات سلاح

الجو الروسي، ومن جيش الاحتلال الألماني نفسه. )2(

الخدمات والملابس كانت صعبة، وكان يتم تأمينھا من المناطق الغير محتلة، وكان سكان المناطق المحتلة يعانون الأم ّرين من جيش الاحتلال، ومن المقاومين الذين كانوا يرھقونھم بطلباتھم، بل بلغ الأمر لدرجة كراھية المقاومين.

وغالباً ما كان المقاومون يسيطرون على مساحة أراض زراعية واسعة، وبذلك ألحقوا بالمحتلين الألمان خسائر بالغة في مجال قطاع الأغذية وإنتاجھا، التي كان الألمان يعولون الحصول عليھا من المناطق المحتلة. ومع ما يسمى بحرب “السكك الحديدية” كبدت المقاومة )Partisan( الجيش الألماني خسائر فادحة. وھكذا في المناطق الخلفية لمجموعة جيوش الوسط وھي منطقة العمليات الرئيسية لوحدات المقاومة بين حزيران وكانون الأول/ 1942، وكانت تحدث في المتوسط 5 ــ 6 ضربات على السكك

ً
الحديدية يوميا. وفي العام 1943 جرى تفجير ما يقرب من 11,000 تفجير لأرصفة تحميل وشحن،

85

و9,000 عملية ضد السكك يخرج القطار بموجبھا عن السكة، تدمير نحو 40,000 قاطرة، تخريب 22,000 عربة من مختلف الأحجام.

خلال الھجوم السوفيتي الصيفي/ 1943 بلغت عمليات التخريب)Sabotage( ذروتھا القصوى، وكان المقاومون بذلك يقطعون خطوط الاتصال، ويزيدون من صعوبة تموين القطعات المقاتلة بالرجال والعتاد، ولكن القوات السوفيتية عانت بدورھا أيضاً في مرحلة تقدمھا واستردادھا لأراضيھا كانوا يستخدمون

السكك الحديدية كواسطة للتنقل، وعانوا من الخطوط المخربة.

والمقاومة كانت مفيدة من جھة أخرى، إذ تعين على الألمان تخصيص قوات لحماية وسائط التنقل، والطرق من عمليات التخريب، واضطروا لرفع درجات الأمن والحماية التي لم تكن بدون تكاليف.

وبدأت التدابير المضادة للجيش الألماني على نطاق واسع منذ عام 1942، والتعليمات والأوامر الصادرة من أدولف ھتلر )الزعيم الألماني( كانت تنطوي على ” الإبادة الشاملة” )بالألمانية / Restlos Ausrottung (، للمقاومين في كافة أرجاء وميادين الجبھة الشرقية, وكانت السلطات الألمانية بدأت منذ صيف 1942 تطلق على المقاومين السوفيت لأسباب نفسية ” وحدات المخربين” لم تعد كلمة مقاومة تذكر. واتسمت الحرب بالشراسة والوحشية، التي كان يقودھا ھاينرش ھملر قائد الأمن في الدولة، وقائد )SS( وقائد الشرطة الألمانية وقادة أمنيون ووحدات أمن منحوا الصلاحيات التامة ” لمكافحة العصابات”. وإلى جانب ھذه الوحدات، كان ھناك مساعدون محليون )متعاونون( ووحدات من الجيش الألماني

متخصصة بقتال ومكافحة )المخربين( جرى تجميعھا في وحدات أطلق عليھا قوات التصيد.)3(

كان المدنيون غالباً ھم ضحايا حملات التطھير، وغالباً ما كان يجري الأمر ھكذا، فبعد ھجوم تقوم به المقاومة، يقوم الألمان باقتحام القرية التي يفترضون وجود مشتبھين فيھا، ويجري تفتيش القرية، وفحص المشتبه بھم، يأخذون بعض الناس للعمل الإرغامي )السخرة( ويظل مصيرھم مجھولاً، أما مصير الباقين من السكان فيبقى بيد قائد الوحدة، ويشنق من يشتبه بھم سواء كانوا حقيقة مقاومين أم أبرياء، وتبقى جثث

من يشنق معلقة لأيام.

وفي أعوام 1943، و1944، تحدثوا عن نجاحات في الوحدات المكلفة بمكافحة المخربين، عن قتل نحو 150,000 شخص، وسجن 91,000 من ” قطاع الطرق”. ولكن الرقم الإجمالي الحقيقي للمقاومين يصعب تقديره، ولكنه يقرب من مئات الألوف من المقاومين والمدنيين ومن الجنود الألمان.

86

)لوحة لرسام روسي : المقاومة شبان وشيوخ(

هوامش الفصل الثاني

. قاتلت جيوش عديدة مع الجيش الألماني بقوى وأحجام متفاوتة : إيطاليون، رومان، بلغار، إسبان يعتبر جيش العدو مصدر رئيسي من مصادر تموين المقاومة بالسلاح والعتاد وسائر الاحتياجات وحتى المالية.

)بالإنكليزية/ Complete exterminatioo( إبادة كاملة

87

الفصل الثالث : المقاومون السوفيت

كان المقاومون السوفيت، أعضاء في حركة المقاومة ضد الفاشية والنازية الذين قاتلوا بين أعوام 1941 و 1944 في الحرب العالمية الثانية على الأرض السوفيتية، ضد الاحتلال الألماني. وغالباً ما كانت حركات المقاومة قد نظمت من قبل الحكومة السوفيتي وبقيادة الجيش السوفيتي، وحصلت على الدعم منھما.

ومن خلال الأعمال الوحشية التي قام بھا الألمان ضد المقاومين الحقيقيين، أو المفترضين )المشتبھين بالمقاومة(، مع إبادة قرى بأكملھا، كان بالمقابل أعداد المقاومين يتصاعد من خلال انضمام المواطنين المدنيين إلى حركة المقاومة. وفي عام 1943 كان يعمل ويقاتل على الأرض السوفيتية نحو 250.000 شخص )رجل وامرأة( وكانوا يسيطرون على أرا ٍض انسحب منھا الجيش، وكانت فعالياتھم من الأھمية والتأثير الكبير بحيث أنھا أعاقت الألمان من نھب الزراعة السوفيتية والاستغلال الاقتصادي، كما أنھا أرغمت الألمان على تخصيص قطعات للمقاتلة في حرب العصابات، وقطعات أخرى لحراسة وحماية

خطوطھم الخلفية.

ـ بداية المقاومة: وفيما يتعلق ببداية المقاومة، تثبت الأبحاث أنه في مرحلة بداية الغزو الألماني للاتحاد السوفيتي، أن ھناك تناقضاً شديداً في النوايا السياسية لھتلر مع ستالين، وسلوك جنودھما، وبصفة خاصة السكان المدنيين السوفيت، الذين بدر منھم خلافاً ما كان متوقعاً، وما كانت أجھزة الدعاية والأعلام الألمانية، إذ وجدت القوات الألمانية أن المواطنين المدنيين السوفيت، لا يميلون لمقاومتھم، بل على العكس حتى يمكن القول أنھم كانوا يحيون الألمان بود، أو على الأقل كانوا يتصرفون كحياديين، أو غير مبالين على الأقل.

)وجبة من المتعاونين الخونة(

ولكن الأمر كان مختلفاً مع جنود الجيش الأحمر )الجيش السوفيت( الذين لم يتمكنوا من الانسحاب مع قطعاتھم، عندما ھاجمت القوات الألمانية وبدأت الحرب على الاتحاد السوفيتي بتاريخ 22 / حزيران / 1941، فلقوا وراء خطوط الجبھة في المناطق المحتلة، فعلقوا ھناك وبقوا متناثرين مشتتين.

في ھذه المرحلة من الحرب كان السكان المحليون، بالكاد يدعمون المقاومة، ولكن سرعان ما بدؤوا بتشكيل مجاميع، بدأت تقاوم الوجود والاحتلال الألماني. في البداية لم يكن الأمر أكثر من مجموعات تريد

88

البقاء والصمود، وأخرى تريد المقاومة، كانوا يمثلون إرادة يائسة، بصورة ما للبقاء على قيد الحياة، في ھذه المرحلة لم تكن المقاومة تمثل خطراً على الجيش الألماني.

في 29 / حزيران / 1941 أصدرت الحكومة السوفيتي واللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي توجيھات )Directive( بتشكيل منظمات / مجموعات من المقاومين في كافة الأرجاء، بل وتشكيل قوات مقاومة )Partisan( في المناطق التي احتلھا الجيش الألماني، والدعوة لتجنيد مقاومين وتوجيه ضربات وإحداث تخريبات )Sabotage( على الأشخاص والمنشآت الألمانية. واتخذ المكتب السياسي قراراً بتاريخ

18 / حزيران ” في تنظيم المقاومة في الأراضي خلف الخطوط الألمانية “.

ھذه المساعي، كانت من جھة أخرى القيادة الألمانية قد أصدرت تعليماتھا في أواسط تموز / 1941، عبرت عنه في البيان رقم 33 آ ، أن المناطق التي تم احتلالھا في روسيا لا يمكن السيطرة عليھا إلا بوسائل قاسية، وقام العسكريون بتأييد ما ذھب إليه )الزعيم( ھتلر وصادقوا على قراراته وتوجيھاته ”

وأن الحرب ضد المقاومة لھا ميزة لصالحنا أننا نتمكن من القضاء على أعدائنا “.

وفي مجرى النصف الثاني من عام 1941 كان يتصاعد العنف الوحشي للقوات الألمانية ضد المقاومين الحقيقيين أو أولئك المشتبه بھم، وھو ما جعل أعداد منظمات المقاومة تتصاعد. ففي عام1941 كان ھناك أكثر من 2000 مجموعة بقوة عددية تناھز ال 90,000 شخص)رجل وفتاة(. وفي منتصف نيسان

1942، أكد القائد الأعلى للمناطق المحتلة أن قوات المقاومة ستتم ّكن مقارنتھا بالقوات النظامية.

كان تسليح ودرجة تنظيم قوات المقاومة تتصاعد تدريجياً مع مرور الوقت. في أيار / 1942 كان ھناك رئاسة أركان لحركة المقاومة السوفيتية ، وھيئات ركن لدى قيادات الجيوش السوفيتية في الجبھات. وحصل المقاومون على وسائط الاتصالات اللاسلكية، وفي عام 1943 كان عددھم قد بلغ 250,000 شخص. ويسيطرون على مساحات واسعة من الأراضي ومنعوا السلطات الألمانية من نھب الاقتصاد

الوطني، وعطلوا جزءاً مھماً من قدراتھم العسكرية.

ـ المناطق التي عملت فيھا المقاومة:

ـ المقاومة في روسيا البيضاء :

جمھورية روسيا البيضاء السوفيتية احتلت بأكملھا في صيف عام 1941، وفي ھذا الوقت كان الجيش الألماني كان يتقدم ببطء في أراضي أوكرانيا حيث كان الجيش السوفيتي الأحمر يقاوم بشدة.

89

كانت روسيا البيضاء قد فوجئت من القوات الألمانية الآلية السريعة، وكانت العديد من المدن قد ابتدأ قصفھا في 22 / حزيران )اليوم الأول للحرب( وقتل الكثير من المواطنين. ولكن الكثير من الروس البيض، اللاجئين والنازحين من المناطق المحتلة، أعيدوا إلى قراھم للعيش فيھا والتي كانت قد تعرضت جزئياً إلى التھديم. فقط حوالي 20% من الروس البيض ويمثلون 1,8 مليون نسمة، نجحوا في الفرار عام 1941 شرقاً، بعضھم انسحب مع الجيش الأحمر. واستقبلت مدينة موغيليوف بالإضافة إلى سكانھا ما

يربو على 200,000 نازح ولاجئ من مينسك )عاصمة روسيا البيضاء( وأرجائھا.

أكثر من 25% من السكان، روس بيض، بولونيين، ويھود ماتوا خلال سنوات الاحتلال الألماني، مئات

ًً
الألوف منھم أخذوا قسرا إلى ألمانيا للعمل الإجباري )السخرة( والجالية اليھودية أبيدت تقريبا.

في بداية الحرب، رحب كثير من الروس البيض بتقدم الجيش الألماني، كمحررين لھم من الإرھاب الستاليني. وكما أيضاً في المدن الأخرى التي احتلھا الألمان، أغلقت المدارس والجامعات، وفرض المحتلون الأيديولوجية النازية ” الرجال ” و “البشر المتخلفون”، وفي ذلك وضعت مناھج تعليم خاصة

لسكان البلدان التي تم احتلالھا .

ونتيجة لھذه الإجراءات، تصاعد عدد الذين يقررون الالتحاق بوحدات المقاومة, وفي النھاية أعطت مدينة مينسك المثال على ذلك، كان قد تصاعد عدد المقاومين في مختلف مجاميع المقاومة إلى أكثر من 2000 مقاوم/ مقاتل.

)بوستر للمقاومة السوفيتية(

)مقاومين سوفيت(

90

وفي الأرجاء الغربية لروسيا البيضاء، كان المقاومون لا يحضون بشعبية، والعديد من المقاومين وقعوا ضحية وشاية أھالي المنطقة بأيدي المحتلين الألمان.

في عام 1943 ووفقاً للمصادر السوفيتية، فقد كان فقط في روسيا البيضاء وحدھا نحو 375,000 مقاوم، منھم 65% من الروس البيض، و45% من أعراق أخرى. كما كان ھناك 4000 بولوني، و400 تشيكي وسلوفاكي، و300 يوغسلافي، وآخرين قاتلوا ضمن وحدات المقاومة.

ومن أجل مكافحة وحدات المقاومة، أ ّسس الألمان وحدات خاصة أطلقوا عليھا اسم : قوات مكافحة العصابات )Bandenbekäfungstruppen( التي كانت مجھزة أحياناً بالأسلحة الثقيلة، لقتال المقاومين، في معارك كانت غالباً تستغرق أسابيع ومكافحة العصابات في مناطق كاملة تباد وتقتل. واتبعت استراتيجية أخرى تتمثل بتكليف القوات الحليفة بتنفيذ ھذه ” الأعمال القذرة ” مثل اللواء السي ّء السمعة التي يقوده ” برونيسلاف فلاديسلافوفيتش كامينسكي ” الذي كان يتولى مناطق كاملة، كإقليم ليبل، التي تمكن من إبقائھا خالية من المقاومين، ولكن باتباع طرق تدميرية، في إبادة القرى والبشر حتى المشتبه

بھم، وتسبب في قتل مجاميع من البشر. )1(

أساليب كامينسكي في القتل تجاوز في وحشيته تلك التي كانت الوحدات الألمانية )SS(، وكانت قوات كامينسكي تمارس التعذيب والاغتصاب مارسھا بحق المواطنين البيلاروسيين المدنيين. في بيلوروسيا تم تدمير ما مجموعه 5,295 قرية وبلدة، وبعضھا أبيدت بسكانھا، إذ ھدمت 628 بلدة وقتل كافة سكانھا. وإلى جانب لواء كامينسكي، كانت ھناك وحدات من الخونة المحليين، والشرطة المحلية، وساھم ھؤلاء

في القتال ضد المقاومين.

وفي أعوام 1943 , 1944 تمكنت وحدات حركات المقاومة القوية، من تحرير مناطق كاملة، وفي عمليات الانسحاب للجيش الألماني، في أعوام 1944/1043 كانوا يعانون من صعوبات جمة من ھجمات وضربات المقاومة.

ـ المقاومة في أوكرانيا :

في احتلال أوكرانيا ، حظيت القيادات الألمانية بترحيب كبير. ففي البداية نالوا ذات الترحيب مثل روسيا البيضاء، ولاسيما في غرب أوكرانيا، التي كانت حتى عام 1939 تعود لبولونيا، وكانوا ينظرون للجيش الألماني ويرحبون بھم كمحررين من الستالينية، ولكن بعد أولى التعليمات والإجراءات الألمانية، ذات

الطابع الانتقامي، تغيرت مواقف السكان المحليين.

في صيف عام 1941، ف ّر حوالي 5,8 مليون أوكراني، وروس، ويھود، من البلاد، أو تم إجلاءھم. وبما يقارب ما حدث في المناطق السوفيتية الأخرى التي تم احتلالھا، تم تسفير الآلاف من المواطنين إلى ألمانيا في العمل الإجباري )السخرة( . وملايين من الأسرى السوفيت تعرضوا للتجويع في معتقلات الأسرى. لا

سيما عاني المواطنون اليھود الأوكرانيون، الذين فقدوا ربما 800,000 ضحية.

وفي وقت لاحق، أسس الشيوعيون، والوطنيون الأوكرانيون وحركات سياسية صغيرة )الفوضويون(،

ًً
مجموعات مقاومة، كانوا أساسا ضد الألمان، ولكنھم كانوا يتنازعون فيما بينھم أيضا. ً وليس الجيش

الألماني كان يتعرض لھجمات مقاومة أوكرانية، بل وكذلك المواطنون المدنيون أيضا، من ھجمات مجموعات مقاومة أوكرانية. )2( )3(

91

وكلّفت حرب المقاومة في أوكرانيا نحو 5,5 مليون ضحية، من بينھم جزء فقط من المقاومين، ومعظم الضحايا كانوا من البولونيين والأوكرانيين المدنيين.

خلال حصار خاركوف عام 1941 حتى 1942 توفي أكثر من 20,000 من سكان المدينة بسبب الجوع من الروس والأوكرانيين، والألمان كانوا يأبون الانسحاب من المدينة، ويمنعون في نفس الوقت وصول الغذاء إليھا.

في 1 ــ 2 / نيسان / 1943، قامت قوات ألمانية من وحدات )SS( ووحدات أوكرانية، والشرطة بقتل حوالي 6700 من الأوكرانيين الشماليين، من مدينة كوريوكيفكا، بعد أن قامت وحدة من المقاومة بإبادة حامية المدينة حرروا فيھا 97 شخصاً من الرھائن كانوا محكومين بالإعدام. ومذبحة كوريوكيفكا التي أعدم فيھا البشر رمياً بالرصاص، وأحرقت بيوت وقرى بأكملھا تعد واحدة من أكبر المذابح التي جرت

خلال الحرب العالمية الثانية في أوربا.

في 15 / آب / 1943 قام الجيش الألماني بإحراق القرية الأوكرانية يادليفكا بالقرب من العاصمة كيف، وسكانھا حوالي 800 نسمة، وكانوا يشكون بوجود مقاومين سوفيت فيھا، وفي اليوم السابق كانت قد حصلت ضربًات على رتل عربات للجيش الألماني، ومات أكثر من 200 من الأشخاص من جميع الأعمار حرقا في بيوتھم أو جمعوا في ساحة السوق وأطلقت عليھم النيران. وباقي السكان من النساء

والأطفال، سيقوا إلى العمل الإجباري في ألمانيا.

ـ المقاومة في دول البلطيق :

في دول البلطيق، لم يكن فيھا سوى القليل من فعاليات المقاومة. بالمقارنة مع روسيا البيضاء وأوكرانيا، ھي من ناحية الطبيعية، لا سيما في ليتوانيا، وإيستونيا، بلاد غير صالحة لأعمال وأنشطة المقاومة المسلحة.

ـ المقاومة في روسيا:

بسبب التقدم السريع لقوى الجيش الألماني المدرعة والآلية، تمكنت فيھا من تطويق وحدات سوفيتية، واكتساح أخرى، وأيضاً بسبب الافتقار إلى الغذاء والذخائر، وفقدان عام للروح المعنوية، بالنظر لتفوق القوات الألمانية، سقط كثير من مئات الألوف من الجيش السوفيت الأحمر في أسر الألمان. ومن ضباط وجنود ساقين في الجيش الأحمر شكلت قوات ال )SS( بتوجيه من ھاينريش ھيملر)مسؤول الأمن والشرطة الألمانية وقائد الـ )SS( ( في نھاية 1944 ما أطلق عليه جيش التحرير الروسي بقيادة الجنرال

السوفيتي المنشق فلاسوف، وكان من أولى مھام ھذا التشكيل مكافحة العصابات )حركات المقاومة(.)4(

وبعض من قطعات الجيش الأحمر التي حوصرت، أو انسحبت، أو تلك التي استسلمت، تمكن أعدادً من الجنود الھرب والالتجاء إلى الغابات، ما لبثوا أن تجمعوا وكونوا مجموعات مقاومة، تمكنت لاحقا من الاتصال بقيادات الجيش الأحمر، واستطاعوا منھا الحصول على توجيھات، ومؤن، وذخائر وأسلحة.

وكانت القيادة الألمانية قد خططت، لاستسلام روسيا وتجزئتھا، ونھب ثرواتھا الاقتصادية، وعلى أساس قتل اليھود، وأغلقت في العديد من المدن والمناطق المدارس والجامعات، وعرضوا أسرى الحرب إلى التجويع، وأخذ الكثير منھم إلى ألمانيا للعمل الإجباري )السخرة(، ووضع الكثير منھم في معتقلات النازية

الشھيرة )KZ( في ألمانيا. )5(

92

والتعاون الوثيق بين الجيش الأحمر السوفيتي ومنظمات المقاومة تحسنت كثيراً ابتداء من عام 1944، وخاض المقاومان ما يسمى بـ “حرب السكك الحديدية” وبھا تمكنوا من إلحاق خسائر كبيرة بمواصلات الجيش الألماني وتموينه، وبذلك تمكنوا من تعطيل القيام بھجمات كبيرة على الجبھة الشرقية. ففي معارك جبھة فولخوف ــ لينينغراد ونوفوغراد، دمر المقاومون في 60,000 موقع الخطوط الحدًيدية،، وفجروا 200 جسر مواصلات، وأخرجوا 133 قطار عسكري عن خطه، وكان المقاومون أحيانا ينتظمون بقوة فوج مشاة )كتيبة( ويقومون بعمليات مھمة خلف خطوط العدو، ويتجاوزون أحياناً الحدود السوفيتية، بالنسبة للجيش السوفيتي لم يكن التخريب والنسف والتفجير على أھميته، والمعارك والاشتباكات، بل تمثلت في تجذير التناقض الرئيسي وإعلان العداء )بين السلطة الوطنية السوفيتية، وبين سلطة الاحتلال الألماني وعملائھا( وكانت المقاومة تلعب دوراً استخبارياً مھماً في نقل المعلومات عن الجيش الألماني، وتنقلات قطعاته، المتقدمة، أو المنسحبة، ومواضعھا وعن المطارات والطائرات، والمستودعات، وعقد

المواصلات . )6(

وكانت من أھم التاكتيكات ھي القيام بالاشتباكات الصغيرة، وتجنب التمسك بجبھة محددة، والقيام بھجمات مفاجئة خاطفة على العدو، والانسحاب الفوري إلى أرض ذات تضاريس معقدة، وعرة لا تسھل للعدو ملاحقتھم، وكانوا يخرجون من معظم ھذه المعارك منتصرين، وبذلك ً كانوا أيضاً يسيطرون جزئياً على

أراض، يتجنب العدو التحرك فيھا بحرية، وسوف تسھل تحريرھا لاحقا.

وبسبب قوة حركات المقاومة وتأثيرھا قامت القيادة العسكرية الألمانية بتأسيس ما أطلقت عليه ” قوات مكافحة العصابات”. وجھزتھا بالأسلحة الثقيلة، وبإجرءات بالغة القسوة، أبيدت قرى كاملة، وأبيد سكانھا، كلما بالغت القوات الألمانية في وحشيتھا، كانت الكراھية تتصاعد ضد الألمان، وتشتد إرادة المقاومة ضد

المحتلين والمتعاونيين معھم.

ـ فنلندة وكاريليا :

في بعض الأحيان حدث أن قاتلت حركة المقاومة بمجموعات قد تصل إلى 5000 مقاتل في ھذه المنطقة السوفيتية من فنلندة )كاريليا( ولم تكن قوتھم لتقل عن 1500 ، أو 2000 ُ مقاتل وكانت لھم سمة مميزة، أن عمل المقاومة لم يكن قد تأسس في الأراضي التي احتلھا العدو، بل أرسلت تلك المجاميع من الاتحاد

السوفيتي، وكان ميدان عملھا ھو في الجانب السوفيتي من الجبھة.

93

)بوستر شھير للمقاومة السوفيتية(

والعملية الوحيدة الكبيرة انتھت بھزيمة، عندما أبيد اللواء الأول للمقاومة في مطلع شھر آب / 1942 بالقرب من بحيرة زيسيارفي )Seesjärvi(. المقاومون وزعوا صحيفتھم الدعائية )الحقيقة( باللغة الفنلندية، وباللغة الروسية راية لينين )Leniens Flagge( وأحد أھم قادة المقاومة في فنلندة وكاريليا كان

يدعى يوري أندروبوف. )8(

94

في منطقة كاريليا الشرقية، ھاجم المقاومون الفنلنديون مستودعات الإمداد والبنى التحتية، لكن داخل الأراضي الفنلندية )أي داخل الحدود الجديدة لعام 1940( ولكن كًان ثلثي ھجماتھم ضد المدنيين، قتل فيھا 200 شخص، وجرح 50 آخرين، بينھم أطفال وشيوخ. وغالبا ما كان المدنيون يقتلون من المقاومين،

لكي لا يتركوا شھوداً على وحشيتھم على قيد الحياة.

وكمثال على ذلك في ھجوم المقاومة على مدينة )Lämsänkylä Kuusamo( ليمزنسكسيلا كوزامو بتاريخ 18/ تموز / 1943 ، إذ ھاجم المقاومون منزلاً وحيداً وقتلوا جميع من فيه وكانوا 7 مدنيين، بما فيھم الأطفال. أحدھم بعمر 3 سنوات، والثاني 6 شھور.

خصائص حرب المقاومة عمليات الأنتقام الألمانية ضد المقاومة

بالنسبة للقيادة الألمانية، كانت الحرب ضد الاتحاد السوفيتي ” حرباً أخرى ، حرب الرأي العام العالمي ” وبالنسبة لھم كان الجنود السوفيت عبارة عن برابرة، )نقل حرفي عن ھتلر( لذلك أعطت القيادة الألمانية، بإطلاق النار فوراً على المفوضين السياسيين )المسؤولين الحزبيين في القوات المسلحة السوفيتية( وبنا

على ھذا التوجيه كان يطلق النار فوراً حال اكتشافھم بين الأسرى.

كما كانت القيادة الألمانية تعتبر المقاومين ” عصابات” لذلك حال إلقاء القبض على أي منھم، لم تكن له أية حقوق، كالحماية أو الرعاية كالأسرى.

وعندما أصبحت وحدات المقاومة قوية، أسس الألمان لقتالھم وحدات خاصة بسلاح ثقيل، وبدأت حملة وحشية كانت تباد فيھا القرى بما في من سكانھا، سواء كانوا مقاومين أو مشكوك بولائھم للمقاومة.

ـ الخسائر والفعاليات :

وفقاً للمعطيات السوفيتية، قُتل بسبب ھجمات المقاومين 600,000 من جنود العدو، ونحو 50,000 في الأسر، و ُدمرت 1,100 طائرة،، و2,500 قطار. وقد أظھرت البحوث الجديدة، أن بيانات كھذه لا تصمد أمام فحوصات نقدية وأمام مراجعة للمصادر لھا. في دراسته حول حرب المقاومة في روسيا البيضاء توصل المؤرخ البولوني بوغدان موسيال )Bogdan Musial( بعد دراسات واسعة النطاق للمصادر توصل إلى نتيجة، أن بين 6000 و 7000 جندي ألماني قد قتل على أيدي المقاومين السوفيت، على الرغم من المعطيات الرسمية السوفيتية أن أكثر من 282,000 مقاوم )رجال ونساء( كانوا منخرطين في

النضال.

وتق ّر الدراسات أن المقاومين كانوا يمثلون خطراً أكيداً على التموين الألماني لقطعاتھم المتقدمة في الجبھة الشرقية. وعموماً فإن نتائج فعالياتھم العسكرية قد بولغ بھا كثيراً من قبل المؤرخين السوفيت لمرحلة الحرب وكتبوا عنھا الأساطير.

وكان نشاط المقاومة الرئيسي يرتكز ليس على النضال ضد المعتدين الألمان فحسب، بل بحرمانھم من الحصول على المواد الغذائية، ولكن ضحايا المقاومة على الأغلب كانوا من المدنيين الغير مشاركين بالمقاومة، والمقاومين أيضاً تسببوا بوقوع ضحايا بين المدنيين المشتبه لكونھم متعاونين مع العدو.

وبالإجمال لم يتمكن المقاومون البلاروسيون )روسيا البيضاء( أبداً، بحسب المؤرخ البولوني موزايل، أن يصبحوا قوة حربية حاسمة، ولتكون في قدرتھا أن تكون فعلاً ” الجبھة القانية ” في ظھر وخلف الجيش

95

الألماني. واستطراداً لم ينجحوا في منع الإمداد من ألمانيا لقواتھا التي تحارب في الجبھة الشرقية، أو لمحاصرتھا، أو إلحاق الضرر بقدراتھا القتالية. )9(

ـ العلاقة مع حركة المقاومة الأوكرانية:

قاتلت حركة المقاومة السوفيتية وحركة المقاومة الوطنية الأوكرانية غالباً مستقلتين عن بعضھما البعض، بل وأحياناً قاتلتا بعضھما. المواطنون المدنيون كانوا يعانون من الھجمات الليلية ومن عمليات الانتقام للمقاومة الأوكرانية ) على سبيل المثال, إغارات نھب، الاغتصاب، الابتزاز( بالضبط كما كان المحتلون الألمان يفعلون. بعض الناس صاروا بين الجبھات، فھربوا من خوفھم من كلا طرفي الحرب )الألمان

والمقاومة(، إلى الغابات واختبؤوا ھناك.

وأحياناً كانت تجري عمليات انتقامية من المقاومة الأوكرانية في القرى، التي يفترضون أنھا تتعاون مع الألمان.

هوامش الفصل الثالث

برونيسلاف فلاديسلافوفيتش كامينسكي ) Bronislaw Aladishlawowitsch Kaminski( ربما يستحق اعتباره من أشھر الجزارين في تاريخ البشرية، وأحد الأمثلة القذرة في الخيانة. روسي متعاون مع العدو، قتل عشرات الألوف من بني قومه إرضا ًء للألمان، وتطرفاً في العمالة والخيانة. من مواليد

1899، أعدم عام في تموز / 1944. الفوضويون )Anarchist(حركة ماركسية أسسھا ًالروسي باكونين انشقّت وك ّونت حركة خاصة بھا انتشرت في أرجاء كثيرة من العالم، وفي أوربا أيضا ھذه للأسف واحدة من المشكلات والمتاعب التي تعاني منھا المعارضة الوطنية، الخلاف فيما بيتھا يصل

ً
حد القتال بالسلاح. وھو أمر شائع تقريبا.

)Konzentrtationslager- KZ( سلسلة معتقلات سيئة الصيت في ألمانيا وبعض الدول القريبةً كبولونيا والنمسا وبلجيكيا، اعتقل فيھا المعارضين النظام النازي من شيوعيين وتقدميين، ولكن أيضا الغجر والشواذ، وكتّاب وأدباء تقدميين. ميجر جنرال)عميد( أندريه أنريفيتش فلاسوف، جنرال سوفيتي وقع في أسر الألمان في أوكرانيا 12/ تموز / 1942، ثم قبل أن يتعاون معھم، وقاد قوات كبيرة من المرتدين، وقع في الأسر في أوائل عام 1945، نُقل إلى الاتحاد السوفيتي، وأعدم شنقاً بعد محاكمة بتھمة الخيانة العظمى في 1/ آب / 1845. الوعي السياسي الذي يؤججه قتال المقاومة مھم جداً في كسب وعي الشعب، فأكثرية الشعب قد لا يدركون بعمق ما الذي يريده العدو، والبعض ينقل معارضته و عداءه للسلطة الوطنية على حساب النضال الوطني. والقتال يصعد من الوعي الوطني بين السلطة الوطنية السوفيتية، وبين سلطة الاحتلال الألماني وعملائھا. المقاومة يطلق عليھا البحث دائماً كلمة بارتيزان “Partisan” التي يمكن أن تفھم مقاتل المقاومة، أو مقاتل العصابات، أو الفدائي. ً يوري أندروبوف : مدير الاستخبارات السوفيتية لاحقا، ثم السكرتير العام للحزب الشيوعي السوفيتي حتى وفاته 1984. ً ً نرجح أن المؤرخ البولوني )Bogdan Musial( يحمل نًفَسا واضحا معاد للاتحاد السوفيتي، بالإضافة إلى أنه غير متخصص بحروب المقاومة، لسبب بسيط جدا: أن المقاومة الشعبية السوفيتية لم يكن دورھا ھزيمة الجيش الألماني، بل إعاقة وجوده وإزعاجه، وترسيخ الصلة بين القيادة السياسية السوفيتية، والشعب، ودور استخباري، وھو ما نجحت فيه المقاومة السوفيتية بدلالة النتائج النھائية .

96

الفصل الرابع : مشاركة النساء في المقاومة

زويا أناتوليفانا كوزموديميانسكايا

ترجمة : ضرغام الدباغ

في مطلع صباي وشبابي )بعمر 16 ــ 17( قرأت رواية ألكسندر فاديف الرائعة )زويا وشورا( وھي قصة فتاة سوفيتية شابة بعمر الزھور وشقيقھا شورا الجندي في الجيش السوفيتي، عندما احتل الغزاة الھتلريون بلادھا، انضمت إلى المقاومة السرية التي كانت تقاتل العدو خلف خطوط الجبھة )في المناطق المحتلة(، فناضلت وقاتلت أعداء بلادھا، ولما ألقي القبض عليھا، فعلوا فيھا كل شيء، إلا شرفھا الوطني فقاومت الغزاة والقيود بأيديھا، وحتى اللحظات الأخيرة الموثقة من حياتھا، كان الوطن ھو تاج الرأس. وشقيقھا

سقط في إحدى معارك التحرير. )1(

قرأت تلك الرواية بشغف شديد، وتفاعلت مع أحداثھا، وكانت من الروايات والأعمال الأدبية التي صاحبت ثقافتي السياسية، الوطنية والقومية وتأثرت بھا، وحاولت عبثاً وأنا في ألمانيا أن أعثر على الرواية لكي أعممھا على من يقرأ، ولابد من الاعتراف بأسف، أن الناس بدؤوا لا يقرؤون، لقد نجحت الرأسمالية بإفساد عقول الناس بتوافه التسلية وقضاء الساعات بدون جدوى… أمام التلفاز والفيديو والبرامج المسلية

التي في معظمھا سخيفة لا تثري العقل.

ص ّممت أن أجمع ما موجود من مصادر عن ھذه الشابة البطلة وأن أقدمھا باللغة العربية كمصدر للثقافة الوطنية … قصة فتاة اسمھا زويا … أعدمھا الغزاة ذات صباح شتائي، وألقوا بجثتھا على الثلوج والحبل برقبتھا لمدة 26 يوماً، وقد ظھر النصف العلوي من جسدھا الشريف … زويا صارت رمزاً مقدساً للمقاومة، وللشعب السوفيتي، ولشعوب أخرى تمر بمرحلة النضال الوطني …. زويا شعلة لا تخبو في

تاريخ بلادھا وشعبھا وفي تاريخ الشعوب المناضلة… كرمز للمقاومة الوطنية … المجد والخلود لكل شھيد يفتدي وطنه .. ضرغام الدباغ .

97

زويا أناتوليفانا كوزموديميانسكايا: )Soja Anatoljewna Kosmodemjanskaja(

الموسوعة الألمانية

ترجمة : ضرغام الدباغ

ولدت زويا أناتوليفانا كوزموديميانسكايا في 13 / أيلول ـ سبتمبر / 1923 في أوسينو غاي التابعة لتامبو، أعدمت في 29 / تشرين الثاني ــ نوفمبر / 1941 في بيتريشتشيفو التابعة لموسكو.، كانت مواطنة سوفيتية انضمت إلى المقاومة )الفدائيين( في الحرب العالمية الثانية، عندما تعرضت بلادھا )الاتحاد السوفيتي( للعدوان والاحتلال الألماني. وھي إحدى بطلات الاتحاد السوفيتي. ومنذ 1942 تحولت إلى

رمز من رموز المقاومة السوفيتية ضد الغزو الألماني.

ـ بدء العمل، الاعتقال، الإعدام :

انتمت زويا منذ عام 1938 إلى منظمة الشبيبة الشيوعية الكومسومول.. وفي نھاية شھر تشرين الأول ــ أكتوبر / 1941 تقدمت كطالبة ثانوية في موسكو، وتطوعت بإرادتھا للعمل في منظمة المقاومين )الفدائيين(.

قبل تطوع زويا، وجرى تعيينھا في قوات الفدائيين الرقم 9903، ھيئة أركان الجبھة الغربية، وكانت الواجبات الرئيسية لوحدتھا تتمثل التسلل خلف خطوط الجبھة، وتخريب المنشآت التي يتخذ منھا المحتل الألماني مقرات لإقامته.

في مطلع شھر تشرين الثاني ــ نوفمبر / 1941ً وبعد تدريب قصير، قامت لأول مرة باجتياز الخطوط الألمانية، وكانت مجموعتھا تتألف من 11 فدائيا تمكنت بنجاح من القيام بعملية في أنحاء شاشوفسكايا، وعادت المجموعة دون خسائر. وكانت العملية الثانية، مع زميليھا فاسيلي كلوبوف، وبوريس كريانوف الذي كان قائد المجموعة. وقامت المجموعة في ليلة 21 / تشرين الثاني ــ نوفمبر باجتياز الخطوط الألمانية، في أرجاء نيرو ـ فورمينسك. وكانت مھمة المجموعة ھي إضرام النار في مساكن داخل قرية بيتريشتشيفو بالقرب من فيريجا، التي يتخذ منھا المحتلون الألمان مقرات لھم، ووصلت زويا إلى الجزء الجنوبي من القرية، بموجب تقسيم المھمة بينھا وبين ًرفيقھا بوريس كريانوف. وقامت بتنفيذ الواجب

وأحرقت اسطبل خيول العدو، وخسر الألمان 20 حصانا.

بعد ذلك قام الألمان بعد ذلك بتنظيم الحراسات من بين سكان القرية، من أجل تفادي ھجمات مماثلة. وفي ليلة 27 / تشرين الثاني وخلال محاول للقيام بعملية بحرق مخزن الغلال، أحس بھا أحد حراس القرية وأسمع سيمون سيريدوف، الذي جلب الألمان وألقوا القبض عليھا، وكان زميلھا فاسيلي كلوبوكوف قد

ألقي القبض عليه، واعترف على زويا، فقد كان يعتقد أنه بذلك سينجو من الحكم بالموت.

كلوبوكوف بقي لدى الألمان كأسير حرب حتى عام 1945، وتم تحريره من قبل الجيش الأمريكي، الذين قاموا بدورھم بتسليمه للأتحاد السوفيتي في تموز ــ يوليو / 1945 الذين قاموا بإعدامه في نفس العام جزاء خيانته. أما مصير قائد المجموعة فقد ظل مجھولاً، ومن المحتمل أنه قد لاقى إعدامه شنقاً يوم 29 /

تشرين الثاني / 1941.

قام الألمان، منتسبو فرقة المشاة 197 بالتحقيق مع زويا، وتعذيبھا، ولكنھا صمدت ولم يحصلوا منھا على أية معلومات، عدا اسمھا الحركي )تانيا( التي ترتدي سلسلة بھذه الاسم في رقبتھا، وبإدانتھا بالقيام مرتين

98

بالحريق، حكم عليھا بالإعدام، وفي يوم 29 / تشرين الثاني ــ نوفمبر / 1941 وفي الساعة 10.30 جرى تنفيذ حكم الإعدام بزويا في ساحة القرية.

ومن أجل ردع الناس، تركت جثة زويا لفترة طويلة مرمية على الأرض، ولم تدفن إلا في أعياد الميلاد )ميلاد السيد المسيح في 24 / كانون الأول ـ ديسمبر( وحتى ذلك الوقت )26 يوم( ظلت الجثة على الأرض، والنصف العلوي من جسدھا عارياً في ساحة القرية، وجرى تدنيسھا من قبل السكارى.

ـ مراسم الدفن وتشريف البطولة :

في 22 / كانون الثاني ـ يناير / 1942 حرر الجيش الأحمر )السوفيتي( قرية بيتريشتشيفو من أيدي المحتلين الألمان، وبعد أيام حضر الصحفي السوفيتي بيوتر ليدوف إلى القرية. واستطاع من خلالً الفلاحين الشيوخ، أن يتعرف على إعدام زويا، وحتى ذلك الوقت لم يكن أھالي القرية يعلمون عنھا شيئا إلا ما أدلت به للمحققين أن اسمھا “تانيا”، وحتى الصحفي تحدث في مقالته الأولى في الصحيفة التي

نشرت في صحيفة برافدا يوم 27 / كانون الثاني ــ يناير / 1942، كتب عن” تانيا ” .

وعندما قرأ ستالين المقال، اھتم بالأمر، وفي 30 كانون الثاني ــ يناير تم إيصال جثة زويا إلى موسكو، وبعد فترة قليلة شقيقھا الذي تعرف على زويا من خلال صورتھا في الصحيفة واستطاع التعرف عليھا، و ُدفنت في مقابر نوفوديفيتش في موسكو.

في 16 / شباط ــ فبراير / 1942 صدر مرسوم بتكريم زويا كبطلة للاتحاد السوفيتي )وھو لقب شرفي رفيع( ووضعت صورھا في صحف الجبھة، ووجدت صورھا عند الجنود الألمان، تظھر لقطات تنفيذ الإعدام، وصورة جثتھا فوق الثلوج وحبل المشنقة في رقبتھا.

ـ وقفات في مسيرة زويا …

ــ عام 1943 وضع الن ّحات الروسي / السوفيتي ماتفاي مانبسير تمثال لھا، نال عليھا جائزة الدولة من الدرجة الأولى. ــ في سانت بطرسبيرغ وضعت تماثيل لھا، وفي عام 1944 ُسميت إحدى محطات مترو موسكو باسم زويا … ً ــ في عام 1944 أنتج المخرج ليو امستدام فلما باسم )زويا( حول حياتھا. ــ أطلق على أحد الكويكبات اسم زويا. ــ السيدة ليوبوف كتبت ذكرياتھا عن كل من ابنتھا زويا، وشقيقھا شورا )الذي قتل ھو الآخر كجندي في الحرب( وأطلق على كتابھا ” قصة زويا وشورا “. ــ في ألمانيا الديمقراطية أطلق اسمھا على مدرسة ثانوية في مدن عديدة برلين ودريسدن، وتورنغن، وأخرى في برلين، وأماكن أخرى. ــ أطلق اسم زويا على معسكر للفتيان الطلائع في منطقة الھارتس. ــ لواء الدبابات 22 في جيش ألمانيا الديمقراطية يحمل اسم زويا. ــ المنظمة الأساسية لمنظمة طلائع ارنست تيلمان التي تحمل اسم يوري غاغارين، مدرسة لتعليم الروسية تحمل اسم زويا. ****************************

99

)زويا أناتوليفانا كوزموديميانسكايا(

الكاتب : سيرغي تورتشينكو / Sergej Turtschenko ترجمة : ضرغام الدباغ

ـ الحقيقة حول زويا أناتوليفانا كوزموديميانسكايا :

كان للعمل النضالي الذي قامت به زويا كوزموديميانسكايا، وھي أول امرأة حازت على اللقب الرفيع ” بطلة الاتحاد السوفيتي ” خلال الحرب العظمى للدفاع عن الوطن )الحرب العالمية الثانية( ما تزال حتى وقتنا المعاصر تحظى بالكثير من الإشادة والتقدير. رغم محاولات الكثيرين من طمس التاريخ البطولي للاتحاد السوفيتي، وقد جرى عن تعمد إخفاء الكثير من الحقائق، وتزيف الأرقام ومحاولة طمس الحقائق،

وربما حتى المشانق التي ُعلّق عليھا الأبطال. 100

وزويا أناتوليفانا كوزموديميانسكايا ھي واحدة من الأبطال الذين يتعرض تاريخھم البطولي للتزييف والتسطيح والتجاھل، ومن خلالھم تاريخ الوطن الذي شيّدت عليه أول دولة اشتراكية في التاريخ.

ـ المھمة السرية :

” لا ينشأ الكذب على صفحة فارغة ” الحقيقة أن زويا كانت قد تطوعت عبر منظمات الشبيبة في موسكو، للذھاب إلى خلف خطوط العدو، لتأدية مھام قتالية وحزبية، وفي إحدى ھذه المھمات ألقي القبض عليھا في قرية بيترشتشويفو

زويا لم تكن فدائية، بل كانت جندية في الجيش الأحمر )السوفيتي( في اللواء الخاص الذي كان يقوده القائد الشھير كارلوفيتش شبروغيس. وفي حزيران 1941 شكل ھذا القائد وحدة خاصة أطلق عليھا 9903، مھمتھا القيام بمھمات خاصة خلف خطوط جيش العدو، وكان ھذا التشكيل قد تم تأسيسه من المتطوعين الشبان والشابات من منظمة شبيبة موسكو وأرجائھا. والقادة اختيروا من خ ّريجي الأكاديمية العسكرية

فرونزة.

خلال المعارك التي كانت تدور بالقرب من موسكو، كانت ھذه الوحدات وعددھا 50 وحدة تابعة للجبھة الغربية قد أعدت لواجبات الاستطلاع، وبالإجمال كان عددھا من أيلول 1941 وحتى شباط 1942

89 وحدة، ومن بينھا تلك الوحدات التي كانت مھامھا العمل خلف خطوط العدو. وقد أبادت خلال عملھا 3,500 من الضباط والجنود الألمان، وتصفية 36 خائن متعاون مع العدو، ودمروا 13 دبابة و14 مصفحة. في تشرين الأول ــ أكتوبر / 1941، تع ّرفت على زويا في مجموعة في مدرسة الاستطلاع، ولاحقاً ذھبنا معاً إلى وحدات المھمات الخاصة التي تعمل خلف خطوط العدو. في نوفمبر 1941 أصيبت

بجرح، وعنما عدت من المستوصف العسكري، علمت بالخبر المحزن باستشھاد زويا.

ولكن لماذا ھذا الصمت الطويل حول الموضوع، أن زويا كانت جندية في الجبھة الأمامية ضمن الجيش الأحمر ؟ توجھت بالسؤال إلى السيدة فيدولينا.

” لأن الوثائق المتعلقة بالمھمة القتالية، الأمر الصادر من أركان القيادة العليا رقم 0428 بتاريخ ً 17 / تشرين الثاني ــ نوفمبر / 1941 ، ولا سيما الوحدة التي كانت فيھا زويا، كانت وثائق سرية لاحقا صار بإمكاني الإطلاع عليھا بعد رفع السرية عنھا . الأمر الصادر من ستالين وبتوقيعه. فيما يلي ن ّصه ” يجب أن لا نمنح الجيش الألماني الفرصة والإمكانية أن يقيموا في القرى والبلدات، بل ينبغي أن يقذف بالمحتلين الألمان من كافة النقاط التي يحتلونھا إلى البرد في الحقول، اقذفوا بھم خارج البيوت والغرف الدافئة، وأرغموھم على البقاء في العراء الطلق تحت السماء. إن الأمر يشمل كافة النقاط التي خلف خطوط الجيش الألماني بمسافة عمق 40 ــ 60 كم، وتدميرھا وبمسافة عن خطوط العمليات الحربية بمسافة 20 ــ 30 كم

إلى يسار ويمين الطرق وإحراقھا.

بدأت طائرات سلاح الجو على الفور بتدمير المجمعات والقرى في مناطق العمليات والقتال، وبمدفعية الميدان والھاونات، وبواسطة وحدات الاستطلاع ورجال التزلج على الثلوج بواسطة زجاجات حارقة، والقنابل اليدوية. وخلال الانسحاب الذي أرغمت قواتنا عليه، كان على المواطنين السوفيت النزوح بدون

استثناء وتدمير كافة أماكنھم وقراھم وتدمير كل ما يمكن أن يستفيد منه العدو ويستخدمه.

واجبات كھذه قام بتنفيذھا في مناطق وأرجاء موسكو، وحدات كوحدات القائد شبروغيس، بما فيھم الجندية زويا كوزموديميانسكايا، وربما قيادة البلاد والقوات المسلحة لم تشأ أن تنشر المعلومات حول فعالياتھم، أن المقاتلين السوفيت في منطقة موسكو كانوا يحرقون القرى وما يصلح للسكن، وكانت ملفات غير

مرغوب بفتحھا، حتى جاءت الأوامر العليا بفتح وثائق كھذه أو ما يشابھھا.. 101

بالطبع أمر كھذا يلقي الضوء على غوامض معركة موسكو، ولكن حقيقة الحرب ھي قاسية جوھرياً، تفوق

تصوراتنا الحالية عنھا. وإنه شيء غير معروف كيف كانت ستمضي معركة موسكو، الأكثر دموية في

الحربالعالميةالثانية،لوتمكنالعدوالفاشيالعيشفيمقراتبيوتومقرات ُمدفّأةويملؤونجيوبھممن

إنتاج الكولخوزات )المزارع التعاونية(. لھذا السبب حاول الكثير من المقاتلين في مجموعة زويا أن

يحرقوا ويفجروا مثل ھذه البيوت والمقرات، وحيثما يتخذ المحتلون منھا مقرات وقيادات الأركان. وليس

المرء بحاجة ليؤكد، أن الصراع كان مسألة حياة أو موت، والوالجين في الصراع أمامھم حقيقتين اثنين :

الأولى :البقاء على قيد الحياة مھما كان الثمن، والثانية : خيار بطولي يتمثل بـ .. الاستعداد للتضحية

ً
بالنفس من أجل النصر. صراع ھذه الحقائق ھو ما حدث عام 1941، وھو يحدث اليوم أيضا. وعلى ضوء

ھذه القاعدة حدثت بطولة زويا.

ماذا حدث في قرية بيتريشتشيفو Petrischtschewo؟

في ليلة 21 / 22 تشرين الثاني / 1941 عبرت زويا خط الجبھة ومعھا مجموعتھا الخاصة، ومجموعة الاستطلاع المؤلفة من 10 أفراد. وصادفت المجموعة داخل الأراضي المحتلة، في عمق الغابة، مجموعة معادية، قتل أحدھم، وھرب الآخر عائداً من الخوف، ثلاثة فقط، قائد المجموع بوريس كانيانوف، وزويا كوززموديميانسكايا والًمنظم الشيوعي الطالب في مدرسة الاستطلاع فاسيلي كلوبوف واصلوا مسيرھم

في طريقھم المحدد سلفا.

في ليلة 27 / 28 تشرين الثاني / 1941، وصلوا ً إلى قرية بيتشتشيفو حيث كانت مھمتھم تدمير أھداف عسكرية، من بينھا اسطبل للخيول كانت تضم أيضا قاعدة للإرسال اللاسلكي، وتدمير معدات للاستطلاع.

الأكبر سناً بينھم كان بوريس كراينكوف، عرض عليھم المھمة بوضوح، على زويا أن تتجه إلى القسم الجنوبي من القرية، وبما تحمله من قناني حارقة )قنابل مولوتوف( وتقوم بحرق ما تصادفه من بيوت يتخذ منھا ضباط العدو وجنوده مقرات لھم. وأن يتجه بوريس كراينكوف إلى وسط القرية حيث يتواجد مقر عسكري ألماني، أما رفيقھم الثالث فاسيلي كلوبوف فعليه أن يتجه إلى شمال القرية. نفذت زويا مھمتھا بنجاح، حيث أحرقت منزلين كان يتخذ منھا ضباط وجنود الاحتلال الألمان مقرات لھم، كما تمكنت من إحراق سيارة للعدو. ولكنھا وفي طريق عودتھا إلى الغابة، وحينما ابتعدت عن موقع العملية، لاحظت وجود شخص من أھالي المنطقة واسمه سفيردوف، الذي نادى واستدعى جنود العدو الذين أسرعوا وًألقوا القبض عليھا. وكمكافأة لسفيردوف، دعاه الجنود الألمان لاحتساء كأس من الفودكا. كما أخبر لاحقا بعد

تحرير القرية سكان القرية.

تعرضت زويا لتحقيق طويل وشرس وتعرضت للتعذيب، ولكنھا لم تدلي بأية معلومات، لا عن وحدتھا، موقع الوحدة، ولا عن طبيعة المھام التي تقوم بھا الوحدة. وبعد وقت قصير تم إلقاء القبض على فاسيلي كلوبوف أيضاً، الذي أدلى لشدة خوفه باعترافات كاملة عن كل شيء يعرفه، أما رفيقھم الثالث بوريس

كريانوف، فقد تمكن من الوصول إلى الغابة، والإفلات.

ـ الخائن :

ونتيجة لذلك فقد اعتبر كلوبوف كجاسوس من الفاشية، وبرواية “أسطورية” أنه تمكن من الھرب والعودة إلى معسكر الانطلاق، ولكنھم ھناك لم يصدقوا رواياته، وخلال التحقيق أدلى كلوبوف بمعلومات عن بطولة زويا :

مقتبسات من محضر التحقيق بتاريخ 11، 12 / آذار ــ مارس / 1942 سؤال : أوضح لنا الظروف التي اعتقلت فيھا ؟

102

جواب : عندما وصلت إلى البيت المحدد لي، أخرجت القنينة الحارقة وأشعلتھا وقذفت بھا، ولكنھا لم تشتعل وھنا رأيت بالقرب مني اثننن من الحراس الألمان وشعرت بالخوف وبدأت بالركض باتجاه الغابة التي تبعد 300 عن القرية، وعندما وصلت الغابة قذف اثنان من الجنود الألمان بنفسيھما علي، وانتزعا

مني المسدس، والطلقات، وحقيبة فيھا ًخمسة قناني حارقة، وغداء الطوارئ، وكذلك لتر من الفودكا. )يتناول الروس الفودكا في الشتاء طلبا للدفء أكثر من شيء آخر / المترجم(

سؤال : ما ھي الإفادة التي أدليت بھا للضابط الألماني ؟ جواب : عندما حولوني للضابط، كنت خائفاً، وأخبرته بأننا ثلاثة أفراد في العمليةـ وقلت الأسماء بوريس كريانوف وزويا كوزموديميانسكايا، والضابط أصدر أمراً للجنود باللغة الألمانية، فذھبوا ًبسرعة خارج البيت، وعادوا بعد بضعة دقائق ومعھم زويا كوزموديميانسكايا معھم، ولا أعلم شيئا عن بوريس كريانكوف، فيما إذا كانوا قد اعتقلوه ھو الآخر أم لا.

سؤال : ھل كنت حاضراً حين استجواب زويا كوزموديميانسكايا . جواب : نعم، كنت حاضراً، سألھا الضابط كيف أشعلت النيران في القرية، فأجابت بأنھا لم تحرق القرية. بعد ذلك بدأ الضابط بضربھا وطلب منھا الاعتراف، ولكنھا انكرت كل شيء، وللإجابة خلال وجودھا اعترف ُت للضابط أن زويا كانت قد جاءت معي للقرية لتنفيذ الواجب، وكان واجبھا الجزء الجنوبي من القرية، وھي قامت بإحراق البيوت. وحتى بعد ذلك أجابت زويا بالنفي على سؤال الضابط. وعندما لاحظوا أنھا مصرة على الإنكار والصمت، قام بعض الضباط بخلع ملابسھا وقاموا بضربھا، لكي يرغموھا على الإفادة. ساعتين أو ثلاث يضربونھا بعصي مطاطية، ولكن زويا أجابت الضباط ” اقتلوني، إنني سوف لن أقول لكم شيئاً ” بعدھا جرى تعذيبھا. بعدھا لم أرھا مرة أخرى.

من إفادة سميرنوفا بتاريخ 12 / أيار ــ مايو / 1942

” في اليوم التالي، بعد الحريق، كنت عند قريبتي، وھنا جاءت المواطنة سولينا إلي وقالت ” لنمضي، سوف أريك من قام بإحراقك. وبعد أن قالت ھذه الكلمات نھضنا سوية إلى منزل كوليكوف حيث كان مقر إقامة القيادة الألمانية، وكانت ھناك حراسة من الجنود الألمان، فبدأنا أنا وسولينا بشتمھم وعدا الشتائم، رفعت قبضتي )علامة غضب واحتجاج / المترجم( مرتين، وسولينا قامت بضربھا بيدھا. ولم تسمح لنا فالنتينا كوليك بأكثر من ذلك، ليكملوا التحقيق مع الفدائيين، وقذفوا بنا خارج البيت. وخلال إعدام زويا كوزموديميانسكايا ، عندما جاء بھا الألمان إلى المشنقة، أخذت بيدي عصا خشبية، وذھبت إلى الفتاة، وضربتھا أمام أنظار كافة الحضور على رجلھا، في تلك اللحظة وعندما كانت الفدائية تحت المشنقة، لم

أعد أذكر بعد ما قلته “. )ترى ماذا كانت مشاعر ھذه الفتاة الشابة التي تقدم حياتھا/ ومثل ھذه المخلوقة الھمجية تھينھا وتضربھا … المترجم(

ـ الإعدام : عندما أخرجوھا من البناية للساحة تقول كوليكا ” علقت برقبتھا لوحة كتب عليھا ” مشعلة حرائق ” باللغتين الروسية والألمانية، وقادوھا قابضين عليھا من ذراعيھا إلى المشنقة، لأنھا وبسبب التعذيب الذي نالته، لم يكن بوسعھا السير لوحدھا، وعندما صعدت إلى المشنقة بدأ العديد من الألمان وسكان القريبة بتصويرھا.

103

وھنا ھتفت زويا ” أيھا المواطنون، قفوا .. لا تذھبوا .. لا تنظروا، على المرء أن يساعد الفقراء وأن يناضل، إن موتي ھو في سبيل الوطن ھي خاتمة حياتي” . ثم قالت ” أيھا الرفاق، إن النصر سيكون لنا، أيھا الجنود الألمان، قبل أن يكون متأخراً، سلموا أنفسكم للأسر. الاتحاد السوفيتي لا يمكن قھره ” ھذا ما

قالته في تلك اللحظة وتم تصوير ھذه المشاھد.

ثم أنھم كانوا قد وضعوا بعض الصناديق، وصعدت إلى المشنقة دون أن يصدر إليھا الأمر، ونستغرب من أين جاءت لھا تلك القوة، صعدت لوحدھا على الصناديق، وجاء ألمانيً لكي يزيح من تحت قدمھا، في ھذه اللحظة ھتفت ” كم شخص ھنا ستشنقون منا لن تستطيعوا قتلنا جميعا … نحن 170 مليون، ولكن رفاقنا سوف يثأرون لي ويحاسبوكم، ثم قالت وحبل المشنقة في رقبتھا، وفي تلك اللحظة أرادت أن تقول شيئاً، ولكن جندي ألماني أزاح الصندوق من تحت قدميھا، و ُشنقت. وكانت تحاول بحركات عشوائية أن تصل

بيدھا إلى الحبل، ولكن جندي ألماني، كان يضربھا على يدھا.، بعدھا ھدأ جسدھا.

ً
ولشھر كامل )26 يوما( ظلت جثة الفتاة مرمية على الأرض وسط قرية بيتريشتيشيفو . ولم يسمح الألمان

بدفنھا إلا يوم 1 / كانون الثاني ــ يناير / 1942. )ھنا أيضاً المعطيات والمعلومات فيھا تفاوت وإن كان بسيطاً / المترجم(

ـ كل شيء من تلقاء نفسه : في مساء كانون الثاني ــ يناير / 1942 وخلال معركة موشياسك، جاء بعض الصحفيين وشاھدوا بعض الناس من سكان القرية وكانت النار تشتعل ببعض الأكواخ في المنطقة، وأخذ مراسل صحيفة البرافدا بيوتر ليدوف يتجاذب الحديث مع مزارع مسن، الذي أخبره، أن الاحتلال فوجئ في قرية بيتريشتشيفو أثناء إعدام الفتاة المسكوفية زويا ” بأنھا عندما كانوا يھمون بشنقھا، ألقت كلمة.. ھددتھم فيھا جميعاً …”.

وحكاية ھذا العجوز ھزت صحفي البرافدا بحيث أنه في ذات الليلة قصد قرية بيتريشتشيفو، ولم يھدأ الصحفي حتى تحدث مع جميع سكان القرية، وسماع كافة التفاصيل عن إعدام البطلة جان دارك روسيا، ھكذا أطلق عليھا واعتبرھا فدائية. وسرعان ما عاد بعدھا ومعه العامل في قسم التصوير في صحيفة

البرافدا، وجرى فتح القبر، و ُص ِّورت الفدائية. 104

والاسم الحقيقي للفتاة التي شنقت، قررته اللجنة التي شكلت في موسكو مطلع شباط ــ فبراير / 1942 في لجنة الشبيبة، وفي ھذا الملف الذي د ّون بتاريخ 4 / شباط ثبت ما يلي: أن مواطني قرية بيتروتشيتشيفو )فيما يلي أسماؤھم( الذين قدموا الصور الفوتوغرافية إلى أركان الجبھة الغربية تؤكد أن، الفتاة التي شنقت ھي المنظمة في الشبيبة )الكومسمول( زويا كوزموديميانسكايا . أن اللجنة تأكدت أن جثة الفتاة المدفونة ھي زويا كوزموديميانسكايا، وتأكدت مرة أخرى أن الفتاة المعدومة ھي الرفيقة زويا كوزموديميانسكايا.

في 5 / شباط ــ فبراير / 1942 وجھت اللجنة رسالة إلى اللجنة المحلية للكومسمول / موسكو، اقتراحاً بمنح زويا كوزموديميانسكايا لقب ” بطلة الاتحاد السوفيتي “. وفي 16 / شباط ــ فبراير / 1942 صدر قرار رئاسة مجلس السوفيت الأعلى. وبھذا تصبح الجندية في الجيش الأحمر )الجيش السوفيتي( زويا كوزموديميانسكايا أول امرأة تنال ھذا اللقب في الحرب الوطنية العظمى، تكرمت بھا مع النجمة الحمراء

” بطلة الاتحاد السوفيتي “.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ملحق :

تمكنت المخابرات السوفيتية، أن تتأكد، أين ھم عصابة الجلادين الفاشست، الذين قتلوا زويا كوزموديميانسكايا. بعد ھذا بقليل كانت جميع عناصر السرية 332، مع قائدھا الملازم الأول رودرر، قد أبيدت بكاملھا على يد الجيش السوفيتي في المعارك بالقرب من سمولنسك. في رماد المعارك وجدت في جثة المصور الھاوي الذي كان في الوحدة المذكورة، وجدت خمسة صور للدقائق الأخيرة من حياة البطلة زويا كوزموديميانسكايا، طُبعت و ُوزعت على كل الجبھات قي 3 / تسرين الأول ـ أكتوبر / 1943

والصحف الرئيسية، مما أدى إلى اشتعال غضب جديد للشعب ضد المحتلين الفاشست.

هوامش الفصل الثالث

1. في المتحف الحربي في موسكو، يشاھد الزائر، تفاصيل كثيرة عن نضال المقاومة السوفيتية التي خاضھا الشعب دفاعاً عن الوطن، واجترحوا المآثر العظيمة، وقاموا بأعمال نضالية / قتالية مھمة، والمتحف يضم مصغرات عن مقرات المقاومة، وعن وسائل أتصالھم، وأسلحتھم، وصور قادة المقاومة

وشھدائھا.

105

المقاومة التشيكوسلوفاكية

1939 ــ 1945

ترجمة : ضرغام الدباغ برلين 2019

106

العنوان الأصلي : المقاومة التشيكوسلوفاكية : 1939 ــ 1945 : Tschechoslowakischer Widerstand 1939–1945 المصدر : الموسوعة الألمانية على الإنترنيت ترجمة : د. ضرغام الدباغ

صورة الغلاف : نصب لأحد ضحايا الفاشية من أبطال المقاومة

Dr. Dergham Al Dabak :
Tel: 0049 – 30 – 66 302 184 / E-Mail: drdurgham@yahoo.de

107

المراسلات :

إهداء

إلى كل من يأبى أن يشاھد العدو يتبختر على أرض وطنه فينھض ويقاتل بما يتيسر بيده
شعاره
الموت أو الوطن

108

المحتويات ملاحظات أولية. المقاومة الشيوعية. المقاومة في المحمية : بوھيميا ومورافيا. حركة المقاومة. انتفاضة براغ. انتفاضة سلوفاكيا. فعاليات المعارضة 1939 ـ 1944.

الانتفاضة الوطنية السلوفاكية. الانتفاضة في السوديت. عمليات من الجو. 10. أيقونة المقاومة : يوليوس فوجيك.

109

المقدمة

جيكوسلوفاكيا …البلد الجميل الراقي في كل شيء، ولكنه من البلدان التي ُكتب عليھا أن تبقى ھدفاً مغرياً للمتآمرين، شعر راقي مثقف، غير مشاكس لا أطماع لديه في أراضي أحد، ولا أھداف سرية ولا يبيت النوايا السوداء.

كل شيء في تشيكوسلوفاكيا رائع/ فھم يصنعون أفضل الأسلحة، فاسم البندقية المشھورة برنو منھا، واسم ل39 طائرة التدريب المشھورة منھا، ومدرعة الطوباز ناقلة الجنود المدرعة، والمسدس غراندزيغر، وھم يصنعون أشھر بيرة في العالم والشاحنة المطلوبة عالمياً باترا، وإذا سنحت لك الفرصة أن تفطر صباحاً بإحدى مطاعم براغ فسيقدمون لك أشھى خبز، ومعامل سكودا عريقة في أوربا لصناعة السيارات ھي

تشيكية، وھم يصنعون أجمل وأنفس أنواع الكريستال والزجاج في العالم لا ينافسھم فيھا أحد.

براغ ھي وطن الكاتب المبھر فرانز كافكا، وبلد الصحفي العالمي يوليوس فوجيك، ويوزع اتحاد الصحفيين العالميين جائزة فوجيك السنوية، نھر فالتافا الجميل الذي يخترقھا وھناك جسر تشالرز الذي شيّد في القرن الرابع عشر بُني بالحجارة وبياض البيض بدل الإسمنت، فيھا جامعات راقية، مسارح،

ودور موسيقى، ومتاحف.

)الصورة: لوحة رسمھا الألماني / الألزاسي فرانز زاندمان نھر فالتافا وجسر تشارلز( كل شيء جميل في براغ، ويوم تغادرھا تفكر متى تعود إليھا، ولكن حظ ھذا البلد الجميل الوديع أن يكون في مرمى نيران جيرانه، ألمانيا تريد منه الكثير، وكذلك بولونيا، والنمسا، وھنغاريا، ولم يستقر ھذا البلد

إلا في ظل الاشتراكية، وعندما ذھب النظام الاشتراكي، تمزق ھذا البلد إلى دولتين، وربما القادم أسوأ. 110

تشيكوسلوفاكيا تتألف من قوميتين رئيسيتين: التشيك، وبعض التشيك يود أن يرتبط بأصله بالألمان، والسلوفاك الذين من الأعراق السلافية، وھناك قضية أثيرت في الحرب العالمية الأولى عندما تأسست دولة تشيكوسلوفاكيا للمرة الأولى، اقتطع الحلفاء المنتصرون قطعة من جنوب شرق ألمانيا واسمھا ” أرض السوديت “)Sudetenland( وضموھا لتشيكوسلوفاكيا، التي اعتبرت أراضي بوھيميا ومورافيا،

ضمت إليھا سلوفاكيا، فتأسست ھذه الدولة التي سوف لن يطول عمرھا ليبلغ القرن.

الحزب النازي بزعامة قائده ھتلر بلغ الحكم بالانتخابات، وبدأ يخطط لاستعادة ما فقدته ألمانيا، ولينال

شأنه شأن الدول الاستعمارية الكبرى ما يستحقه كدولة عظمى، وأول ما تطلع إليه ھو ضم النمسا لألمانيا

ًًً
)وھو شخصيا كان نمساويا( الخطوة الثانية كانت أرض السوديت الألمانية، استطاع أن ينالھا سلما بعد أن

ضمن سكوت بريطانيا وفرنسا.

في أواسط السبعينات حصلت على تسجيل صوتي )كاسيت( لخطاب ھتلر في البرلمان الألماني وشاھدته لاحقاً في التلفاز. بعد أن ضمن ھتلر موافقة بريطانيا وفرنسا، ألقى خطبته النارية وفيھا قدم الإنذار النھائي لتشيكوسلوفاكيا، ولا زلت أذكر حرفياً فقرات من ھذا الخطاب/ الإنذار النھائي )Ultimatum( )حسب التعبير القانوني/الدبلوماسي وباللغات اللاتينية. ھتلر يرعد بصوته” حتى الأول من سبتمبر )أيلول( .. إما السوديت حرة أو ……… )يسكت ھتلر، ولكن الصفوف الأولى في البرلمان كانوا من قادة الجيش ماريشالات وجنرلات ينھضون ويھتفون بصوت واحد( … حرب … يكرر ھتلر … أو … يكرر الضباط … حرب، وھنا يقول ھتلر بصوت ناعم … يا سيد بينش عليك أن تختار”. وبينش الذي كان رئيس جمھورية تشيكوسلوفاكيا دكتور في الفلسفة والقانون وسياسي محنك، الذي ما أن سمع الإنذار فھم مجريات تفاصيل الحفل المقبل، فأعلن قبوله الإنذار، وذھبت السوديت، وبعدھا بوھيميا ومورافيا على أساس أنھا كانت تابعة للنمسا قبل الحرب العالمية الأولى، فابتلعتھا معدة ھتلر، وھكذا ضاعت

تشيكوسلوفاكيا وتفرقت أيدي سبأ ..)1(

لذلك فالقارئ لھذا الكتاب، سيجد أن المقاومة التشيكوسلوفاكية لم تنھض كالمقاومة الفرنسية، أو اليونانية، أو النرويجية أو سواھا، ذلك لأن لكل بلد ظروفه الخاصة به نابعة من عناصر وعوامل عديدة، ذاتية وموضوعية، داخلية وخارجية، سياسية واقتصادية وثقافية وتشكيلات وتركيبات تاريخية، وھذا الطابع الخاص منح المقاومة التشيكية أبعادھا، كان لھا طابعھا النضالي المسلح، لكنھا كانت سياسية / احتجاجية أكثر مما كانت مسلحة، وحربية، الشعب بصورة عامة رفض الاحتلال الألماني النازي، وقدم التضحيات بسخاء. ولكن الشعب يستحق بذكائه وعمله الدؤوب أكثر مما يناله في الواقع، الأطماع الدولية، ولعبة

التوازنات ھم أولى ضحاياھا .

ھوامش ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1. ) نص الإنذار باللغة الألمانية : bis zum erstens September entwieder Sudetenland ist Frei …. oder … oder …. Herr Benes Sie müssen wehlen (

اللوحة : فرانز زاندمان : )1840 — Franz Xaver Sandmann( براغ .. نھر فالتافا وجسر تشارلز

111

)الخارطة: محمية بوھيميا ومورافيا : الأخضر الغامق على اليسار مقاطعة بوھيميا، والأخضر الفاتح على اليمين مقاطعة مورافيا(

المقاومة التشيكية 1939 ــ 1945

تمتد المقاومة التشيكية ضد سياسة التوسع الألمانية على خلقية أحداث أعوام 1938 ــ 1939، التي حدثت بعد عشرون عاماً بعد تأسيس دولة تشيكوسلوفاكيا من التشيك والسلوفاك قي 18 / تشرين الثاني ــ أكتوبر / 1918، ولكنھا وجدت نفسھا بعد اتفاقية ميونيخ الرباعية في وضع يھدد سلامتھا وكيانھا، فوجدت نفسھا بحاجة للاعتماد على المعاھدات الدولية. ولكن ھذه الاتفاقيات كانت غير كافية، فالوفاق الصغير مع رومانيا ويوغسلافيا، لم يعد يفي بالغرض في حالة ھجوم من ألمانيا، كاتفاقية التحالف والصداقة مع فرنسا عام 1929، ففرنسا اليوم لم تعد في وضع تتمكن فيه من مواجھة ألمانيا بمفردھا. وكانت ھناك اتفاقية مع الاتحاد السوفيتي، التي عقدت في 16 / أيار / 1935، ولكنھا سوف تدخل حيز التنفيذ، إلا إذا أوفت فرنساً بالتزاماتھا. ولم تكن ھناك اتفاقيات وتحالفات عسكرية تشيكية ــ بريطانية مباشرة، إلا بوصف بريطانيا

حليفاً وثيقاً لفرنسا وفق اتفاقية لوكارنو. )1(

وخلال خطط توسع الديكتاتور الألماني أدولف ھتلر، وقد أصبحت أكثر وضوحاً في أزمة السوديت )Sudetenland(، وأيضاً حزب السوديت الألماني وزعيمه كونراد ھينلاين، كان يص ّعد الضغط، حين قررت بريطانيا وفرنسا، اتباع سياسة التھدئة، باعتبارھا سياسة ملائمة للموقف. وفي 29/ أيلول/ 1938،

جرى توقيع اتفاقية ميونيخ التي بموجبھا ض ّمت أراضي السوديت لألمانيا. )2( 112

وبضغط من حكومتي بريطانيا وفرنسا في النھاية بتاريخ 30 / أيلول/ 1938، قبلت الحكومة التشيكوسلوفاكية، وأن لا داعي للإنذار والتعبئة التي كانت قد أعلنتھا، أعقب ذلك الاحتلال العسكري للجيش الألماني لمنطقة السوديت ابتدا ًء من 1 / تشرين الأول / 1938 وسط احتفالات سكان الإقليم الألمان، والبولونيون من سكان الإقليم تركوا ونزحوا إلى بولونيا، وھنغاريون ف ّروا إلى ھنغاريا. في 15 / آذار / 1939 أت ّم الجيش الألماني احتلاله لما تبقى من تشيكوسلوفاكيا، وبذلك جرى حل تشيكوسلوفاكيا كدولة، وأعلنت مولدافيا وبوھيميا كمحميات، ھي مناطق كانت تابعة سابقاً للنمسا وھنغاريا، وفي 14 /

آذار / 1939، ظھرت دولة سلوفاكيا المستقلة.

أولاً : ملاحظات أولية

وعلى النقيض من التحرك ضد الأسرة الملكية ھابسبورغ في إمبراطورية النمسا ــ المجر من أجل تأسيس دولتھم التشيكية الخاصة خلال الحرب العالمية الأولى، ذلك التحرك الذي يطلق عليه في اللغة والأدب السياسي التشيكي والسلوفاكي ” الانتفاضة الأولى ” وباللغة التشيكية )Prvni odboj(، والفرق بينھا وبين الانتفاضة التي حدثت بعد عام 1948، ضد النظام الشيوعي التي أطلق عليھا في الأدب التشيكي،

وسميت” الانتفاضة الثالثة ” )durhy adboj( . الانتفاضة ضد سياسة توسع الرايخ الھتلري، كان لھا تداعيتھا وقادت لأنشطة دبلوماسية تشيكية في الخارج، ففي لندن حيث كانت الحكومة التشيكوسلوفاكية في المنفى. ونضال المقاومة )Partisan( في الوطن ضد الجيش الألماني، من خلال الجيش التشيكوسلوفاكي في المھجر، في الجبھة الغربية، وكذلك في الجبھة الشرقية. والانتفاضة الثالثة في المناطق التي كانت في السابق تابعة لتشيكوسلوفاكيا. وقام الجيش الألماني بالمقابل إلى القيام بحملات انتقامية، ومجاز ضد السكان الأھليين. )3(

الرئيس التشيكي ادوارد بينش الذي وجد نفسه بعد أحداث آذار / 1939، )احتلال ما تبقى من تشيكوسلوفاكيا( مع بعض المساعدين، في الولايات المتحدة، حيث قام في البداية بتأسيس ما أطلق عليه ” المجلس المؤقت ” )Direktorrims( نقل في صيف / 1939 أعمالھا وأنشطتھا إلى باريس، ومن 17 / تشرينً الثاني حيث أسس ما أطلق عليه اسم ” اللجنة الوطنية التشيكوسلوفاكية ” التي اعترفت بھا فرنسا، ولاحقا بريطانيا، والولايات المتحدة كدولة. وحتى قبل سقوط واحتلال فرنسا، كانت اللجنة الوطنية التشيكوسلوفاكية قد انتقلت تدريجياً إلى لندن كمكاتب وأنشطة، وسرعان ما أطلقت من لندن استعدادھا

لتشكيل حكومة معترف بھا في لندن. )4(

وحكومة بينش اعترف بھا بتاريخ 21 / تموز / 1940 كحكومة مؤقتة، وفي 18 / تموز / 1941، اعترف بھا كحكومة تشيكوسلوفاكيا في المنفى. واعترف بھا من قبل الحلفاء، ومقرھا في لندن، ولھا نفس المكانة مثل حكومات أخرى، كھولندة والنرويج، واليونان، ساھمت إلى حد بعيد في الحفاظ على الكيان

التشيكوسلوفاكي حسب اتفاقية ميونيخ الرباعية )باستثناء الكاربات الأوكرانية(.

على الرغم من أن التسلسل الزمني، بالإضافة إلى طبيعة مقاومة النازية التي كانت تختلف في منطقة عن أخرى، كالمنطقة المحمية بوھيميا، ومورافيا، وسلوفاكيا، ولكن بوسع المرء أن يتحدث عن ” المقاومة التشيكوسلوفاكية “. وھذا يشمل الأدب والمؤلفات وكذلك المصادر الحكومية الحالية، ولم يكن المرء ليجد انفصالاً. والسبب في ذلك يكمن بصفة خاصة في حقوق القانون الدولي، الذي كان يعتبر المنطقتين في وحدة واحدة.، التي مثلت وحدة القسمين )تشيكيا ــ سلوفاكيا( والتواصل في دولة واحدة من عام 1913 وحتى عام 1993. ومثّل الرئيس بينش ھذه الوحدة دولياً وعرض ” نظرية استمرارية القانون ” التي

عرضھا بتاريخ 26 / حزيران / 1940 من إذاعة لندن. )5( 113

وكان السياسيون التشيكوسلوفاكيون مؤمنين بقوة القانون واستمراريته، وبشرعية نظامھم، وكانوا يطالبون ويناشدون باستمرار باستخدام كلمة “تشيكوسلوفاكيا”، ومصطلح حكومة تشيكوسلوفاكيا في المنفى” )Goverment of Czechoslovakia in Exile( ومصطلح ” الجيش التشيكي في المنفى” )Exile Army( وكذلك تشكل سرب طيران تابع للقوة الجوية التشيكية، سرب القاصفات رقم 311، )No, 311 Czechoslovakia Bomber Squardon(، وكانت الاتفاقية المعقودة مع الحكومة

البريطانية تنص عن اتفاقية مع دولة تشيكوسلوفاكيا.

ويعود تدوين تاريخ المقاومة خلال الحرب العالمية الثانية، يبدأھا المؤرخون عادة من آذار / 1939، وھذا يعني استكمال احتلال تشيكيا، وتأسيس كيانات محميات بوھيميا ومورافيا، وھو ما يعني بعبارة واقعية، نھاية دولة تشيكوسلوفاكيا ككيان، والزمن السابق لم يكن السبب ويبدو أن المؤرخين فاتھم الإشارة إلى أن

منظمات مقاومة كانت قد انتظمت، وحتى كانت ھناك مقاومة لا يشار إليھا في منطقة السوديت.

ثانياً : المقاومة الشيوعية

في الأدب التشيكي ھناك تمييز دقيق وجوھري بين المقاومة البرجوازية ذات التوجه الموالي للغرب، وبين المقاومة الشيوعية. بعبارة أخرى، المجاميع التي كان يقودھا أو يھيمن عليھا الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي، والخلفية ليست قائمة على تاريخ الحزب الشيوعي السلوفاكي في البلاد، بل بسبب العلاقات الواقعية لقيادات الحزب الشيوعي في أعقاب تأييدھم لاتفاقية عدم الاعتداء التي وقعھا النظام الھتلري النازي مع الاتحاد السوفيتي في 23 / آب / 1939، ومنذ ذلك الوقت وحتى صيف عام 1941، كان الحزب الشيوعي السلوفاكي وكذلك في كيان المحمية، بوھيميا ومورافيا، وكذلك يتخذ ذات المواقف التي يتخذھا الكومنترن )Komintren( التي كانت ترى في بريطانيا وفرنسا وحلفائھما ” العدو الأكبر ”

والتي كانت تجد في الأحداث ما قبل الحرب التشيكية رؤية أخرى لھا .)6(

وفي سلوفاكيا، بدا للعيان استعادة مرحلة ما قبل الحرب، وكان ھذا يعني استعادة وضع الدولة المتحدة على خلفية أن: الشيوعيين السلوفاكيين كانت لھم اليد الطولى في البلاد، بل ھم من رفع شعار ” سلوفاكيا السوفيتية “، وفكرة الانضمام للاتحاد السوفيتي )حسب نماذج الدول والكيانات التي كانت في البلطيق

صيف عام 1940(.

ولم يتغير الخط السياسي للكومنترن وقيادة الحزب السوفيتي إلا بعد أن قامت الجيوش الألمانية بمھاجمة وغزو الاتحاد السوفيتي بتاريخ 22 / حزيران / 1941، تغيرت بعدھا توجھات الشيوعيين التشيك والسلوفاك في النضال والمقاومة، وأصبحت الآن الأساس وفي مقدمة العملية الإعلامية والدعائية ضد ألمانيا الھتلرية، وكان ھدفًھا لوقت قريب الثورة الاشتراكية. وھكذا فإن التعاون والتنسيق بين الديمقراطيين والشيوعيين أصبح ممكنا، وكذلك التعاون بين الحكومة التشيكوسلوفاكية في المھجر )لندن(، مع قيادة

الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي في مھجرھا بموسكو قد تحسن.

وخلال الحرب، لم يكن الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي )KSC( يمثل سوى الشيوعيين التشيك، لأن الحزب الشيوعي السلوفاكي )KSS( كان قد أصبح منظمة مستقلة منذ عام 1939، ولھم حزبھم الخاص، الذي تأسس تحت اسم الحزب الشيوعي السلوفاكي )KSS(.

والحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي )KSC( بوصفه الحزب التشيكوسلوفاكي الوحيد الذي كان يعمل سراً )بصورة غير شرعية( على أراضي المحمية وتناوب على قيادتھا أربع قيادات، ومن أشھر شخصياته القيادية: يوليوس فوجيك، ويان تسيكا، وادوراد أوركس.

114

بعد عام 1948، تعرض دور الشيوعيين في نضال المقاومة ضد ألمانيا الھتلرية، للمبالغة في تقييمه في كتابات المؤرخين في الحقبة الشيوعية، وخاصة بعض الشخصيات كيوليوس فوجيك، باعتباره شخصية قامت بدور تاريخي يستحق التمجيد. )7(

ثالثاً : المقاومة في المحمية

المقاومة في المحميتين بوھيميا ومورافيا شھدت تأسيس عدة منظمات مقاومة، وبعضھا كانت فعالة حتى قبل تأسيس نظام المحمية، ومن بينھا المنظمة اليسارية المسماة ” لجنة نحن سنبقى أوفياء” ، التي انبثقت من منظمة )أكاديمية العمل(، ولجنة دعم الديمقراطية في إسبانيا، وكان لديھا أكثر من 2000 عضو في التشيك والسلوفاك قاتلوا في الألوية الأممية، وكذلك منظمة )PVVZ( الجمعية الاجتماعية، الاشتراكية الديمقراطية للنقابات والمثقفين اليساريين. في شھر أيار / 1938، اشترك بعض الذين كانوا قد شكلوا لجنة بذات الاسم والعنوان” لدعم الجمھورية ضد ھتلر ” تجمعوا وكانت لھم اتصالات غير محددة

الطابع فيما بينھم.

)الصورة: الكاتب المناضل يوليوس فوجيك(

وكذلك مجموعة ّ”المركزية السياسية )PU(”

التي كانت منظمة من قبل الرئيس بينش وحكومة لندن، وكانت المنظمة الأم للمقاومة، كانت من بين منظمات المقاومة. والرئيس بينش الذي غادر البلاد إلى الخارج بتاريخ 20 / تشرين الأول، أسس مجموعة من سياسيي الأحزاب الذين التقوا عدة مرات، مرتان منھما اللقاء في آذار / 1938، الذي منه انبثق لاحقاً في تموز / 1939 منظمة المقاومة ” المركزية السياسية ” واسمھا باللغة التشيكية )Polticke ustrdi( ومختصرھا كما أعلاه)PU( . ورافقت ذات الظروف في تشرين الثاني / 1938 مبادرة آموست ھايدريش من مجموعة المقاومة بارسيفال )Parsifal(.

ومن وجھة نظر أخرى، لابد ھنا أن نذكر الحزب الشيوعي: كان في 9 / تشرين الأول / 1938 قد علّق أعمال وأنشطة الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي في سلوفاكيا.، وفي 20 / تشرين الأول / 1938 في بوھيميا ومورافيا، وفي 27 / كانون الأول / 1938 تم حل الحزب وعمله. وفي غضون ذلك توجھت قيادات الحزب إلى موسكو)وأيضاً إلى لندن(، ودخل الحزب في تشيكوسلوفاكيا مرحلة النضال السري

)غير الشرعي(.

ولم تكن ھناك مقاومة قوية، إلا بعد أن قام الجيش الألماني بغزو البلاد. ومباشرة بعد الاحتلال، نھضت منظمات المقاومة، )Obrana naroda( الدفاع عن الشعب، التي سرعان ما أصبحت أكبر المنظمات، وكانت المنظمة تتألف من ضباط الجيش ووزارة الدفاع والجيش وضباط الأركان العامة، والاستخبارات

115

العسكرية التشيكوسلوفاكية، ھذه الإدارات التي تولت سلطة الاحتلال حلھا، ومثلت في حينھا كجيش سري، ومنظم عسكرياً، ذات ھيكلية عسكرية، لھا أھدافھا، وفي ھذه المنظمة كانت تعمل ضمنھا منظمة )الملوك الثلاثة( التي كانت قد تشكلت في مطلع عام 1940، واتفقت مع منظمات أخرى وشكلوا منظمة سقفية )جبھة قوى مقاومة( وأطلقوا عليھا ” القيادة العامة للمقاومة في الوطن” ومختصرھا )UVOD(،

التي و ّحدت مختلف منظمات المقاومة وتولت التنسيق بينھا.

)خارطة توضيحية البنفسجي ألمانيا والفاتح ھي أرض السوديت والبنفسجي الأفتح ھي المحمية بوھيميا ومورافيا والأصفر ھي سلوفاكيا، اقتطعت منھا ھنغاريا، حليفة ألمانيا(

إلى جانب ذلك، تأسيس منظمات أخرى، كمنظمة )مجلس الثلاثة ــ Rat tri( ومنظمة لواء الاستخبارات، ومنظمة مجلس قيادة ثورة الصقور، ومنظمة الحركة الوطنية الشبيبة العاملة، ومنظمات أخرى كان لھا توجه مناطقي. وفي أيلول / 1941 بعد أن تعرضت بعض المنظمات للضعف إثر حملات الاعتقال من سلطة الاحتلال، كان يجب تشكيل منظمة سقفية جامعة بدلاً عن منظمة )UVOD( تجمع كافة المنظمات، فتأسست “اللجنة المؤقتة للثورة الوطنية” . والمساعي تحقيق قد نجحت جزئياً، بسبب ما كان يحدث في براغ بعد أن استلم السلطة القائد الألماني المطلق الصلاحية راينھارد ھاينريش، وإعلانه الأحكام

العرفية.)8(

وبعد أن شنت ألمانيا الھتلرية الھجوم على الاتحاد السوفيتي في حزيران / 1941، انضم الحزب الشيوعي

ً
التشيكوسلوفاكي إلى المقاومة، ودخل الحزب مرحلة النضال السري، وبدأ يصدر جريدته الجديدة سرا,

ومنذ 1943 تم تأسيس منظمة مقاومة جديدة التي كانت من حيث برامجھا قريب لتصورات الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي، لا سيما مجموعة )الطليعة(. وفي مطلع 1945 وبعد مفاوضات عديدة، اتحدت بعض منظمات المقاومة، تم تشكيل المجلس الوطني التشيكي بالتعاون مع مجلس نقابات العمال، الذي

خطط لانتفاضة وطنية واشتركت في انتفاضة براغ.

وتضمنت أنشطة وفعاليات منظمات المقاومة الكثير من المجالات منھا: جمع المعلومات للحكومة في المھجر، التخريب، تنظيم الإضرابات، إصدار وتوزيع للصحف والمجلات السرية تشغيل قنوات الاتصالات و التراسل مع الخارج )سواء مع البلدان الغربية، أو لاحقاً مع الاتحاد السوفيتي، وكان يوجد من بين وسائط عديدة أخرى، جھاز الإرسال سبارطة 1 وسبارطة 2، وليبوشا( استقبال ودعم ما يرسل من الخارج بواسطة الجو، من الغرب أو من الاتحاد السوفيتي، دعم وحماية الملاحقين وعائلاتھم،

116

الاتصال مع المقاومين، ومع المنظمات التي تجتاز الحدود، والأعمال ذات الطابع النظري حول الاقتصاد وبحث اتجاھات العمل السياسي المستقبلي، في تشيكوسلوفاكيا الحرة المقبلة.

وفي الفترة من آذار / 1939، وحتى أيلول / 1941 فقط، كان ھناك 66 صحيفة ومجلة تصدر، ومنھا مثلاً: صحيفة الحزب الشيوعي رودي برافو )Rude Pravo( وكراسات دورية )Detektivromane( وھي روايات ولكنھا ذات مضمون مناھض للاحتلال.

وبالمقارنة مع مجموعات مقاومة معينة، بقيت المنظمات القديمة وإن كانت قد تضررت بالاعتقالات، ولكنھا تمكنت من مواصلة عملھا النظري والعملي. في الفترة 1939 حتى 1941 أشغلت منظمة )PVVZ( على إعداد وثيقة برنامج على أساس وثائق اليسار الديمقراطي الاشتراكي لعام 1933، ولم تكن تتناول المقاومة ولكنھا كانت تتطلع في نفس الوقت نحو مجتمع مستقبل السياسي والاجتماعي بعد

نھاية الحرب.

ھذا البرنامج نوقش أيضاً على صفحات الصحافة السرية. وقارنھا المؤرخ المعاصر فاسلاف فرابس )Vaclav Vrabec( بإيجابية مع الزمن اللاحق مع البرنامج الذي أقر بتأثير الحزب الشيوعي والمسمى كاشاور )Kaschauer( وفي ھذا الإطارلعبت المناقشات حول الألمان دوراً مھماً في دورھم في الاحتلال والقمع، وعمليات الإبعاد، حول المشاعر المعادية للألمان بين السكان، لا سيما بعد العمليات القمعية التي كانت تقوم بھا وحدات )SS( الألمانية )المجزرة في ليديسيا، وليزاكي( التي عكست للمواطنين حقيقة نظام

المحمية في بوھيميا ومورافيا )في وثيقة حملت عنوان ” الجريمة والعقاب( . )9(

كانت منظمات المقاومة في المحمية، تحتفظ بعلاقات وثيقة مع الحكومة التشيكوسلوفاكية في لندن. وبعد أن اعترفت بھا الحكومة البريطاني في 21/ تموز / 1940، قامت الحكومة بعدھا بوقت قصير بتعيين وزير دفاع وعينت الجنرال )قائد فرقة( سيرغي إنغر. وعينت رئيساً لما سمي بالقسم الثاني، وكان ذلك يعني مديرية الاستخبارات العسكرية، العقيد، )فيما بعد العميد( فرانتيش مورافيتس رئيساً لھا. وأصبح ھذا القسم يقوم بالاتصالات مع كافة منظمات المقاومة، وإيصال المعلومات، من المحمية إلى لندن وأوضاع البلاد والنظام، ومعنويات المواطنين، وعمليات التخريب، والأنشطة المماثلة. والأھم من كل ھذا، المعلومات عن تحرك القطعات وصناعات السلاح. وھذه المعلومات كانت تذھب إما بواسطة اللاسلكي، أو أشخاص يحملون البريد إلى العقيد مورافيتش، مدير ً مكتب الاستخبارات العسكرية، وھكذا تصل عمليا ليد رئيس الحكومة بينش، الذي كان بدوره يوصل المعلومات الھامة إلى الحلفاء، مع الامتنان لھا. )الصورة : الجنرال

الويس إلياس(

117

كان ھناك وقت لم تكن فيه علاقات متبادلة مع حكومة المحمية )تعمل برعاية الألمان(، وفي 27 / نيسان/ 1939 عندما عين الجنرال ألويس إلياس، بدأ بتنشيط اتصالاته مع منظمات المقاومة، لا بل كانت له وظيفة ھيكلية القيادة في )Obrada naroda( ومن خلالھا كان يتصل بمنظمات المقاومة، لا بل وحتى مع حكومة لندن حول الوضع في حكومة المحمية ومشكلاتھا مع الألمان. وبعد فترة قصيرة من وصول وكيل

الإمبراطورية الألمانية الجديد في المحمية الجنرال رينھارد ھايدريش تم اعتقاله ومن ثم إعدامه.

وطوال الزمن، كانت المقاومة التشيكية ملاحقة ومطاردة من قبل سلطات حكومة المحمية )في غالبيتھم من الضباط الألمان(، ولا سيما الغستابو / البوليس السري الألماني )Gestapo(. وقد حدثت عدة موجات من الاعتقالات ابتدأت بما أطلق عليھا عملية الشبكة، وعملية البرشت الأول، وسيما تلك الاعتقالات التي حدث في ليلة تغير السنة 1940/1939 ولا سيما ضد أعضاء منظمة )PVVZ(، ومنظمة )ON( ومنظمة )PU( وفي ربيع عام 1942 أصابت موجة اعتقالات منظمة )ON( وغيرھا، وفي عام 1944 منظمة )PU( وغيرھا. وأشد حملات الاعتقالات وأقواھا كانت فيما أطلق عليھا “عملية أنتروبيد” التي جرت في أعقاب اغتيال حاكم المحمية الجنرال رينھارد ھاينريش)Reihard Heydrich( نھاية أيار /

1942 وتواصلت الاعتقالات والتصفيات حتى خريف العام نفسه.

وكان معظم الذين أدينوا من المنتسبين من أعضاء حركات المقاومة التشيكوسلوفاكية حكموا بالإعدام في سجن بلوتسن زي )Plötzensee( في برلين، الذين أدين معظمھم أمام محاكم ألمانية، وكان مجموعھم 677 وبذلك كانوا أكبر ثاني مجموعة من جنسية واحدة حكم عليھم بالإعدام.

رابعاً : حركة المقاومة )المقاتلين( .

كما كانت حركة المقاومة المدنية، منقسمة على ذاتھا أساساً في توجه شيوعي )بمؤشر أنھا كانت تقاد من موسكو(، وحركات أخرى غير شيوعية، وھي حركات كانت ترتبط مع لندن. ولكن الصعوبات في التعاون والعمل المشترك كانت أيضاً بسبب الظروف الجغرافية، وكانت سلوفاكيا، وأيضاً المحميتان بوھيميا ومورافيا كانت أرا ٍض مستوية، والمساحات صغيرة وكثيفة بالسكان كانت سرعات ما تصطدم بھا

حركة المقاومة المسلحة.

والاستثناء كان في بعض المناطق الجبلية في سلوفاكيا، )مرتفعات تاترا العليا والسفلى (. في مناطق المحمية كانت ھناك بعض المناطق في مورافيا، التي اتخذت فيھا بعض منظمات المقاومة مقراتھا في النصف الثاني من عام 1942. ولكن في عام 1944 كانت المقاومة المسلحة قد توصلت إلى بناء وحدات

مقاتلة قوية.

وعدا المواطنين من أبناء البلاد، الذين كانوا مضطرين للاختفاء، كان ھناك جنود سوفيت ھاربين من أسر الألمان، كما كان ھناك مظليين مقاتلين، الذين أرسلوا من لندن أو موسكو إلى ھناك. المعطيات حول الأعداد الإجمالية للمقاومين المقاتلين ليست دقيقة، ربما بلغت في شھر نيسان / 1945 حوالي 14,000 الف مقاتل، منھم عدد كبير من السجناء الذين أطلق سراحھم،، والنازحين الروس، وأوكرانيين، وروس

بيض )بيلوروسيين(.

خامساً : انتفاضة براغ

118

في بداية عام 1945حدثت في بوھيميا ومورافيا )جيكيا( انتفاضات ضد سلطة الاحتلال الألمانية. كان مركزھا والأكثر معروفة في العاصمة براغ، وحدثت الكثير من الاشتباكات والمواجھات، في العديد من الأماكن. الانتفاضة ابتدأت بتارًيخ 1 / أيار / 1945، في مدينة بريروف )Prerov(، ولكنھا امتدت إلى37 مدينة و240 بلدة، وبراغ أيضا، وابتداء من 5 / أيار / 1945، ساھم في ھذه الانتفاضات حوالي 30,000 مقاوم/ مقاتل ًفي مدينة براغ ونحو 10,000 خارج براغ، من بينھم 14,000 مقاوم / مقاتل، كان قد تم تسليحھم جيدا بواسطة جيش التحرير الروسي، جيش الجنرال السوفيتي المنشق فلاسوف، بقوة تقدر بين عشرة إلى أربعة عشر رجلاً، بعد أن بدل ھؤلاء الجانب الذي يعملون له، عقب التغير في الموقف السياسي والعسكري، واندحار النازية ومن معھا من المتعاونين أمثال الجنرال فلاسوف، والخسائر ناھزت 2,300 قتيل من المقاومين، و3,700 من المدنيين في براغ، و8,000 شخص من خراج براغ.، وبتحرير براغ يوم 9/ أيار / 1945 انتھت الانتفاضة بلغت الانتفاضة إلى حدود ألمانيا، تواصلت الاشتباكات في بعض المناطق، ولا سيما في المناطق الحدودية مع ألمانيا، ولكن كل شيء انتھى يوم 15 / أيار / 1945.

)11( )10(

سادساً : الانتفاضة في سلوفاكيا، فعاليات المعارضة 1939/ 1944

في الدولة المستقلة شكلياً، والتابع واقعياً سلوفاكيا، منذ 1838 وحتى 1945 وكانت تدعى الدولة السلوفاكية، استغرق وقتاً طويلاً حتى ظھرت المقاومة والنضال، ضد انفصال تشيكوسلوفاكيا، إذ أن السكان، كانوا على خلاف الأوضاع في المحمية بوھيميا ومورافيا يجدون أنفسھم في حال أفضل، ولا

سيما الحزب الشيوعي السلوفاكي.

وبعد قيام النظام الاشتراكي في سلوفاكيا تمكنت أول مجاميع المقاومة كمجموعة أورسيني ليترش المؤسسة من السياسيين: جان أورسيني و جوزف ليترش، أو مجموعة فلورا التي تأسست في محيط السياسي فافرو شروبار، وآخرين أسسوا لاحقاً الحزب الديمقراطي.

وكانت حركة المقاومة الأكثر راديكالية في سلوفاكيا ھم الشيوعيين. الحزب الشيوعي السلوفاكي، الذي انبثق عن الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي خلال الحرب العالمية الثانية، وربما أكثر حركة سلوفاكية تعرضت للقمع والملاحقة في سلوفاكيا.

وقد تغير موقف الشيوعيين السلوفاكيين حيال استقلال سلوفاكيا عدة مرات، متأثراً بمواقف موسكو وتغير موقفھا السياسي. وبناء على ذلك فقد أيد الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي اعتراف الاتحاد السوفيتي بسلوفاكيا في أيلول / 1939 تقسيم تشيكوسلوفاكيا. بعد ذلك اتخذ الشيوعيون السلوفاك موقفاً معادياً للرئيس بينش، )Bends( بل وطالبوا بـ” سلوفاكيا السوفيتية “، وعندما اعترف الاتحاد السوفيتي بالحكومة

التشيكوسلوفاكية في المنفى )لندن(، قام الشيوعيون السلوفاك بتصحيح موقفھم حول وحدة تشيكوسلوفاكيا.

ومثّل المزارعون القوة التي تلي قوة الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي كقوة معارضة. وكان معظمھم من اللوثرين )بروتستانت( السلوفاك، الذين كانوا يشعرون بالتميز من نظام لوداكين، وكان المزارعون السلوفاك يحافظون على صلاتھم مع ميلان ھودزا في باريس وفي عام 1940 ھرب جان ليشنر، أحد الأعضاء القياديين في حركة المزارعين، إلى الغرب، وانضم لحركة بينش ومنظمة المھاجرين في لندن. وكانت علاقة منظمة المزارعين بحركة بينش في لندن تشوبھا المشاكل، وكانوا يعتقدون أن تمسك حكومة

المنفى بالسلطة أمر غير مقبول.

119

عام 1941 وعام 1942 لم يشھد إلا القليل من فعاليات المقاومة في سلوفاكيا. ولكن الوضع تغير مع مساھمة السلوفاكيين في الحرب ضد الاتحاد السوفيتي وضد الحلفاء الغربيين. والعلاقات من ألمانيا النازية بصفة عامة، وخاصة في الحرب ضد الاتحاد السوفيتي بنظر الكثير من السلوفاك سياسة غير شعبية،

لأنھم كانوا يعتبرون الروس والأوكرانيين كمواطنين بلدھم.

بعد الھزيمة الألمانية في ستالينغراد، كان ھناك تحولات كبيرة في للوحدات السلوفاكية، التي قررت إما ينضموا للجيش التشيكوسلوفاكي في الاتحاد السوفيتي، أو مع منظمات المقاومة الروسية أو الأوكرانية. في كانون الأول / 1943 اتفقت الكتلة البرجوازية )الفلاحين بدرجة أساسية( والشيوعيون في إطار ما أطلق عليه )اتفاقية عيد الميلاد( على إنشاء منظمة مقاومة باسم المجلس الوطني السلوفاكي. التي تولى قيادتھا ثلاثة شيوعيين: غوستاف ھوساك )لاحقاً رئيس دولة( و لايسلاف نوفوميسك، وكارول شميدكي،

وثلاثة من الكتلة البرجوازية وھم جان أورسني، وجوزف ليترش، وماتي جوسكو.

وحتى بعد إعادة التوجه لدى الشيوعيين، بعد ھجوم وغزو الجيش الألماني للاتحاد السوفيتي في حزيران / 1941)مر ذكر ذلك(، استغرقت فترة طويلة حتى اتحد كلا المعسكرين، البرجوازيين، والشيوعيين بحسب الوجھات السوفيتية، اتحدا ضد نظام تيسو الموالي للألمان)Tiso( وباشرا العمل المشترك. وعند دورة العام 1041 ــ 1942 أخفقت محاولة تشكيل مجلس وطني مركزي للثورة ) Uatredni narodne revolicni vybor(. وليس قبل كانون الأول / 1943 تمكن ممثلين عن كلا الفريقين من التفاھم،

والاتفاق على وثيقة ” اتفاقية عيد الميلاد ” التي مثلت الأساس لتأسيس المجلس الوطني التشيكوسلوفاكي.

سابعاً : المجلس الوطني التشيكوسلوفاكي

في سلوفاكيا كانت الاستعدادت تمضي قدماً من أجل التحضير لانتفاضة مسلحة على خطين اثنين: الخط الأول كان خط وزير الدفاع التشيكوسلوفاكي، فرديناند تشاتلوش والذي منذ عام 1944 عمل على بناء جيش سلوفاكي شرقي، واغتنم الجيش الأحمر )السوفيتي( الفرصة في الوقت المناسًب ليفتح له المجال

والطريق والإمكانيات للتحرك، وكان تشارتلوس يحيط رئيس الدولة جوزف تيسو علما بخططه المقبلة.

والخط الثاني: مثّله الاستعدادات التي كان رئيس ھيئة الأركان للقوات البرية جان جوليان يحضر لھا. وحسب ما كان كلا الخطين يعملان له، بالتنسيق مع الجيش السوفيتي، وبعد اتخاذ العديد من الإجراءات في إطارً التنسيق. ولكن موسكو لم تتفاعل مع الخطط والعروض، ورأت في فعاليات المقاومة المسلحة،

استفزازا للألمان لإفشالھا.

الانتفاضة التي ابتدأت يوم 29/ آب / 1944، كانت من المنتسبين للجيش، دون أدنى مساھمة من الشيوعيين، وقدرت في المرحة الأولى لھا، حجم المساحة 22.000 كم مربع، يسكنھا حوالي 1,7 مليون نسمة،، ولكنھا بدأت تتقلص بسرعة بسبب الضغط من الخصم، حتى بلغت في مطلع تشرين الأول / 1944 إلى حوالي 7,000 كم مربع، وحجم سكانھا 300,000 نسمة. الوحدات المسلحة للانتفاضة كانوا حوالي 60.000 رجل، بما فيھم الجيش السلوفاكي، ونحو 18,000 بولوني، وعناصر مقاومة متفرقة

فردياً، لا تنظيم لھم.

ثامناً : الانتفاضة في السوديت

120

المقاومة في الجنوب الألماني، الذي جرى ضمه إلى الدولة الألمانية في تشرين الثاني / 1939 كان فيھا العديد من منتسبي الحزب النازي، ولكن كان في المنطقة العديد من الشيوعيين ومن نقابات العمال السرية، مثل فالترو، وميرفالد، وقدموا الكثير من التضحيات. وإجمالاً كان ھناك 185 حركة مقاومة معروفة في

منطقة السوديت، وخسائرھم تجاوزت 1000 ممن أعدموا. وفي قوائم المختصين بھذا الموضوع.

ھذا الفصل من تاريخ منطقة السوديت الألمانية، غائب عن الحقائق، وغير معروف، ولم يجري البحث فيه إلا قليلاً.وكما يؤكد الباحث والكاتب من منطقة السوديت ليبولد غرونفالد, أكدھا المؤرخون في ألمانيا الديمقراطية، على الرغم من أن حكومة ألمانيا الديمقراطية، استفادت من الآلاف من مواطني السوديت الذين طُردوا من مناطقھم )بعد الحرب( قللت من أھمية المقاومة في السوديت، وبالتالي عن العقاب الجماعي الذي تعرض له سكان المنطقة. وبكتابة عن ھذا الموضوع ألّفت عام 2007 بحثاً من قبل الأكاديمية الحكومية التشيكية للعلوم في براغ بطلب من الحكومة التشيكية شكلت لجنة بحث ” الأبطال

المنسيون “. )12(

تاسعاً : عمليات من الج ّو

كاُنّ الإنزال الأول لھذه المجموعات الخاصة التي قذفت من الجو فوق أراضي المحمية، كان قد ُخطّط ونظم من حكومة المنفى في لندن، أطلق عليھا اسم ” عملية بينيامين ” في مساء يوم 16 /17 نيسان / 1941.

بعد وصول المبعوث الجديد من برلين حاكماً للمحمية )بوھيميا ومورافيا( رينھارد ھايدرش ) Reinhard Heidrich( إلى براغ في 27 / أيلول / 1941، اشتدت عمليات مطاردة وقع حركة المقاومة الجيكوسلوفاكية، ونتيجة لھذه الملاحقة المتواصلة تعرضت ھيكلية المقاومة إلى الضعف. وإضافة لذلك، فقد تعرضت المجموعة الأعم في حركات المقاومة )اوبرانا نارودا( للضعف لدرجة التفكك. وفي ظل ھذه الظروف قررت الحكومة التشيكوسلوفاكية في المنفى )لندن( تكثيف عمليات إرسال وإنزال القوات الخاصة إلى المحمية بھدف تعزيز العمل والقيام بعمليات تخريب كعملية ولفرام، التي كانت ذروتھا عملية أنتثروبايد من شھر كانون الأول وما بعدھا عمليھا اغتيال الجنرال الألماني ھايدريش في 27 / أيار /

1942 المثيرة للجدل التي ما تزال تناقش حتى يومنا ھذا.

والمجموعة التي جاءت من بريطانيا وقذفت من الجو فوق أراض المحمية كانت تضم 33 شخصاً، ومعھم نحو 91 شخص )القليل منھم في سلوفاكيا( كانت العملية قد خططت لھا وزارة الداخلية في لندن، وتم تنفيذھا بالتعاون مع القوات الخاصة )Speicial Operations Executive ( التي كانت زمن تنفيذ العملية، تمثل السرب الخاص رقم 138 في القوة الجوية الملكية البريطانية )No 138 duties ) (RAF Sqauardon( استخدمت في ھذه العملية،. والقوة الخاصة في ھذا الاستخدام ھي وحدة تشيكوسلوفاكية

)الوحدة التشيكية Czech Section MY( بالتنسيق مع حكومة المنفى في لندن.

وفي مرحلة الإعداد والتدريب لمجموعة الأشخاص الذين سينفذون العملية، ابتدأت منذ صيف عام 1941 بما أطلق عليھا ” المجموعة الخاصة D ” شارك فيھا من كان قد وضع نفسه تحت تصرف وزارة الدفاع التشيكوسلوفاكية في حكومة المنفى في لندن.

وكانت العمليات التي يخطط لھا من الاتحاد السوفيتي وتنفذ في المحمية كانت غالباً تتم بغير استعداد بشكل كاف. وكانت الدوائر )المراجع( السوفيتية لا تمتلك المعرفة الكافية بالوضع في المحمية، والتكتيكات التي تتبعھا القوات الألمانية. لذلك كانت العديد من العمليات تفشل قبل الشروع بھا، ويجري عمليات اعتقال،

121

وبعض ھؤلاء الذين يرسلون، كانوا يرسلون عبر الأراضي البولونية، ويقبض عليھم قبل دخولھم أراضي المحمية.

وكمؤشر على عدم كفاية الأجھزة الاستخبارية واستعداداته يمكن اعتبار عملية كاملر التي جرت في تشرين الأول / 1942 مثالاً لھا. ففي عملية افتراضية )مصطنعة( لقسم متخصص في الأمن الألماني )Gestapo( مختص بحوزته مفاتيح الشيفرة وبوسعھم تدبير أفخاخ لمنظمات المقاومة وإرسال العملاء ومنھم ” أميل كاملر” )قضية اشتھرت بھذا الاسم( الذي بعد ھبوطه بالمظلة ألقي القبض عليه )لأنه كان

ًً متابعا(، وتوفي لاحقا في إحدى معتقلات النازية )معتقل ماتھاوزن(.

بعض التحركات التي انطلقت من الاتحاد السوفيتي ونفذت في أراضي المحمية )بوھيميا / مورافيا(ً، الحقت الأضرار وقادت لخلاف بين حكومة المنفى في لندن، والاتحاد السوفيت، التي كانت تعتبر حليفا. والعمليات الأولى التي حدثت في صيف عام 1941، لا سيما تلك التي حدثت في منطقة آروش، التي جرت في ست رحلات جوية والتي نظمتھا الاستخبارات العسكرية السوفيتية )GRU(، وعملية نظمتھا وقادتھا البعثة التشيكوسلوفاكية في موسكو، وكذلك العملية التي أطلق عليھا )NKWD( ، التي كانت

تھدف ليس فقط إلى القيام بعمليات تخريب، وبعضھا فشلت.

الحكومة التشيكوسلوفاكية في المنفى أدركت ذلك )الاختراقات الأمنية(، من قبل منظمات المقاومة، وغيرت أسلوب عملھا تماماً، إذ أدركت أن جھاز استخباراتھا العامل على أرض المحمية مخترق من قبل جھاز استخبارات آخر. ووزارة الداخلية السوفيتية ووزيرھا بيريا لم يلتزموا بتعھداتھم بعدم تكرار ذلك.

وكانت النقطة الرئيسية في العمليات، في سلوفاكيا، في تقوية حركات المقاومة. بعض العمليات كانت ناجحة جداً، ومنظمات المقاومة الحاسمة منھا كانوا يحملون اسم العملية، كجماعة المقاومة يانوشيك، أو زيزاك، ولاحقاً ستحدث عمليات لھا صلاتھا بالانتفاضة الوطنية السلوفاكية.

122

)النصب التذكاري لضحايا عملية تصفية الجنرال الألماني ھايدريش(

عاشراً : أيقونة المقاومة ، يوليوس فوجيك

يوليوس فوجيك / Julius Fucik ) 1903 ـ1943 ( صورة الغلاف للكتاب باللغة الألمانية

” لقد عشنا من أجل الفرح، ومن أجل الفرح مضينا إلى دروب النضال، ومن أجلھا سوف نموت، لذلك سوف لن يكون الحزن مرتبطاً بأسمائنا قط “”

ھذه كلمات ليوليوس فوجيك، الذي ولد في: 23/ شباط / 1903 في براغ، عاصمة تشيكوسلوفكيا، أحب المسرح والأدب، وكتب للصحف، وناضل في صفوف الحزب الشيوعي في بلاده / مثقف سياسي وناقد فني، ساھم بريبورتاجاته التي كتبھا، مساھمة فعالة في تطوير الواقعية الاشتراكية في أعماله: عالم في نھاره ابتدأ التاريخ )صدر عام 1932( وأعماله الكاملة في 12 مجلد منھا: النقد الأدبي، ودراسات

أخرى، صدرت عام 1952.

في نيسان / أبريل / 1942، اعتقل من قبل الجستابو)البوليس السري الألماني(، وقد عذبه الفاشيون في )بانكراك( سجن براغ، ولكنه ظل صامداً، وتحت حراسة مشددة من جلاديه، نجح في كتابة تقارير من تحت المقصلة.

في يوم 8 / 9 / 1943 قتل يوليوس فوجيك في سجن بلوتسن بواسطة المقصلة، ولكن سرعان ما بلغتنا كلماته الوداعية:

أيھا البشر، لقد أحببتكم، كونوا يقظين … **********************

ــ يستحق مصطلح: كن عاقلاً، الملاحظة، فھو يساوي عبارة: كن خائناً ..إنني لست عاقلاً ــ يتساءلون ماذا يحصل إن تحدثت ..! كلا .. كلا .. لا تخافوا شيئاً، إنني سوف لن أتكلم، ثقوا بي ..

123

ــ النھاية حتماً ليست بعيدة، والأمر كله لا يعدو كونه حلماً، إنه حلم من أحلام الحمى المزعجة، الضربات تتوالى، ثم ر ّشوني بالماء .. استفاقة، ثم عودة إلى الضرب، ثم مرة أخرى وأخرى … تكلم .. تكلم … وأنا ما زلت لا أستطيع الموت، أمي، أبي، لما جعلتموني بھذه القوة ..؟

ــ ” نعم لدي بالتأكيد قلب ” قلت ذلك، وفجأة أحسست بالفخر، وبأنني ما زالت أمتلك القوة لأدافع عن قلبي.

ــ لقد عشت الحياة، ومن أجل جمال الحياة مارست النضال، لقد أحببتكم، وكنت سعيداً عندما تبادلت الحب معكم، وقد عانيت عندما لم تفھموني، أنتم الذين أسأت إليكم، سامحوني، للذين أسعدتھم، لا تنسوا أبداً: وصيتي لكم أن لا تربطوا بين اسمي والحزن، إنھا وصيتي لكم: يا والدي ويا والدتي وشقيقاتي، ولك غوستي، لكم رفاقي، لكم جميعاً الذين أحًببتكم، عندما اعتقدتم أن البكاء يغسل تراب الحزن. لقد عشت من أجل الفرح، وإني أموت من أجله أيضا لا تبكوا .. سيكون ذلك خطأ .. ھل تريدون أن تحضر ملائكة

الذنوب فوق قبري …!

ــ إن نضال البشرية وطريقه إلى أھدافه لم ولن يكون له نھاية أبداً، ولكن لا تستغرقوا في النوم أكثر … لا تناموا أكثر …..

ــ ذلك إننا حتى لو كنا نمضي إلى الموت، ولكننا سنبقى مخلصين.

ــ إنك تغامر به من أجل بناء جسر بين سجناء اليوم والأحرار غداً، إنھم يناضلون .. إنھم يناضلون ويض ّحون بلا خوف ولا وجل في ساحتھم التي من أجلھا جنّدوا أنفسھم بكل ما يملكون، وبكافة الوسائل التي بحوزتھم، إنھم بسطاء تماماً ويثيرون العجب، وبلا لھجة منبرية، بحيث أنك لا تتبين حتى النضال من أجل الحياة أو الموت، إنھم في جانب الأصدقاء، وإنھم في الجانب الذي يمكن فيه أن يسقطوا فيه أو

ينتصروا.

ــ إن منظر الإنسان وضميره عندما لم يعد نقياً، ھو مفزع أكثر من رؤية جسد يتألم من العذاب، وإذا كان بالنسبة لك الموت الذي مر من أمامك جعل رؤيتك حادة، وإذا كان ضميرك قد تطھر من خلال النضال، فإنك سوف لن تشعر ببساطة من ذا الذي قد دخل في حالة اضطراب. ومن ھو الذي قد اعترف وأفشى الأسرار، أو ربما حتى قد ف ّكر في ذلك بأحاسيسه، ولربما أن ذلك ليس سيئاً جداً إذا حصل ذلك بعد أن استخدم آخر ما لديه من ــ ــ ــ طاقة نضالية…. أيھا الضعيف المنھار، كأن ھناك حياة أخرى تعيشھا إن

استطعت أن تبيع حياة أحد الرفاق ..! ــ كانت حادثة تعبّر عن قلة حذر وسوء حظ.

ــ الرفيق بارتون فتّش وبحث عن اتصال لخليته مع الأعلى، وصديقه الرفيق جينليك الذي لم يراع أنظمة العمل السري،

ــ لم تكن الأيام الأولى في معتقل بيتشيك بالايس سھلة عل ّي، ولكن كانت ھذه اللطمة الأكثر قسوة التي تلقيتھا ھنا، كنت أتوقع وأنتظر الموت، ولكن ليس الخيانة، وإنني إذ أصدر ھذا الحكم مخففاً، ذلك لأنني أزن وأستحضر في رأسي وفكري ما لم يقله ميريك، ولم استطع أن أجد كلمات أخرى عدا: خيانة، إنھا ليست مجرد تأرجح أو اھتزاز، وليست مجرد ضعف، إنھا ليست انھيار من تعذيب حتى الموت، أو

اعترافات انتزعت من خلال حمى، ليس ھناك ما يعذر موقفه. 124

ــ كانوا يجلبوني يومياً تقريباً إلى الأربعمائة)سجن اسمه ھكذا(، وفي كل يوم أكتشف تفاصيل جديدة، لقد كان أمراً محزناً ومثيراً للاشمئزاز في نفس الوقت، نعم ھذا كان رجلاً عندما كان لديه عمود فقري، ھو لم يتجنب الرصاص عندما كان يناضل في الجبھة الإسبانية، ولم يخن عندما عاش تجربة الاعتقال في فرنسا، ولكنه يقف الآن ممتقع الوجه أمام أحد رجال الجستابو الذي يمسك بيده ھراوة، يحاول أن يتماسك، ولكن كم كانت شجاعته سطحية، بحيث ضربات معدودة فقط أدت به إلى الانھيار، سطحياً مثل قناعته، كان قوياً في الحال الاعتيادي، عندما يكون محاطاً بالتعاطف، كان قوياً لأن قناعاته كانت تحركه، ولكنه الآن معزول عنھا، وحيد، يھاجمه الأعداء، ترى ھل فقد قواه نھائياً، لقد فقد كل شيء لأنه ابتدأ يفكر

بنفسه، وأن ينقذ جلده، لذلك ضحى برفاقه، لقد سقط في الخوف، والجبن قاده إلى الخيانة.

ــ إنه لم يقل لنفسه: أن من الأفضل أن يموت عندما وجدت عنده تلك المواد ..!

ــ مؤكداً دعمت التحقيق، واقنعت التحقيق بأنھم قد توصلوا لكل شيء، لذلك بقيت على قيد الحياة، ومعنا أيضاً بعض عناصر منظمتنا، ولكنه لم يكن ليسلم أي منظمة لو أنه أبدى صموداً في موقفه، كنا سنذوق الموت أنا وھو، ولكن سائر الرفاق كانوا سيبقون على قيد الحياة ولواصلوا العمل في الطريق الذي سقطنا

من أجله.

ــ إن الجبان قد يفقد أكثر من حياته، لقد ضاع، فر من جيش المجد، وألحق بنفسه عار الخيانة والقذارة. وحتى من أجل الحياة …! الخائن لم يعد على قيد الحياة، لأنه وضع نفسه خارج المجموع، لقد حاول فيما بعد أن يفعل شيئاً جيداً، ولكنه لم يفلح أبداً في محو ما فعله في السجن من فضاعات كما لم يحدث أبداً. ــ سجين ووحيد، ھذان تصوران يمضيان سوياً، ولكن ذلك خطأ كبير، فالسجين ليس وحيداً، فالسجن ھو مجمع كبير، وحتى أشد الزنزانات عزلة التي لا يمكن أن ينفذ منھا أحد، إلا إذا شاء عزل نفسه بنفسه، فالأخوة بين المضطھدين ھو شيء سائد كالقانون الذي عقدوه بأنفسھم بصلابة، إنھا تزحف عبر الجدران،

ــ الزنزانات لھا عيون، إنھا تنظر إليك عندما تمضي إلى الإعدام، وأنت تعلم أن عليك أن تمضي رافعاً ھامتك لأنك مناضل ولا يجوز أن تمضي بأقدام متثاقلة مترددة، إنھا أخوية دموية، ولكنك تدخلھا طواعية، وبدون المساعدة الأخوية، فسوف لن يكون بوسعك تحمل ھذا المصير.

ــ لدرجة تقارب الموت، ولا تبقى سوى الكلمات التي أدليت في الإفادة: المخلص سيبقى صامداً، والخائن سيخون، الضعفاء سيصابون بالحيرة، والأبطال يناضلون. في داخل الإنسان تستقر غالباً عوامل القوة والضعف، الشجاعة، الخوف، التماسك، الاھتزاز، ًالنقاء، القذارة، وإلى جانب بعضھم البعض، ولكن ھناً، لا يمكن إلا لأحدھم البقاء، أو عندما يحاول امرأ، ويا للعجب، أن يرقص بينھما، فإنه سيكون عجيبا،

كالذي يريد أن يرقص بريشة صفراء على قبعته، وبيده عصا ملونة في مسيرة جنائزية.

ــ كان ھؤلاء يدركون ويشعرون بالجمعية في الأربعمائة، ويحاولون أن يتقربوا منھم .. لماذا ..؟ لأنھم يقدرون بشكل صائب قوانا، ولكنھم لا ينتمون إلينا قط، وھناك فئات أخرى من الذين ليس لديھم فكرة عن ھذه الجمعية. وبتقديري أنھم قتلة، قتلة ذوو طبيعة بشرية، يتكلمون التشيكية وبأيديھم الھراوة والحديد

ــ عائلة من الأبطال اغتيلت بأكملھا، فحاولوا على الأقل أن تبحثوا عن واحد باق منھم، أحبوه كما تحبون إخوانكم وأخواتكم من آبائكم، كونوا فخورين به كما تفخرون برجل عظيم عاش للمستقبل، كل من عاش بإخلاص للمستقبل وسقط من أجل الأشياء الجميلة ومن أجلكم، ھو عملاق ق َّد من الصخر، كل من أراد أن يبني من تراب الماضي سداً ضد طوفان الثورة، إنما ھو مخلوق مصنوع من خشب رديء، ولربما تحتشد الرتب على كتفيه اليوم، ولكن حتى ھذه المخلوقات الخشبية، علينا أن نتخيلھم، ونستحضرھم في أذھاننا

125

في تفاھتھم وانحطاط أحاسيسھم، وفي وحشيتھم، في كونھم مھزلة، إن ذلك ھو مادة للعرض والعروض المقبلة.

ــ بوسعكم أن تنتزعوا منا الحياة، أليس كذلك جوستي ..؟ ولكن ليس شرفنا وحبنا …! ــ الرفاق الذين سيبقون أحياء بعد ھذه المعركة، والذين سيأتون إلينا، إنني أشد على أياديھم من أجلي وجوستي، فإننا قد نفذنا الواجب.

ــ إنھا مواد دعائية تكمن خلفھا ضمائر وضيعة لكي تتمكن من عبور ھذه المرحلة بأي وسيلة، وأن تبقى طافية فوق الماء. فھم حيال المتھمين ليسوا بموقف سيء ولا جيد، لا يضحك ولا يقطب جبينه، إنه يعمل ولكن بحماس خفيف.

ــ لقد كانت مجرد خادمة تعمل في البيوت، لم يكن لديھا تعليم دراسي، ولم تكن تعلم أنه يوماً ما سيقال:

ــ ” أيھا المار من ھنا ….عندما تذھب إلى أسبرطة، أعلن ھناك: أنك رأيتنا راقدين ھنا كما يأمرنا به القانون …….”

ــ فھناك رفاق يعملون في العمل السري منذ خمس سنوات ولم يكتشفه الجستابو، إن ذلك ممكن لأننا تعلمنا الكثير، وذلك ممكن لأن العدو قوي ووحشي، ولكنه لا يستطيع أكثر من التھديم.

ــ لم يكن ذلك ضرورياً من أجل أن تھدأ روحه، ولكن الأمر انتھى دائماً ھكذا بحزن، ولكن عندما لا يكون بوسع المرء أن يتحدث عنه بغير ذلك، فإن ذلك يكون مزعجاً أيضاً، إذ ما ھو الجمال ..؟ وما ھي الحياة بالمقارنة مع مجد البطولة …!!

ــ أن حياة الأفراد غير مھمة بعدما تمت مصادرة بلد بأكمله وحياة شعبه. ــ ” إن ھذا سوف لن يفيدكم بشيء، سيسقط الكثيرون منا، ولكنه سوف يقضى عليكم “.

ــ وأي صداقة تشبه تلك الصداقات التي تنعقد أواصرھا في الجبھات، في الخطر الطويل الأمد، حيث يمكنأنتكونحياتكاليومبينيد ّي،وفيالغدتكونحياتيبينيديك.

ــ عن الذين يبذلون ھذه المساعي الصغيرة وحب الظھور، لكي يلتقي معھم في منطقة حساسة، ترى كم ھو صغير ضمير الإنسان عندما ينوء تحت حمل جسده، ويعاني الجسد من ھذا الحمل كلما كان ضميره كبيراً .

ــ المجد ينادي الدماء بنشوة، والوحشية تقدم لھا الجماجم.

ــ ” إنك تشيد تماثيل “، قال الوالد الذھن إلى بعض أوصاف ھؤلاء، نعم إنني أريد أن لا ينسى الرًفاق نضال المخلصين الصامدين في الخارج كما ھنا، وھؤلاء الذين سقطوا صرعى، ولكني أريد أيضا أن يعرف، أن الذين صمدوا وساعدوا الآخرين ليسوا قلة، وإنھم فعلوا ذلك تحت ظروف صعبة. في غروب ممرات سجن بانكريك، أن يتواجد أشكال ونماذج مثل كولينسكي ومثل ھذا الحارس التشيكي فعلوا ذلك علناً، ليس من أجل إحراز مجد، ولكن أن يضربوا الأمثلة للآخرين، إذ أن الالتزام الإنساني لا ينتھي بھذا

النضال، وأن المرء إنساناً فإن ذلك يتطلب أيضاً، أن يكون لك قلب بطل، طالما أن البشر ليسوا بشراً. 126

ــ امض بشجاعة في ھذا الدرب، أو دع الخوف يتملكك وتنح عن الطريق، إنك لن تقدر على ذلك في كل الأحوال، والفساد لا يتسلل إلا من خلال الخوف فقط، بوسعك أن تخسر كل شيء، كما ھو الأمر في كل عمل غير شرعي )سري(.

ــ عندما تخلق الإدارة ظروفاً جديدة، يتطلب الأمر إذن ابتكار أساليب جديدة، وأن يجد ھذه الأساليب بسرعة وثقة

ــ أردت أن أرسم لكم صوراً، ولكن للأسف لم يتبق إلا ساعات قليلة، أقل مما يكفي لإنشاد أغنية قصيرة.

ــ السرية حيال الاحتلال، بل أن يتكامل وإخراج الشعب من السرية أيضاً، واستعادة الاتصال مع الذين قطع الارتباط معھم، وأن يلتحموا بالشعب كله، والتعامل مع كل من قرر النضال من أجل الحرية من خلال الھجمات مباشرة، حتى مع أولئك الذين ما زالوا مترددين ولم يحسموا أمرھم بعد. ************ ــ خمسة مجلدات سميكة، بخط يوليوس فوجيك توجد اليوم، والكتاب الذي ھو بين أيديكم قد ترجم إلى 89 لغة، والكاتب )فوجيك( قد كرم بعد موته بجائزة السلام العالمي، والرواية التي تحمل عنوان ” جيل بيتر ” التي كان يعمل بھا ولم يستطع إنھاءھا كتب فوجيك في كلمة المقدمة لروايته: ” أصبح المولودين مثل رسائل القناني التي توصل الأخبار، الأخبار التي أمامكم، لأناس كانوا موجودين، الذين ناضلوا من أجل السعادة، ولما أصبح ذلك ضرورياً … مضوا إلى الموت ..

فكروا بذلك، إذا كنتم تبحثون عن طريق.

الزا زيھاريا

كتاب فوجيك ھي كلمات الثورة، ھذه مقتطفات من كتابه الأشھر ” مذكرات تحت المشنقة ” ھذه المقتطفات لا تغني عن قراءة الكتاب الذي ترجم للعربية أكثر من مرة، منھا ترجمتي، التي أعتقد أني ترجمتھا في حالة وجدانية خاصة. فوجيك ھو أحد رموز المقاومة التنشيكوسلوفاكية، فكراً ونضالاً بين الناس، من ھنا

الأھمية التي دعتني أن ألحق ھذه الصفحات بكتابي. شكراً للجميع ضرغام الدباغ

ھوامش

اتفاقية ميونيخ الرباعية وأطرافھا: ألمانيا ومثّلھا ھتلرـ بريطانيا ومثّلھا رئيس وزرائھا تشمبرلين ـ فرنسا ومثّلھا رئيس وزرائھا ديلاديه ـ إيطاليا ومثّلھا موسولويني. عقدت بتاريخ 30 / أيلول / 1938 جرى الاعتراف بألمانيا ومصالحھا كقوة عظمى، لھا الحق في أرا ٍض في تشيكوسلوفاكيا. انظر صورة موقعي

الاتفاقية.

السوديت، منطقة في غرب تشيكوسلوفاكيا تقطنھا أغلبية ألمانية، وتطالب بھا ألمانيا، انظر الخريطة أسفل الھامش.

كانت بريطانيا ولاحقاً الولايات المتحدة ممثلة للجبھة الغربية، والاتحاد السوفيتي ممثلاً للجبھة الشرقية، وانضمت إليه حركات من البلدان المحتلة من ألمانيا النازية.

127

كانت لندن خلال ھذه الأحداث المتلاحقة في أوربا وتساقط الحكومات الشرعية تحت مطارق الجيش الألماني، قد أصبحت مقراً لعدد من الحكومات الشرعية منھا أولاً تشيكوسلوفاكيا، ثم بولونيا، ثم فرنسا، وھولندة والنرويج، واليونان، وغيرھم.

استناداً إلى أن الاحتلال عمل غير شرعي، لا يكافأ القائم به، والحكومة التي أسقطھا الاحتلال شرعية قانوناً، ووفق قاعدة فقھية عامة ” ما بني على الباطل فھو باطل ” فالحكومات التي يسعى الاحتلال لتنصيبھا )بصرف النظر عن الأسلوب( ھي غير شرعية لأنھا قامت على أساس باطل.

الكومنترن )Komintren( : القيادة العالمية للحركة الشيوعية الدولية.

يوليوس فوجيك )Julius Fucik( أديب وصحفي تشيكوسلوفاكي، له أعمال كثيرة، كان عضواً في قيادة الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي، اعتقل وتعرض للتعذيب الشديد، وحكمت عليه محكمة ألمانية بالإعدام، بقطع الرأس بواسطة الفأس، لديه كتاب مشھور )تحت ظلال المشنقة( ترجم أكثر من مرة إلى اللغة

العربية، وقد قمت بترجمته بنفسي / المترجم

راينھارد ھايدريش جنرال ألماني في قوات )SS(عين حاكماً لمحمية بوھيميا ـ مورافيا، وعاصمتھا براغ، اتبع إجراءات قمع وتصفية، اغتالته المقاومة السرية التشيكوسلوفاكية داخل العاصمة خلال تنقله بالسيارة في أيار / 1942 انتقمت له السلطات الألمانية شر انتقام في قمع تواصل طويلاً بعد اغتياله الذي مثّل

مرحلة في تاريخ حركة المقاومة الوطنية التشيكوسلوفاكية حزيران / 1942

محمية بوھيميا ومورافيا: ھي محمية ألمانية ذات أغلبية تشيكية، ألمانيا احتلت منطقة السوديت وھي ذات غالبية ألمانية، ثم احتلت لاحقاً كل القسم التشيكي، والسلوفاكي، وأطلقت على الأقسام التشيكية دولة تحت الحماية، يحكمھا حاكم ألماني ومن ضمنھا العاصمة براغ، وھي تابعة للسيادة الألمانية. استمرت الدولة تحت الحماية منذ آذار / 1939 وحتى سقوط ألمانيا أيار عام 1945، حيث قامت دولة تشيكوسلوفاكيا على

أرض جمھورية سلوفاكيا، ومحمية بوھيميا ومورافيا.

جدير بالإشارة أن النظام الھتلري بدأت عملية انھياره منذ 28/ نيسان، وفي 30 نيسان، انتحر ھتلر، وابتدأت المفاوضات الرسمية للاستسلام، والانتفاضة التشيكوسلوفاكية ھي ضد نظام الحماية الذي فرضته ألمانيا على تشيكوسلوفاكيا )Protektorst System(، ضد نظام ساقط كتحصيل حاصل.

مقاوم ــ مقاتل: يستخدم المؤلف ھنا كلمة مقاوم لكل من يناھض الاحتلال وسلطاته، سواء بالتظاھر، أو المشاركة في الصحافة السرية، أو الإضرابات، وللمقاتل كلمة )Partisan( وفي اللغة العربية أقرب كلمة لھا ھي الفدائي، أي المقاوم الذي يحمل السلاح.

الحديث عن إقليم السوديت الألماني، ھو موضوع يلاحظ أنه تتجنب الأطراف العديدة البحث فيه لأنه ينطوي على حساسية أرض تم الاستيلاء عليھا. ولكننا نرجح، أن ھذا الموضوع سيُبحث من جديد، والكلمة الأخيرة فيه لم تقال أو تكتب بعد.

128

)من اليمين إلى اليسار: شيانو وزير خارجية إيطاليا، موسوليني، ھتلر ديلاديه، تشمبرلين(

)الخريطة نصف القوس الأصفر ھي أراضي السوديت(

129

المقاومة اليونانية للاحتلال الألماني

1941 ــ 1944

ضرغام الدباغ برلين : 2017

130

فهرس

مقدمة ……………………………………………………. 03 أولاً : العلاقات الدولية بين الحربين………………………05 ثانياً : المقدمات السياسية…………………………………14 ثالثاً : بدء العمليات الحربية في اليونان………………….24 رابعاً : بدء العمليات الحربية في جزيرة كريت…………. 29 خامساً : مقاومة الشعب اليوناني للاحتلال……………….37

131

مقدمة

ً
في إطار المقاومة نط ّل على الق ّراء بكتاب جديد )تأليفا( ھي مساھمة جديدة في نشر ثقافة المقاومة، أدب

المقاومة وتاريخھا، وكل ما يحيط بھا من دراسات وبحوث. وأدب المقاومة معروف في أوربا على نطاق واسع، وتھتم به الجامعات وتخصص له فروع للدراسات العليا، ًوھو ميدان رحب واسع وعريض، في أوربا معروف بدقة، ويمكنك أن تصل إلى ھدفك، إن كنت راغبا في الاستزادة بسھولة ويسر، وسرعة، ساھم الكومبيوتر والإنترنت في المزيد من ذلك، وإذا كان الباحث ملماً بعمل الكومبيوتر، ولا أظنه غير ذلك، إذ يمكن القول بكل ثقة ولا درجة من المبالغة، أن الجاھل بالكومبيوتر ھو أ ّمي… فالكومبيوتر

ًًً
سيسھّل لك العمل بحثا وعملا وكتابة، ونتائجا.

المقاومة ھي رد فعل غريزي لكل شعب يتعرض لعدوان خارجي، وبھذا المعنى فالشعوب ليست بحاجة إلى محرض أو مشجع، فھي كالبدن الذي يھب لمقاومة الفايروسات الدخيلة، ودون طلب من صاحبه، بذلك يمكن وصفه تماماً برد الفعل الغريزي المناعي للتدخل الخارجي والعدوان والاحتلال.

المقاومون لا يمتلكون الأسلحة الفتاكة التي يمتلكھا المعتدي، وقد لا يمتلكون تلك الأعداد الكبيرة لجيوش المعتدي، وبداھة لا يمتلكون التنظيم الدقيق لجيوش العدوان والاحتلال التي بھا تمكنوا من قھر إرادة البلاد واحتلوھا.. إذن على ماذا يع ّول المقاوم …؟

المقاومة تع ّول على الشعب وحده، الشعب ھو البحر الذي تسبح به المقاومة، ھي تتحدث مع ابن البلاد بلغته، بل بلھجته المحلية، ويمتلك ذات الخصائص البدنية، والمعطيات الثقافية، والاجتماعية. سيحاول الأجنبي المحتل أن يقحم لھجة جديدة وتقاليد وثقافة ليقھر بھا الوحدة الوطنية، ليدمر النسيج الذي لا سبيل لخرقه، ولكن ھذه محاولات تفتقر إلى الأصالة، وتبدو زائفة واضحة للعيان، والأجنبي سيحاول كل جھده أن يجد من يتعاون معه، وسيوفق في مساعيه بدرجة ما بصعوبة أو بسھولة، فھناك دائماً في أي مجتمع ما يسمى قاع المجتمع، وحثالته، والطامحين عبر التزلف سواء للحكم المحلي الوطني، أو للأجنبي أن ينال ما لم يكن يحلم بالوصول إليه، أو من استطاع الاحتلال التغرير بھم، تحت أي ذريعة، ولكن في جميع

الأحوال، الأجنبي يبقى أجنبي، والمتعاون في مرتبة وضيعة، يحاول التخلص والتملص منھا.

المقاومة ربما تتلقى الدعم من القوى الشعبية أولاً، ومن مصادر المال والسلاح الوطنية، ولكن المصدر الرئيسي للسلاح ھو جيش العدو نفسه، وھو مصدر خارج الضغوط السياسية التي تتعرض لھا المقاومة من الداعمين الخارجيين، لذلك فإن جيش العدو بما يتركه من السلاح في أرض المعارك، والعدو قد يكون مصدراً للكثير من المستلزمات، لذلك على المقاومة أن تر ّكز على العدو بكل جوانب قدراته ومن تلك

المالية.

المقاومة تجد نفسھا في ظروف ليست متشابھة في كافة البلدان، بل تتفاوت أحياناً تفاوتاً مدھشاً، ولكن القاسم المشترك الأعظم التي يجمعھا ھي أنھا تمثل إرادة الشعب.، وھذا تخويل كبير جداً وشرف لا يدانيه شرف، ينبغي أن تكون المقاومة كياناً وأفراداً مناضلين على قدر ھذا الشرف والمسؤولية السياسية والوطنية حياله. وأي نقصان في ھذه الإرادة والتخويل، ھو خلل خطير، بل والثقة بالمقاومة ھو أخطر من العدو وقدراته، ينبغي على المقاومة ككيان سياسي وعسكري وطني الحفاظ على ھذه العلاقة القائمة على

الثقة المطلقة بالشعب، وثقة الشعب بالمقاومة قيادة وأفراداً وھي المھمة رقم واحد بالنسبة لھا.

المقاومة عمل ثقافي وآيديولوجي إلى جانب النشاط العسكري، ورغم أن فھم التناقض بين الاحتلال والمقاومة والتحرير ليست عملية معقدة، بل ھي سھلة بدرجة ما، ولكن للمحتلين وأذنابھم أساليبھم في خداع الناس وإرھابھم، والقمع الذي يصل لدرجة عشوائية، وھنا ينبغي للمقاومة أن يكون نشاطھا الثقافي

132

بين الجماھير، وليس بالضرورة أن يكون البرنامج الثقافي معقداً وصعب الھضم، وينبغي أن يكون بعلم المقاومة أن جماھيرھم بالدرجة الأولى ھم الكادحين الفقراء الذي لا يملكون سوى وطنھم، وإذا ضاع الوطن سيكونون ھبا ًء منثوراً، فيفقدون حتى شرف الانتماء للوطن، لذلك يستحسن أن تكون البرامج الثقافية بسيطة تخاطب عقول الفلاحين في الأرياف، والكادحين في المدن، إلى جانب مخاطبة الطلاب والمناضلين والمثقفين الثوريين، لا بد من إيصال وعي الجماھير لدرجة إدراك أن التناقض بين الاحتلال والشعب ھو تناقض رئيسي وأن ھذا التناقض ھو حاد بدرجة لا يمكن جمعه في نظام واحد، وفي برنامج سياسي واحد … كل الخطوط المقبولة والمحتملة تسقط وتنھار مع الاحتلال، وليس ھناك احتلال رمادي واحتلال أبيض، الاحتلال أسود في جميع الحالات ومعا ٍد للشعب، كل الشعب لأنه يدمر الوطن، كل الوطن

بكل ما ينطوي عليه من معطيات مادية ومعنوية.

المقاومة والثورة لا تريد من كل فرد المساھمة بالقتال، فھذه درجة قصوى للعملية النضالية، وذروة نضالية، ولكن المقاومة تبدأ بالامتناع عن مساعدتھم أو التعاون معھم في أبسط الأشياء، أو عن السلام أو تحية أفراد العدو أو الرد على تحيتھم. وھذه بمقدور أي فرد القيام بھا. بداية لا تكن مع الاحتلال، اشجب

ووجه الإدانة الصريحة للاحتلال، ولمن يتعاون مع العدو، وف ّكر كيف تزيحه عن بلادك. )*(

المقاومة والدفاع عن الوطن واجب كل مواطن بصرف النظر عن عمره وجنسه، إنھا دعوة للخدمة العامة الإلزامية، والامتناع عنھا كالھارب من الجندية في زمن الحرب. وھذا ليست بوصف أدبي، بل ھو قانوني يلزم العمل به، ومن ھنا أطلق ديغول النداء )قبل عملية التحرير بأيام( لكل الفرنسيين … إن عدم الالتحاق

بالمقاومة والتعاون معھا ھو ھروب من الخدمة العسكرية الإلزامية.

كل سياسي مع ّرض لأن يخطئ، حتى السياسي المخضرم، والاعتذار بھذه الطريقة أو تلك ربما تخفف من وطأة الخطأ وتبعاته، إلا خطيئة واحدة لا حل معھا ولا اعتذار … طلاق نھائي أبدي مع الوطن لا فتوى ولا رجعة … ھي خطيئة التعاون مع الأجنبي … وقاكم الله بلاءھا ومصيبتھا ..

المقاومة ھي شرف عظيم … وسام الأوسمة على صدر المواطن … ولا عذر البتة لمن يتخلى عن وطنه بلادي وإن جارت عل ّي عزيزة وأھلي وإن ضنّوا عل ّي كرام

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

)*( حضر ُت مؤتمراً دولياً في زيورخ / سويسرا، سألني وأنا على المنصة مواطن سويسري )سكان زيورخ يتحدثون الألمانية(، قال لي ولكني أعلم أن ھناك مواطنون من بلادكم ساعدوا الأمريكان في تدمير العراق .. قلت له نعم ھذا موضوع معقّد يطول شرحه، لو سمحت أن أجيبك فور انتھاء المؤتمر أو الندوة، فوافق، وفعلاً كان ينتظرني أسفل المسرح أو المنصة التي كنا نجلس عليھا أربعة أشخاص.

قلت له ببساطة، أكيد ليس لديك الوقت لتسمعني لساعات، إذن : كل بيت فيه مزبلة )علبة نفايات( بلادنا وبلادكم وكل بلدان العالم … قال صحيح … قلت له أمريكا جاءت، وأخرجت من في المزبلة ووضعته فوق الطاولة … أردت إضافة بضعةً كلمات … ً السويسري رفع إبھامه الأيمن .. قائلا … واضح جدا … كل شيء الآن واضح لي .. أشكرك.

133

الحرب العالمية الثانية صراع بشري ھائل، ينطوي على معان كثيرة، ومغاز سياسية واستراتيجية تستحق الوقوف عندھا طويلاً ودراستھا بعمق والمتمعن بأحداثھا. الحروب ليست صراع أسلحة في المقام الأول، فالبشر ھم من يستخدمون السلاح وفقاً لمصالحھم.

الحروب تدور منذ فجر الخليقة، البشر يتصارعون )12.000 حرب وصراع مسلح(، على مناطق الصيد على مناطق النفوذ، على مصادر المياه، الأرض تضيق بسكانھا فيھاجرون، ولأسباب عديدة، بيد أن الاقتصاد ھو المحرك الأول لسائر المحركات الأخرى، وجذرھا الحيوي الذي يفرز ظواھر وتوجھات، وتصيغ سياسات، تتفق وتختلف، البشر يحاولون التفاھم، ويبتكرون الأساليب الصلح والاحتكام والتحكيم، وقبول المشورة والنصيحة، ووساطة الحكماء وصولاً إلى الدبلوماسية إن بوسائلھا البدائية أو المتقدمة الراقية والتيً تزداد رقياً عبر العصور، ھذه المساعي معروفة عبر التاريخ، ولكن حين تبلغ تناقضات

الأطراف حدا ويتحول لتناقض رئيسي، لا يعد معه قبول الوسائل السلمية، تنشب الحروب.

التشكيلات السياسية في أوربا خاضعة للتغيرات، وبداھة التحالفات والائتلافات، والأمم الأوربية متداخلة ما تزال غير واضحة الأبعاد، تشكلت فيھا عبر القرون قوى سياسية استطاعت أن تحافظ على مصالحھا، وكياناتھا، ومن تلك بريطانيا وفرنسا كدول عظمى، وإسبانيا وإيطاليا بالدرًجة الثانية، وقبلت ھولندة والدنمارك بالدور الثانوي، فيما أخذت سويسرا والسويد سبيل الحياد نھجا. بقيت ألمانيا التي تشير المؤشرات إلى معطيات الدولة العظمى، من حيث المساحة والسكان، والنمو الاقتصادي، والثراء الثقافي والحضاري، بينما في الواقع العملي لا تلعب إلا دوراً ثانوياً وليس قيادياً ….. لماذا .. وكان الوجود الاستعماري يشمل 67% من مساحة اليابسة في الكرة الأرضية، ما لبث أن اتسع إلى 85% عام

1914.)1( 1. مكدوف، ھاري: الإمبريالية من عصر الاستعمار حتى اليوم، ص39ـ44 بيروت 1981

وكانت الثورة الصناعية ومعطياتھا في ألمانيا وأيطاليا قد تأخرت، بسبب تأخر الوحدة الوطنية والقومية، وعندما اكتملت ھذه الشروط كانت الدول الاستعمارية قد قطعت أشواطاً ليس فقط في عالم الصناعة فحسب، بل في تأسيس الدولة العلمانية الديمقراطية الحديثة، وتستخدم أسلحة حديثة، نجحت في الاستيلاء

على مستعمرات في أرجاء شاسعة من العالم في قارات الأمريكيتين وأستراليا، وآسيا وأفريقيا

وبھذا اًلمعنى، فإن الحرب العالمية الأولى كانت نتيجة طبيعية للتنافس الاستعماري الذي خلق تناقضاً تناحريا بين الدول الصناعية الاستعمارية يفوق قدرة نظام العلاقات الدولية آنذاك على استيعابه وحلً معضلاته الأساسية، وفشلت المجھودات الدبلوماسية في التوفيق بين مصالح الأطراف المتنافرة تنافرا شديداً، ذلك أن كل كتلة من الكتل الدولية المتناحرة اعتقدت أن خرقاً خطيراً قد حدث، أو أنه على وشك الحدوث لاستراًتيجية أمنھا القومي المتمثل بمصالحھا السياسية والاقتصادية والعسكرية، محلياً في القارة الأوربية ودوليا في المناطق المختلفة من العالم سواء في مستعمراتھا أو في مناطق نفوذھا وھيمنتھا، أو

في مجال السيطرة على البحار والممرات المائية الدولية.

ومفردات العلاقات الدولية نفسھا لم تكن إلا انعكاساً لسيادة مبدأ القوة الذي مارسته الدول الأوربية الاستعمارية، ففي قارتي آسيا وأفريقيا لم تكن فيھما إلا دولة مستقلة واحدة وھي اليابان، والقارتين الأمريكيتين لم تكن تضمن إلا عدداً ضئيلاً من الدول المستقلة التي لم يكن استقلالھا في واقع الحال سوى استقلال شكلي، حيث كانت ترزح تحت نفوذ وھيمنة الدول الاستعمارية، ولم تكن الدبلوماسية سوى مھنة

أرستقراطية تمارسھا الدول الكبرى من أجل تقاسم النفوذ والھيمنة. 134

أولاً : العلاقات الدولية بين الحربين

)الصورة : خريطة الطموح الألماني في المجال الحيوي(

وألمانيا وإيطاليا بلدان كبيران ووفق المعطيات تستحقان أن تكونا من البلدان المھمة، وقد نمت أفكار في ھذا الاتجاه منذ نھاية الحرب العالمية الأولى، ففي إيطاليا تأسس الحزب الفاشي)استلم السلطة 1922(، وفي ألمانيا الحزب النازي)استلم السلطة 1933(، وللحزبين أھداف جيو استراتيجية تتعدى الحدود

المعترف بھا دولياً، فالحرب العالمية الأولى ونتائجھا قادت نظرياً وواقعياً إلى الحرب العالمية الثانية.

الحروب الحديثة ھي بفعل تناقضات الاقتصاد السياسي للرأسمالية، وصراعات بين أقطاب صناعية / رأسمالية بھدف التوسع وإعادة توزيع العالم. وكانت الثورة الصناعية قد آتت أكلھا حتى بات التوسع الاستعماري قاعدة في العلاقات الدولية.

وكانت الثورة الصناعية قد توصلت إلى إنجازات باھرة في مجال المواصلات، وبذلك أمكن اختصار زمن الرحلات البحرية بواسطة السفن ذات المحركات التي تعتمد على قوة البخار، وفي البر باستخدام القطارات. وكان لھذا العامل أثره الفعال سواء بنقل الجيوش أو تصدير المنتجات الصناعية وشحن المواد الخام، وبذلك تضاءلت أھمية بعد المسافات، كما لم تعد البحار والمحيطات تمثل عائقاً أمام إرادة ورغبة الدول التي تمتلك الوسائط والقوى لتحقيق مصالحھا، وش ّدد ذلك في عملية تطور مفھوم الأمن القومي والصراعات ومدياتھا، فبعد أن كانت الدول تبني القلاع وتحيط نفسھا بالأسوار حماية لھا من احتمالات العدوان الخارجي، أخذت تتطلع إلى خارج حدودھا لتأمين متطلبات مصادر أعمالھا وإنتاجھا فالآلة تستھلك المواد الخام من مصادرھا البعيدة بكميات متزايدة وھي تنتج كميات خيالية من الصناعات أكثر بكثير مما تستوعبه أو تحتمله السوق المحلية، وكان لا بد من تأمين مصادر المواد الخام والأسواق كوسيلة

لتأمين الدول الصناعية نفسھا.)2(

وبرغم أن العامل الاقتصادي لم يكن في أي من المراحل التي مرت بھا البشرية ثانوياً، إلا أن الثورة الھائلة في المجالات الفكرية والعلمية وفي مقدمتھا منجزات الثورة الصناعية، أدت إلى تطور الحياة

135

البشرية بما يشكل قفزات واسعة، وأدى كذلك إلى تشعب مصالح الدول الصناعية والاستعمارية، ثم أدى كل ذلك إلى منح الأمن القومي أبعاداً جديدة تتعدى الاھتمامات التي تغلب عليھا الاتجاھات العسكرية والتي كانت تسيطر على الفكر الاستراتيجي رغم أنھا )الجيوش والعقائد العسكرية( لما تزل إحدى أدوات الأمن القومي الرئيسية، إلا أن التطلعات الخارجية للفعاليات الاقتصادية بدأت تطرح نفسھا كعنصر مھم

في حياة الشعوب، وخلقت مجموعة واسعة من التفاعلات على مسرح التعامل في الصعيد الدولي.

وفي ظل ھذه المعطيات والتطورات، تواصلت النزعة نحو التوسع من أجل الأھداف المرسومة له، بل ودخل عنصر آخر إلى الميدان بحكم انتشار الصناعة في الدول الأوربية رغم أن بريطانيا كانت السبّاقة في ھذا المجال، وكانت النزعة نحو التوسع دؤوبة كالضغوط من أجل الحصول على أكبر فائدة ممكنة من الفرص، لكن التوسع نشأ وسط منافسة حادة بين القوى الكبرى التي كانت مھتمة بتوزيع القوة في القارة

الأوربية نفسھا إلى جانب اھتمامھا بملكية مناطق ما وراء البحار.

)الخريطة : ألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية يضاف إليھا النمسا اللون الأزرق(

وھكذا انتقلت قضايا القوة القومية والثروة والقوة المسلحة أكثر فأكثر إلى مسرح العالم مع انتشار التجارة والمكتسبات الإقليمية لتشمل أجزاء واسعة من الكرة الأرضية، بل أن المستعمرات نفسھا كثيراً ما مثلت

136

الروافد للقوة العسكرية ومصادر للمؤن العسكرية والقوة البشرية العسكرية وقواعد للأساطيل العسكرية والتجارية.)3(

ومن التطورات التي لا ينبغي أن تفوتنا الإشارة إليھا، أن التنافس بين الدول الأوربية في استثمار معطيات الثورة الصناعية قاد بالنتيجة إلى تنافس في التوسع الاستعماري في آسيا وأفريقيا والقارتين الأمريكيتين، بل مثّل محركه الأساس.

وبعد ذلك التاريخ بدأت إسبانيا تفقد مستعمراتھا في مناطق نفوذھا التقليدية في أميركا اللاتينية لعدم قدرتھا على مواكبة التطور الصناعي الذي مثّل العنصر الحاسم في نمو الدول الاستعمارية، ومنذ عام 1925 لم يعد لھا مستعمرات في أمريكا الجنوبية، وقبلھا بقليل كانت الإمبراطورية العثمانية قد تعرضت لتقلص تدريجي مستمر نتيجة تخلفھا التكنولوجي والسياسي والاجتماعي كنتائج متبادلة التأثير، حتى فقدت كافة

ممتلكاتھا في أعقاب الحرب العالمية الأولى.

وبھذا المعنى، فقد كان التطور التكنيكي يمثّل التحدي الأعظم الذي واجه الدول، والذي أدى إلى الاستعمار والتوسع، وأيضاً إلى ضعف إمبراطوريات ودول استعمارية عجزت عن مواكبة التطور الفعلي، أو عجزت عن كبح جماح قوى استعمارية أقوى منھا، وھكذا انطفأ مجد أو تقلص حجم إمبراطوريات استعمارية مثل: الدولة العثمانية، إسبانيا، البرتغال، ھولندة، ألمانيا..الخ , وكان الوجود الاستعماري يشمل

%67 من مساحة اليابسة في الكرة الأرضية، ما لبث أن اتسع إلى 85% عام 1914.)4(

وتشير الإحصائيات أيضاً، أن بضعة دول قد تحكمت بالعالم بفعل تطورھا الاقتصادي والسياسي، وفي مراجعة مصادر تلك المرحلة نستنتج أن مستقبل وأمن الشعوب والأمم المغلوبة لم يكن وارداً في حسابات الاستراتيجية الاستعمارية التي وجھت كافة مساعيھا إلى التوسع والحصول على المزيد من المكاسب، في وقت غدا فيه التنافس لكسب الأراضي من مظاھر القوة ومن ضرورات المصالح الحيوية الاستراتيجية للدول الاستعمارية الكبرى مثل بريطانيا وفرنسا، التي توسعت في القارة الأفريقية، وحتى نھاية الحرب

العالمية الأولى لم يكن في القارة الأفريقية أية دولة مستقلة.

وحتى نھاية القرن التاسع عشر، كانت المؤشرات السياسية تشير، أن الحملة الاستعمارية قد بلغت أوجھا، كما كانت الدول الأوربية قد أنجزت تدعيم كياناتھا السياسية وقد أفرزت في غضون ذلك خارطة سياسية جديدة في أوربا بفعل الصراعات والحروب، كما ظھرت إلى الوجود دولتان جديدتان كقوى مھمة كنتيجة

لتضافر عوامل عديدة أبرزھا الوحدة القومية وھما ألمانيا وإيطاليا.)5(

ولما لم يعد ھناك ما يمكن التنافس والتزاحم عليه، إذ كان قد تم الاستيلاء على 85% من مساحة اليابسة في الكرة الأرضية، أخذت الدول الاستعمارية تخطط لسلب الامتيازات والممتلكات الاستعمارية بعضھا البعض، وتفتش عن الذرائع حتى الواھية منھا، وبذلك كان الموقف الدولي عشية الحرب العالمية الأولى قد

غدا شديد التوتر.

فالإمبراطورية العثمانية في ظل التنافس الاستعماري المحموم، كانت ھدفاً لضم ممتلكاتھا ثروات مغرية، إذ كانت الدلائل تشير أن بعضھا غنية بالنفط الذي كان قد بدأت أھميته تتعاظم لمصدر للطاقة، بالإضافة إلى موارد خام أخرى ضرورية للصناعة، كما أن المكانة السياسية والاقتصادية والعسكرية التي بدأت ألمانيا تحرزھا وتتبوءھا، وتتطلع للحصول على المزيد من المستعمرات، وكانت قد حصلت فعلاً على

البعض منھا في أفريقيا، كانت قد بدأت تثير القلق في أوساط الزعامة الاستعمارية:بريطانيا، فرنسا. 137

وما لبثت أن تلبدت أجواء السياسة الأوربية بغيوم صراع عنيف من أجل الدفاع عن مصالح اعتبرھا كل طرف من الأطراف المتنافسة ضرورية وحيوية لديمومة إمبراطوريته الاستعمارية وحمايتھا ودعمھا، وبذلك فإن السباب الجوھرية للحرب العالمية الأولى ھي استعمارية من أجل إعادة تقسيم العالم ومناطق

النفوذ والھيمنة.)6ـ 7(

وبھذا اًلمعنى، فإن الحرب العالمية الأولى كانت نتيجة طبيعية للتنافس الاستعماري الذي خلق تناقضاً تناحريا بين الدول الصناعية الاستعمارية يفوق قدرة نظام العلاقات الدولية آنذاك على استيعابه وحل معضلاته الأساسية، وفشلت المجھودات الدبلوماسية في التوفيق بين مصالح الأطراف المتنافرة تنافراً شديداً، ذلك أن كل كتلة من الكتل الدولية المتناحرة اعتقدت أن خرقاً خطيراً قد حدث، أو أنه على وشك الحدوث لاستراًتيجية أمنھا القومي المتمثل بمصالحھا السياسية والاقتصادية والعسكرية، محلياً في القارة الأوربية ودوليا في المناطق المختلفة من العالم سواء في مستعمراتھا أو في مناطق نفوذھا وھيمنتھا، أو

في مجال السيطرة على البحار والممرات المائية الدولية.

ومفردات العلاقات الدولية نفسھا لم تكن إلا انعكاساً لسيادة مبدأ القوة الذي مارسته الدول الأوربية الاستعمارية، ففي قارتي آسيا وأفريقيا لم تكن فيھما إلا دولة مستقلة واحدة وھي اليابان، والقارتين الأمريكيتين لم تكن تضمان إلا عدداً ضئيلاً من الدول المستقلة التي لم يكن استقلالھا في واقع الحال سوى استقلال شكلي، حيث كانت ترزح تحت نفوذ وھيمنة الدول الاستعمارية، ولم تكن الدبلوماسية سوى مھنة

أرستقراطية تمارسھا الدول الكبرى من أجل تقاسم النفوذ والھيمنة.

وقد اندلعت الحرب العالمية الأولى في ذروة تقدم الصناعة التي لم تقتصر على إنتاج البضائع للتجارة العالمية فحسب، بل وقدمت ما اعتبر في وقته إنجازاً تكنيكياً باھراً، حيث استخدمت الجيوش الطائرات الحربية لأول مرة في قتال واسع النطاق كسلاح ذو قدرة على المناورة بالإضافة إلى السرعة، وأنزلت الغواصات إلى البحر وش ّكلت تھديداً فعلياً للسفن الحربية والتجارية على السواء، فيما اعتبرت الدبابة في البر سلاحاً ماضياً يقتحم الخطوط الدفاعية ويدمرھا، وبدأت تختفي صور الجنود يقتلون على الأسلاك

الشائكة.

أدخلت ھذه المعطيات تعديلات جوھرية على العقائد العسكرية الاستراتيجية وعلى مبادئ الأمن القومي بالمؤثرات الرئيسية التالية:

ــ استخدام واسع النطاق لمعطيات الصناعة الحديثة في البر والبحر والجو. ــ إمكانية إصابة الأھداف براً وبحراً وجواً ومن مسافات بعيدة. ــ تضاعف حجم التدمير الذي تحدثه الأسلحة والمتفجرات والمقذوفات. ــ الدور الھام الذي لعبته المستعمرات في تزويد الجيوش بالرجال والمواد الخام، وكذلك دور القواعد العسكرية في تنقلات الجيوش والقوى البحرية والجوية.

وحتى اندلاع الحرب العالمية الثانية، ظلت الدروس السياسية والعسكرية والاستراتيجية وقضايا الأمن القومي والمصالح الحيوية موضع دراسة ومناقشة في الأوساط التي تعني بقضايا الفكر الاستراتيجي والسياسة الدولية والتكنيك الحربي ولكن بردود أفعال مختلفة. فكان الإنكليز على سبيل المثال أول من أدخل الدبابات في القتال، ولكن الألمان استفادوا واستوعبوا تكتيكات قتال المدرعات بصورة أفضل، ثم صنعوا دبابات أفضل، واستخدموھا ببراعة في الحرب العالمية الثانية. كما أن الجيوش الفرنسية كانت أكثر عدة وعتاداً في الحربين العالميتين الأولى والثانية من الجيش الألماني، ولكن الخبراء والمؤرخين يجمعون على أن الألمان استخدموا قواتھم بصورة أفضل، واعتبروا أن السبب الرئيسي في ھزيمة

138

الفرنسيين أمام الألمان في الحرب الثانية ھو في عدم استيعابھم للدروس التكتيكية والاستراتيجية للحرب العالمية الأولى، فاستمروا متشبثين بحرب الخنادق الحصينة.

ولكن الجيوش الألمانية كانت قد استوعبت بدقة خصائص ومزايا الحرب الآلية وطبقوھا بدقة ونجاح مستخدمين تكتيكات الحرب الخاطفة التي تعتمد بدرجة رئيسية على:

الكثافة النارية. التعاون بين الصنوف. الحركة والمناورة السريعة.

)الخريطة: ألمانيا بعد ضم النمسا وتشيكوسلوفاكيا(

وكانت الصناعة الألمانية الممتازة قد جھّزت القوات المسلحة بأفضل المعدات، وتولى استراتيجيون بارعون وقادة عسكريون ميدانيون دراسة نقاط ضعف خصومھم ووضعوا خططھم الھجومية بموجبھا ودرسوا نقاط قوة الفرنسيين )الصمود في الدفاع( فتجنبوا تكرار مأساة حرب الخنادق في فردان والسوم.

139

وكانت الحرب العالمية الأولى قد أطلقت العنان للأبحاث والمناقشات، وإقحام متزايد لإنجازات الصناعة وبشكل واسع النطاق في الصراع المسلح، وكان ذلك يعني أيضاً، رصد الميزانيات الھائلة لإنتاج المزيد والمحسن من المعدات الحربية على حساب الاستثمارات في الاقتصاد الوطني وتحسين شروط الحياة للمواطنين، وھكذا فإن حزمة ھائلة من الأفكار والآراء تمثل الدروس المستفادة في معارك الحرب العالمية

الأولى ومدلولاتھا على صعيد الأمن القومي والاستراتيجية العليا، كانت قد طرحت على بساط البحث.

وكانت الحرب العالمية الثانية بدورھا زاخرة بالمتغيرات الھامة التي أثّرت على الفكر الاستراتيجي

بخاصة تلك التي كانت نتيجة مباشرة للتطور الكبير في الصناعة، حيث ألغت الكثير من المفاھيم القديمة

وأدخلت تعديلات جوھرية على أخرى، كما أبرزت عناصر لم تكن معروفة قبل ذلك. وبداية يجب أن

ندرك أبعاد ونوايا التوسع الألماني الإيطالي اللذان لم يكن تحالفھما صدفة )كانتا قد تقاتلا في الحرب

العالمية الأولى في جبھتين مختلفتين(، فالدولتان وجدتا كافة مقومات الدول العظمى متوفرة، وعزمتا على

ًً
تحقيق مآربھما ونواياھما بالتحايل والدبلوماسية الخادعة، والابتزاز حينا، وأخيرا بالقوة المسلحة.

إيطاليا تحت الزعامة الفاشية، كانت مأخوذة بالحلم الروماني القديم، أن يكون البحر المتوسط بحيرة إيطالية، وباشرت مد نفوذھا السياسي والاقتصادي والثقافي، وأخيراً العسكري حتى أطلقت على بلدان شمال أفريقيا )شمال أفريقيا الإيطالي(، ومصر وحتى أثيوبيا والصومال)القرن الأفريقي(، مع محاولات

فاشلة في اليمن.

وكانت إيطاليا ترى أن اليونان برمته ينبغي أن يقتطع ويضم إلى إيطاليا بدءاً من الجزر، وانتھا ًء بالمناطق الحدودية المقاربة لألبانيا التي كانت الأطماع الإيطالية قد استوعبتھا ولكن بصعوبات، وكذلك دار الأمر في يوغسلافيا واليونان حيث ھبّت ألمانيا لنجدة حليفھا، من جھة، وتأمين مصالحھا الحيوية في شرق أوربا

وصولاً إلى سواحل البحر المتوسط من جھتين :

ــ من جھة تريستا الميناء الإيطالي / النمساوي )وفق خارطة ما قبل الحرب العالمية الأولى(. ــ من جھة بحر إيجة والسكك الحديدية توفر الإمكانية لنقل القطعات والسلع في آن واحد, في مسافة ليست بعيدة )2000 ــ 2500 كم(.

ورغم تعثر خطوات إيطاليا في الميادين، إلا أنھم حتى بداية الأربعينات كانوا قد حققوا مكاسب مھمة في استراتيجية تحويل البحر المتوسط إلى بحيرة إيطالية : الشواطئ الخاضعة للسيطرة الإيطالية كنتيجة مباشرة للحملات العسكرية لقوات المحور، نجحت إيطاليا في بسط سيطرتھا على السواحل التالية المطلة على البحر الأبيض المتوسط في الفترة ما بين عامي 1941 و1943: فرنسا : ريفييرا ــ منتون بين مونت كارلو والحدود الإيطالية من يونيو لعام 1940 وحتى سبتمبر لعام 1943 ومن دلتا نھر الرون حتى الرفيرا الفرنسية من نوفمبر لعام 1942 وحتى سبتمبر لعام 1943. كورسيكا :من نوفمبر لعام 1942 وحتى سبتمبر لعام 1943. يوغسلافيا :غالبية سواحل دالماسيا ومملكة الجبل الأسود من إبريل لعام 1941 وحتى سبتمبر لعام 1943. ألبانيا : من عام 1939 وحتى سبتمبر لعام 1943. اليونان : كل السواحل القارية الممتدة بين ابيروس وثيساليا والغالبية العظمى من جزر بحر إيجة علاوة على كريت الشرقية في الفترة ما بين إبريل لعام 1941 وحتى سبتمبر لعام 1943. دوديكا نيسيا : وھي جزر تحت السيادة الإيطالية منذ عام 1912 وحتى سبتمبر لعام 1943. تونس: من نوفمبر لعام 1942 وحتى مايو لعام 1943.

140

ليبيا : يطلق عليھا شمال أفريقيا الإيطالي وكانت خاضعة للسيادة الإيطالية منذ عام 1911 وحتى عام 1943.

مصر : الساحل الشمالي الغربي لمصر حتى العلمين في الفترة ما بين يونيو لعام 1940 وحتى نوفمبر لعام 1942. جبل طارق ومالطا:

جبل طارق : مثلت دور قاعدة بريطانية منذ أوائل القرن الثامن عشر، ولعبت دوراً محورياً في الاستراتيجية العسكرية البريطانية، فبالإضافة لموقعه الفريد مثّل جبل طارق مينا ًء حصيناً أعطى الفًرصة لسفن قوات الحلفاء للعمل داخل مياه البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، كما كان جبل طارق مركزا للقوة )H( بقيادة الفريق البحري جيمس سمرفيبل وھي الفرقة التي أوكلت إليھا مھمة ضمان التفوق العسكري البحري البريطاني في المتوسط وحماية خطوط المواصلات، قوافل السفن القادمة من أو الذاھبة صوب

جزيرة مالطا المحاصرة. ً ً مالطا : من ناحية أخرى، جعل موقع مالطا الجغرافي من الجزيرة ھدفا أساسيا للعمليات العسكرية الإيطالية وذلك بسبب قربھا الشديد من السواحل الإيطالية في أوربا، أو مناطق عملھا في شمال أفريقيا، ومع بداية الحرب تأكد البريطانيون أن سقوط مالطا في يد قوات المحور أمراً محسوماً، مما دفع البريطانيون لعدم التضحية بأي من مواردھا لتأمين الجزيرة ضد ھجوم قوات المحور المتوقع في أي وقت على الرغم من الموقع الاستراتيجي للجزيرة ودورھا الھام على الطريق الملاحي بين أوربا وشمال أفريقيا، ولم تكن بالجزيرة قوة للدفاع عنھا سوى ستة طائرات متقادمة طراز غلوستر غلادياتور مزدوجة الأجنحة بريطانية الصنع، واستمر عدم مبالاة القيادة البريطانية بالجزيرة حتى الضربة الجوية الأولى التي قامت بھا قوات المحور، في ذلك الوقت فقط بدا للقوات البريطانية إمكانية الدفاع عن الجزيرة التي تعرضت لقصف شديد من قبل سلاح الجو الملكي الإيطالي )ريغيا أورونو تيكا( كما وقعت الجزيرة تحت

حصار بحري شامل، مما دفع السكان لتقنين الاستھلاك حفاظاً على ما بقى من المؤن. ومع بداية يوليو من العام نفسه، تم دعم طائرات غلوستر غلادياتور المرابضة على الجزيرة باثنتي عشرة طائرة أخرى من طراز ھوكر ھريكان، وفي تلك الأثناء زادت قوات المحور من إحكام حصارھا للجزيرة مدعومة بسلاح الجو الألماني، وزادت خسائر قوات الحلفاء بصورة كبيرة، كانت أبرز ھذه الخسائر قد تمثلت في غرق 113 سفينة محملة بالمؤن والعتاد للجزيرة قادمة من بريطانيا في قافلة مكونة من 115 سفينة. ومع مطلع عام 1942، انتھز البريطانيون حالة التراخي التي حلت بقوات المحور المحاصرة للجزيرة وتمكنت من نقل 61 طائرة من طراز سوبر مارين سبتفاير، مما حسن الأوضاع الدفاعية

للجزيرة بشكل كبير، وإن استمر النقص الحاد في المؤن والذخيرة. ً وزادت قدرة قوات الحلفاء على إيصال المؤن المطلوبة لمالطا تدريجيا على الرغم من تعرض السفن الناقلة لتلك المؤن لإصابات مباشرة خلال الطريق يستحيل معھا مغادرتھا الجزيرة مرة أخرى، وبنجاح الحلفاء في الدفاع عن الجزيرة والإبقاء على صمودھا وعدم سقوطھا في يد قوات المحور، أصبح للحلفاء اليد العليا في السيطرة على المتوسط، وأصبحت الجزيرة محطة انطلاق للغواصات البريطانية التي أغرقت العديد من سفن قوات المحور فيما بعد، والتي على أثرھا عانى رومل من نقص حاد في إمدادات الوقود خلال حملته في شمال أفريقيا. )8(

141

هوامش الفصل الأول

1. مكدوف، ھاري: الإمبريالية من عصر الاستعمار حتى اليوم، ص39ـ44 بيروت 1981 2. ھويدي، أمين: الأمن العربي في مواجھة الأمن الإسرائيلي، ص46 3. مكدوف، ھاري: الإمبريالية من عصر الاستعمار حتى اليوم، ص30ـ31، بيروت 1981 4. مكدوف، ھاري، نفي المصدر، ص39ـ44 5. البطريق، عبد الحميد: التيارات السياسية المعاصرة، ص67 6. شنايدر، لويس: العالم في القرن العشرين، ص11 وانظر أيضاً 7. مجموعة مؤلفين: الموسوعة العسكرية، ج1، ص619 8. الموسوعة الألمانية

142

ثانيًا : المقدمات السياسية

)خارطة اليونان : اللون الأزرق اليونان، والمناطق الأخرى أضيفت لھا بعد الحروب البلقانية، اللون الأصفر أخذته تركيا وفق معاھدة سيفر ولوزان(

كانت سياسة التوسع الألمانية )Expansionspolitic( تھدف إلى إزالة آثار الحرب العالمية الأولى التي كرستھا اتفاقية فرساي )حزيران / 1919( وإعادة تقسيم للعالم ، مثلھا ًمثل كافة الحروب الاستعمارية، وإقامة إمبراطورية في أوربا ترتكز على تحقيق سياسة التوسع شرقا، تحققت فيھا مستلزمات الدولة

العظمى : )مواد خام، أيدي عاملة رخيصة، أسواق تصريف، نقاط استراتيجية للوثوب إلى أھداف توسع جديدة(،

ففي المرحلة التي تلت الحرب العالمية الأولى بنتائجھا السياسية المعروفة التي كانت أبرزھا: تصفية ممتلكات الإمبراطورية العثمانية التي تقاسمھا الحلفاء المنتصرون. إلا أن التسوية مع الإمبراطورية الألمانية كانت مجحفة ليس فقط بسبب تصفية ممتلكاتھا الاستعمارية وأحلامھا في التوسع والاستيلاء على المزيد منھا فحسب، بل بسبب الأطماع الفرنسية في التوسع داخل ألمانيا نفسھا لتستولي على قلب المنطقة الصناعية الألمانية )الروھر ــ Ruher (، حيث مكامن ثرواتھا الطبيعية )الفحم الحجري والبني ومحطات

توليد الطاقة( الذي يمثل شريان الحياة الاقتصادية الرئيسي في ألمانيا ونعني بھا منطقة الروھر.

وقد أدى ذلك بادئ ذي بدء إلى أزمة اقتصادية مريرة في ألمانيا عرفت بفترة التضخم، وبدا أن كل شيء على وشك الانھيار التام لألمانيا ككيان سياسي، وكان النظام الملكي القيصري قد انتھى، ودخلت البلاد في

143

فوضى سياسية، حتى استقرت نسبياً بعد تأسيس جمھورية فايمار 1920/1919، ولم تكن عملية العبور إلى مرحلة ما بعد الحرب سھلة، إذ كانت مشحونة بالمخاطر على كيان الدولة ومقوماتھا الأساسية.

ولم يكن الامتھان الفرنسي للسيادة الألمانية التي احتلتھا فرنسا وبسطت سلطة الدولة الفرنسية فيھا بحجة إيفاء تعويضات الحرب الطائلة لينتھي عند ھذا الحد، بل مثلت معاھدة فرساي وملاحقھا ومنھا الاستيلاء على الروھر ودفع بألمانيا إلى حافة الھاوية، كما سلبت منھا منطقة الألزاس، ومناطق في الشرق )في تشيكوسلوفاكيا وبولونيا( من جملة الأسباب الحقيقية لاندلاع الحرب العالمية الثانية، ومثل قرار استعادة الروھر الذي اتخذته القيادة الألمانية القوة والعزم والتصميم لتصفية آثار مقررات مؤتمر فرساي، ولكنه مثّل بنفس الوقت أولى الخطوات على طريق تدھور الموقف السياسي في أوربا الذي أدى بعد ذلك بوقت

ليس طويل إلى الحرب العالمية الثانية.

والسيطرة على البلقان وشرق أوربا كانت فقرة مھمة في ھذه الاستراتيجية. أخذت ھذه الاستراتيجية سبيلھا إلى التنفيذ، ابتدأت بعملية الوحدة مع النمسا )Anschloss(، باعتراف دولي، ثم باحتلال نصف تشيكوسلوفاكيا)السوديت( أكملتھا باحتلال تشيكوسلوفاكيا بأسرھا مما أنھى واقعياً وعملياً دولة تشيكوسلوفاكيا، من خلال الاتـفاق الرباعي : ألمانيا ــ بريطانيا ــ فرنسا ــ إيطاليا )مؤتمر ميونيخ ــ 30 / أيلول / 1938( التي أقرت أن ألمانيا دولة يحق لھا أن تبلغ درجة الدول العظمى، في تصور باھت أنھم سيلجمون الطموح القوي لدى ألمانيا، من جھة، يتجنبون فيھا المواجھة، ويحافظون على قواھم ومصالحھم، من جھة أخرى، لكن إسراف ھتلر والقيادة الألمانية في الابتزاز، بلغ ح ّداً لا يمكن قبوله

وتحمله، بعد دخول ألمانيا إلى بولونيا في 1/ أيلول / 1939..

سياسة التھدئة والاحتواء وبناء الثقة انھارت إذن بدخول الألمان إلى بولونيا واحتلالھا، وكانت بريطانيا وفرنسا الدولتان والقوتان العظميان الضامنتان لاستقلال وسلامة كيان بولونيا، وھكذا دارت عجلة الحرب العالمية الثانية. وكانت إيطاليا تطمح لأن تلعب دوراً مھماً كدولة عظمى وتحقق الطموح الفاشي بتحويل البحر المتوسط إلى بحيرة إيطالية تعزز بعد احتلالھم ليبيا، فدخلوا يوغسلافيا وألبانيا، كان على ھذا الأفق العريض، بيد أن خطواتھم في الميادين كانت متعثرة ھناك، وابتھل الألمان الفرصة في إكمال المھمة، وفي خططھم الھيمنة التامة على البلقان وشرق أوربا، الأمر الذي سيتيح لھم مواصلة مساعيھم في البحر

المتوسط، وربما إلى شمال أفريقيا وقناة السويس، والمشرق العربي.

ومع اندلاع الحرب ودخول الجيش الألماني إلى البلقان يوغسلافيا وألبانيا لإسناد العمليات الإيطالية المتعثرة ھناك، تعاونت حكومات بلغاريا ورومانيا والمجر مع المحور)ألمانيا ــ إيطاليا(، وھكذا تمت السيطرة على شرق أوربا ضمن توجه استراتيجي ألماني لم يكن جديداً، بل كان قد بدأ يتبلور ويكتسب أبعاداً سياسية / وإيديولوجية جديدة من خلال نزعة التوسع التي أطلقھا العالم الجغرافي / الاستراتيجي كارل ھاوس ھوفر )Karl Haushofer( الذي ابتدع نظرية الأمن الألمانية المجال الحيوي )Lebensraum(، الذي غدا فيما بعد المحور الأساس لاستراتيجة الأمن القومي الألماني، ثم شاع استخدامه دولياً، حرفياً أو بإدخال تعديلات بسيطة، وفحواھا أن ألمانيا أمة صناعية ناھضة، ھي بحاجة إلى المستلزمات الرئيسية لتكون أمة عظمى، وھي المواد الخام والأيدي العاملة والأسواق، ثم اتخاذھا في مرحلة لاحقة نقاط وثوب لتوسعات جديدة. ثم انبثقت منھا نظرية سياسية / عسكرية استراتيجية من خلال نظرية الزحف نحو الشرق )Drangen nach Osten( وبعد وصول الحزب النازي للسلطة عبر الانتخابات عام 1933، بدأت ھذه السياسة تتخذ خطوات عملية، بقيادة ساسة مغامرين، وقادة عسكريين عباقرة حرب واستراتيجية. وعندما أنجز الجيش الألماني مھمة احتلال يوغسلافيا في 17 / نيسان / 1941، وھي الصفحة التي بدت الأسھل في جبھة البلقان، كانت مھمة احتلال اليونان ھي المقبلة والتي

كانت أكثر صعوبة بكثير من احتلال يوغسلافيا. 144

)الخارطة : الروھر قلب ألمانيا الصناعي(

ونال مصطلح المجال الحيوي الكثير من الاھتمام، مًن قبل العلماء والاستراتيجيين الألمان وغيرھم، وكان ھاوسھوفر يقصد بذلك حتمية التوسع الألماني شرقا وذلك من أجل الوصول إلى سھوب أوكرانيا وشرق أوربا الزراعي واستخدام الأيدي العاملة الشرقية في الصناعة الألمانية، والأمر ينطوي أيضاً على افتراض أن دول شرق أوربا تضم أقليات ألمانية، وأن التوسع الألماني في تلك الأرجاء سيجد من يتعاون معه ويسانده في بولونيا، جيكوسلوفاكيا، رومانيا، وھنغاريا، وأوكرانيا، والقفقاس، القرم، جمھوريات البلطيق ليتوانيا ولاتفيا واستونيا بالإضافة إلى الوجود الألماني الرسمي في بروسيا الشرقية وشمال

بولونيا.)1(

وقد مارست الحكومة الألمانية )بعد وصول ھتلر إلى الحكم 1933( ھذه الآراء بخطوات عملية، فقبل كل شيء استعادت منطقة الروھر بمظاھرة عسكرية صامتة، وسط ذھول فرنسي عجز عن إبداء ردة فعل مواجھة، واستطاع النظام الجديد )النازي( من حل معضلاته الاقتصادية )التضخم( وبذلك استعاد واستكمل الاقتصاد الألماني عافيته، وضاعفت الصناعة من ً نشاطھا وجودة إنتاجھا المعھودتين للتجارة وللآلة الحربية على السواء، وبدا ّ أن الظرف قد غدا مناسبا من أجل البدء بتحقيق ” المجال الحيوي الألماني ” ضمن الإطارات التي وفرت القيادة الألمانية مستلزماتھا في الحماية العسكرية والتغطية السياسية

والدبلوماسية في:

إتمام عملية الوحدة مع النمسا باتباع أساليب المؤامرة حيناً، والتھديد حيناً آخر، والقوة والإكراه، ويرافق ذلك استعراض شديد للقوة العسكرية. ض ّم أراضي السوديت التي تقطنھا غالبية ألمانية واقتطاعھا من حدود دولة تشيكوسلوفاكيا بالتھديد وبالمرونة مع فرنسا وبريطانيا، بتغطية دبلوماسية ناجحة في مؤتمر ميونيخ المشھور بين قادة دول: ألمانيا وبريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا.)2( اعتبرت القيادة الألمانية أن الممر الذي يربط الأراضي البولونية وكذلك استمرار مدينة دانزنغ تحت الحماية الدولية أمراً ما ّساً بسيادتھا الوطنية، ويخل بھيبتھا ونفوذھا، فطالبت بضم الممر الذي يربط ألمانيا بمدينة دانزنغ، بيد أن ذلك كان سيحرم بولونيا من إطلالتھا على بحر البلطيق، لذلك عارضته بقوة وببسالة، لا سيما وأن تجربة تفتت جيكوسلوفاكيا ككيان كان لما يزل ماثلاً.

145

وحين نفذت ألمانيا تھديداتھا باحتلال الممر بالقوة واصطدمت ببولونيا، تحركت أخيراً بريطانيا وفرنسا الضامنتين لسيادة بولونيا بعد أن أدركتا أن الاستراتيجية الألمانية إنما تھدف فعلاً إلى خلق قوة عالمية سياسية واقتصادية وعسكرية وذلك ما سيع ّرض نفوذھا ومصالحھا إن عاجلاً أو آجلاً إلى الخطر المباشر.

وھكذا نشبت الحرب العالمية الثانية بفعل تضارب المصالح الوطنية العليا، )حسب تقديرات القيادات السياسية آنذاك( بما يھدد ركائز أمنھا القومي القائم أساساً على صيانة الإمبراطوريات الاستعمارية وتوسيعھا، وبما أن ألمانيا الھتلرية مثلت طرفاً شرھاً لا يمكن احتماله، فالحرب بھذا المعنى كانت استباقاً لتوسع وتعاظم نفوذ ألمانيا وحليفتھا الأوربية إيطاليا، والحليف الآسيوًي، اليابان الذي كان ساعياً بدوره إلى التوسع وعلى حساب المصالح الأمريكية والبريطانية، إجھاضا لمحور قبل أن تتكامل خطوطه

فتصعب مقاومته.

وفي سياق استعراض حسابات الاستراتيجيين وخبراء الأمن القومي، وسنذكر ذلك كأمثولات وتمارين لقضايا الأمن القومي:

أولاً : بالنسبة لألمانيا : فقد كان التوسع نحو الشرق يؤ ّمن لھا: ضم النمسا والسوديت والممر البولوني سيؤدي إلى وجود دولة قوية في أوربا تضم حوالي 100 مليون نسمة. ضم الصناعة النمساوية والتشيكية إلى محصلة الإنتاج الصناعي الألماني. خلق منطقة نفوذ قوية في دول البلقان ستعود على ألمانيا بأعم الفوائد في مجال: جعلھا أسواق مغلقة للمنتجات الصناعية الألمانية. كسب مواقع استراتيجية على البحر الأسود)رومانيا( وعلى البحر المتوسط)يوغسلافيا(. مد الآلة الصناعية بالمواد الخام الأولى:الفحم الحجري البولوني، والنفط الروماني..إلخ سد حاجة ألمانيا التي تعتبر بلداً صناعياً بالدرجة الأولى من المنتجات الزراعية.

وبالفعل، سرعان ما أثمرت قبل نشوب الحرب في أيلول ـ سبتمبر/1939، فقامت حكومات حليفة لھا في بلدان شرق أوربا، ھنغاريا، رومانيا، بلغاريا، يوغسلافيا، عدا حليفتھا الأساسية في القارة)إيطاليا( وطرحت ھذه المعطيات ألمانيا طرفاً دولياً مھماً ومنافساً للبلدان العظمى في أوربا وغيرھا، في حين أنھا كانت لفترة وجيزة خلت دولة تحت المراقبة ومعاقبة من قبل الحلفاء كواحدة من نتائج الحرب العالمية

الأولى.

ثانياً : بالنسبة لبريطانيا : بدت الظاھرة الألمانية مقلقة لأكثر من سبب: إن التو ّسع في القارة الأوربية ولا سيما في البلقان التي لم تخ ُل من اھتمامات الاستراتيجيين الإنكليز سيع ّرض نفوذ وھيبة بريطانيا للتدھور. إن التو ّسع السياسي على الأرض يرافقه الإنتاج الصناعي النشيط والمشھور بجودته وغزارته، لا بد أن يرافقه تو ّسع تجاري واقتصادي عام وسيكون ذلك على حساب التجارة البريطانية. إن سياسة التو ّسع الألمانية والتي كانت تجري تحت شعار ” المجال الحيوي ” تثير في بريطانيا ذات المخاوف التي كانت في سبيلھا إلى التحقق قبيل وأثناء الحرب العالمية الأولى تحت شعار ” الزحف نحو الشرق ” Drangen nach Osten التي كانت ألمانيا تعتمد فيھا على حليفتھا الإمبراطورية العثمانية في التوغل شرقاً حتى الخليج العربي وطرد النفوذ البريطاني من تلك الأرجاء التي كان بدء اكتشاف واستخراج النفط يب ّشر بمكانتھا الاستراتيجية. ومن المعروف أن تركيا كانت قد أعلنت الحياد في الحرب العالمية الثانية، وإن كانت تتعاطف مع ألمانيا ليس فقط للأسباب التاريخية المعروفة، بل وتطميناً لمخاوف أمنھا القومي، وذلك من احتمالات تف ّوق

146

سوفيتي )بنتائج الحرب(، وھو ما حصل حقاً فيما بعد، وتجديد السوفيت لمطالبھم القديمة بمقاطعتي قارص وأردھان التركيتين، بالإضافة إلى مخاوف من فرض عناصر جديدة )شروط( على المضائق البوسفور والدردنيل، تقلص من حدود السيادة التركية عليھما، وكان أي انتصار ألماني جديد بعد عام 1943 سيدفع بتركيا إلى المحور، الأمر الذي سيفتح أبواب الشرق الأوسط على مصراعيه أمام قوى التوسع الألماني، وكان الشرق الأوسط حتى ذلك الوقت ملعباً للفعاليات البريطانية تھيمن على معظم أقطاره وتستحوذ على

ثرواته الطبيعية وفي مقدمتھا النفط.)3(

كان لتحالف ً ألمانيا مع إيطاليا ذات الأطماع الاستعمارية في القارة الأفريقية، وليس في ليبيا فقط، بل

التوسع شرقا لبلوغ مصر والسودان، ومن الاتصال بالوجود الإيطالي في منطقة القرن الأفريقي، )أثيوبيا(

فذلك كان يعني السيطرة على قناة السويس التي تمثل عصب الملاحة التجارية والحربية لبريطانيا إلى

مستعمراتھا في القارة الأفريقية وإلى شبه القارة الھندية وإلى الملايو في آسيا، وتشكيل كماشة وحصار

ًً ًً
الوجود البريطاني الذي سيغدو ضعيفا )نسبيا( في المشرق العربي، ثم غدا أكثر ضعفا )لاحقا( بعد انضمام

الوجود الفرنسي في المشرق العربي)سوريا /لبنان( إلى حكومة فيشي الفرنسية الموالية للألمان، وكذلك الوجود الفرنسي في المغرب العربي )تونس، المغرب، الجزائر( بالإضافة إلى نشاط فعاليات حركة التحرر الوطنية والقومية النشيطة في مصر والعراق وفلسطين الھادفة إلى طرد الوجود البريطاني، وقد ثبت لاحقاً أن لھذه المخاوف ما يبررھا، إذ كاد الفيلق الألماني وقوات المحور بقيادة الماريشال رومل أن

يحقق ھذه الاستراتيجية وكاد يبلغ قناة السويس. بالإضافة إلى المخاوف البريطانية في القارة الأوربية وأفريقيا آنفة الذكر، فإن احتمالاً ينذر بالخطر يتمثل بالقوة اليابانية في آسيا التي لم تكن تخفي أطماعھا بالوصول إلى مستعمرتين رئيسيتين لبريطانيا تمثلان المستودع البشري والاقتصادي لھا، وھما أستراليا والھند، وكان للتحالف الألماني الإيطالي ــ الياباني ما يمنح ھذه المخاوف أبعاداً جدية.

مثّلت ھذه المعطيات بالإضافة إلى عناصر ثانوية تتمثل بمصداقية التحالفات البريطانية في أوربا، تحالفھا مع فرنسا، ضمان وجود واستقلال بولونيا، مثّلت عناصر موقف استراتيجي ينذر باحتمال خرق خطير لأمن الإمبراطورية لابد من استباقه، ووضع حد لتدھور الموقف ولإيقاف عجلة الأحداث التي تدور في

غير صالحھا.

ثالثاً : بالنسبة لفرنسا : ّ ً ً لا ب ّد من ذكر حقيقة مثلت مؤشرا أساسيا في موقف فرنسا السياسي/العسكري وذلك بضعف القيادات السياسية والعسكرية والتناقضات التي كانت تسود صفوفھا من جھة، وضآلة استيعاب الأوساط الاستراتيجية تأثيرات الثورة العلمية التكنيكية على قضايا الأمن القومي والدفاع الوطني من جھة أخرى.

وقد أدى كل ذلك إلى تخلخل مواقفھا وتميزھا بالتردد وافتقاد الحزم المطلوب، واتسمت بالسلبية والتراجع إزاء زخم الموقف السياسي والعسكري الألماني. وكان ضعف العناصر المعنوية عاملاً ھاماً في ھذا التراجع، فالفرنسيون كانوا قد خبروا أكثر من غيرھم الحروب وعواقبھا، بصفة خاصة حروبھم مع الألمان الذين سبق لھم أن احتلوا عاصمتھم مرة قبل ذلك وحاصروھا مرة أخرى، بالإضافة إلى خسائرھم الھائلة بالأرواح في الحرب العالمية الأولى التي ش ّكلت إحدى العوامل النفسية، بالإضافة إلى ترددھم

وتھيبھم من خوض غمار حرب جديدة ستكون أشد ھولاً وتدميراً.

وكانت فرنسا تعمل بتنسيق سياسي وعسكري مع بريطانيا التي كانت تدفع الفرنسيين إلى مواقف الصلابة والصمود لا سيما في الأيام التي سبقت إعلان الحرب، ليس بغرض كسب فرنسا إلى جانبھا في الصراع المسلح، بل وبسبب أن فرنسا تمثّل الموقع الأكثر تأھيلاً ومعقولاً كرأس جسر عبر بحر المانش لأية

147

فعاليات عسكرية حالية أو مستقبلية في القارة الأوربية، لذلك فالإنكليز لم يكونوا يدخرون وسيلة لشد عزائم الفرنسيين، أما مفردات الموقف السياسي والاستراتيجي الفرنسي، كانت في أھمھا:

الحفاظ على التوازن في القارة الأوربية، وبذل أقصى المساعي السياسية والدبلوماسية للحد من التوسع الألماني، فقد تجرعت فرنسا بصعوبة مرارة التوسع الألماني :

* في انتزاعھا منطقة الروھر من فرنسا نفسھا باستعراض للقوة. * ضم السوديت التشيكية إلى ألمانيا. * ضم النمسا في عملية الوحدة )الأينشلوس( Einschluss .

2. في عموم التطورات السياسية والأحداث المتدھورة باتجاه حرب عالمية، كان من العسير أن تبقى فرنسا خارج تحالفاته، ففي ذلك خسران مبين لمكانتھا وھيبتھا كدولة عظمى ولمصالحھا العالمية، سواء في مستعمراتھا الأفريقية التي يھددھا الخطر الألماني ـ الإيطالي، أو في مستعمراتھا الآسيوية التي يھددھا

الخطر الياباني.

3. كان لموقع فرنسا الجغرافي في القارة الأوربية وكدولة ذات حدود مشتركة مع ألمانيا، يفرض عليھا

موقفاً تختلف فيه عن بريطانيا التي يفصلھا بحر الشمال)المانش(عن الب ّر الأوربي، ولا يمكنھا أن تراقب

التھام ألمانيا لدول وأرا ٍض في الشرق، وتوسيع نفوذھا السياسي شمالاً في فنلندة والنرويج، وتعد ذلك أمراً

لا يعنيھا، وتراقب تضاعف عدد وعتاد الجيش الألماني )وتلك كانت مخالفة صريحة لاتفاقية فرساي(

ليصبح قوة لا تقھر في أوربا، وأن تعتبر أن ذلك لا يھددھا. وباختصار فقد كان موقف الحياد مستحيلاً في

ظروف ومواقف كھذه.

4. على الرغم من مطالبة وأطماع إيطاليا بجزء من الجنوب الفرنسي لم يكن ليمثل مشكلة جدية ذي بال،

ًًً
إلا أن تحالفھا مع ألمانيا سيجعل من ھذه الأطماع أمرا قابلا للتحقيق، وھو ما حدث لاحقا.

وھكذا، فإن فرنسا دخلت الحرب شبه مكرھة وبدون حماس، وتلك من جملة العوامل التي تفسر الانھيار الفرنسي السريع لفرنسا واستسلامھا.

رابعاً : بالنسبة للاتحاد السوفيتي : ً كانت الدولة السوفيتية حديثة العھد ولا يتجاوز عمر تجربتھا العشرين عاما إلا بقليل، وتلك كانت حافلة بالأحداث كرست لھا قيادة الدولة جل اھتماماتھا، وقبل كل شيء، فقد استغرق تثبيت سلطة الدولة ضد قوى التدخل من الخارج زمناً لم يكن قصيراً، ثم تحقيق المستلزمات الأولى لبرامج الدولة في مجالات الصناعة والزراعة، ثم حملات التطھير الداخلية التي لم تخ ُل من تأثيراتھا السلبية على استعداد الدولة لمجابھة القوى الخارجية.

وبرغم أن المشكلات الداخلية في بناء الدولة والمجتمع كانت تتطلب بذل جھود كبيرة، إلا أنھا واجھت أيضاً مشكلات خارجية تمثّلت بالأطماع التوسعية لليابان التي ابتدأت التحرش بالحدود السوفيتية في منطقة “خالخين غول “1939 حيث اشتبك الجيش السوفيتي مع الجيش الياباني في صراع استمر 4 شھور، وكذلك الحرب المحدودة مع فنلندة، كما بُذلت الجھود الكبيرة في الميدان السياسي الخارجي لمراقبة

الأحداث في أوربا التي كانت تقود بصورة حتمية إلى الحرب وإلى صراع دولي واسع وقريب.

إلا أن القيادة السوفيتية حاولت ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً تجنّب خوض الحرب، إذ كان الموقف العسكري والاستراتيجي يشير في مفرداته، أن الاتحاد السوفيتي سيواجه لمفرده زخم الھجمات الألمانية العنيفة بالنظر لھشاشة الموقف العسكري والسياسي في أوربا، وأن السكون في الجبھة الغربية سيكون طويلاً. وفي المراحل اللاحقة، أيقنت القيادة السوفيتية أنھا ستتصادم لا محالة بالتوسع الألماني باتجاه القمح الأوكراني وحقول النفط في باكو من أجل تسيير ماكينتھا الحربية، إلا أنھا تابعت كسب الوقت لتھيئة

جيوشھا للعدوان المرتقب رغم اتفاقية التعاون المعقودة بين الدولتين. 148

بيد أن القيادة الألمانية لم تنتظر طويلاً، فارتكبت غلطتھا الاستراتيجية الثالثة بإعلان الحرب على الاتحاد السوفيتي متجاوزين بذلك أولى مبادئ المف ّكر الاستراتيجي الألماني كلاوس فيتز بعدم خوض الحرب على جبھتين)4(

وقد ع ّولت القيادة السوفيتية في سلامة أمنھا القومي على: مساحة البلاد الشاسعة: وتتيح ھذه فرص وإمكانيات ممتازة لا سيما إذا أحسن استخدام ھذه الميزة: في إجراء المناورات الواسعة بالقطعات خلال القتال. إنھاك العدو بجبھة وعمق واسعين. توزيع مراكز الإنتاج الصناعي بما يضمن سلامة المنشآت من التدمير أو الاحتلال، وبالفعل قامت القيادة السوفيتية، وتلك واحدة من مآثرھا، بنقل الصناعات فور نشوب الحرب إلى ما وراء سلسلة جبال الأورال في أعماق القسم الآسيوي من روسيا.)5( القدرة على امتصاص زخم الھجمات، واستيعاب بعض الھزائم. أتاحت مساحة البلاد الواسعة إمكانية متابعة الإنتاج الزراعي في خدمة اقتصاد الحرب. السكان: أتاح ارتفاع عدد سكان الاتحاد السوفيتي زج أعداد ھائلة من المقاتلين في الصراع المسلح سواء في القوات المسلحة أو في القطاعات الرافدة للمجھود الحربي، وبدرجة أساسية في الصناعات الحربية وكذلك في الإنتاج الزراعي والصناعي واستيعاب الخسائر العالية في الأرواح دون أن يؤثر ذلك على جاھزية جيوشھا القتالية. التعبئة القصوى للطاقات: استخدمت القيادة الّسوفيتية مساحة البلاد الشاسعة والارتفاع في عدد السكان بصورة ممتازة من خلال عمل دؤوب ومنظم وبانضباط عا ٍل، أمكن من خلاله إنجاز حجم ھائل من الإنتاج الحربي للقوات المسلحة، كما أنجز العلماء تطوير مھم في أداء وكفاءة بعض الأسلحة، بما في ذلك فقرات أساسية مثل: الدبابات ت34 ومدفعية الميدان، وراجمات الصواريخ، كما قامت الفصائل المنظمة في المناطق التي احتلھا الألمان، وفي الأعماق خلف خطوط الجبھة، بنشاطات فعالة ضد منشآته وخطوط مواصلاته البعيدة. استنزاف الجيش الألماني: كانت القيادة الألمانية قد ص ّممت خططھا الحربية ضد الاتحاد السوفيتي على أساس الحرب الصاعقة Blitz Krieg وذلك بتوجيه ضربة قاضية للجيش السوفيتي، مع تدمير واسع النطاق يلحقه الطيران الألماني بالخطوط والمعسكرات الخلفية والمصانع ومحطات الطاقة والمواصلات، والمخزون الاستراتيجي للغذاء، أي تدمير البنى الأساسية بما يحول دون إمكانية مواصلة الصمود والحرب.

وكانت الجيوش الألمانية قد اشتھرت بتطبيق خطط الحرب الصاعقة )Bliz Krieg( وبرعت بھا على الجبھة الغربية، التي تعتمد بدرجة رئيسية على: قوات الطيران التي تنزل أفدح الخسائر بالبنى الارتكازية Infrastrktur التي يصعب عادة إعادة تشييدھا بسرعة، وتكلف أموالاً وجھوداً كبيرة. ضغط بالنيران على كافة الجبھات، من أسلحة حديثة تتمتع بكثافة نارية شديدة. قطعات آلية ) دروع/ مشاة مدرع( واستخدام كثيف للآليات التي تتيح إجراء خروق في الجبھة في وقت قصير وفي مناطق متعددة، والقيام بمناورات واسعة بالقطعات. تعاون وثيق بين الصنوف، بقيادة الأركان الألمانية التي اشتھرت بكفاءتھا.

وكان الألمان يعولون على نجاح خططھم، وإحراز نصر سريع على الجبھة الشرقية، ليتفرغوا بقواھم وجھدھم الحربي لمواجھة التطورات والاحتمالات على الجبھة الغربية، وقد حقق الجيش الألماني فعلاً نجاحات باھرة على الجبھة الشرقية، إذ احتلت أو أطبقت في وقت قصير على مدن سوفيتية مھمة.

149

أما السوفيت فكانوا يعولون على قدرة الشعب الروسي المشھود لھا عبر التاريخ بالصبر على الشدائد

ً
وتحمل المشاق والكوارث، فتمكنوا وبعد وقت قصير )نسبيا( من تعبئة قواھم والصمود، ثم استيعاب زخم

الھجمات الضارية للجيوش الألمانية واحتوائھا، ثم بدأ تقھقر الجيوش الألمانية إلى الخلف تتعقبھم الجيوش السوفيتية منزلة بھم أفدح الخسائر، ويتفق الكثير من المؤرخين أن الوقفة الدفاعية الباسلة أمام ستالينغراد وموسكو ولينينغراد، ھي التي طحنت أفضل القوى الألمانية، وحسمت الحرب العالمية الثانية.

ً
وإذا كانت ردود الأفعال السوفيتية قبيل الحرب قد اتسمت بالسلبية )نسبيا( إذ أنھا اعتبرت ما يدور في

القارة الأوربية ھو عبارة عن تنافس بين مستعمرين وإمبرياليين جدد وقدامى، وليس من مصلحتھا في شيء أن تزج بنفسھا في أتون صراع يدور بين أعدائھا “الطبقيين”، إلا أن ردود أفعالھا اللاحقة وسعة أفق دوائرھا الاستراتيجية اتسمت بالدقة وشمولية الموقف الحالي والتنبؤ بالأحداث اللاحقة والتطورات السياسية حتى لمرحلة ما بعد الحرب، واستثمرت معطيات الموقف السياسي والعسكري والمنجزات التي

تم تحقيقھا على الأرض، وأن تحقق لنفسھا مرتبة قيادية في العالم تساھم في صنع أحداثه ومستقبله.

خامساً : بالنسبة للولايات المتحدة: كانت الولايات المتحدة قد عقدت العزم على الابتعاد قدر الإمكان عن أوربا ومشكلاتھا، فالولايات المتحدة كانت تھتم بدرجة رئيسية بأميركا اللاتينية ودول الكاريبي والمحيط الھادئ وتسير قدماً في برنامجھا الذي يھدف إلى تطوير استثماراتھا، ويضمن لھا موقعھا البعيد قدراً كبيراً من الأمن والسلام.

وكانت قد راجت في الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الأولى فكرة الانعزال )Isolation(، و ” لن نبعث بشبابنا إلى أوربا مرة أخرى” وبالفعل فقد بدا في بداية الحرب للأمريكيين أنھا فرصة مناسبة للاستثمار والربح فحسب، إذ صدر قانون الإعارة والتأجير الذي د ّر عليھا أرباحاً طائلة)قدمت الولايات المتحدة البوارج الحربية والسفن، ومعدات كثيرة لبريطانيا تحت ھذا القانون(، ومن جھة أخرى، فأنھا لم تكن منزعجة من النجاحات الألمانية على الجبھة السوفيتية، إذ عبّر السياسي الأمريكي ترومان: “إذا

ً
طحن الألمان السوفيت فھذا جيد، وإذا طحن السوفيت الألمان فھذا جيد أيضا”.

إلا أن ھذا الموقف السلبي تطور، ليس بفعل تطور الأحداث في القارة الأوربية فحسب، حيث غدا واضحاً مصير ألمانيا في الحرب، بل بفعل تدھور الأوضاع في المحيط الباسفيكي”الھادئ”، واصطدام مصالحھا العليا بالتوسع الياباني الذي بات يھدد مصالحھا بصورة مباشرة في استيلاء اليابان على جزر استراتيجية مھمة، وأظھرت أطماعھا في جزر الفلبين، لذلك فإن التناقضات بدأت تتحول إلى تناقض تناحري، كان لا

بد في نتيجته الحتمية أن يقود إلى الصراع المسلح، وكانت أبرز المؤشرات في استراتيجية أمنھا القومي:

1. لا ب ّد من تحقيق السيطرة والھيمنة على الباسفيك، وإجلاء أي قوة تھدد المصالح الأمريكية الاقتصادية والسياسية والعسكرية.

سيتيح بُعد الأراضي الأمريكية “الوطن الأمريكي” عن ساحات القتال إلى إنتاج صناعي وزراعي غزير للحرب وللتجارة على السواء، وفي الواقع لم تنزل أية قذيفة على الأراضي الأمريكية طيلة زمن الحرب. تحقيق ھيمنة اقتصادية على العالم الرأسمالي وذلك عبر: سحب الولايات المتحدة معظم أرصدة بريطانيا من الذھب واحتياطيھا من العملات مقابل تقديم المساعدات الاّقتصادية والعسكرية. حقق التقدم العلمي والتكنولوجي والإنتاجية العالية غزارة في الإنتاج الحربي والتجاري على السواء بواسطة قانون الإعارة والتأجير. تصدير نمط جديد من الإمبريالية لن تكون مختلفة جوھرياً عن الأنماط الاستعمارية المعروفة في نھب ثروات البلدان النامية، حيث تتم عصرنة Modernisation للأساليب الاستعمارية التي لاقت شجباً واسع النطاق.

150

ولسنوات )استغرقت حتى أعوام الخمسينات( كانت الولايات المتحدة قد أنجزت الكثير في ھذا المجال، فالدول الرأسمالية لم تعد أكثر من توابع في النظام الرأسمالي العالمي الذي يقوده وتسيطر عليه الولايات المتحدة الأمريكية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، كما أنھا غدت الحلقة المركزية في الأحلاف العسكرية التي شملت العالم بأسره في إطار ما يسمى “بالعالم الحر” وبمواجھة الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي، وقمع حركات التحرر الوطنية التي تسعى إلى تعزيز استقلالھا السياسي والاقتصادي. وقد

طبعت ھذه المؤشرات الاتجاھات الرئيسية في السياسة الدولية.

وتشير الدروس المستفادة من الأمثولات التي استعرضناھا، ما للتطورات السياسيةً: الأحلاف والمحاور والتكتلات من أھمية على تطور مفھوم الأمن القومي، ذلك التطور الذي كان مترابطا بصورة وثيقة بـ: ـ تطور الأنماط السياسية والقانونية المنظمة للمجتمعات)تطور مفھوم الدولة(. ـ شكل وحجم الإنتاج الاقتصادي. ـ التط ّور العلمي والتكنيكي.

ويجمع المؤرخون أن القرن العشرين مثّل قفزة ھائلة في تاريخ البشرية على كافة الأصعدة، وأن الحرب العالمية الأولى وبرغم مساھمة كأطراف دولية عديدة فيھا، إلى أنھا كانت محدودة في زمنھا وخسائرھا، وفي النتائج التي تم ّخضت عنھا قياساً إلى الحرب العالمية الثانية التي أفرزت واقعاً سياسياً دولياً جديداً يتمثّل بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية للعالم الرأسمالي سياسياً واقتصادياً وعسكرياً مقابل قيادة الاتحاد السوفيتي للمعسكر الاشتراكي، كما أدى تح ّرر عدد كبير من البلدان والشعوب المستعمرة، وغدا من العسير تحديد عناصر الأمن القومي لدولة ما في العالم دون أن يرتبط ذلك بالأوضاع السياسية

والاقتصادية على الصعيد العالمي.)6(

هوامش الفصل الثاني

)1( رياض، د. محمد: الأصول العامة في الجغرافية السياسية والجيوبوليتيكا، ص90 )2( أدى قبول تشيكوسلوفاكيا الإنذار النھائي الألماني Ultimatum بنصيحة فرنسية بريطانية، تم بموجبھاسلخإقليمالسوديتالذي ُضّمإلىألمانيا،أدىإلىتفسخالدولةالتشيكيةبعدذلكبوقتقصير.

المؤلف ّ )3(. يمثل الموقف التركي في المحافظة على أمنھا القومي إبان الحرب العالمية الثانية، إحدى أمثولات العمل السياسي الحذر، على أن تركيا أعلنت الحرب على المحور قبل نھاية الحرب العالمية الثانية ببضعة شھور. المؤلف )4(. كانت الغلطة الاستراتيجية الأولى بسماحھا لبريطانيا الانسحاب من دنكرك، معتقدة أن ذلك يحفظ كرامة الجيش البريطاني ويسھّل سبيل مفاوضات سياسية لاحقة، والغلطة الثانية كانت بعدم مھاجمة الجزيرة البريطانية واحتلالھا في وقت كانت فيه الجيوش البريطانية ضعيفة لجھة العتاد العسكري ومنھكة ولا قبل لھا بصد الإنزال الألماني. المؤلف )5(. من الواضح أن عملاً كھذا لن يكون اليوم مجدياً بتلك الدرجة كما كان في ظروف ً الحرب العالمية الثانية، ذلك أن الصواريخ والطائرات الحديثة باستطاعتھا الوصول إلى مسافات بعيدة جدا، وفي ذلك دليل جديد على أھمية التكنولوجيا وتأثيرھا على قضايا الأمن القومي. المؤلف )6( الدباغ، د. ضرغام : قضايا الأمن القومي والقرار السياسي، بغداد 1985

151

ثالثًا : بدء العمليات الحربية في اليونان

ابتدأ الھجوم على اليونان وكان حصيلة تحالف سياسي / عسكري، ألماني ــ إيطالي ــ بلغاري، في 6 / نيسان / 1941 بقصف كثيف للخط الدفاعي اليوناني القوي ميتاكساس )Metaxas( في شمال البلاد. وفي مذكرة رسمية ذكرت الحكومة الألمانية أن أسباب الھجوم ، ھو بسبب القرار الذي اتخذ بإرسال عشرات الآلاف من الجنود مجھزين في قوة استطلاع بريطانية على البر اليوناني الرئيسي في بداية شھر آذار / 1941، ومن مخاطر تشكل جبھة جديدة في جنوب أوربا. )1(. )1( ھناك مئات الجزر ًاليونانية تعد أراضي سيادة يونانية، والمقصود البر الرئيسي الذي يضم العاصمة، ويتصل بسائر أوربا برا.

152

)الخريطة : لاحظ موقع مدينة سالونيكي وأمامھا الخط الدفاعي على حدود بلغاريا، والسھم الجنوبي باللون الأحمر يشير للھجوم الجنوبي(

عبرت قطعات الفيلق الجيش الألماني 12 الذي يقوده الفيلد مارشال فيلھام ليست، الحدود البلغارية ــ الألمانية إلى اليونان، بتاريخ 6/ نيسان /1941، وھنا خدمتھم التسھيلات الجيدة في ميناء بيرايوس )Piraus( التي رغم أنھا كانت قد تضررت بالقصف الجوي الألماني في 7/ نيسان، حيث استھدفت سفينة بريطانية كانت محملة بالذخائر، وفي 9 / نيسان اقتحمت قوة ألمانية بدعم جوي قوي، الدفاعات الجوية القوية، في ميتاكساس )Metaxas( بالقرب من منطقة فورتروبل، في وادي ستريموناس، وفي اليوم نفسه وصلت وحدات مدرعة ألمانية إلى ثيسالونيكي، واحتلت المدينة، وأحكمت الحصار على الجيش اليوناني الثاني، الذي تحتم عليه الاستسلام.

وفي نفس الوقت، تقدمت قوات ألمانية للاستيلاء على فاردارسكا بانوفينا،)اليوم في مقدونيا(، على امتداد وادي فاردار ومناطق فلورينا بيتولا باتجاه اليونان، والتقوا في ذلك مع الجناح الغربي مع وحدات بريطانية )مختلطة من دول الكومنولث(، بقيادة الجنرال ھنري ويلسون، عند خط اليكامونس. وفي 11 / نيسان / 1941 استولت الوحدات الألمانية على ممر كليدي جنوب شرق فلورينا، وبعدھا يوم 14 / نيسان كوتساني. وفي 16 / نيسان، أبلغ الجنرال البريطاني ويلسون قراره للقائد العام للقوات اليونانية انسحابه من مواقعه، وتأسيس خط دفاعي جديد في ترموبيلي، وسھّل ذلك لمزيد من توغل القوات الألمانية، إلى

الداخل اليوناني.

)الفريق طيار شتودنت قائد الحملة الألمانية على اليونان(

في 16 / نيسان اصطدمت قوات ألمانية، بقوات الجيش اليوناني

الأول المنسحبة من ممر كاتارا التي أصبحت محاصرة من الألمان من جھة الشرق والغرب، وتحفھا سلاسل الجبال. فساء الموقف العسكري بدرجة كبيرة. في 18 / نيسان انتحر في أثينا رئيس الوزراء اليوناني الكسندروس كوريزيس، وتشكلت حكومة جديدة، فيما حدثت خلافات بين القادة العسكريين، انتھت باستسلام الجيش اليوناني. وانسحب الملك اليوناني حيث أبحر الملك جورج الثاني مع حكومته إلى جزيرة كريت.

بتاريخ 21 / نيسان أمر القائد العام لقوات الحلفاء في البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط أرشيبالد ويفل الأمر بإخلاء قوات الحلفاء إلى جزيرة كريت ومصر،في عملية أطلق عليھا )Demon( وحتى 30 / نيسان، أمكن إخلاء حوالي 50,000 جندي تاركين أسلحتھم أو معدات ثقيلة، بواسطة البحرية البريطانية، عبر موانئ أتيكا، وبيلوبونيس. في 24 / نيسان تخلت قوات الحلفاء عن مواقعھا في نرموبيلي ، وفي اليوم التالي 27/ نيسان دخلت الفرقة المدرعة الخامسة الألمانية إلى العاصمة أثينا. وبذلك انتھت الحملة في البر اليوناني، في 29 / نيسان، بالاستيلاء على مدن جنوبية، كما احتلت جماعات مشاة ألمانية ومحمولة جواً العديد من الجزر الكبيرة ذات الأھمية، بما في ذلك ليمنوس، وليسبوس، وخيوس، وأحتلت

القوات الإيطالية جزراً يونانية أخرى .

153

بلغت خسائر الحلفاء على البر اليوناني 12,000 أسير حرب، وجميع المعدات والأسلحة الثقيلة، وخسائر الألمان على الأرض اليونانية بلغت 2.559 قتيل، و 5.820 جريح، و 3.169 مفقود.

وكريت كقاعدة عسكرية لبريطانيا كانت تعني قدرتھا على الوصول إلى بحر إيجة، وقصف حقول النفط في رومانيا )كيلا يستفيد منھا الألمان(، لذلك اتجھت أنظار القيادة العسكرية الألمانية فوراً إلى كريت، لتنفيذ عملية سيتولى السلاح الجوي القسم الأكبر منھا.

حتى الاستسلام النھائي، كان لدى الجيش الألماني نحو 210.000 جندي يوناني، ثم اتسع الرقم ليبلغ 430.000 رجل، يمثل مجموع الجيش اليوناني، أطلق سراحھم جميعاً بعد فترة وجيزة، استطاع بعضھم الفرار ليلتحق بتشكيل عسكري يوناني في مصر يضم 20,000 رجل قاتلوا في العلمين وفي إيطاليا

)الصورة : جنود ألمان في الأكروبوليس / أثينا(

ولم يكن بالإمكان تجاوز عقدة سالونيكي، إلا بعد نجاح الھجوم من جنوب يوغسلافيا، وبذلك أصبحت مدينة سالونيكي خلف الخطوط الدفاعية ميتاكساس. وفي 9 نيسان، تم احتلالھا )سالونيكي(. وقد استسلمت كافة القطعات اليونانية المقاتلة شرقي نھر أكسيوس )Axios( والبالغ عددھا نحو )60,000( جندي

وضابط.

وبقطعات آلية ألمانية مدربة أفضل تدريب وقادة عسكريون ممتازين، كان ممكناً قيادة حرب آلية متحركة وسريعة، تقدمت فيھا القطعات الألمانية التي توغلت عبر الحدود الصربية )يوغسلافيا( والأولمب، وتقدمت بسرعة كبيرة وبلغت حتى أواسط البونان، وفي 20 نيسان بغت حتى مدينة لاميا )Lamia( مباشرة أمام الموقع التاريخي الشھير، )Thermopylen(، خلف مواقع كان الجيش البريطاني قد انسحب إليھا. وبعد يوم واحد استسلمت 16 فرقة من الجيش اليوناني كانت تمسك خط الحدود اليونانية / الألبانية،

وبذلك انھارت المقاومة اليونانية )2( .

وحتى تاريخ 30 / نيسان احتل الجيش الألماني والوحدات الإيطالية كامل الأراضي اليونانية )الأرض الأوربية، عدا الجزر(، والجزر المھمة في البحر الأبيض المتوسط، عدا جزيرة كريت )Kreta(، وكان )50,000( جندي بريطاني قد تمكنوا في غضون ذلك من الإخلاء إليھا )إلى كريت( من اليونان، وإلى قاعدة الجيش البريطاني في مصر خلال عملية إخلاء أطلق عليھا اسم ديمون )Demon(، بواسطة

154

1944.

كانت القوى الأساسية للجيش اليوناني تتألف من فرق تضم وحدات مشاة، بعضھا آلية. وبسبب افتقارھا للأسلحة الثقيلة، وما يلزم من الدعم الجوي، اعتبرت القيادة العليا للقوات المسلحة الألمانية الجيش اليوناني خصماً متخلفاً وضعيفاً، وكان الأمر كثيراً للدھشة ومفاجأة للجيش الألماني 12 الذي كان بقيادة الفيلد ماريشال )المشير( فيلھام لايست )1880 ــ 1971( الذي واجه مقاومة يونانية مريرة في خطوط

ميتاكساس الدفاعية.

السفن، ولكن سقط )12,000(. جندي بريطاني في أيدي الجيش الألماني كأسرى حرب، فيما أطلق الألمان سراح حوالي )223,000( جندي يوناني.

)الصورة : أسرى الجيش البريطاني “ھنود” في اليونان(

أت ّم الجيش الألماني احتلال اليونان وأنجزه بصفة تامة في شھر أيار 1941، وابتدأ نظام الاحتلال الذي بدأ باستسلام الجنرال جورجيوس تسولاكولو في 22 / نيسان / 1941 وانتھت بانسحاب القوات المسلحة الألمانية وغيرھا من أثينا في 12 أكتوبر 1944. وبالنسبة للنظام الذي نصبه الاحتلال الألماني في اليونان، قامت مجموعات وحركات مقاومة والسنوات اللاحقة، مقاومة كانت فاعلة وألحقت بالألمان الكثير من الخسائر. وبانسحاب البريطانيين من اليونان، وبعدھا احتلال كريت نفسھا بواسطة عملية جوية )إنزال مظلي( التي أطلق عليھا اسم عملياتي ميركور )Merkur( في بداية شھر حزيران / 1941 ، كانت

الأھداف الاستراتيجية لعمليات البلقان قد تم إنجازھا. )3( )4(

155

هوامش الفصل الثالث

ھناك مئات الجزر اليوًنانية تعد أراضي سيادة يونانية، والمقصود البر الرئيسي الذي يضم العاصمة، ويتصل بسائر أوربا برا. موقع ترموبيلي )Thermopylen( الشھير حيث دارت معركة تاريخية بين اليونانيين والفرس، واستطاع اليونانيون أن يلحقوا ھزيمة منكرة بالفرس وجيشھم الجرار، بكوكبة من المقاتلين الأشداء لا يزيد عددھم عن 300 مقاتل. 3 . Deutsche Besatzung Griechenlands im Krieg Ohne Plan, aber mit Antike 08.06.2016 Constantin Fellner

4. Deutsches Historisches Museum, Berlin, 19 . Mai. 2015

156

رابعًا : احتلال كريت )1(

)الصورة : إركاب الجنود وتحميل العتاد للإنزال في كريت(

بعد أن أتم الألمان احتلال اليونان وأنجزوه بصفة تامة في شھر أيار 1941، وكانوا قبلھا قد سيطروا على البلقان وشرق أوربا، وكانت كريت ضمن مخطط التوسع لعدة أسباب سياسية / عسكرية. وكريت جزيرة تابعة من حيث السيادة الوطنية لليونان، وبعد أن أكمل الألمان احتلال اليونان، كان ھدفھم الاستراتيجي تأمين الحافات الجنوبية الشرقية لأوربا، ومن أجل أي تفكير في أھداف استراتيجية بصدد شمال أفريقيا، ھناك ثلاث نقاط ارتكاز )عدا مضيق جبل طارق( كان البريطانيون يعتمدون عليھا في بسط سيطرتھم

على حوض البحر الأبيض المتوسط، أو على الأقل الجنوبي منه وھذه النقاط ھي :

1 ــ مضيق جبل طارق: مضيق جبل طارق ھي مستعمرة بريطانية تضم ميناء جيد ومطار في ظھره إسبانيا وكانت على الحياد، وإن كانت أميل إلى المحور، وجنوبھا مراكش وھي مستعمرة فرنسية, فسيطرة بريطانيا عليھا مضمونة إلى حد بعيد.

2 ــ جزيرة مالطة: كانت فيھا قوات بريطانية، وقاعدة جوية نشيطة، موقعھا استراتيجي ھام للملاحة البحرية والجوية في منطقة وسط البحر المتوسط )بين صقلية الإيطالية وجبل طارق.(.

3ــ جزيرة قبرص: تحت الإدارة البريطانية فيھا قواعد بحرية وجوية مھمة، وھي مشرفة على الملاحة

ًً
البحرية والجوية في شرق المتوسط. شمالا وجنوبا.

4 ــ جزيرة كريت: وھي الأھم والأقرب منالاً، وفاتحة كل الخطط الأخرى، وتمثّل كريت بأھميتھا:

أن كريت ھي جزء من أراضي السيادة اليونانية. 157

لموقعھا الجيواستراتيجي)Geostrategic importans( المطل على منافذ بحر إيجة، الموصل إلى مضائق الدردنيل والبحر الأسود، ولبعدھا )ضمن المديات الاستراتيجية ــ 600 كم ( عن السواحل المصرية والليبية، وتبدو كقاعدة عسكرية ثابتة، أو كحاملة طائرات.)2( في التفكير لتوسيع إطار العمليات العسكرية سواء في شمال أفريقيا )كانت القوات الإيطالية ھناك( من أجل بلوغقناةالسويسوكانتمنالخططالإيطالية. ً ضرورة كريت في إطار إسناد أي عملية حاليا أو في المستقبل في الشرق الأوسط، فلسطين والعراق، وھناك مؤشرات في ھذا المجال.

)الصورة : الإنزال الألماني في كريت(

كان القائد البريطاني المحلي في كريت الجنرال)الفريق( فرايبرغ )Bernard Fryberg( يتوقع حدوث الھجوم الألماني، ولطالما ناشد قيادته بتعزيزات قدراته الدفاعية بوجه ھجوم ألماني وشيك لا يستبعده، وخاصة بسبب افتقاره إلى المعدات الدفاعية )طائرات، وسائط الدفاع الجوي(، بيد أن قيادته لم تصغي لھذه التحذيرات، ربما استبعدت أن يقوم الألمان بإنزال جوي وبحري، رغم أنه الألمان كانوا في بداية الحرب قد قاموا بإنزال مظلي ناجح أدى أغراضه، وبالطائرات الشراعية على القاعدة البلجيكية الحصينة أيبين إيمايل )Eben Emael(، وكان على القيادة البريطانية أن لا تستبعد ذلك، ولكن ربما ظروف الدفاع عن الجزيرة البريطانية في تلك المرحلة الصعبة، لم يكن بوسعھا تلبية طلب القائد المحلي. لم يضيع الألمان الوقت الثمين سدى، وفي استغلال لارتباك الخصم، فباشروا الھجوم بلا تأخير، مما يؤكد أن

احتلال كريت لم يكن تحصيل حاصل ونتيجة لمعركة، بل صفحة من صفحات البلقان وما جاورھا ..! بدء العمليات الحربية :

الموقف العسكري وخطة الإنزال الألمانية : أوعز المشير ھيرمان غورنغ قائد سلاح الطيران، إلى )Oberkommando der Luftwaffe( قيادة القوة الجوية الألمانية بتكليف الأسطول الجوي الرابع بالتخطيط وتنفيذ عملية الإنزال في كريت. كلف الفريق الطيار ألكسندر لور الفيلق الجوي )11( بقيادة اللواء الطيار كورت شتودنت وحدات الإنزال والمظليين لتنفيذً الواجب. ومجموعة الأسراب القاصفة والمقاتلة )8( بقيادة اللواء الطيار ولفرام فون ريشتھوفن)لاحقا المشير( لتولي حماية الھابطين ودعم عملھم بعد الھبوط. وعدا ذلك، كان على الجيش 12 في اليونان، والفرقة الجبلية الخامسة أن تكون على أھبة الاستعداد للتدخل تحت إمرة الفيلق الجوي 11،

158

وكذلك أن تكون الفرقة الجبلية السادسة في واجب الاحتياط، ولأن البحرية الألمانية ليس لديھا وحدات بحرية مھمة في البحر المتوسط،، طلب من البحرية الإيطالية أن تقوم بالمساعدة.

كانت خطة القائد لور تتمثل بالاستيلاء أولاً على عاصمة الجزيرة تشانيا والمطار الأكبر في الجزيرة ماليم، بواسطة جنود الإنزال )يھبطون بطائرات عادية أو شراعية( والجنود الھابطين بالمظلات، ثم التقدم نحو الشرق. والقائد شتودنت كان يرى ضرورة مھاجمة كافة الأھداف الھامة من الجو، ثم يتم احتلالھا من الجنود الھابطين، ثم تتولى قوات الجيش من المشاة احتلال الجزيرة بأكملھا. ولكن فرقة ريشتھوفن الجوية لم تكن تمتلك العدد الكافي لنقل القوة الكبيرة بالطائرات، لذلك تقرر التصرف على ضوء ھذه الحقيقة، وبالنظر لأن القوة البحرية البريطانية كانت قوية وفعالة، ا ًتفق على نقل القوات جواً إلى الجزيرة، ولكن الطائرات بدأت رحلات الاستكشاف وجمع المعلومات مبكرا. وبالفعل قامت البحرية الإيطالية بتقديم بعض صفحات حملة كريت بحرياً، بعد تأمين ميناء الإنزال في الجزيرة. ولكن حتى البحرية البريطانية صار تحركھا محفوف بالمخاطر وقلّصت إمدادھا لقواتھا من 27.000 طن من المواد المھمة، إلى حوالي

3000 طن فقط.

والتخطيط لھجوم سريع وحاسم عبر المظليين وجنود القوات الخاصة المدربين تدريباً عالياً على استخدام الأسلحة الخفيفة ولكن بكفاءة عالية وسرعة حركة، وروح قتالية عالية. وكان بوسع الألمان زج 15.000 من جنود المظلات، في الفرقة الجوية السابعة، الذين كانت أولى مھامھم الاستيلاء على مطار، معززين بحوالي 14.000 من الفرقة الخامسة الجبلية، و700 من راكبي الدراجات النارية، التابعين للفرقة المدرعة الخامسة، تعزيزات أخرى ستلتحق عن طريق البحر، وكانت القوة مدعومة من 46 طائرة

ألمانية، و16 طائرة إيطالية.

ومن أجل نقل ھذه القوات إلى جزيرة كريت، كانت مسؤولية اللواء رودولف كونراد الذي كان قد أع ّد عشر مجموعات من الطائرات المقاتلة، بالإضافة إلى 550 طائرة نقل من طراز يونكرز 52 و60 طائرة نقل شراعية. ومن أجل تأمين خطة العملية كان ھناك 280 طائرة قاذفة،، و180 طائرة مقاتلة، و40 طائرة استطلاع. وفي البحر كان ھناك القوات البحرية مع سربين من البواخر وسفن دعم، وكانت البحرية الإيطالية بقيادة العقيد بحري بيكوري جيرالدي مشاركة بمدمرتين و12 قاذفة طوربيد، وعدة غواصات،

وزوارق سريعة وكاسحات ألغام.

وكانت الاستخبارات العسكرية الألمانية تقلّل من أھمية أعداد الجيش المعادي )الحلفاء( ، وكان تقديرھا أن على الجزيرة نحو 15.000 جندي بريطاني كحد أقصى، وعدد قليل من الجنود اليونانيين، وسكان الجزيرة غير معادين للألمان، والكثير منھم معادين للملكية، التي كانت على خلاف مع الحكومة الساًبقة، ولكن استطلاع الجيش 12 قدرت عدد القوات أكثر من الاستخبارات العسكرية، ولكنھا قللت أيضا من

الرقم الحقيقي.

بعد المصادقة على خطة ميركور لاحتلال كريت، رأت قيادة الجيش الألماني استخدام أكثر لقوات الإنزال، وخلال التحضيرات للحملة على روسيا. ولھذا كان على الفرقة الجوية السابعة، مع قوات الجيش في الشمال، في الوسط والجنوب وتجري المناورة بالقطعات خلال سير العمليات.

وصلت العملية إلى ذروتھا قبل الانزال نفسه، يوم 19 أيار، ما جعل القيادة البريطانية ھناك تستعد للأسوأ، فاتخذت قرارھا بأن ترسل الطائرات الإنكليزية الست التي كانت لا تزال مرابطة في كريت، إلى مصر، خوفاً من أن تدمر بدورھا، كما حدث لنحو ثلاثين طائرة كانت مرابطة في اليونان دمرتھا القوات الألمانية

قبل أن يفكر الإنكليز باستخدامھا.

159

وفي الخامس عشر من أيار / 1941 )بعد أيام فحسب من استكمالھم احتلال اليونان( بدأت القاصفات الألمانية تتولى قصف المناطق والمواقع المھمة في الجزيرة، وخاصة المواقع القليلة لمدافع ضد الجو)28 مدفع(، تأكد الألمان من إسكاتھا، وبعدھا بدأت أسراب طائرات نقل الجنود )500 طائرة من طراز

يونكرز 52 Junkers( بدأت تقذف بالجنود والعتاد وكما يلي :

مظلات وردية وليلكي للضباط. مظلات سوداء للجنود وضباط الصف. مظلات صفراء لرجال الإسعاف ووحدات الميدان الطبية. مظلات بيضاء للذخيرة والعتاد. كان ذلك يحدث بسرعة اشتھر بھا الألمان بما يسمى الحرب الصاعقة )Blitzkrieg( إذ كانت المظلات الألمانية تنزل كالمطر الغزير فوق الجزيرة. وفوق أرض كريت، وراح الجنود الألمان الھابطون المدربون بدرجة ممتازة يشكلون وفق تكتيكات حديثة غير مألوفة، وحدات صغيرة : ثمانية جنود لكل موقع ثقيل، ثلاثة جنود لكل رشاش خفيف، إضافة إلى القناصة الذين راحوا ينتشرون في أرجاء الجزيرة ويحدثون الموت والفوضى فيھا. الجزيرة كانت تضم وحدات مختلفة إضافة إلى قوات يونانية )11,451جندي يوناني بالإضافة لبعض المقاتلين المدنيين(: 7000 جندي أسترالي 6,700 جندي نيوزيلندي. 15,000ــ 20,000 جندي بريطاني تقريبا. المجموع على الجزيرة بريطانيا وحلفاءھا 42,640 جندي ومسلح

وتعتبر عملية الإنزال في كريت من أنجح عمليات إنزال الجنود من الجو وقعت المعركة خلال الحرب العالمية الثانية، بدأت يوم 20 / أيار / 1941 العملية التي أطلق عليھا )ميركور(، والجزيرة كانت بأيدي قوات يونانية وبريطانية ونيوزيلندية وأسترالية. سقطت في النھاية بيد الألمان.

فبعد التمھيد الجوي، تم الاستيلاء على مطار ”مالام “ الذي بدأ الألمان باستخدامه لإنزال النجدات المطلوبة ورغم أن القوات الإنكليزية كانت محرومة من الحماية الجوية أمام القاذفات الألمانية إلا أنھا نجحت بإيقاع خسائر مھمة بين المھاجمين الھابطين بالمظلات والطائرات الشراعية. وفي الوقت نفسه توجھت نحو الجزيرة ثلاثة قوافل من السفن الألمانية عبر الدوريات البحرية الإنكليزية التي أرغمت إحداھا على التراجع وأغرقت القافلتين الأخريين مع الخمسة آلاف جندي الذين كانت القافلتان تنقلانھم إلى الجزيرة. وفي كل حال استطاع النازيون أن ينقلوا نجدات متتابعة دون توقف إلى الجزيرة المحاصرة عبر

مطار ”مالام“ الذي تم احتلاله كما م ّر ذكر ذلك .

بعد ظھر اليوم نفسه، وأمام تھاوي دفاعات الحلفاء، أنزل الألمان موجة ثانية من المظليين أكبر من الأولى. وعلى رغم الخسائر الضخمة التي منوا بھا بالأرواح، تمكن الألمان عند نھاية ذلك النھار الأسود بالنسبة إلى الإنكليز من الاستيلاء على مطار ماليميه، وكان ذلك البداية الحقيقية لغزو كريت. ذلك الغزو

الذي كان فاتحة حقيقية لبداية الغزو الألماني لشمال أفريقيا.

160

ً

وبدأ التفوق الألماني يلعب دوره. واضطر الإنكليز للتراجع نحو شواطىء سباكيا في الجھة الجنوبية

)خارطة الإنزال في كريت: الألماني اللون الأحمر، والحلفاء باللون الأزرق(

الغربية استعدا ًدا لمواجھة دنكرك ثالثة. وبين 28 ، أيار و1/ حزيران نجح الأسطول البحري الإنكليزي في ترحيل 1650 جندي ، تاركاً وراءه على أرض جزيرة كريت 3,500 قتيل وجريح و17,500 أسير. كما فقد الأسطول 2000 رجل وثلاثة سفن جوالة وطرادين وھو في طريقه إلى قناة السويس على بعد 600 كلم بسبب حرمانه من التغطية الجوية. كما استطاع الطيران الألماني أن ينزل الأضرار بدارعة

واحدة وسفينتين جوالتين وثلاثة طرادات .)3(

ھكذا أصبح الألمان خلال شھرين اثنين المھيمنين في يوغوسلافيا واليونان. بخسائر لا تتجاوز 2500 قتيل و9000 جريح أو مفقود. أما الانتصار في جزيرة كريت فقد دفعوا له ثمناً أعلى، طائرات كثيرة )والخسائر الألمانية على أرض جزيرة كريت 1915 قتيل، و1759 جريح، و2004 مفقود(. ولكن منذ ذلك التاريخ أصبح في وسعھم أن يسيطروا على بحر إيجه وأن يھددوا أسطول كاننغھام البريطاني في المتوسط الشرقي. كما أصبحوا على مقربة من تركيا ومصر والشرق الأوسط . ھكذا انتھى ھتلر من بلاد

البلقان بسرعة وببساطة تقريباً، وبدأ يفكر في احتلال روسيا.

ويق ّدر الخبراء العسكريون أنه قد كان في وسع ھتلر تغيير مجرى الحرب لو أنه تابع زحفه نحو الشرق الأوسط بدلاً من أن ينق ّض على روسيا ويب ّدد قواه. إن النھاية كان يمكن أن تكون شيئًا آخر. وبينما كانت الجيوش الألمانية تنقض على يوغوسلافيا واليونان في شھري نيسان وأيار قامت حركات مؤيدة لألمانيا في العراق وإيران، بسبب تذمر السكان من السياسة الاستعمارية البريطانية. ولو أن الألمان تابعوا خطتھم ونجحوا في وضع أيديھم على تلك المناطق الشرق أوسطية لحرموا البريطانيين من موردھم البترولي

161

الرئيسي وعزلوا تركيا عزلاً تا ًما ، والتي كان يحتمل آنذاك أن تعلن انضمامھا إليھم . يضاف إلى ذلك أن مستعمرة الھند )مخزن الموارد البريطانية( ستصبح معرضة لخطر شديد فتنقطع طريق التموين التي تمر عبر الخليج العربي بإيران .

بيد أن الإنكليز والفرنسيين الأحرار)حكومة ديغول في لندن( لم يقفوا مكتوفي الأيدي . لقد استولوا على سوريا والعراق في شھر نيسان / 1941 وطردوا منھما أنصار المحور وأقاموا فيھما حكومتين مواليتين لھم . وفي شھر أغسطس، وبعد أن بدأ الھجوم الألماني على الاتحاد السوفيتي اشترك الروس والإنكليز في احتلال إيران، وطردوا الحكومة الموالية للنازيين وضمنوا سلامة طريق المواصلات المار عبر الأراضي

الإيرانية صوب البلاد الروسية

التقييم العسكري للعمليات : خلال تنفيذ ھذا المشروع العسكري، ثبت أمران : الأول ھو الأداء العالي للقوات الجوية الألمانية، والثاني

ھو الأداء الممتاز للبحرية البريطانية. وفي الختام فإن الفضل في نجاح العملية يعود للطيران الألماني، بحيث استطاع الإبرار بواسطة البحر ممكناً بعد موجة الھجوم الثالثة، ولم يعد ممكناً للأسطول البريطاني التقرب والقيام بعمليات إنزال أو إخلاء.

احتلال كريت بواسطة قوات المحور )ألمانيا ــ إيطاليا( أمنت الجناح الجنوبي الشرقي للھجوم الوشيك الوقوع على الاتحاد السوفيتي، ولكن مع ذلك لم يكن لاحتلال الجيش الألماني والإيطالي أية تأثير عسكري فعال في مسرح العمليات الحربية في ھذه المنطقة. رغم أن أجزاء من الجزيرة ظلت حتى الاستسلام الألماني التام وغير المشروط في 8/ أيار / 1945 بيد القوات الألمانية وسرت عليھا اتفاقية التسليم، ثم لعب توجه القيادة العسكرية الألمانية دور فيما يخص الحملة في شمال أفريقيا، والبحر المتوسط، الشرق

الأوسط، إذ اعتبرت كساحات قتال جانبية.

وكان التخلي عن المقررات في نيسان / 1942 التي اتفق على تنفيذھا في تموز، عملية ھيركوليس )ھرقل( في مخطط لاحتلال جزيرة مالطا، كانت تنتظر نتائج حملة كريت واحتلالھا. وكانت أيضاً العملية الدموية التي اتصفت بھا عملية احتلال كريت، عاملاً في التردد بل ومؤثراً على منھج الحرب الألماني، لذلك كان ھناك لدى الحلفاء استبعاد أن تقوم ألمانيا بعمل مماثل في أفريقيا أو مكان آخر في البحر المتوسط

)وخاصة مالطا(.

حتى ھذا الوقت كان الجيش الألماني يضع اعتماده في الحرب على فرقة جوية واحدة، وھي الفرقة 7 مظلات، وكانت ھذه القوات تضم متطوعين، وعلى درجة عالية جداً من التدريب، والروح المعنوية، وفقد نصف جنوده في القتال ضد الجنود البريطانيين والأستراليين والنيوزيلنديين واليونانيين المدافعين عن الجزيرة، وبعد استخدامھم في كريت، تمت إعادة ترقيق الفرقة وإملاء نواقصھا، وأعيد استخدامھا في المواقف الحرجة، ولم تستخدم وحدات المظليين إلا بعد عام 19ً43، وشكلت وحدات مظليين جديدة، ولكن

لم تتكرر استخدام الإنزال بالطائرات الشراعية بعد كريت مطلقا. )4(

وعملية ميركور التي نفذتھا القوات الألمانية لم تنجح إلا بخسائر عالية، والسبب في ذلك يكمن بأخطاء كثيرة في إدارة العملية: وبالدرجة الأولى في إدارة القطعات بعد ھبوطھا.

والوقت القليل اللازم لإعدادھا. الخطأ الأكبر كان في بخس قيمة وقوة العدو،. الافتراض بأن السكان سيستقبلون الألمان بالترحيب.

162

بالإضافة إلى عامل مھم في العمليات الھجومية المتمثل بالمباغتة والمفاجأة. فقد كان الإنكليز والقوات المتحالفة معھم، ينتظرون الھجوم في أي لحظة، ولديھم المعلومات حولھا.

في قتال الفيلق 11 ھناك الملاحظات التالية: ــ القوات البريطانية الأرضية على أرض جزيرة كريت، كانت أقوى ثلاثة أضعاف ما تصوره الألمان. ــ كانت مناطق القتال على الجزيرة كانت قد أعدت بعناية فائقة، وبجھود مبذولة في تحضيرھا كمواقع دفاعية. ــ والمواقع )المحصنة( كانت مموھة بذكاء. ــ معلومات ناقصة وضعيفة عن العدو قادت إلى خسائر عالية .

أعجب الحلفاء الغربيين كثيراً بالقوة القتالية للوحدات المظليين الألمان، وأمر رئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل بالمباشرة في بناء وحدات بريطانية لوحدات الإنزال )جنود الجو(، ثم مارس الحلفاء فيما بعد عمليات إنزال كبيرة كالإنزال على جزيرة صقلية الإيطالية، والإنزال في نورماندي، والإنزال في بلجيكا / ھولندة بالاسم الكودي )Market Garden( 17 / أيلول / 1944، كان بخسائر عالية )خسر الحلفاء أربعة أضعاف الألمان(، ثم في عملية إنزال أخرى، والإنزال الأكبر كان عملية )Varsity( 24

/ آذار / 1945 )قبل نحو 40 يوماً من استسلام ألمانيا( للاستيلاء على جسور الراين في ألمانيا.

الخسائر : ً ً ً ً تتفاوت المصادر، أحيانا تفاوتا كبيرا في حجم خسائر الطرفين، وھي مسألة مألوفة تقريبا في الحروب، والأرقام أدناه بتقديرنا ھي الأكثر دقة :

نجمت عن عملية ميركور )احتلال جزيرة كريت( خسائر عالية سواء في صفوف البريطانيين، أو بين المواطنيين المدنيين في الأرواح والممتلكات. القوات البحرية البريطانية تحملت خسائر في القتال أمام جزيرة كريت، ثم خاصة خلال عمليات الإجلاء: فقد خسرت ثلاث طرادات )غلوستر وفيجي وكلكتا( وستة مدمرات، )كيلي، غراي ھوند، كشمير، ھارفارد، إمبريال، جونو(، وأصيبت ست طرادات، وخمس مدمرات، وثلاثة سفن قتال، وحاملة طائرات واحدة أصيبت بأضرار، بعضھا كانت إصابات قوية، قتل فيھا 2000 بحار. سقط 5000 جندي بريطاني أو من جنود الكومنولث، في أسر القوات الألمانية، وتمكن عدة مئات منھم من الھرب. كانت خسائر الألمان 6200 جندي، بينھم 3714 قتيل، و2494 جريح، دفن

جميع قتلى الجيش الألماني على أرض كريت. )5(

هوامش الفصل الرابع

ًً
1. للأھمية الاستراتيجية لھذه العملية نفرد لھا فصلا خاصا.

2. العريس، إبراھيم: الألمان يستولون على كريت في طريقھم إلى ليبيا ومصر، الإنترنيت / تاريخ النشر:19/5/1998 3. دنكرك الأولى حزيران / 1940 في فرنسا، ودنكرك الثانية في اليونان أيار / .1941 4. استخدمت ألمانيا طائرات شراعية لنقل جنود الجو، تسحبھا طائرات وتقلع بھا إلى مسافة تكون في الطائرة في مجال حركة الريح، وتفلت السلك الرابط مع الطائرة الأم، وتمضي الشراعية صوب ھدفھا وتھبط في الھدف دون حاجة إلى مدرج طويل. 5. التاريخ العسكري للجيش الألماني / موقع على الإنترنيت

163

خامسًا : مقاومة الشعب اليوناني للاحتلال

المقاومة ھي رد فعل غريزي لكل شعب يتعرض لعدوان خارجي، وبھذا المعنى فالشعوب ليست بحاجة إلى محرض أو مشجع، فھي كالبدن الذي يھب لمقاومة الفايروسات الدخيلة، ودون طلب من صاحبه، بذلك يمكن وصفه تماماً برد الفعل الغريزي المناعي للتدخل الخارجي والعدوان والاحتلال.

)الصورة : مقاومون يونانيون(

المقاومون لا يمتلكون الأسلحة الفتاكة التي يمتلكھا المعتدي، وقد لا يمتلكون تلك الأعداد الكبيرة لجيوش المعتدي، وبداھة لا يمتلكون التنظيم الدقيق لجيوش العدوان والاحتلال التي بھا تمكنوا من قھر إرادة البلاد واحتلوھا .. إذن على ماذا يعول المقاوم …؟

المقاومة تعول على الشعب وحده، الشعب ھو البحر الذي تسبح به المقاومة، ھي تتحدث مع ابن البلاد بلغته، بل بلھجته المحلية، ويمتلك ذات الخصائص البدنية )لون البشرة، لون العين، والشعر(، والمعطيات الثقافية )اللغة، الدين، التاريخ(، والاجتماعية )لباس وتقاليد(. سيحاول الأجنبي المحتل أن يقحم لھجة جديدة وتقاليد وثقافة ليقھر بھا الوحدة الوطنية، ليدمر النسيج الذي لا سبيل لخرقه، ولكن ھذه محاولات تفتقر إلى الأصالة، وتبدو زائفة واضحة للعيان، والأجنبي سيحاول كل جھده أن يجد من يتعاون معه، وسيوفق في مساعيه بدرجة ما بصعوبة أو بسھولة، فھناك دائماً في أي مجتمع ما يسمى قاع المجتمع، وحثالته، والطامحين عبر التزلف سواء للحكم المحلي الوطني، أو للأجنبي أن ينال ما لم يكن يحلم بالوصول إليه، أو من استطاع الاحتلال التغرير بھم، تحت أي ذريعة، ولكن في جميع الأحوال، الأجنبي يبقى أجنبي،

والمتعاون في مرتبة وضيعة، يحاول التخلص والتملص منھا.

164

والبلدان التي تتعرض للاحتلال من دولة أجنبية قد لا تتشابه في ظروفھا الذاتية والموضوعية مع بلد آخر. فالظروف التاريخية والمرحلة وخصائصھا، وطبيعة الظروف الداخلية والخارجية للبلاد ستلعب دوراً مھماً في معارك المقاومة وفي مصير البلاد ومستقبلھا.

واليونان بسبب المعطيات الجيواستراتيجية )Geostrategic( أصبحت محط الأنظار والأطماع، فمن جھة تحاول بلغاريا اقتطاع أراضي منھا )تراقيا( لضمھا إليھا، وتحالفت مع ألمانيا لتضمن لنفسھا ھذه الجائزة، أما إيطاليا، فأطماعھا قديمة في اليونان، في المياه الإقليمية وفي الجزر في بحر إيجة والمتوسط،

بل وصولاً إلى كامل الأرض اليونانية، تحقيقاً للحلم الروماني بسيادة حوض البحر المتوسط.

ودارت الأحداث بمحاولات توسع إيطاليا في الأراضي والمياه اليونانية، ففي يوم 28/ تشرين الأول / 1940، أنذرت إيطاليا / موسوليني اليونان بالاستسلام، ولكن الحكومة اليونانية رفضت ذلك، وعندما نشبت العمليات الحربية، كانت إيطاليا قد احتلت ألبانيا بصعوبة، وألحق الجيش اليوناني الھزيمة بالجيش الإيطالي في المعارك التي دارت على الحدود وداخل الأراضي الألبانية، وكان ذلك أول انتصار للحلفاء على المحور امتدحه رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل قائلاً ” لن نقول أن اليونانيين يقاتلون كالأبطال، بل نقول، أن الأبطال يقاتلون كاليونانيين”. وكذلك أبدى الجنرال شارل ديغول إعجابه بشجاعة

اليونانيين. )1(

وكانت أولى علامات الحرب الأھلية )1946ــ 1949( قد ظھرت خلال فترة الاحتلال، بعجز الحكومة اليونانية الملكية من التصدي لواجب الدفاع عن الوطن، وخاضت القوى الشعبية المقاومة ضد الاحتلال )الألماني ــ الإيطالي(، وكانت أقوى تلك القوى والمنظمات )جبھة التحرير الوطني( وذراعھا العسكري

جيش التحرير الشعبي.

وقد ابتدأت المقاومة اليونانية ضد الاحتلال الألماني مع بدايات الاحتلال الإيطالي / الألماني على أرض الوطن والجزر وخاصة جزيرة كريت. ووقف اليونانيون مع جيش بلادھم وقاوموا الاحتلال الألماني لبلادھم وقاتلوه، فمن أجل تعزيز قوة الدفاع عن جزيرة كريت في الأسابيع التي سبقت الاحتلال، انتظم أعداد من المدنيين في ميليشيات، باشرت عملھا فور بدء إنزال المظليين، كما انضمت أعداد أخرى من السكان المدنيين في القتال ضد القوات المھاجمة. وفوجئت القوات الألمانية بمشاركة السكان في القتال، وكان في تقدير الموقف العام، أن السكان ضد الحكومة، وسيرحبون بقوات الاحتلال، ثم أن قوات الاحتلال اعتبرتھم فدائيين وتعاملت معھم على ھذا الأساس. وخلال سير العمليات الحربية، تعرض الجنود الألمان إلى ھجمات من وحدات المقاومة، وخاصة تعرضوا لعمليات مستخدمين فيھا التفجيرات أوقعت

إصابات في صفوف الجيش الألماني، وأحياناً كانت قوات الحلفاء تقدم لھم الدعم.)2(

بمجرد قيام الجيش الألماني بالشروع باحتلال اليونان، شاعت روح مقاومة الغزو وفرض الأمر الواقع، وتشكيل مقاومة الشعب اليوناني: وكانت قوات موسوليني قد خسرت حرباً صعبة ضد اليونانيين على الجبال في الشمال الغربي من اليونان في يوغسلافيا وعلى الحدود الألبانية واليوغسلافية، وكان الجيش الألماني يستخدم وحدات عسكرية بلغارية التي تدخلت في مناطق تراقبا، ولكن ضعف الجيش اليوناني، وتفوق القوات الألمانية، وقدراتھا التكنيكية، واستخدامه أسلحة حديثة، وقوات آلية، وبتكتيكات الحرب

الخاطفة أرغمت الجيش اليوناني على الاستسلام في نھاية المطاف في 23 / نيسان / 1941 .

أنشأت سلطات الاحتلال الألمانية المؤقتة. بعد إتمامھا احتلال البلاد، سلطات مؤقتة ووجدت من يتعاون معھا، وسرعان ما ھيمنت على جميع المفاصل الرئيسية في الاقتصاد اليوناني بأيدي متعاونين مع سلطة الاحتلال الألمانية، وكانت إيطاليا وبلغاريا قد احتلتا أجزاء كبيرة من اليونان. ولكن المناطق الاستراتيجية

165

المھمة، للاحتلال الألماني، بما في ذلك سالونيك مع المناطق النائية ومحيط أثينا، وكذلك بعض الجزر الھامة مثل كريت بقيت تحت سيطرتھم المباشرة.

أعطيت القيادات العسكرية: قائد “سالونيك إيجه” و”القائد في جنوب اليونان” اتخاذ إجراءات قوية ضد منظمات المقاومة، وحركة إيلاس كانت حزبية )شيوعية( )EAM-ELAS ومن أقوى المنظمات، وقام الجيش الألماني والكتائب الأمنية من السكان اليونانيين )المتعاونين(. كسلطات احتلال بفرض نظام وحشي وما س ّمي بإجراءات “الانتقام” مع النھب وإطلاق النار على الرھائن، وحرق قرى بأكملھا. وقتل عشرات الآلاف من الضحايا الأبرياء، معظمھم من النساء والأطفال والمسنين، بوحشية بھذه الطريقة. انتھى الاحتلال في أكتوبر 1944 مع انسحاب القوات الألمانية من اليونان، ولكن حتى عام 1949 اندلعت حرب

أھلية مدمرة. )3(

وموقف المقاومة، مثّل مفاجأة كبيرة للقوات الألمانية التي كانت تحسب موقفھا السلبي من النظام اليوناني، مؤشراً على تعاون مفترض بعد الاحتلال، فظھر العكس وكان مفاجأة، اتخذت قوات الاحتلال ردود فعل عنيفة وانتقامية ضد السكان. ومن أجل الحفاظ على الروح المعنوية للقوات المھاجمة، أصدر الفريق

شتودنت قائد قوات الھجوم الأمر التالي في 31 / أيار / 1941

” الآن حان الأوان للتصرف حيال الوقوعات التي تحدث وفقاً للخطة وممارسة العقوبات وفقاً للقوانين الجنائية، كوسائل ردع في المستقبل حيال مثل ھذه الحالات. ونحن عازمون للضرب في ھذا الاتجاه بشدة بالغة “.

وفي إجراءات الانتقامية وردت ھذه الملاحظات: ــ إطلاق النار.

ــ فرض الغرامة الحربية. ــ إحراق البلدات )سابقاً كانت تستثنى الأموال المنقولة وغير المنقولة والحفاظ على السكان المسالمين(. ــ إبادة السكان من الذكور في كل المنطقة. ــ من أجل تنفيذ الفقرات 3 ــ 4 أحتفظ لنفسي البلوغ إلى الحالة من أقصر الطرق )مع تبرير الأسباب(. )4(

وقد قامت قوات الاحتلال بتنفيذ التعليمات بكل سرعة، وتجاوز كافة الشكليات وإھمال المحاكم الخاصة، وفي كل حال فالقوات ھي من يقرر، وليست المحاكم المحلية. وغير مسؤولين عن أي من الحالات حتى تلك التي تنطوي على إجرام. ھذه الإجراءات التي أمر بھا الفريق الطيار شتودنت، كانت تنطوي على معاني في القانون الدولي للحرب، ولا تسمح للأعمال الانتقامية، بل جرائم حرب، ولكن حتى بعد نھاية الأعمال القتالية في كريت تم في 2 / حزيران/ 1941 وبناء على أوامر من الملازم أول ھورست تريبس في منطقًة كوندوماري إعدام عدد غير معروف من المدنيين الذكور، في النصب التذكاري للحادثة ھناك

23 اسما.

بينما كان القتال ما يزال دائراً، وكما أمر اللواء رينجل )الألماني( أن في يوم 4 / حزيران، أن على الفرقة الجبلية الخامسة، أن يطلقوا النار على عشرة من السكان مقابل كل جندي ألماني يُقتل، إضافة إلى إحراق بيوت الفلاحين والقرى التي صدرت منھا رمايات باتجاه القوات الألمانية، وتؤخذ منھا الرھائن..

وبسبب مقاومة السكان خلال الغزو، ت ّم تأسيس منظمتين خاصتين تتعاون مع الأمن العام الألماني، تنظم

قوائم البحث وتنفذ الأحكام القضائية بحق من اعتقلتھم الفرقة الجبلية الخامسة، وبموجبھا حكم على 110

ًً
شخص بالإعدام رميا بالرصاص، وبعدھا 39 شخصا. وبسبب المقاومة اضطرت القوات الألمانية لأن

166

تضع 50,000 ألف جندي ألماني يتمركز على أرض جزيرة كريت، وبسبب أعمال المقاومة أعدم الألمان أكثر من 200 شخص.

وإجمالاً فإن مجموع من قتل من السكان المدنيين على جزيرة كريت منذ ھزيمة الحلفاء )والإنكليز وحلفائھم( منذ بدء الاحتلال حتى نھاية الاحتلال عام 1945 وھزيمة قوات المحور )الألمان وحلفائھم(، نحو 8575 وھو عدد كبير قياساً إلى عدد سكان الجزيرة الذي لم يكن يتجاوز 200 ألف نسمة في ذلك

الوقت. وفيما اھتم الألمان بمناطق أثينا وتيسالونيكي، أعطيت مناطق أخرى من البلاد لشركاء ألمانيا، إيطاليا الفاشية وبلغاريا. وأدى الاحتلال إلى معاناة فظيعة للسكان المدنيين اليونانيين. توفي أكثر من 100،000 مدني بسبب المجاعة خلال شتاء 1941-1942، بسبب سوء الإدارة الاستعمارية، وسيق عشرات الآلاف إلى معسكرات الاعتقال النازية السيئة الصيت.

ونشطت المقاومة اليونانية، التي وصفھا العديد من المؤرخين والسياسيين، بكونھا واحدة من المقاومة الأكثر فعالية في أوروبا، قاتلوا بقوة ضد المحتلين والمتعاونين معھم. وقد ارتكب المحتلون الألمان العديد من الفظائع والإعدامات الجماعية. وفي سياق حملة مكافحة العصابات المتضافرة، تم حرق مئات القرى بشكل منھجي وتشرد ما يقرب من 1،000،000 يوناني. وأعدم 21,000 يوناني على يد الألمان، و40,000 على يد البلغار، و9000 على يد الإيطاليين، ليكون المجموع نحو 70,000 مدني يوناني فقد

حياته.

وكتقييم عام للعملية الألمانية في اليونان، يستفاد من جريدة الحرب الألمانية الحديثة )تاريخ عمليات الجيش الألماني( )1941 Bundesheer Operation Kreta( في صفحات طويلة ومفصلة، دور كل وحدة، وواجباتھا ومنجزاتھا، وكل قائد وحدة، ومفصل العمليات التي خاضتھا بدقة مدھشة، وبقراءة شاملة واستنتاجات، أن الجيش الألماني كقيادة عليا، وقيادة العملية رغم أنھا كانت بيد أھم قادة الجيش الألماني )الفريق طيار شتودنت، لاحقاً المشير( إلا أن القيادة العامة وقيادة الفريق شتوندت كانا على درجة كبيرة

من الخطأ في تقدير الموقف لجھات عديدة : ــ اعتقا ٌد ساد أن الحملة ستكون سھلة، لضعف الجيش اليوناني، والوحدات البريطانية ضعيفة عامة . ــ اعتقا ٌد ساد لدى القيادة أن ھناك عداء بين الشعب والنظام الملكي، لذلك رجحت أن المقاومة الشعبية ستكون معدومة. ــ بالغت القيادة الألمانية بحجم القوى المتعاونة معھا من اليونانيين. ــ لم يكن الجيش الإيطالي ذلك الحليف الذي يُعتمد عليه، لضعف قياداته وتسليحه، ومعنوياته، وكان واجب الجيش الألماني إنقاذ الإيطاليين في عملياته في : ألبانيا، يوغسلافيا، وأخيراً اليونان، ولاحقاً في تونس وليبيا. )5(

وفي العمل السياسي وفي مضاعفاته، ھناك ما يمكن اعتباره مأزق، ولكن الذكاء ھو في تحويل المأزق إلى مكسب، والألمان لم يكونوا بغافلين أن الحليف الإيطالي متعب، ولكنه ضروري في قارة تعج بذئابً استعمارية قديمة )بريطانيا و فرنسا( وبعملاق ينھض بجبروت )الاتحاد السوفيتي( فبدت إيطاليا صديقا ودوداً يتشابه في المطامح ولا يتناقض معه في القارة، لذلك القيادة الألمانية كانت تضع أھدافاً ثانوية مع حليفھا، وبتقديرنا، أن أحد أھم تلك الأھداف ھي إطلالة النمسا على البحر )إقليم تريستا( الذي انتزع منھا وأصبحت النمسا بلد داخلي لا يطل على بحر، وھذه حسابات مرجئة ودخول الجيش الألماني إلى ألبانيا

ويوغسلافيا واليونان سوف لن يكون مجاني في نھاية المطاف.

بعد نھاية الحرب وھزيمة المحور )ألمانيا ــ إيطاليا ــ اليابان(، ضمت اليونان جزر دوديكانيس من إيطاليا واستعادت تراقيا الغربية من بلغاريا. لكن البلاد انحدرت بسرعة تقريباً إلى حرب أھلية دامية بين القوات

167

الشيوعية والحكومة اليونانية المناھضة للشيوعية، والتي استمرت حتى عام 1949. أدى الصراع بتدخل غربي واسع )بريطانيا والولايات المتحدة( إلى ھزيمة القوى الاشتراكية، تعتبر واحدة من أقدم نضالات الحرب الباردة، في الدمار الاقتصادي علاوة على ذلك، النزوح الجماعي للسكان والاستقطاب السياسي

الحاد في السنوات الثلاثين المقبلة.)7( )6(

وكانت محاولات سلطات الاحتلال من الجيش الألماني / الإيطالي، والكتائب الأمنية من السكان اليونانيين المتعاونين لقمع حركة المقاومة من خلال فرض عقوبات وإجراءات وحشية فيما أطلقت عليه إجراءات انتقامية، بما في ذلك نھب ممتلكات المواطنين وإطلاق النار على الرھائن والمدنيين العزل وحرق القرى. وسقط فيھا عشرات الآلاف من الضحايا الأبرياء- معظمھم من النساء والأطفال والمسنين – قتلوا بوحشية بأساليب متوحشة. انتھى الاحتلال في أكتوبر 1944 مع انسحاب القوات الألمانية من اليونان، ولا تزال الحكومة الألمانية ترفض التعويض الشامل لضحايا القوات المسلحة في اليونان، فھناك مصادر تف ّضل ذكر المقاومة الناجحة للجيش الإيطالي , وأقل من ذلك بالنسبة لقوات الاحتلال الألماني , ربما بسبب أن الحرب

الأھلية بعد الحرب أقل في خسائرھا من المقاومة خلال الحرب . وفي ألمانيا لايزال ھناك من يحاول التقليل من شأن جرائم الجيش الألماني والتقليل من شأنھا مقابل المبالغة في الحرب الاھلية وخسائرھا , لذلك ذكرت صحيفة “دي فيلت” الألمانية في صيف عام 2008 ضرورة إعادة تقييم مكتب البحوث والجرائم الألمانية. )8(

وبنھاية الحرب الأھلية عقب التدخل الغربي الواسع النطاق، اتجھت الحكومة بتشجيع من الغرب فانضمت لحلف الناتو، واندغمت في استراتيجية الغرب، ثم انضمت للسوق الأوربية والاتحاد الأوربي لاحقاً، وانضمت إلى معاھد منطقة اليورو.

هوامش الفصل الخامس

1. Dictatorship, World War II, and reconstruction Geschichte der 2 Weltkrieg , Wiederstand der Bevölkerung gegen die Deutsche Besetzung 3. Sophia Georgallidis: Die deutsche Besatzung in Griechenland und der : .Widerstand des griechischen Volkes

4. ربما يقصد الأمر أن تنفذ ھذه الفقرات بمعرفة القائد الشخصية Bundesheer 5. Operation Kreta 1941 6. )Truman Doctrin( ھو مبدأ سياسي أصدره الرئيس ھاري ترومان في 12 / آذار / 1947 وقد صدر ھذا المبدأ بنا ًء على مفردات الصراع في اليونان، وينص على : ” حين يھدد العدوان سواء كان مباشراً أو غير مباشر، أمن الولايات المتحدة الأمريكية وسلامتھا، فعندئذ يكون لزاماً على الحكومة الأمريكية أن تقوم بعمل ما لوقف ھذا العدوان “. 7. الحرب الأھلية اليونانية )Civil War( دارت بين الحكومة اليونانية التي تأسست بعد نھاية الحرب العالمية الثانية وكانت موالية للغرب حسب اتفاقات مؤتمر يالطا 1945، وبدعم مباشر من بريطانيا والولايات المتحدة، وبين الجيش الديمقراطي اليوناني)الفرع العسكري للحزب الشيوعي اليوناني( بدعم من يوغسلافيا وبلغاريا وألبانيا، أسفرت عن ھزيمة الثوريين اليونانيين. وكانت الحرب الأھلية نتيجة لصراع قوى اليسار واليمين، وھذه الحرب كانت أولى ظواھر الحرب الباردة التي بموجبھا أصدر الرئيس الأمريكي ترومان مبادئه ) Truman Doctrin(. Dictatorship, World War II, and reconstruction. 8

168

مجموعة المقاومة الألمانية ” الوردة البيضاء ”

ترجمة د. ضرغام الدباغ

169

مجموعة المقاومة الألمانية ” الوردة البيضاء ”

تحرير : أوتو لانغلز ، Otto Langels ترجمة : ضرغام الدباغ نشرة الإذاعة الألمانية بتاريخ : 18 / شباط ــ فبراير / 2018 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تمھيد ً لم يكن الشعب الألماني بأسره مؤيدا للنازية وقائدھا ھتلر. صحيح أن ھتلر وصل السلطة عن طريق انتخابات ديمقراطية، وبأغلبية مريحة م ّكنته من تشكيل حكومة تحت ھيمنة الحزب الذي بموجبه أصبح قائده أدولف ھتلر مستشاراً )رئيس للوزراء( للرايخ الألماني الثالث، ولكن ذلك لم يكن ليتم إلا من خلال فوضى عارمة سياسية / اقتصادية / اجتماعية عاشتھا ألمانيا بعد نھاية الحرب العالمية الأولى 1918، وحتى 1933، وھو العام الذي جرت فيه الانتخابات البرلمانية التي فاز بھا الحزب النازي، بسبب التناقضات العميقة التي مزقت الحياة السياسية تحت ظلال الأحكام القاسية لاتفاقية فرساي )28 / حزيران / 1919( والتي كان ظلمھا وإجحافھا السبب الرئيسي لفوز الحزب النازي الذي كان يعد بتخليص الأمة الألمانية من ظلم اتفاقية فرساي، وبالتالي قادت إلى الحرب العالمية الثانية.

بيد أن القوى المناھضة للنازية، صممت على مواصلة رفع لواء المعارضة، وھي بدرجة أساسية : الحزب الشيوعي الألماني، والحزب الاشتراكي الديمقراطي، إضافة إلى شخصيات وجماھير مستقلة كان ترى في النازي شراً مستطيراً سيلحق الدمار بألمانيا، وقد تحقق فعلاً ما كانت ھذه القوى تحذر منه.

ولكن ھذه الحركات والأحزاب والشخصيات الوطنية التي ناضلت بشكلً مستقل ومتفرق، وأحيانا ضمن مجاميع صغيرة، قدمت الضحايا في سبيل معتقدھا، من تلك المجموعة التي نأتي على ذكر تاريخ نضالھا، ونھاية أبطالھا على يد آلة القمع النازية. البطلة صوفي شول وشقيقھا ھانز شول، وصديقھما ألكسندر شموريل وآخرون، الذين

وبعد محاكمة سريعة حكم على ثلاثة منھم بالإعدام بواسطة المقصلة، بتاريخ 18 / شباط ــ فبراير / 1943.

)الصورة : الطابع البريدي الألماني يخلد ذكرى مجموعة الوردة البيضاء(

الرابط أدناه لفلم الوردة البيضاء https://www.youtube.com/watch?v=8YI7SJoURVs

مجموعة الأشقاء شول

170

مقطع آخر من فلم مماثل https://www.youtube.com/watch?v=wybS7FfqupM

)الصورة : النصب التذكاري لضحايا الوردة البيضاء في مدينة ماربورغ ـ تاننبيرغ(
مجموعة الوردة البيضاء

المجموعة أطلقت على نفسھا اسم ” الوردة البيضاء ” وھي تتألق من صوفي شول، وشقيقھا ھانز شول، وصديقھما ألكسندر شيموريل، وكريستوف بروبست وفيلي غراف. الذين كانوا في أواسط عام 1942 قد اتفقوا بالعمل بنشاط ضد نظام النازي من خلال العمل الدعائي ضد الحرب وجرائم النظام النازي بتوزيع

المنشورات، وكان آخر منشور وزعوه بتاريخ 18 / شباط ــ فبراير / 1943.

وتتذكر إنجى شول )شقيقة الأبطال( دون كلل في ما بعد الحرب، فعاليات الاحتجاجات لشقيقتھا وشقيقھا، ھانز وصوفي. وكانوا ينتمون لمنظمة من الطلبة الشباب، الذين اتخذوا من اسم ” الوردة البيضاء ” اسم بمنظمتھم لمقاومة النظام النازي. ھانز وصوفي شول الذين ولدا عام 1918 / 1921 على التوالي،

ينحدارن من أسرة برجوازية متحررة )ليبرالية(، وترعرعا في الرايخ الثالث كأسرة مسيحية. )1(

” وفي ھذا الوقت كانت المسيحية تلعب دوراً ھائلاً، إذ لم يعد ھناك ما يكفي من إنسانية ومفاھيم العدالة من جل الصمود والمثابرة وھنا يحتاج المرء إلى إيمان قوي، وھذا ما كنا نحن بحاجة له”. ” ولكن ذلك لم يكن ليعني بطبيعة الحال، أن التعليم كان يتم في بيت الوالدين منذ البداية “.

ويوضح المؤرخ فولفغانغ بينز المدير لسنوات طويلة لمركز برلين للدراسات والبحوث المعادية للسامية. 171

وكان كل من صوفي وھانز معجبان في الشبيبة الھتلرية، وكانا طبيعيان جداً ومعجبان بالحزب الوطني الألماني )النازي( وبالشباب وفيما بعد بدأت أعينھم تتفتح. فقد كانا طفلان قد تربيا في أفضل البيوت، في تربية برجوازية، وقد تلقيا تربية جيدة، وتعليماً ممتازاً وكان لديھما المقدرة الاجتماعية على إبداء المودة

للآخرين.

والتالي كان في تقبل مصطلحات النازية

في البدء كان كلاھما متقبل للدعاية النازية في الحديث عن المجتمع الوطني الموحد، والعلاقات الرفاقية، ولكنھما أشاحا بوجھيھما عن الحزب النازي مبكراً. وقام ھانز شول عام 1936 بتأسيس الطائر الحر مجموعته الشبابية الخاصة، واعتقل لفترة قصيرة عند الجستابو)البوليس السري(، لأنه أظھر ميول شاذة مع صديق له، ولكنه كان محظوظاً عندما قيمت المحكمة الخاصة ھذه العلاقة ” طيش شبابي “، وأطلقت

سراحه.

وفي عام 1939 بدأ في دراسة الطب في جامعة ميونيخ، وھناك حيث التقى الطالب ألكسندر شموريل، وكريستوف بروبست، وفيلي غراف. والأصدقاء ً الأربعة كانوا يدرسون الطب، وكذلك صوفي شول، )شقيقة ھانز شول( التي كانت بعد أن أنھت تدريبا في مجال رياض الأطفال في ميونيخ، اتجھت لدراسة البايولوجي والفلسفة. وش ّكلوا نواة منظمة ” الوردة البيضاء “، ثم انضم إليھم المدرس الجامعي كورت ھوبر، وكانت المجموعة تناقش قضايا فلسفية وسياسية. وانضم إلى المجموعة لاحقاً يورغن فيتنشاين،

زميل دراسة لألكسندر شموريل.

ولم تكن منظمة ” الوردة البيضاء” أكثر من مجموعة من الطلاب الجامعيين الذين لھم اھتمامات متشابھة، وبصفة أساسية في الثقافة، والموسيقى، والفن، والأدب، والفلسفة، يلتقون معاً ويتحدثون عن ھذه القضايا والمشكلات، ولكن حتى بداية الحرب لم يكونوا أكثر من أصدقاء لھم اھتمامات متشابھة.

من الحرب إلى الانتفاضة

وقد تشكلت مجاميع محيطة بالجمعية ” الوردة البيضاء ” تتألف من طلبة المدارس المؤيدين الذين تتراوح أعمارھم بين 17 ــ 18 عاماً، وبعضھم كانوا أصدقاء لسنوات طويلة، وھذه البيئة المحيطة يمكن اعتبارھا ووصفھا اليوم بالمتعاطفين وكانوا لھم بمثابة الداعم اللوجستي )الإداري(، وفي مجرى الحرب العالمية

الثانية تجذرت انتقادات المجموعة الموجھة إلى النظام النازي.

ويقول المؤرخ فولفغانغ بينز ” تكاثف فيما بعد الموقف المعارض وصولاً إلى الانتفاضة، وبعد الخدمة في الجبھة الشرقية )مع الاتحاد السوفيتي( الذي قام به ھانز شول وأصدقاؤه كجنود مساعدة طبية، أصبح واضحاً لھم كيف اندلعت ھذه الحرب، وبھذا وجدوا أنفسھم في المعارضة والمقاومة “.

” وعندما علمنا ذلك، كيف جرت الأمور وحدثت، وما جرى لليھود، وما حدث لبولونيا، كيف جرى التعامل مع أسرى الحرب، كان يتضح لنا المزيد من الحقائق، وفي وجوب إزاحة ھذه الحكومة “.

يتذكر يورغن فيتنشتاين )زميلھم(. في عام 1942 بدأت المجموعة بالاحتجاجات العلنية. ففي 27 / حزيران ظھر العدد الأول من النشرة، كان قد أعدھا ھانز شول، وألكسندر شموريل، استنسخت بعد ذلك قليل من النسخ، ووزعت بواسطة البريد، إلى عناوين الأشخاص المعروفين من قبلھم.

172

” ھو لا شيء أكثر من شعب لا يستحق الاحترام، يسمح لنفسه أن يحكم من قبل زمرة لا تمتلك الشعور بالمسؤولية، وظلامية التفكير ولا يبادر للمقاومة وكنا ندرك مدى الخزي، الذي يصيبنا عندما كانت الستائر تسقط أمام أعيننا، والجرائم الفظيعة التي تجاوزت كل الحدود، التي كانت تجري في ضوء النھار،

نحن نرجوكم أن تستنسخوا ھذه النشرات بأوسع عدد ممكن، وبالتالي أن يجري توزيعھا.

يورغن فيتن شتاين : ” لم يكن بوسع المرء الذھاب إلى دائرة البريد وشراء 100 طابع، لماذا يحتاج شخص اعتيادي 100 طابع ؟ وكان الحصول على جھاز ناسخ، كان غير ممكن، ما لم يكن بدرجة ووظيفة رسمية. ولھذا السبب كانت النشرات الأولى تطبع على الآلة الكاتبة، وباستخدام أوراق استنساخ

)كاربون( لكل ست أو سبع صفحات. القتل الجماعي لليھود ابتدأ بوقت مبكر

كانت النشرات تتسم بالثراء الثقافي، وتضم مقتطفات من أقوال يوھان غوته وفردريك شيللر، وموجة إلى المشاعر المحتشمة والأخلاقية وتنادي إلى الانتفاضة ضد النظام الظالم، ويقول المؤرخ فولفغانغ بينز :

” أعداد الطبعات كانت قليلة، وإذا تصور المرء أن ھذه النشرات كانت طبعت بوسائل بسيطة، وبنحو 100ــ 120 نسخة من كل منشور، كانت أوراق الاستنساخ )الكاربون( تتعرض للتلف بعدھا، والنشرات كانت صغيرة الحجم تتعدى المئات “.

” النشرة رقم 2 تضمنت أن 300،000 ألف شخص في ھذا البلد قد قتلوا بطرق وحشية “.

فرانز جوزف مولر، الشخصية المعروفة، والتي كانت تدعم الأخوين شول من بلدة أولم، كتب بعد سنوات من نھاية الحرب، ونقل نصوصاً من نشرات ” الوردة البيضاء ” عن وضوح فكر المجموعة. وقد سبقوا في ذلك سواھم من مجاميع المقاومة، كانت مجموعة الوردة البيضاء قد تحدثت عن الإبادة البشرية، وقد

ش ّخصوا وذكروا بدقة القتل الجماعي الذي يتعرض له اليھود .

” أيھا الألمان، ھل تريدون لكم ولأطفالكم أن تعانون نفس المصير الذي حدث لليھود ؟ ومن ھذا يستنتج .. قرروا ذلك بأنفسكم فوراً، مزقوا عباءة اللامبالاة وإلا فأن المصيبة ستحل بكم “.

وكان من بين من أبدى المساعدة في بلدة أولم، إلى جانب فرانتز جوزيف مولر، سوزانا ھيرتسل التي تقول : ” كنت قد تعرفت على صوفي شول منذ أن كانت في الرابعة عشر من عمرھا، وكنا أصدقاء حتى النھاية “.

فرانز جوزيف مولر ” كنت قد تعرفت على صوفيا شوًل وشقيقھا ھانز شول برؤيتھما، ھانز شول كنت قد تعرفت عليه من خلال الشبيبة الھتلرية، ولكنه كان شيئا آخر “.

سوزانا ھبيرتسل ” لقد قالت، ينبغي فعل شيء، وإلا فإني سأكون مذنبة أيضاً، ثم أنھا حكت لي أنھم سيطبعون المنشورات، وأنھم سيقومون بتوزيعھا “.

فرانتز جوزف مولر ” صوفيا شول كانت زميلة صفي في الدراسة وھانز ھيرتسل ھو من جلب النشرات، وكمية كبيرة منھا، من ميونيخ، وسأل فيما إذا كان بوسعه أن يوزعھا، وھانز سألني فيما إذا كنت سأساعده في ذلك وأشاركه التوزيع، حينئذ قلت له .. نعم كيف وماذا ..!”.

173

فرانز جوزيف مولر كان في ذلك الوقت شاباً في الثامنة عشر من عمره، بحث عن ظروف رسائل من مكتب والده، ثم قام ھو وھانز ھيرتسل وھو شقيق سوزانا ھيرتسل، وابن لرجل دين )قس( من مدينة أولم، بالبحث عن مكان مناسب يتمكنان فيه من توزيع المنشورات دون خطورة .

” ثم قال أنھما يستطيعان فعل ذلك بوضع النشرات خلف الأورغن في كنيسة مارتن لوثر. وھناك أيضاً لدينا آلة طباعة قديمة وھو سيقوم بالكتابة وأنا أملي عليه النص، وھنا أيضاً كانت سوزي ھيرتسل قدمت مساعدة لنا، وكان لديھا كتاب يحتوي على عناوين كانت قد جلبته من شتوتغارت، ولا نعرف كم أعددنا

من رسائل، ولكن ينبغي أن أقول بحذر، أنھا كانت بضعة مئات “.

” النشرة رقم 4 كانت تضم إحصاءات القتلة، ھتلر أو غوبلز، لم يكونا يعرفان كم من القتلى يسقط في روسيا، إنه زمن الحصاد، والحصاد يحمل بعربات القطار، في المدن النائمة، يخيم الحزن على الأكواخ، ولا أحد ھنا ليمسح دموع الأمھات “.

” في وقت ستالينغراد، حلت ساعة الحسم “.

يورغن فيتن شتاين عضو جماعة الوردة البيضاء يقول : ” إن القرار الداخلي الذي اتخذناه والذي ناقشناه مع بعضنا بالطبع، أن الأسلوب والطريقة الوحيدة التي يمكن بھا إنقاذ ألمانيا، وفيھا خسارة للحرب، كان قراراً فظيعاً ولم يكن من السھل اتخاذ ھذا القرار”.

” النشرة رقم 5 جاءت حين اھتز شعبنا بسقوط. 330,000 الرجال الألمان في ستالينغراد، واھتزت معھا الاستراتيجية العبقرية للحرب العالمية التحريرية، وبدون شعور بالمسؤولية والموت والخراب يرددون أيھا الزعيم نشكرك ..! “.

نداءات لم تجد صداھا ..

وما كانت المجموعة تأمله بعملھا ونضالھا من التحقق السريع، لم يحدث. فالألمان لم يثوروا ولم ينتفضوا ضد ھتلر والنظام النازي، بل واصلوا ھتافھم لھتلر، وفي ھذا يقول فولفغانغ بينز :

” لم تجد المجموعة نتائج فورية لعملھا، ولم يكن لھا صدى، ولم تقفز إلى مستوى مقبول، في قلوب زملائھم الطلبة الألمان “.

ومن أجل توسيع نطاق العمل، قام ھانز شول وشقيقته صوفي ومناضلين آخرين بكتابة شعارات على جدران مدينة ميونيخ، ولا سيما في محيط جامعة ميونيخ. وكانت شعاراتھم …

” يسقط ھتلر …. ھتلر قاتل شعوب ….! الحرية …!

ومن الفعاليات الأخيرة تلك التي حدثت في شباط ــ فبراير / 1943، طبعت مجموعة الوردة البيضاء نشرتھا 6 والأخيرة، طبعت من قبل كورت ھوبر، وكان عدد نسخ النشرة 2000 نسخة.

” أيھا الشعب الألماني : ھل سنواصل المماطلة في مصير جيوشنا ؟ ھل نريد نمنح ما تبقى من الشباب الألماني إلى أيادي سلطة منحطة من عصابة الحزب … لا لن يكون ھذا ..!

174

ـ توزيع النشرات، العمل الخطير

في 18 شباط و ّزع ھانز وشقيقته صوفيا آخر النسخ في المبنى الرئيسي لجامعة ميونيخ. وعن ھذا يقول فولفغانغ بنز :

” والنشرة الأخيرة جرى توزيعھا خلال أجواء التخوف والترقب داخل قاعات المحاضرات والممرات، وھانز شول وشقيقته صوفي في غمرة الحماس والشجاعة الشبابية، فكرا أن يقذفا ببقية النشرات من الطابق الثاني في باحة الجامعة، وھو ما كان سھلاً على الموظفين والعالمين في الجامعة تجميعھا. وقد أغلقت بعد ھذه الحادثة كافة أبواب الجامعة. وقد ألقى بواب الجامعة القبض على ھانز وشقيقته، وسلمھما

للبوليس السري )الجستابو(.

وھنا عثر الجستابو على مسودة / نص قد كتبھا زميلھم في المجموعة كريسوف بروبست، فألقي القبض على ھذا أيضاً، وبعد استجوابات )تحقيق( طويلة اعترفوا بفعاليات المقاومة التي قاموا بھا. أمر أدولف ھتلر بتقديمھم للمحاكمة. وعين رولاند فرايزلر رئيساً للمحكمة، وقد سافر على التو من برلين إلى ميونيخ في 22 / شباط، ليرأس محكمة الشعب التي افتتحت وبدأت بأعمالھا. وكانت لائحة الاتھام تتضمن ” خيانة الوطن لمصلحة العدو، والتحضير للخيانة العظمى وإلحاق الضعف بالقوات المسلحة البلاد “. وكان والد ووالدة شول، بين من حضر لمشاھدة جلسات المحكمة. وعن ذلك كتبت شقيقتھم الأخرى أنجي شول، بعد

أن انتھت الحرب :

” وعندما سمع والدي أن محامي الدفاع )عينته المحكمة( قد فشل كلياً وقبل أن تمنح المحكمة والدي الحق، نھض وحاول الدفاع عن أولاده )ھانز وصوفي( وھنا قوطعت كلمته، وأمر الحاكم بإخراج والداي من قاعة المحكمة. “.

ـ الحكم صدر : الإعدام بالمقصلة )الجيلوتين(

يقول فولفغانغ بنز : قرار الحكم على أفعال الوردة البيضاء لم يستغرق إلا ساعات قليلة، بعدھا اجتمعت ھيئة محكمة الشعب، ثم قرأت قرار ھيئة الادعاء ولائحة الاتھام كانت قصيرة وغاضبة ومليئة بالشتائم والإھانات. وكان ذلك وأقول حرفياً أنھا كانت أقصر مرافعة يمكن القيام بھا. وقرار الحكم كان بالطبع أيضاً قوياً وواضحاً وجرى تنفيذه فور قراءة الحكم. وعندما كان الوالدين شول يحاولان العمل على تھيئة محاولة للعفو، في مساء اليوم الذي تمت فيه المرافعة، لم يكونا يعلمان أن ولديھما ھانز وصوفي قد تم

بالفعل تنفيذ حكم الإعدام بھما. “. )2(

ھانز وصوفي شول، وكذلك رفيقھما كريستوف بروبست، توفوا بعد تنفيذ حكم الإعدام فيھم بواسطة المقصلة في السجن الجنائي بمدينة ميونيخ.. كانت أعمارھم على التوالي 21، 23 ، 24 سنة. وكان رولاند فرايسلر السيء السمعة الذي اشتھر فيما بعد كرئيس للمحكمة التي حكمت على الشبان الثلاثة، يدرك مدى الجدية التامة التي كان النظام النازي حيال قضية الوردة البيضاء، والخشية والقلق من اتساع حركة الاحتجاجات ومجموعات المقاومة في صفوف الطلبة. قلق غير ضروري، وھذا ما كتب عنه فولفغانغ

بينز :

” بعد صدور الحكم، كان ھناك حفل في جامعة ميونيخ، وفيھا تم تكريم الحارس الذي أمسك بھانز وصوفي شول، وسلمھم للجستابو )البوليس السري(، وكرم كبطل ورفع الطلاب أذرعھم تحية له. وأمر الطلاب بأن يظھروا اشمئزازھم مما فعله زملاؤھم السابقين، إذن فھم لم يعودوا طلاباً، وعندما أدينوا

175

وكذلك مدرسيھم والبروفسور كورت ھوبر، الذي خلعت مرتبته العلمية )دكتور(، ولقبه العلمي )بروفسور( على الفور. “.

الحلفاء وإذاعة )BBC( تعلق على حركة الوردة البيضاء المقاومة :

كورت ھوبر، وألكسندر شموريل، ً وفيلي، أدينوا في محاكمة ثانية ًأمام محكمة الشعب في نيسان / 1943 في محكمة أخرى، وأعدموا أيضا. وفي ھذه المرافعة جلس أيضا فرانتز جوزف مولر، وھانز وسوزانا ھيرتسل، في قفص الاتھام. وتقول سوزانا ھيرتسل :

” لقد اعتُقلت في أولم، في شأن له علاقة بأخي ھانز، ومن أولم نقلونا معاً إلى مدينة شتوتغارت في سيارة مرسيدس. وفي شتوتغارت جرى التحقيق معنا في مقر للبوليس السري )الغستابو(، ثم جرى نقلنا إلى ميونيخ،ومنثم ُوضعتفينفسالزنزانةالتيكانتفيھاصوفياشول.”.

المتھمون الثلاثة حكم عليھم بالموت، فيما حكم على فرانتز مولر وھاينز ھيرتسل لكل منھما بالسجن لمدة خمس سنوات. وحكم على سوزانا ھيرتسل بالسجن لمدة ستة أشھر.وھذه الدعاوي المرفوعة أمام محكمة الشعب، والأحكام القاسية التي أصدرتھا، وانتشار مسألة المنشورات أثارت ” اضطرابات محسوسة ” بين الناس. كما سجلتھا دائرة الشرطة السرية )الجستابو( في ربيع عام 1943. واھتم الحلفاء ووسائل الإعلام الأجنبية بھا، بما في ذلك صحيفة النيويورك تايمس، وإذاعة )BBC( ونقلوا أنباء أعمال المقاومة

لمجموعة الوردة البيضاء، وعن ذلك كتب فولفغانغ بينز :

وقد أسقطت طائرات السلاح الجوي البريطاني منشورات جماعة الوردة البيضاء في مناطق الرور )مناطق المناجم والقلب الصناعي الألماني( على مناطق أخرى مكتظة بالسكان. ولكن دون أن تتوصل إلى خلق تأثيرات ودون أن تساھم في رفعً درجة العداء ضد النظام النازي وھتلر. والمحاكمات كانت علنية، وتحدث توماس مان في الإذاعة مشيدا ببطولة الشباب الرائعين في إذاعة موجھة إلى المستمعين الألمان

وحاثاً الشعب الألماني إلى اعتبارھم أمثلة يقتدون بھا.)3(

ولكن الرنين لم يحدث صداه، وحركة احتجاج الوردة البيضاء، كانت منارة ولكن دون عواقب. فولفغانغ بينز يكتب :

” لماذا عرف وأدرك خمسة طلاب وبروفسور في جامعة ميونيخ ما لم يكن العالم يريد إدراكه ومعرفته ..؟ والمشاركين في جماعة الوردة البيضاء كانوا مقنتعين أنھم بمنشوراتھم ًالجميلة، أنھا ستؤثر بمن يقرأھا، ولكن المرء عندما ينظر للمسألة بدقة ونتائجھا، يرى أنھا قد فشلت تماما. والزملاء في الجامعة لم يكونوا يرغبون في معرفة أن جماعة الوردة البيضاء كانت تتصرف بشكل فردي، وبدأ التعرف عليھا، ولكنھم واصلوا تصرفھم بذات الطريقة وھو ما لم يكن يقبل به الآخرون “. )4(

بعد سقوط النظام النازي، أصبحت الوردة البيضاء وبسرعة في ألمانيًا الاتحادية من أشھر وأھم حركات المقاومة الوطنية الألمانية ضد النظام الھتلري. والرايخ الثالث. ورمزا لألمانيا أخرى أفضل. فيما جرى تھميش للمقاومين الأصليين للنظام الھتلري النازي وھم بشكل أساسي الحزب الشيوعي الألماني والحزب الاشتراكي الألماني. وما كان توماس مان قد أكده من خلال خطابه في محطة إذاعة )BBC( في حزيران

/ 1943 ” لا ينبغي أن يموتوا عبثاً، يجب أن ننساھم ” وھو ما ثبت خلال العقود التالية. 176

فولفغانغ بينز ” في الدولة الألمانية الغربية كان الأخوة شول )ھانز وصوفي( وجماعة الوردة البيضاء، المثال والقدوة )مع بعض الصعوبات ووفرة في الرجال( للمجموعة التي قامت بمحاولة 20 / تموز / 1944، والأبطال الأعظم بطولة في المقاومة الألمانية. الوردة البيضاء، بصفة خاصة والأشقاء ھانز وصوفي شول حصلوا على المجد مبكراً جداً، وھذا ما يميزھم تقريباً عن سائر منظمات المقاومة. ومصيرھم الذي واجھوه من العدالة النازية البربرية والمنحطة. وھؤلاء كانوا أطفالاً مثاليين قد تلقوا تربية

بيتية جيدة، ، وكانت لھم شقيقتھم الكبرى التي أخذت على عاتقھا مجد شقيقھا وشقيقتھا ورفاقھم.

تقول إنجًي شول ” ھم لم يكونوا أن يصبحوا أبطالاً ولا شھداء، أرادوا أن يفعلوا شيئاً، شيئاً ما اعتبروه ضروريا، لقد شعروا أنه لابد أن تكون ھناك بداية، ، وھذا يجب أن يفعله أحد ما … وأن الجموع الشعبية ليست كلھا مغفلة ومضللة .. ..!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

الرايخ الألماني : وترجمة المصطلح ” الإمبراطورية الثالثة ”

الإمبراطورية الألمانية الأولى كانت : النظام الملكي لبيت ھوھنتسولرن كانت معروفة بالإمبراطورية الألمانية )1918-1871( والإمبراطورية الألمانية الثانية كانت : الجمھورية الديمقراطية، كانت تعرف بجمھورية فايمار )-1919 1933( والإمبراطورية الألمانية الثالثة كانت : الديكتاتورية الشمولية كانت تعرف باسم الرايخ الثالث أو ألمانيا النازية)1945-1933(

المقصلة : )سكين حادة ثقيلة تسقط من ارتفاع فتحز رقبة المحكوم وتفصلھا عن جسده(

توماس مان : أديب ألماني ولد في مدينة لوبك عام 1875وتوفي عام 1955 في مدينة زيوريخ / سويسرا

عام. حصل على جائزة نوبل في الأدب لسنة 1929

يحلل الكاتب فولفغانغ بينز، عمل ونھاية الوردة البيضاء بطريقة لا تتفق مع عمل المقاومة. المقاومة الألمانية ھي حركة معارضة للنظام النازي، وفي الأربعينات كان سقوط النظام وانھياره أمر متوقع، بعد أن فتح على نفسه جبھات كثيرة، وعادى الكثير من القوى السياسية والاجتماعية داخل ألمانيا نفسھا، ون ّكل بھا تنكيلاً دموياً، لا يدع للتراجع مكاناً في سياسته. مجموعة الوردة البيضاء، شبان طلبة يحملون توجھات ليبرالية، أيقنوا أن حريقاً سيبتلع بلادھم فھبوا لعمل شيء، تعوزھم التجربة ولكن لا تعوزھم الوطنية والإخلاص، والأھم الشجاعة للوقوف بوجه نظام دموي. وبتقديرنا أن التجربة لم تفشل تماماً، بدليل أن

177

التاريخ الوطني خلدھا، ودخلت في الإرث السياسي والثقافي الألماني، والعالمي أيضاً، بوصفھا علامة من علامات نضال الشعب الألماني ضد النازية.

??

178

??

ارتهان القرار السياسي بيد المؤسسة الدينية د. ضرغام الدباغ / برلين

مدخل

بينما كنت أطبع الكتاب: ألبرتو ومحاربو الشمس، وھ?و عم?ل ممت?از كن?ت ق?د ترجمت?ه ف?ي وق?ت س?ابق م?ن الآن، يبح??ث ف??ي الت??اريخ السياس??ي والحض??اري، للمكس??يك قبي??ل وبعي??د الاح??تلال الإس??باني لھ??ا وت??دمير الحضارات التي كانت قائمة ھناك، انتبھت للفقرة )د( من الفصل الخامس، وأعتقد أننا يجب أن نمنح عناية

خاصة لمطالعة ھذا النص.

المفارقة ھنا أن تمتلك المؤسسة الدينية، أو تمنح لنفسھا ح?ق إص?دار الق?رارات السياس?ية، وبع?ض م?ن تل?ك القرارات ستلعب الدور الحاسم في تاريخ الشعوب ومستقبلھا إلى آجال غير محددة. المؤسسة الدينية عندما تك??ون ھ??ي ص??احبة الق??رار، ولا أظنھ??ا تقب??ل ب??دور المش??ارك الث??انوي، فالمؤسس??ة الديني??ة تنف??رد بخاص??ية معروفة، ھي أنھا تعتبر نفسھا المقام الأول ولا يوجد مقام ثاني وثالث، ھي على صح، وغيرھ?ا س?يان م?ن

يكونوا على خطأ ذلك أنھا تمثل إرادة الرب، وماذا يمثل الآخرون ..! 179

المصالح البشرية والوطنية لا تساوي فلساً واحداً )في ھذه الأيام سنتاً واحداً( في عرفھم

إذن نحن أمام إشكالية سياسية لھا طابع خاص. ففي العلوم السياسية المعاصرة، يتخذ القرار السياس?ي عب?ر قن??وات عدي??دة، وقي??اس حس??ابات دقيق??ة، وردود أفع??ال محتمل??ة، وموق??ف عناص??ر وجھ??ات كثي??رة، وج??رد لق??درات ومس??تودعات الإرادة الذاتي??ة، وق??درات الجھ??ات المقابل??ة، وينبغ??ي أن يش??ارك ف??ي ص??ياغة الق??رار السياسي، جھات وقنوات عديدة، وھي عملية يستحسن الت?أني بھ?ا وأن لا تك?ون ارتجالي?ة س?ريعة فتع?رض القرار لمصاعب في التنفيذ. وكلما كان القرار يمس مرتكزات الدولة، كانت عملية اتخاذ القرارات تكتس?ب

أھمية استثنائية تستلزم أقصى قدر من الفحص والتمحيص.

المؤسسة الديني?ة لا تحت?اج لك?ل ذل?ك، ربم?ا تكف?ي رؤي?ة ط?الع النج?وم، أو إج?راء اس?تخارة، أو الس?ؤال م?ن ك??اھن لا يع??رف ج??دول الض??رب ..! بي??د أن الك??اھن إن نط??ق، فق??د وق??ع الف??اس ب??الراس ولا م??رد لق??راره. والكاھن لا يقر بلعبة التوازنات، ولا يعترف بإقامة الائتلافات والتحالفات بين قوى متعددة الأيديولوجيات،

فالآخرون برأيه قد يكونون: مردة، كفرة، ھراطقة، زنادقة.

ماالعمل …؟

التاريخ بتطوره حل ھ?ذه الإش?كاليات، وم?ا تبق?ى ھ?ي ال?ذكرى فحس?ب .. أم?ا م?ن لا ي?زال يع?يش ف?ي حم?ى الذكرى فالتجربة وأحداث التاريخ المقبل ستكون خير معين له، ھذا إن كانت ھناك ثمة فائدة م?ن التجرب?ة، وبعض الأحيان لا توجد فائدة للأسف من التجربة، فأنت لا تستطيع القول فلنجرب ماذا يحدث إن ضغطت على زناد سلاح ناري مصوب إلى الصدغ، فالس?لاح الن?اري س?يحدث فج?وة محترم?ة ف?ي الجمجم?ة بم?ا لا

يمكن معھا إعادة التجربة. نحن نضرب الأمثال، ونتوسلھا من عبر التاريخ أن تكون مؤثرة في وعي الناس.

***********************************************

د : ھبوط الآلھة )الفقرة الثامنة من الفصل الخامس(

ألبرتو محاربو الشمس تأليف: رولاند كوربر ترجمة: د. ضرغام الدباغ رويتلينغن 1960 / ألمانيا الاتحادية دار النشر: أيسلين ولايبلين

نزل الإسبان في المكس?يك ع?ام 1519 بقي?ادة ھيرنان?دو ك?ورتيس Hernando Cortez حي?ث ك?ان المل?ك موكتيسوما الثاني يحكم الأزتيك. وكان الأزتيك يسمون تلك السنة ب )قص?ب 1( لأن الي?وم الأول م?ن تل?ك السنة من تلك السنة يحمل ھذا الاسم، وكانت السنة تسمى باسم اليوم الأول منھا.

والسنة ” قصب 1 ” كانت لھا أھمية خاص?ة ف?ي معتق?دات الأزتي?ك، إذ أن آلھ?ة الض?وء، نجم?ة الص?باح ” كويتسالكواتل ” والتي كانت سنة ولادته في عام قصب يسمى )أمي?ر قص?ب 1( ق?د غ?ادر البش?رية بع?د 52 عاماً من ولادته، ثم عاد بعد س?نة واح?دة. وبع?د النص?ر أص?بح المعل?م العظ?يم للبش?ر. وك?ان يش?غل منص?ب

180

الملك والكاھن الأكبر فيھا، وكان?ت الظ?روف والأح?وال تش?ابه الجن?ة، ولك?ن الن?اس ل?م يكون?وا يظھ?روا ل?ه الاحترام والتقدير الكافيين، لأن ملك الآلھة في كويتسالكوتابل قد غادرھم، فقد ص?عد م?ع المق?ربين إل?ه إل?ى سفينة في خليج مكسيكو، ونادى عليه الناس أن يعود في عام القصب لكي تسود العدالة)ھكذا الأسطورة(.

وعندما لاحظ سفراء ملك الھنود موكتيسزوما الثاني في عام القصب التي تقابل ع?ام 1519 ميلادي?ة بخب?ر عن نزول البيض، إذ لم يكن يشك ولا لحظة واحدة، بأن كويس?تاكواتل ق?د ع?اد م?ع المق?ربين إلي?ه، لا س?يما وأن الإنزال قد جرى في نفس الموقع)حسب الأسطورة(. وكان ملك نجمة الصبح قد ركب زورق?ه )الآلھ?ة البيض( كانت لھم لحى، وحتى كويستاكواتل كانت له لحية، وھذا يعني شيئاً كثيراً للھن?ود ال?ذين ل?م يكون?وا يطلقوا لحاھم، وقد نزلت حيوانات ضخمة، ربم?ا ھ?ي آلھ?ة، إذ أن الھن?ود ل?م يكون?وا يعرف?ون الخي?ول الت?ي ظھرت لھم كمخلوقات من العالم العلوي، كما كان قصف المدفعي?ة الإس?بانية ق?د م?ن ع?زز قن?اعتھم م?ن أن

القادمين يتمتعون بقوة الآلھة.

وما لم تكن تلك علامة مقبضة للنفس، التي أكدت ھذه الإحداث. فالملك موكيتزوما ما يزال يت?ذكر شخص?ياً ذلك اليوم الذي فيه جلب الصيادون له طيراً مائياً كان يحمل فوق رأسه م?رآة وبوس?ع الم?رء أن يش?اھد ف?ي ھ?ذه الم?رآة الس?ماء والنج??وم. ولك?ن ح?ين تطل?ع المل??ك ف?ي الم?رآة، ش?حب لون??ه، إذ عل?م أن ھن?اك كثي?ر م??ن المحاربين يقتربون وھم يمتطون ظھور حيوانات كبيرة غير معروفة عام 1509، وكانت ھناك نار كبي?رةً يتصاعد لھيبھا من الأرض إلى السماء. وعندما شاھدھا الملك، ھكذا يحدثنا الم?ؤرخ: ” ل?م يظھ?ر احترام?ا وتقديراً للسلطة، وأعطى، في الحال الأوامر بإيقاف القتال والحرب “. والآن قد حلت سنة قصب، وھا ھ?و

كويتساكوابل قد جاء لإحلال العدل.

وعندًما يقرأ الم?رء التق?ارير الإس?بانية ع?ن اح?تلال المكس?يك يتس?اءل، لم?اذا ل?م يرس?ل مل?ك الأزتي?ك جيش?اً كبيرا إلى الساحل ليطردوا الـ 500 إسباني برغم تسليحھم الحديث. وھذه الأفكار يناقشھا الناس اليوم فقط، ولكن الأزتيك كانوا يعيشون في عالم كان القرار فيه للآلھة النجوم، ونحن نعل?م بالتأكي?د، ب?أن الح?رب إنم?ا

تتم بتوجيه من الآلھة إلى الجن والعفاريت، ولكن كل شيء يتحدث ھنا ضد مثل ھذا القرار. انتھى النص

)وھنا يكمن السر لماذا لم يقاوم الأزتيكيون احتلال الغزاة الإسبان ل?بلادھم، رغ?م أن ذل?ك ك?ان بمق?دورھم، لسوء حظ الشعب أن الكھنة لم يوافقوا .. فھم تحت وھم أسطورة أنه الإله المختفي قد عاد (

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com