مقالات

بريطانيا.. ومتاهةُ الخروج

بريطانيا.. ومتاهةُ الخروج
محمد عارف*

«نصفهم مجانين، ونصفهم الآخر ليسوا عقلاء تماماً». قال ذلك عن الإنجليز الشاعر الاسكتلندي «توبيا سموليت» في القرن الثامن عشر، وهو يوضح الكثير لمن عاش مثلي في إنجلترا أربعين عاماً. وهل غير الجنون يُفسر تقلب البريطانيين، «محافظين» و«عمال»، ما بين سعيهم الحثيث نحو نصف قرن للانضمام لـ«الوحدة الأوربية»، واختيارهم بعد أعوام من دخولها «بريكسيت»، وهي العبارة المدغمة من كلمتي «بريطانيا» و«خروج». وهم في كل ذلك ما يزالون، كما قال عنهم تشرشل «لا يخطُّ البريطاني خطاً إلا ويُضّببه». و«الضَبضة» جعلتنا لا نعرف النسبة الحقيقية للمصوِّتين، مع أو ضد «بريكسيت». وحتى لو كانت النسبة متقاربة لصالح الخروج، فهي ليست الديمقراطية التي طالماً تم التبجح بها، بل الدليل على أن النظام الديمقراطي البريطاني «المجنون» لا يختلف كثيراً عن الأنظمة الدكتاتورية في الإذعان لقرار «الزعيم القائد». وهل غير ديمقراطية «مجنونة» تتجاهل رغبة أكثر من 40 أو حتى 30? من السكان، وفي موضوع يتعلق بتقرير مصير بلد وشعب، وربما قارة؟
والديمقراطية «المجنونة» تفسر تقلب مواقف السياسيين، «العمال» و«المحافظين» على حد سواء، في الانضمام للاتحاد الأوروبي. وهي الديمقراطية التي مَكّنَت المحافظين من الفوز على العمال الذين دعا زعيمهم (كوربين) إلى إعادة الاستفتاء العام حول الموضوع، واعتبره كثير من المحللين السياسيين سبب فشل العمال في الانتخابات، حين صوّت سكان مناطق عمالية لصالح زعيم المحافظين (بوريس جونسن) الذي حسم بشكل «مجنون» موضوع «بريكسيت». وبريطانيا الآن في متاهة ودون دليل عمل خارج الوحدة الأوروبية. هل هذا هو «الغباء الأسطوري»، حسب الكاتب البريطاني «توم مكتاغو»، أم أنه مثال للاتجاه العالمي الراديكالي الراهن، الذي يتساهل في تغيير المقدسات، كالحدود، والدساتير، وكيان الدول؟.. مهما التاث الجواب، ولابد أن يلتاثُ جواب «التائهين»، فالنتيجة تُعبِّر عنها خاتمة الحكاية البغدادية الفكهة «الخروج من الحمام ليس كالدخول إليه»!
والفكاهة لم تنتهِ مع إعلان الخروج من الاتحاد الأوروبي، بل بدأت، ولا يعرف حتى القائمون بها مرساها ومجراها. والخروج لن يُغير فحسب حياة ملايين البريطانيين الذين يقيمون في أوروبا والأوربيين الذين يقيمون في بريطانيا، بل قد يعني كارثة سياسية واقتصادية للبريطانيين ولمن توّرط بالعيش معهم. والمكوث أقرب ما يمكن من الاتحاد الأوروبي يجمع الآن بين بريطانيين خسروا معركتهم في البقاء في الوحدة، وبريطانيين فازوا بمعركتهم للخروج منها. وهنا، كما قال تشرتشل أيضاً «حكمة البريطانيين هي البيزنس كالمعتاد». وتطغى مساومات «البيزنس» على ردود الأفعال البريطانية التي تردد عبارات لا معنى عملي لها، مثل «طالما كنا أعضاء في الاتحاد فسنواصل التصرف كوحدة». وهذه تعليمات وزير خارجية بريطانيا الذي يحدد لدبلوماسييه «الجلوس بشكل منفصل عن ممثلي دول الاتحاد الأوروبي في الاجتماعات الدولية».
ويثير الهزء انغمار جهتين أوروبيتين متقدمتين علمياً واقتصادياً بموضوع صيد الأسماك! هذه ثاني أهم نقطتين في التفاوض الذي لم يبدأ بعد بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، والنقطة الأولى تتعلق بما يسمى «تسوية مجال التعامل»، وتعني أموراً كثيرة، بينها عدم التراجع عن معايير التعامل المتفق عليها، وقبول المعايير الجديدة التي تطرحها «الوحدة». ويكشف ما يتردد عن المفاوضات التي ستستغرق حتى نهاية العام، أن الأسباب التي أدّت إلى خروج بريطانيا من «الوحدة» هي نفسها تقف حجر عثرة دون الاتفاق بينهما. ويبدو غير معقول طلب «بوريس جونسن» أن تكون الاتفاقات التي يزمع عقدها مع الاتحاد الأوروبي مماثلة لاتفاقياته مع كندا وأستراليا، ليس فقط لأنها تجري إثر طلاق لا مثيل له، بل أيضاً للقارة الأوروبية التي تحتويهما، وينكشف لحمها الحي، إذا صح التعبير، في تلاحمهما في إيرلندا، و«جبل طارق».
*مستشار في العلوم والتكنولوجيا

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com