مقالات

ثورة عرب الدغارة ضد الوالي مدحت باشا بسبب السراويل الداخلية.

بيدر ميديا.."

ثورة عرب الدغارة ضد الوالي مدحت باشا بسبب السراويل الداخلية

علاء اللامي

 

ثورة عرب الدغارة ضد الوالي مدحت باشا “لأنه حاول إرغامهم على ارتداء السراويل الداخلية” وثوار “الصون كيلوت/ بلا سراويل داخلية” الفرنسيون: خلال مراجعتي لبعض المصادر التاريخية لكتابة بحث أنثروبولوجي أشتغل عليه هذه أيام، قرأت في كتاب “تاريخ الحلة” للشيخ يوسف كركوش الحلي الفقرات التالية عن انتفاضة العشائر العراقية العربية في منطقة الدغارة في الفرات الأوسط، وهو يقدمها كحادثة “طريفة” رغم أنها انتهت بآلاف القتلى من الثائرين والجنود الأتراك كما يقول في “ثورة جامحة”. لنقرأ ما كتب الشيخ:
“وبهذه المناسبة أورد الطريفة التالية: حدثني الشيخ عبد الكريم رضا قال: سألتُ والدي عن سبب ثورة عشائر الدغارة في عهد مدحت باشا – سنة 1869 م – رغم أنه خيرُ من تولى حكم العراق من الولاة العثمانيين، فقال: إن مدحت باشا زار منطقة الديوانية وتجول في عشائرها وشاهد أرباعها فشاهد أهل الأرياف لا يعرفون لبس السراويل وحين يجلسون تبدو عوراتهم فأمر المتصرف توفيق بك أن يلزمهم بلبس السراويل فامتنعوا عن لبسها، وقاموا ببعض الأعمال التي تمس بكرامة الحكومة فقام المتصرف بتأديب الفاعلين. وبذلك استعرت الفتنة وتحولت الى ثورة جامحة ذهب ضحيتها الألوف من الجانبين وقُتل فيها المتصرف توفيق بك وبعدها تولى متصرفية الحلة – التي كانت تتبع لها الديوانية – فهد آل علي آل ثامر آل السعدون والد عبد المحسن السعدون. وكانت مدة حكمه خمسة أشهر وأسندت إليه متصرفية الحلة لأنه عربي عراقي ذو عصبية بقومه المنتفك فهدأت الخواطر/ ص 145”.
*انتهى كلام الشيخ الحلي، ويبدو أن من الصعب تصديق أن تلك الثورة الدامية كان سببها إجبار الريفيين العرب على ارتداء الملابس الداخلية، وربما جاءت هذه الحكاية -إن صحت – ضمن سياق الأعمال القمعية والنهب الضريبي التي دأب عليها الولاة الأتراك والمماليك ضد عرب العراق، وهناك مصادر تأريخية أخرى تعلل هذه الثورة برفض العشائر العربية للضرائب الباهظة المفروضة عليها/ انظر مثلا “النخبة الإدارية في العثمانية” لسامي المنصوري.
ففي الصفحة التالية لقصة ثورة الدغارة، نقرأ للشيخ الحلي نفسه، تفاصيل عما سماها “عملية القرعة في الحلة وكانت فكرة التجنيد الإجباري نشأت أيام مدحت باشا ولكن لم تطبق، واعتقد أن ثورة الدغارة أجلت تنفيذها/ ص 146”. ومن المرجح جدا أن السبب الرئيس لهذه الثورة هو رفض الشعائر للضرائب الباهظة الجديدة ولتجنيد أبنائها في الجيش العثماني، وهم الذين كانوا يعيشون في مشاعيات مسلحة ومكتفية ذاتيا في سواد العراق طوال قرون مضت. وقد أثارت عملية التجنيد الإجباري ثورات وانتفاضات عديدة واحدة منها في بغداد وأخريات في جميع أرجاء الريف العراقي آنذاك. وكادت بعض هذه الثورات والانتفاضات تقتلع الحكم العثماني في العراق ولكنها كانت تفشل في كل مرة بسبب عدم اعتياد القبائل العربية على الحكم المركزي وتقديم البديل المناسب عند إسقاط الحكم العثماني في تلك الفترة.
كلام الشيخ الحلي عن ثورة عشائر الدغارة بسبب إجبارهم على ارتداء السراويل الداخلية، ربما سيدفع بعض المصابين بعقدة الخواجة ممن أدمنوا جلد الذات بدونية متفاقمة إلى القول المكرر إن شعوبنا المتخلفة ترفض التطور والتقدم حتى إذا جاء من الولاة العثمانيين! وهذا كلام سخيف ولا علاقة له بالتاريخ وبالمستوى الحضاري ونمط العيش الفعلي لجماهير الناس وواقع الانقسام الطبقي الحاد في تلك العهود، فالملابس الداخلية لم تكن مجهولة في الحضارات العراقية وآخرها الحضارة العربية الإسلامية السابقة لسقوط بغداد بسيوف المغول سنة 1285م، ولكنها كانت حكرا على الطبقات الغنية والارستقراطية الحاكمة. وتخبرنا مصادرنا التراثية أن السراويل وعموم الملابس الداخلية الفاخرة كانت شائعة وأن صناعة التكك “جمع تكة وهي شريط من القطن أو الحرير “المُمطط / المخلوط بالمطاط” كانت مشهورة في بلاد أرمينيا القديمة وأنها كانت تستورد منها الى بغداد وتباع بأسعار غالية يصل سعر قطعة التكة الواحدة إلى عدة دراهم فضية أو إلى دينار ذهبي أحيانا.
لقد ذكرني كلام الشيخ الحلي عن ثورة الدغارة بما يسمى في تاريخ الثورة الفرنسية بـ ” لي صون كيلوت “، وهم جماهير الفقراء في الطبقات الدنيا الذين ثاروا ضد الحكم الملكي المطلق، وكانوا تمايزوا عن جمهور الأغنياء والارستقراطية بأنهم لم يكونوا يرتدون ملابس داخلية فأطلق عليهم ” البدون لباسات” ( sans-culotte les) . وعن هذا المصطلح نقرأ في الموسوعات التاريخية باللغة الفرنسية ما ترجمته: ” إن الصون كولوت “البدون لباسات” هم ثوار من الطبقات الدنيا في المدينة وهم مدافعون عن جمهورية مساواة. ويعتبرون “راديكاليين/ جذريين” لأنهم يدافعون عن الديمقراطية المباشرة، أي بدون وسطاء مثل النواب. ويتميزون بأساليب تعبيرهم الخاصة ومنها الملابس. كانوا يرتدون بناطيل مخططة باللونين الأزرق والأبيض وقبعة حمراء – وهذه هي ألوان العلم الفرنسي الجمهوري حتى اليوم – وهم لا يرتدون ملابس داخلية أو جوارب مثل النبلاء والبرجوازيين. وأصبح هذا الزي علامة احتجاج، يرتديه المحامون، والتجار، والموظفون، والحرفيون، والبرجوازيون المتحررون، ثم أفراد من جميع الظروف الذين قدموا أنفسهم على أنهم “ثوريون” يميلون الى البساطة وتتعارض شخصيتهم مع شخصية الأرستقراطي بزيه، وأخلاقه، ولغته، ورموزه المستعارة، ولكن بطريقة مجازية. وسرعان ما أصبحت مجموعة sans-culottes حركة أزياء حقيقية، سواء في مجال الأزياء واللغة، والموسيقى، والديكور، والطبخ، والكياسة، والفكاهة، وطريقة الحديث، وصارت أفكار “الصون كيلوت” تعبر عن الخط الجمالي الجديد الصاعد الذي هو خط الثورة التي تطور موضوعاتها وشخصياتها في جميع الأشكال”.
فلماذا لا ينظر الليبراليون القشريون عندنا من عَبَدةِ الغرب إلى جماعتنا في الدغارة، إن صحت حكاية أنهم ثاروا لأن الحكومة أجبرتهم على ارتداء السراويل الداخلية، نظرتهم إلى ثوار باريس الجمهوريين الصون كيلوت، أم أن “البيهم ما يخليهم”؟!
*”البيه ما يخليه” مثل شعبي عراقي تفصيحه: ما به لا يتركه يفعل ذلك!

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com