ثقافة

أزمة تولستوي الروحية: الإيمان أم الأدب!

بيدر ميديا.."

أزمة تولستوي الروحية: الإيمان أم الأدب!

جودت هوشيار

 

في سن الخمسين، كانت شهرة ليو تولستوي – الكاتب والمصلح الاجتماعي، الذي يحظى بالإجلال والتقدير في روسيا والعالم – قد بلغت الآفاق. ومع ذلك لم يكن سعيداً، فقد عانى من أزمة روحية أليمة، بلغت ذروتها بعد الانتهاء من كتابة رواية «آنّا كارينينا» لدرجة أنه فكر جدياً في الانتحار، وتوقف حتى عن الذهاب للصيد لتجنب إغراء إطلاق النار على نفسه، وأخفى الحبل الذي كان لديه حتى لا ينتحر به. وقد قادته هذه الأزمة إلى تأليف كتاب فلسفي سَمَّاهُ «اعتراف» وصف فيه سبب أزمته الروحية.
الحياة التي عاشها تولستوي، مهما كانت محترمة في نظر العالم، لم تكن بعد الحياة الحقيقية، التي كان يتوق إليها، وعلاقاته كرجل أرستقراطي ثري مع الفلاحين الفقراء، لم تكن على النحو الذي سعى إليها في أعماق وعيه وروحه. وفقط من خلال ترتيب هذه العلاقات، كان يمكن أن يجد راحة البال، وليس في المجد أو الشهرة أو المال: «عندما فكرت في الشهرة التي حصلت عليها بواسطة مؤلفاتي قلت في نفسي، لكن ما الفائدة إذا صرت أشهر من بوشكين وشكسبير، وجميع الكتاب في العالم؟ كل هذا جميل لكن ماذا بعده؟ ما هي النتائج التي سأحققها من خلال ما أفعله الآن وماذا سأفعل غدا؟ ماذا ستكون نتيجة حياتي؟ لماذا أعيش؟ وما الذي يجب أن أعمل من أجله؟ هل هناك أي شيء في الحياة يمكن أن ينجو من الموت الحتمي الذي ينتظرنا؟».

يصف تولستوي في كتابه «اعتراف» بصدق وإسهاب مجمل أفكاره، ويتساءل إن كان العلم أو الفلسفة أو الدين، يمكن أن يساعده في حل هذه المشكلة، وبخيبة أمل في جميع فروع المعرفة البشرية، يحاول أن يفهم نفسه، العثور على الحقيقة الأقرب إلى قلبه. ترك الكتب والتفت إلى الناس في محيطه الاجتماعي لمعرفة نظرتهم إلى معنى الحياة. فرأى أنهم من حيث مواقفهم من الحياة أربع فئات، وهي مواقف غير معقولة بالقدر نفسه: إما ظلوا غير مبالين تماما بمعنى الحياة، أو كانوا على دراية به، لكنهم حاولوا البحث عن الترفيه في تسلية تافهة وأنشطة عرضية، أو انتهى بهم الأمر إلى الانتحار، أو التهرب الجبان من الانتحار، والاستمرار في وجود ميؤوس منه. ويضيف تولستوي قائلاً: «لقد تخليت عن حياة طبقتنا، مدركا أن هذه ليست حياة، بل مجرد مظهر من مظاهرها، وأن الرخاء الذي نعيش فيه، يجعل من المستحيل علينا فهم الحياة. ولكي نفهم الحياة، يجب أن نفهم حياة الشعب البسيط الكادح، الذي يصنع الحياة، والمعنى الذي يعطيه لها». استولى عليه اشمئزاز لا يقاوم لرفاهية حياته، ولكذب وامتيازات واحتكارات الأثرياء الذين أصبح المال لديهم، قوة ووسيلة لاستعباد الفقراء. وتوصل إلى نتيجة مفادها أن المال شر عظيم. تخلى تولستوي تدريجياً عن نمط الحياة الثرية ووسائل الراحة، وقام بالكثير من العمل البدني، وارتدي أبسط الملابس، وأصبح نباتيا، ومنح عائلته كل ثروته الكبيرة، وتخلى عن حقوق الملكية الأدبية. وبدأ فترة جديدة من نشاطه الفكري والأدبي، على أساس الرغبة الصادقة في التكامل الأخلاقي، التي تتمثل السمة المميزة له في إنكار جميع أشكال الدولة والحياة الاجتماعية والدينية.

تولستوي والكنيسة الأرثوذكسية

«كم مرة كنت أحسد الفلاحين على أميتهم وجهلهم. من تلك المواقف الإيمانية، التي نتج عنها بالنسبة إليّ هراء واضح، لم يكن فيها شيء كاذب بالنسبة إليهم. كان يمكنهم قبول ذلك والإيمان بالحقيقة، التي آمنت بها أيضاً.. فقط بالنسبة إليّ، أنا التعيس، كان من الواضح أن الحقيقة كانت متشابكة بالأكاذيب بخيوط رفيعة جداً، وأنني لا أستطيع قبولها بهذا الشكل». لاحظ تولستوي أن إيمان الفلاحين البسيط بضرورة تحقيق إرادة الله من خلال العمل والتواضع والصبر والنية الحسنة تجاه جميع الناس – أن هذا الإيمان كان مرتبطا بالعديد من الأفكار الخاطئة المعتادة. ومع ذلك، حاول عدم الالتفات إلى تلك الأفكار، واتجه إلى الكنيسة ليعرف الحقيقة بنفسه.
على مدى ثلاث سنوات كان يحضر باستمرار إلى كنيسة القرية بالقرب من ياسنايا بوليانا، محاولا بكل قوته الاندماج الروحي مع إيمان الفلاحين، دون الالتفات إلى التناقضات والغموض والخرافات في معتقداتهم. ولم يكن هذا هو السبب الذي دفعه بعيدا عن الكنيسة إلى الأبد، بل تحريف الكهنة لما جاء في الكتاب المقدس. ففي عام 1878، عندما كانت روسيا منخرطة في الحرب الروسية – التركية. ألزم المجمع المقدس الكهنة بالصلاة في الكنائس من أجل الانتصار على الأعداء. وعندما سمع تولستوي من شفاه كاهن – بدلا من كلام الإنجيل عن محبة الأعداء وعقاب الخير لمن تسبب في الشر – نداء باسم المسيح إلى الرب القدير ليضرب الأتراك بالنار والسيف، اشمأز من هذا التجديف، وغادر الكنيسة. ذهبت جهود تولستوي للعثور على الحقيقة سدى، لكنه تمسك بأهداب الأمل. لقد تأسست الكنيسة على الإنجيل، وكل الحقيقة التي تقوم عليها لا بد أن تستند إلى الإنجيل. أراد أن يدرس الكتاب المقدس بنفسه، وبدأ هذا العمل بدقته المعتادة وصبره وحياده. بدأ في دراسة اللغة اليونانية مرة أخرى، لكيلا يضلله المترجمون، وكانت نتيجة عمله ظهور دراسة وتفسير كاملين للإنجيل في ثلاثة مجلدات، مع النص اليوناني من ناحية، وترجمة جديدة له من ناحية أخرى، وملاحظاته الخاصة أدناه.

سمحت له الخصائص الإبداعية لعقله أن يتغلغل في روح قصة الإنجيل بطريقة لم يستطيع أي شخص آخر القيام بها قبلا. بدأ بدراسة كتب الإنجيليين، وقد صُدم في حقيقة أن النصوص التي تستند إليها الكنائس في عقائدها غامضة للغاية، في حين أنّ نصوص الكتاب المقدس، التي تعلمنا كيف نعيش، واضحة ودقيقة دائماً. اتخذ تولستوي موقفا ينتقد بشكل لا لبس فيه رجال الدين، والكنيسة الرسمية. ما أدى إلى حظر نشر كتاب «اعتراف» من قبل الرقابة الرسمية، وتحريمه من قبل الكنيسة. وقد نشر الكتاب لأول مرة في جنيف عام 1984.. كشف تولستوي زيف الكهنة، الذين اتهمهم بعدم مناصرتهم للفقراء ووقوفهم مع القياصرة والظلم. وكان يقول، «إن الدين منبع ماء نقي، لكن رجال الدين يلوثونه، ثم يقولون للناس تعالوا اشربوا من هذا الماء». في فبراير/شباط 1901، بدأ السينود (المجلس المسكوني) أخيرا في التفكير في إدانة تولستوي علنا وحرمانه من رعاية الكنيسة. أكد تولستوي في رده على السينود، انفصاله عن الكنيسة: «حقيقة أنني تخليت عن الكنيسة التي تسمي نفسها أرثوذكسية. وهذا أمر عادل تماما.. لكنني لم أتخل عنها لأنني تمردت على الرب، بل على العكس من ذلك، أردت أن أخدمه بكل قوة روحي.

عدم مقاومة الشر بالعنف

ماذا كان جوهر التحول الروحي لتولستوي؟ وكيف أثرت تعاليمه الدينية والأخلاقية في وعي معاصريه؟ كتب أنطوان تشيخوف قصة «الناس الطيبون» (1886) وتعاليم تولستوي تدور في ذهنه: «كان ذلك في الثمانينيات، عندما بدأ مجتمعنا والصحافة في الحديث عن عدم مقاومة الشر، وعن الحق في الحكم والمعاقبة والقتال، عندما بدأ بعض الأشخاص في بيئتنا في الاستغناء عن الخدم، والذهاب إلى القرية للحرث، ورفض طعام اللحوم والحب الجسدي».
استندت نظرية تولستوي، التي عُرِّفت على أنها «عدم مقاومة الشر بالعنف» على الفكرة المسيحية القائلة: إن محاربة الشر بالشر أي بالعنف، لا يقلل الشر، بل يساهم فقط في زيادته. لا يمكن هزيمة قوة الشر إلا بالخير. يمكن للحقائق المسيحية أن تكون بمثابة نجمة إرشادية في هذا العالم. ملكوت الله في داخلكم. المسيحية ليست تعليماً صوفيأً، بل هي فهم جديد للحياة. بدا العالم الذي أحاط بتولستوي غير كامل في نظره: المؤسسات العامة، والعلاقات الاجتماعية، والقوانين، والأخلاق، شكك في كل شيء؛ لم يكتف بإدانة كل ذلك أو انتقاده حسب، بل رفضه تماماً. لبعض الوقت، حتى إنه رفض كتابة الأعمال الأدبية، وأنكر حتى الفن، الذي كرس له الكثير من وقته وطاقته قبل أزمته الروحية، والذي أتاح لموهبته العظيمة أن تعبر عن نفسها بشكل كامل.

قال تولستوي، إنه عمل أيضا كمحامٍ لملايين الفلاحين الروس، وأن الأرض ملك مشاع، ولا تخص أحدا ويجب أن تكون لأولئك الذين يزرعونها. ومع ذلك، فإن طرق حل هذه المشكلات المؤلمة للحياة الروسية وفقاً لنظرية تولستوي كانت طوباوية، بإيمانها اللامحدود بالإنسان البسيط، وفي إمكانية تحسينه الأخلاقي لذاته.

حملت نظرية تولستوي سمات المدينة الفاضلة الاجتماعية، ودعت إلى مساواة الناس في العمل. يجب على الجميع، وفقا لتولستوي، بذل جهودهم في مجال الإنتاج المادي من أجل تدمير «عبودية عصرنا» وتحسين الظروف المعيشية الرهيبة للناس العاديين ومساعدتهم.. إن القوة الهائلة لانتقاد النظام القائم، والحياة العامة، و»الفقر المروع للمدينة الكبيرة» تجلت في مقالة تولستوي «إذن ماذا يجب أن نفعل؟».
قال تولستوي، إنه عمل أيضا كمحامٍ لملايين الفلاحين الروس، وأن الأرض ملك مشاع، ولا تخص أحدا ويجب أن تكون لأولئك الذين يزرعونها. ومع ذلك، فإن طرق حل هذه المشكلات المؤلمة للحياة الروسية وفقاً لنظرية تولستوي كانت طوباوية، بإيمانها اللامحدود بالإنسان البسيط، وفي إمكانية تحسينه الأخلاقي لذاته. «يجب على مالكي الأراضي أنفسهم أن يتوصلوا إلى فكرة التنازل الطوعي عن الأرض للفلاحين، ويجب على المالكين التخلي عن الملكية لأنها مجحفة، ويجب على القيصر حل الجيش، وما إلى ذلك. في الوقت نفسه، لكل فرد الحق في أن يظل على طبيعته وأن ينأى بنفسه عن الهياكل الحكومية والعامة، للقيام بما يعتبره مهما وضروريا»… سرعان ما تجلت القوة المتفجرة للاحتجاج المتضمنة في نظرية تولستوي في تحطيم حياة العديد من أتباعه.، قُدِّم بعضهم للمحاكمة، وتم زج البعض الآخر في السجون أو ترحيلهم إلى المنافي. وأصبح تولستوي خطرا على السلطات.. ومع ذلك، عندما حاول هو نفسه الاحتجاج، فإن أي إجراء قمعي ضده كان سيتسبب في ضجة عالمية، لأن صيته كان قد ذاع في جميع أنحاء العالم منذ فترة طويلة. وقد فسر أحد الجنرالات الروس بلباقة، لكن بدقة شديدة سبب عدم التعرض لتولستوي: «كونت، إن شهرتك أعظم من قدرة سجوننا على احتوائها».
في هذا الصدد، قيل في كثير من الأحيان أنه يوجد في روسيا قيصران: أحدهما يجلس على العرش ويحكم الدولة، والآخر يمتلك أرواح الناس وينكر جهود الأول، ويبقى في ضيعته ياسنايا بوليانا. كان الخطر المحدق بالكاتب العظيم واضحاً للأشخاص المقربين منه، على سبيل المثال، زوجته، صوفيا أندرييفنا تولستويا، التي اعتبرت اعتقال زوجها أمراً محتملا. وكانت أوروبا بأسرها تراقب مصير الكاتب باهتمام شديد. وقد انعكس هذا الاهتمام حتى في بعض الروايات، ففي رواية «بحثا عن الوقت الضائع» لمارسيل بروست، تسأل الدوقة، مخاطبة أحد الأمراء الروس الكبار، سؤالا مباشراً: «صاحب السمو! هل صحيح أنك ستقتل تولستوي؟».
الشيء الأكثر إثارة للاهتمام هو أن آراء النقاد الأدبيين في الأزمة الروحية لتولستوي انقسمت إلى معسكرين. قال بعضهم إن الكاتب العظيم تحول إلى واعظ ممل لما يؤمن به، وفقد كل قيمته الأدبية، وقال آخرون إن عمل الكاتب أصبح أعمق وأكثر مغزى. استمرت معضلة تولستوي الروحية إلى آخر يوم في حياته، وكان يعتقد إن الإيمان الحق الذي انتهى إليه أهم من كل أعماله الأدبية. في صيف عام 1909، أعرب أحد زوار ياسنايا بوليانا عن سعادته وامتنانه لإبداع «الحرب والسلام» و»آنا كارنينا». أجابه تولستوي: (يحبني الناس لتفاهات مثل «الحرب والسلام». يبدو الأمر كما لو جاء أحدهم إلى إديسون وقال له: «أحترمك كثيراً لأنك بارع في رقص المازوركا». أنا أعد أعمالي الأخرى أكثر أهميةً).

كاتب سوري

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com