مقالات

المثقف الرؤيوي نوري عبد الرزاق: الذاكرة التاريخية والفرادة الفكرية

في الذاكرة والحوار

الحوار مع مثقف رؤيوي مثل نوري عبد الرزاق لا يزوّدك بمعرفة فحسب، بل يفتح أمامك آفاقاً للمستقبل بما يمتلكه من  فكر منفتح وتجربة غنيّة وخبرة عملية، وبعد كل ذلك ففيه متعة ، حين تستكشف التاريخ وتقلّب صفحاته بذاكرة خصبة، وتجادل فيه كأنه حاضر وتتّفق وتختلف ، كأنك تضع برنامجاً للمستقبل .

حواراتي مع نوري عبد الرزاق متّصلة ومنفصلة، لكنها لم تنقطع منذ أول لقاء لي معه في منزله بالكرادة ببغداد يوم عاد إلى العراق (العام 1969) بعد غربة ثانية دامت ثماني سنوات 1960-1968 وكانت غربته الأولى قد شملت معظم أعوام الخمسينات حتى ثورة 14 تموز (يوليو) 1958، ابتدأها للدراسة في بريطانيا، وبعد فصله بسبب موقفه المناوئ لحلف بغداد، هو ومجموعة من رفاقه ، استقر في القاهرة بعد أن تنقّل في عدد من العواصم الأجنبية والعربية، وفي القاهرة ساهم في تأسيس رابطة للطلبة العراقيين، وأقام علاقات عميقة مع قوى اليسار المصري بتياراته المختلفة.

وبُعيد عودته إلى بغداد من مهماته كسكرتير عام لاتحاد الطلاب العالمي في براغ، قرأت له مقالة عن “تشي جيفارا” ولقاءاته به، نشرها في “مجلّة الراصد” ، وتزامناً معها كتب عامر عبدالله دراسة نقدية عن “حرب العصابات” و”الطريق الجيفاري”، استناداً إلى رؤية الحركة الشيوعية ومركزها الأممي ” موسكو” نشرتها “مجلة الثقافة الجديدة”،ومنذ اللقاءات الأولى شعرت أنني أمام شيوعي من طراز مختلف، فهو منفتح ومتواصل مع الآخر، بما فيها التيارات المتنوعة، فضلاً عن الاجتهادات المتباينة داخل الحركة الشيوعية واليسارية ذاتها، كما إن عقله نقدي وذاكرته منظّمة وفكره مبرمج باتساق ولكن بمرونة عالية، مثلما وجدت في مساهمات عامر عبدالله وجرأته إضافات فكرية مهمة وومضات تنويرية جديرة بالتأمل، وهو ما دوّنته عنه في كتابي “ عامر عبدالله – النار ومرارة الأمل – دار ميزوبوتيميا، بغداد ، 2013″.

وفكّرت مع نفسي لماذا لم ينشر نوري عبد الرزاق مقالته في مجلة “الثقافة الجديدة” وكان عضواً في رئاسة تحريرها؟ ولكنني توصلت بعد حين إلى استنتاج كنت قريباً منه، وهو التواصل مع الآخر والتفكير ليس في القريب والمتناول والسهل حسب، بل في البعيد والصعب وغير المألوف أيضاً، لأن دائرته واسعة وليست من جنس واحد أو قماشة محاكة من نسيج واحد، فالجمهور الذي يريد أن يخاطبه ليس “جمهورنا” فحسب، بل الجمهور الآخر، وزادني في الأمر قناعة، حين وجدت نفسي في خضم آخر ومحيط عربي يتطلّع إلى سماع رأي ، وهو ما صمّمت عليه وتواصلت معه.

مناضلون كثيرون في الحركة الشيوعية، أشدّاء وصلبون، لكن غالبتيهم الساحقة محدودة التفكير و” محلية” بالدرجة الأساسية، لاسيّما في ظروف العمل السري القاسية، ناهيك عن عقلهم المسلكي، لذلك من الصعوبة بمكان العثور على مثقفين رؤويين إلّا على قدر محدود جداً، خصوصاً بمؤهلات قيادية وكارزمية ضرورية، وحتى هؤلاء  وإن امتلكوا ثقافة واسعة لكنه قد تعوزهم المواصفات الأخرى، وهذه تتعلق بالتكوين الشخصي والجرأة في اتخاذ المواقف وتحمّل تبعاتها، فضلاً عن القدرة على التقاط الجوهري من الأشياء، وقد كان نوري عبد الرزاق واحداً من أبرز هؤلاء المثقفين الرؤيويين، فتفكيره بلا ضفاف وهو من الشخصيات الشيوعية المنفتحة على الجديد بلا حدود، فضلاً عن ثقافته الموسوعية المتجدّدة والمتفاعلة مع محيطها بقراءة اللوحة الكونية ببعدها الشاسع.

تنوّع لا يمكن جمعه

فإذا حدّثته عن الحزب الشيوعي وتاريخه سيكون الأول بلا منازع، سواءً عاش الأحداث أم لم يعشها، لكنه يحفظها عن ظهر قلب ويدقق فيها ويتفاعل معها ضمن عقله النقدي، ومثل هذا الأمر يتعلّق بشخصيات وازنة من الحركة الوطنية العراقية برموزها المختلفة، بمن فيهم رجالات العهد الملكي، وإذا ذهبت معه إلى الفنون والآداب ستراه مبرّزاً، ولا يمكن أن يغفل أو ينسى فيلماً مشهوراً أو مسرحية عالمية أو مقطوعة موسيقية مائزة،  أو كتاباً نظرياً في الفلسفة التي كان ميله إليها أكثر من الاقتصاد، وهو ما حبّبه بكارل ماركس أكثر من كتاب ” رأس المال”.

وإذا قصدت استفزازه بالانحياز إلى نادي برشلونة أو ريال مدريد، فسيحدثك عن كل تطورات لاعبيه وانتقالاتهم من رونالدينو إلى أنيستا إلى ليونيل ميسي إلى بوبرتو كارلوس وزين الدين زيدان ورونالدو ، أما اللاعبين العالميين فكان اسم بوشكاش المجري وبيليه البرازيلي وفرانس بيكفوا الألماني ويوهان كوريتي الهولندي ضمن دائرة اهتمامه، ولأنه كما يقول اللبنانيون “عييش”  أي يحبّ الحياة، سينقلك إلى أشهى الموائد وأطيب الأطعمة وأفخر الخمور وأرقى المطاعم، وذلك لترفه الروحي وألق حياته وأسفاره والمدن والثقافات التي عاش في كنفها أو اطّلع على حياتها.

والحديث عن المقاومة الفلسطينية وانطلاقتها والعلاقة مع أركانها ورموزها، ستكون حافظة نوري عبد الرزاق ومعايشته هي المعيار، وإذا كان الكلام عن اتحاد الطلبة والشبيبة الديمقراطية (عراقياً أو عربياً) ثم دولياً، فلا أظن أن أحداً من الأحياء أو ممن غادرونا له مثل هذا الباع في العمل الديمقراطي بمختلف فروعه، فضلاً عن حركة السلم ولجنة الدفاع عن الشعب العراقي التي ترأسها الشاعر الكبير الجواهري في العام 1963 بعد انقلاب 8 شباط (فبراير).

أما إذا رغبت في معرفة خفايا الحركة الشيوعية الدولية، ولاسيّما الاتحاد السوفييتي، والصراعات والمؤامرات داخل صفوفها فسيكون نوري هو الأول الذي لامس واطّلع على أسرار وخبايا وخطط منظورة وغير منظورة، وهو على حد علمي الأكثر معرفة بأوضاع الأحزاب الشيوعية العالمية، من الحزب الشيوعي البريطاني إلى الحزب الشيوعي المصري بكتله المختلفة إلى الأحزاب الشيوعية العربية والأوروبية، وستكون شخصيات مثل سوسلوف وبوناماريوف وإدريس كوكس وخالد بكداش وميشال كامل واسماعيل صبري عبدالله وسمير أمين وكريم مروّة وفؤاد نصار وبشير البرغوتي وعبد الخالق محجوب وعبدالله العياشي ونديم عبد الصمد وجورج البطل وجورج حاوي وفايق ورّاد، إضافة إلى رؤساء وشخصيات بارزة مثل بريجينيف  وماوتسي تونغ ونوفوتني  وجيفكوف وحافظ الأسد والقذافي وعلي ناصر محمد وعبد الفتاح اسماعيل ومحمد أنور السادات وحسني مبارك وأحمد حسن البكر وصدام حسين والملك حسين والأمير الحسن بن طلال  والملك الحسن الثاني ورفيق الحريري والشيخ زايد وعمر حسن البشير، على معرفة بهم أو تماس معهم.

ومشكلة نوري عبد الرزاق هو رأيه، وإن كان يقلّب الأمور كثيراً، وأحياناً يتردّد وينتظر لكن رأيه يكون متميّزاً وعميقاً،  وإن كان لا يجابه ولا يتحدّى، فهو بطبيعته وسطياً ومعتدلاً ولا يميل إلى الصدام، لكن ذلك لا يرضي المتنفّذين، بل يزيد من سخطهم وغضبهم أحياناً، لأنهم لا يجدون مبررات كافية لدحضه.

أستطيع القول إن مزاجه ليس عراقياً بمعنى لا يغضب ولا يحتدىّ ولا يشاكل وإن أخطأ لا يكابر ويعود ويعتذر، وأعرف ذلك عن قرب ودراية، وتلك مشكلته في مواجهة الكثير من الصقور، الذين وإن يقدّرون مواهبه وخصاله، بل يمتدحون سجاياه، لكنهم يريدونه على مقاساتهم ، وهو أكبر من أن يُحتوى أو ينضوي تحت عباءة أحد، ولعلّ هذا ما عرفته وشاهدته بنفسي في الكثير من المرّات حين يتوجه إليه “مسؤولون” ويهملون آخرين في سلّم المسوؤليات التقليدية أعلى منه، وهذا ما يثير حسد وحنق بعض المتنفذين، الذين يريدون إعلاء كعبهم وإطالة أعناقهم ، لكن مشكلة نوري عبد الرزاق، ليست مشكلته، بل هي مشكلة الآخرين، إلّا أنه هو من يدفع ثمنها ويسدّد فواتيرها.

التميّز والشساعة

لم يكن أكفأ منه حين انتصرت ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 من تولّي رئاسة اتحاد الشبيبة الديمقراطي في العراق 1959، ولم يجد اتحاد الطلاب العالمي حين عقد مؤتمره في بغداد العام 1960 أجدر منه فاختاره سكرتيراً عاماً للاتحاد، ومكث نحو 8 سنوات في موقعه، وحين أقام الحزب الشيوعي علاقة مع منظمة فتح ومع ياسر عرفات (أبو عمّار) كانت عبر نوري عبد الرزاق، ويوم وجّه ياسر عرفات الدعوة للحزب لزيارة المخيّمات واللقاء بالفدائيين الفلسطينيين كتب في رسالة الدعوة، على أن يكون من ضمن الوفد نوري عبد الرزاق، لكن نوري مع ثقة أبو عمار به وصداقته له لم يخفِ آراءه عنه، ولم يتردّد في إبداء ملاحظاته بخصوص “سلوك” المقاومة وازدواجية السلطة في عمان قبل أيلول (الأسود) 1970، وكذلك في لبنان قبل وحتى بعد اتفاق القاهرة 1969، ومن ثم في فترة جمهورية الفاكهاني.

وعلى الرغم من الصراعات في منظمة التضامن الأفرو- آسيوي والخلافات الصينية – السوفيتية ومشاكل التيارات الثورية الجديدة وموضوع قبول أمريكا اللاتينية لتأسيس منظمة القارات الثلاث باقتراح من جيفارا والمهدي بن بركة وأحمد بن بلّة، لكن التحاق نوري عبد الرزاق بالتضامن الأفرو- آسيوي في العام 1971، ساهم في استيعاب هذه الخلافات وكان المفتاح الذي يصلح للدخول على الجميع، بحكمته وهدوئه وطول نفسه وترفّعه عن الانحيازات، ولهذا كسب ثقة الجميع، ربما إلّا أصحابنا العراقيين، فالسلطة في العراق كانت تريده أن يميل لصالحها، خصوصاً بعد اندلاع الحرب العراقية- الإيرانية، وقيادة الحزب الشيوعي العراقي تريد منه اتخاذ مواقف تنسجم مع توجهاتها، وتلك أزمة عسيرة لمن لا يفهم العمل الحقوقي ولا يتفهّم طبيعة العمل في المنظمات الدولية ذات المشارب والاتجاهات المختلفة والتوازنات والاستقطابات المتعدّدة والتي تحتاج إلى حصانة خاصة وحصافة متميّزة، لكن ذلك لم يُبعد نوري عبد الرزاق عن المواقف المبدئية، على الرغم من المنغّصات والضغوط ومحاولات الإساءة ، بعقوبات حزبية تعرّض لها ، فضلاً عن جحود وإهمال، وفي الوقت نفسه تعرضه إلى ضغوط وملاحقات حكومية، وصلت إلى حدّ محاولة الاغتيال أو التهديد بها، رغم علاقاته الوثيقة مع العديد من القيادات البعثية.

 

رؤية استراتيجية وبعد نظر

وحين شعر أن الحرب العراقية – الإيرانية، تجاوزت الخطوط الحمراء، وإن المشروع الحربي والسياسي الإيراني أخذ باختراق العمق العراقي، لاسيّما باستمرار  الحرب دون أفق بالتوقف، ملحقة المزيد من الخسائر بالأرواح والأموال، تدارس بمسؤولية مع نخبة من رفاقه الشيوعيين واليساريين العراقيين لبلورة موقف رافض للحرب وداعياً إلى وقفها على الفور، وفي الوقت نفسه وضع الحركة الوطنية عند مسؤولياتها في الإتيان بحكم ديمقراطي بديلاً عن الدكتاتورية ودون تدخلات خارجية لفرض النموذج الإيراني.

وهكذا ساهم بفاعلية في التيار العقلاني الهادف إلى نزع الفتيل وإطفاء بؤرة الحرب، متساوقاً مع شخصيات عربية وجدت في مثل هذا التوجه مناسبة لاتخاذ موقف يتسم بالجرأة والشجاعة ، يوم اعتبرت الحرب واستمرارها خدمة للامبريالية والصهيونية، ومن بين الشخصيات التي اتخذت مثل هذه المواقف عبد الرحمن منيف وسعدي يوسف وفوّاز طرابلسي واسماعيل صبري عبدالله وجورج حبش وتيسير قبعة ومحمود عباس ” أبو مازن” ونايف حواتمة وعدد من الشيوعيين اللبنانيين والسوريين، إضافة إلى شخصيات أخرى.

وإذا كان النظام العراقي قد بدأ الحرب في 22 أيلول (سبتمبر) 1980 باختراق الأراضي الإيرانية، بعد تمزيق اتفاقية 6 آذار (مارس) لعام 1975 المجحفة والمذلّة على شاشة التلفاز يوم 17 أيلول (سبتمبر)، أي قبل خمسة أيام  من اندلاع الحرب الرسمية وعلى يد رئيس النظام العراقي صدام حسين الذي كان هو من وقع تلك الاتفاقية، لكنه اضطر للانسحاب من الأراضي الإيرانية إلى الحدود الدولية بعد هزيمة المحمّرة (خرمشهر) 1982،  فإن إيران هي التي استمرت فيها لتنفيذ مشروعها الحربي والسياسي، مستهدفة تغيير النظام في العراق والإتيان ببديل “إسلامي” في حين أن تغيير النظام هو حق حصري للعراقيين الذين يناضلون من أجل بديل مقبول يفتح الآفاق نحو الديمقراطية ، وذلك من مسؤولية الشعب العراقي وحده دون سواه، ولهذا لم يعد السكوت سوى تواطؤاً إزاء مستقبل العراق، وحظي مثل هذا الموقف بنقد من جانب الصقور في بغداد مثلما حظي بنقد، بل واتهام من جانب الصقور في المعارضة، ولاسيّما في التيار المتشدّد في الحزب الشيوعي .

ومثل هذا الموقف المتوازن والوطني اتخذه إبان احتلال الكويت، وهو ما يؤكده البيان الذي أصدره هذا التوجه بُعيد احتلال القوات العراقية للكويت في الثاني من آب (أغسطس) 1990، وهو ما دعاه لتكثيف التعاون مع قوى وشخصيات وطنية عراقية لعقد اجتماع موسّع يضم شرائح مختلفة ومتنوعة ، وحصل الأمر بدعوة خاصة من صلاح عمر العلي في لندن بعد اجتماعات عديدة، وذلك عشية الحرب  العام 1991 التي شنّتها قوات التحالف.

وقد حظي البيان باهتمام كبير عربياً ودولياً ووقع عليه نخبة من اليساريين والقوميين العرب والكرد بينهم على ما أتذكّر: صلاح عمر العلي وإياد علاوي ومهدي الحافظ ومحمود عثمان وبلند الحيدري وفاروق رضاعة واسماعيل القادري وعادل مراد وموفق فتوحي ومحمد الظاهر وصلاح الشيخلي وعزيز عليّان وعبد الحسين شعبان، وفيما بعد وقعه هاني الفكيكي وآخرين، ولكنه أثار في الوقت نفسه ردود فعل سلبية من جانب التيار المتشدّد حين أطلق عليه صقوره ” البيان السيئ الصيت” لأنه دعا إلى سحب القوات العراقية من الكويت واللجوء إلى حلّ سلمي للأزمة وقطع الطريق على القوى المتربصة للهيمنة على المنطقة من أمبرياليين وصهاينة، وهو الموقف الذي واصله نوري عبد الرزاق ورفاقه .

وإذا طالت الأزمة وامتدّت إلى الحصار الدولي، فقد كان رأيه واضحاً إزاء معاناة الشعب العراقي بسبب نظام العقوبات الدولي الجائر، وإنْ تضببت هذه الرؤية بعض الشيء عشية غزو العراق لاعتقاد ذهب إليه كثيرون من أن التغيير الذي سيحصل قد يفتح الباب أمام تحوّلات “ديمقراطية”، لكن مثل هذا التصور  كان وهماً وهو ما دحضه الواقع سريعاً، حين تعرّض العراق لاحتلال غاشم أجهز على الدولة العراقية وفتّت كيانيتها ، لكن نوري عبد الرزاق سرعان ما استعاد توجهه واضعاً مسافة بينه وبين ما حصل من متغيّرات، خصوصاً حين سارت العملية السياسية باتجاه التقاسم الوظيفي ونظام المحاصصة الطائفي- الإثني القائم على الزبائنية السياسية والمغانم، وهو ما اضطرّه للانكفاء، وتلك واحدة من استحقاقات العمر ومراجعاته للأخطاء والنواقص، لاسيّما خطأ بعض الاستنتاجات والتقديرات.

جيفارا ونوري عبد الرزاق

سألته عن علاقته بجيفارا ومتى التقاه وما هي انطباعاته الأولى وما بعد ذلك؟ فقال نوري عبد الرزاق، إنه التقى جيفارا مرتين في هافانا، الأولى كانت في العام 1961 حين انعقد اجتماع اللجنة التنفيذية لاتحاد الطلاب العالمي وتقرّر التضامن مع كوبا بإرسال وفود أجنبية طلابية للمشاركة الرمزية في بناء مدرسة، وقد استمرت الزيارة لنحو شهر كامل حيث التقى فيها جيفارا الذي حضر إلى الموقع.

وبادرته إلى السؤال هل كان لديك أي تصوّر عن دوره؟ فأجاب كنت قد سمعت به من قبل وعن دوره الكبير من خلال ملاحظة الرفيق رحيم عجينة الذي ذهب بصفته نائباً للسكرتير العام للشبيبة الديمقراطية (حيث كان نوري عبد الرزاق السكرتير العام) بوفد إلى كوبا لحضور اجتماع للشبيبة الشيوعية الكوبية، فقد حدثنا عن عنصر أساسي من أصل أرجنتيني لعب دوراً في حرب العصابات وهو ما يزال يدعو إليها كتكتيك نضالي للعالم الثالث، ولذلك كما يقول نوري كنت متحفّزاً لأن أسمع من جيفارا رأيه مباشرة ، وكانت حينها بعض الخلافات بين التنظيمات الثلاث حركة 26 يوليو (تموز) بقيادة كاسترو وحركة 19 مارس والحزب الشيوعي الكوبي، التي توحّدت فيما بعد باسم الحزب الشيوعي الكوبي. وانطباعاتي الأولى عن جيفارا إنه يمتلك شخصية كارزمية مؤثرة ونافذة وجريئة. يومها كان الخلاف داخل اتحاد طلاب كوبا وهو صاحب الدعوة وبين الشبيبة الشيوعية قائماً.

ويواصل نوري عبد الرزاق حديثه : لقد التقينا بسكرتير عام الحزب الاشتراكي بلاك روكا وكان معه كارلوس رافايل رودريغز وخورخي ريكست أعضاء المكتب السياسي ، حيث دعا أعضاء الوفد من الشيوعيين إلى اجتماع خاص وكان هؤلاء: جورج حاوي، أبو الطيب  الجديري، حسن سنادة، مازن الحسيني، بهنام بطرس، نوري عبد الرزاق  وبليكان (رئيس اتحاد الطلاب العالمي الذي أيّد ربيع براغ العام 1968 والدعوة إلى اشتراكية ذات وجه إنساني وغادر البلاد بعد فشلها إلى إيطاليا) ومارينا زيرافدوفا من الاتحاد السوفييتي وآخرين لا يتذكّر أسماءهم .

وانصبّ حديث سكرتير الحزب الاشتراكي الكوبي العام 1961  على الانتقال من المرحلة الوطنية إلى التحوّل الاجتماعي لمواجهة الحصار الأمريكي الذي بدأت واشنطن تفرضه على كوبا، وأشار إلى أن الحركة الثورية مدعوة إلى التحضير لمرحلة الوحدة بين أطرافها، وكان نوري قد سأله من سيكون زعيم الحزب المنتظر، فأجابه السكرتير العام للحزب الاشتراكي الكوبي (حينها): فيدل كاسترو بلا منازع، فعلق نوري : بأن كاسترو من خلفية غير ماركسية، لكن جواب السكرتير كان قاطعاً حين قال: لقد استوعب كاسترو الفكر الماركسي وهو الأقدر على إدارة دفة البلاد، وتلاطف السكرتير العام مع نوري حين قال له: يبدو أن لديك عقدة عبد الكريم قاسم الذي كان قد اتجه بالبلاد نحو الدكتاتورية.

أما لقاء جيفارا الثاني فقد كان في خريف العام 1963 وكان نوري على رأس وفد تطوعي للمشاركة في حملة كسر الحصار على كوبا بعد إعصار فلورا الذي تسبب في مقتل أكثر من 1100 شخص وتدمير ما يزيد عن 11 ألف منزل والذي استمر من 26 أيلول/سبتمبر ولغاية 12 تشرين الأول/ أكتوبر، وكان الوفد يضم عشر شخصيات من فرنسا والمارتنيك وغينيا وبوليفيا وغيرها، وحصل خلال وجودهم اغتيال الرئيس جون كيندي (22  تشرين الثاني/نوفمبر/ 1963).

وطلب جيفارا مقابلة الوفد بعد عودته من سانتياغو (كوبا) إلى هافانا، وحدّثهم عن تطوير  الصناعة (حيث كان وزيراً للصناعة) وكان الحصار قد فعل فعله، وحين طلب لهم قهوة، أجابته السكرتيرة عدم وجود قهوة في الوزارة، فعلق ضاحكاً: هذه ظروفنا ووزارتنا بلا قهوة.

ثم جرى نقاش بين جيفارا ونوري عبد الرزاق بشأن معاهدة الحظر الجزئي للتجارب النووية بين واشنطن وموسكو، وتم حينها تأسيس الخط الساخن بين الكرملين والبيت الأبيض، لتجنّب أية أزمة جديدة، وسأل جيفارا نوري: لماذا أيّد اتحاد الطلاب العالمي المعاهدة؟ وكان جواب نوري، لأن الاتحاد يدافع عن السلم وأي نزع للسلاح يصبّ بذات الاتجاه وموقفه ينسجم مع هذا التوجه. وكان تعليق جيفارا: هذا موقف انتهازي، أما الموقف الثوري الذي ينبغي اتخاذه فهو دعم ومساندة حروب التحرير الوطنية (المقصود البؤر الثورية).

سألته ألم تلمس لدى جيفارا في ذلك توجه مبكّر بالضد من السياسات السوفييتية؟ أجاب نعم وجاء ذلك تلميحاً لعدد من القضايا والمواقف المتمايزة الذي كان يذكرها خلال حديثه، وعن جوانب شخصيته الأخرى التي استفسرت عنها، فأجاب: يمكنني القول والحديث لنوري عبد الرزاق، كان ثمة نوع من الاعتداد الشديد بالنفس، وربما يصل إلى حدّ الغرور، لكن جيفارا بلا أدنى شك كان شجاعاً غير هيّاب ودفع حياته ثمناً لقناعاته ببطولة نادرة وبسالة لا حدود لها. أما بصدد أطروحاته حول الزحف من الريف إلى المدينة وبناء البؤر الثورية والحرب بالطليعة، فضلاً عن دور دول الجنوب والدول النامية باعتبارها مركز الصراع الأساسي ، فهي أطروحات لم تزكِها الحياة، ولعلّ مثل هذا الموقف كان السائد في عموم الحركة الشيوعية المنضوية تحت لواء المركز الأممي، الذي كان لديه تحفظات حول تلك الاجتهادات، التي عارضها.

وثمة سؤال آخر وجّهه اثنين من أعضاء الوفد إلى جيفارا ممن يحملون “شارة” “باجاً” عليه صورة ماوتسي تونغ مفاده: ما هي الطريق لمواجهة القوى الإمبريالية ؟ فما كان من جيفارا إلّا أن يؤشر لهما بيده وإصبعه بطريقة البندقية وحرب العصابات، وقد وضع جيفارا أفكاره تلك موضع التطبيق حين قاد عملية ثورية في بوليفيا بـ 12 شخص، وكان ضده الحزب الشيوعي البوليفي اليساري ولم يشارك معه حتى دمورا البوليفي المقرّب من الكوبيين والذي عمل شغيلاً سياسياً في اتحاد الطلاب العالمي وهو من اليسار الجديد، حيث امتنع عن الالتحاق به، وهكذا كان اغتياله صدمة مؤلمة يوم سمع العالم أجمع بمقتل جيفارا في 9 تشرين الأول (اكتوبر) 1967، يومها غنّى الشيخ إمام :

جيفارا مات

جيفارا مات

آخر خبر ف الراديوهات

و ف الكنايس

والجوامع

و ف الحواري

و الشوارع

و ع القهاوي وع البارات

جيفارا مات

جيفارا مات

 

جيفارا ومؤتمر القارات الثلاث

قلت لنوري بمن تعتقد أن جيفارا قد تأثر، قال بالجنرال جياب وجبهة تحرير الجنوب الفيتنامي، وكان اعتقاده راسخاً بأن البندقية ستنتصر على التكنولوجيا الأمريكية.               أما بخصوص  نقد السوفييت وإن كان مثل هذا الاتجاه موجوداً لدى القيادة في كوبا، لكن مواقفه أصبحت عبئاً على كاسترو، وقلت لنوري: بقدر ما هو شائع إننا في المنطقة تأثرنا بجيفارا وبتكتيك حرب العصابات أو الكفاح المسلح ، ولاسيّما من جانب المقاومة الفلسطينية ، لكن جيفارا هو الآخر تأثر بظروف المنطقة وتفكير بعض قادتها أو ترشّح له مثل هذا التوجه، عبر ثلاث شخصيات هي: جمال عبد الناصر والمهدي بن بركة وأحمد بن بلة، وارتبط مع الأخيرين بصداقة وطيدة وعلاقات عميقة، وهو ما تناولته في كتابي ” كوبا الحلم الغامض”، دار الفارابي، بيروت، 2010، وكان ذلك من يبن الاستنتاجات التي توصلت إليها.

حاول الثلاثة: جيفارا ، المهدي، بن بلة، التحضير لمؤتمر القارات الثلاث أفريقيا – آسيا- أمريكا اللاتينية، لكن الفكرة أثارت حنق الأمريكان من جهة ولم يرحّب بها السوفييت من جهة ثانية. وقبل تنفذيها اختطف المهدي بن بركة من “مطعم ليب” Lipe  في شارع سان جيرمان في قلب العاصمة الفرنسية في باريس، وأطيح ببن بلّة في انقلاب قاده الهواري بومدين في 19 يونيو (حزيران) 1965 واختفى جيفارا بعد أن توجه إلى الكونغو العام 1965.

وكان قد دار الحوار بينه وبين عبد الناصر قبل خطاب الجزائر الشهير الذي انتقد فيه جيفارا علناً مواقف الاتحاد السوفييتي: وسأله عبد الناصر إلى أين أنت ذاهب؟ فأجاب جيفارا لمساعدة الكونغو في التحرير، فقال له عبد الناصر هل ينتظر الأفارقة السود “طرزاناً” (الرجل الأبيض)، لتحريرهم؟ فبوسعي أن أرسل كتيبتين إلى هناك، لكن ذلك سيعطي مبرراً للإمبريالية للتدخل، دع ظروف الثورة تنضج في أفريقيا وسنقوم بمساعدة الأفارقة عند ذلك، وحاول رشيدوف وهو عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفييتي من أوزبكستان أن يعطّل توجه عقد مؤتمر القارات الثلاث، المزمع عقده في العام 1965 والذي لم ينعقد بسبب ما حصل للشخصيات الثلاث، وحين تأسست منظمة في كوبا تحمل الاسم نفسه لم يكن لها تأثير يُذكر، وقد تم حلّها مؤخراً (2019) والمعلومة الأخيرة وردت على لسان نوري عبد الرزاق.

وقد انعقد مؤتمر في العام 1966 بدلاً من العام 1965 بعد غياب رموزه الثلاثة التي عملت على تنظيمه ، جيفارا والمهدي وبن بلة، وحضره أبو عمار (ياسر عرفات)، لكنه لم يحصل أي اندماج حقيقي للقارة الأمريكية اللاتينية في إطار منظمة التضامن الأفرو – آسيوي، وفي وقت لاحق وبمبادرات من نوري عبد الرزاق تم دعوة أمريكا اللاتينية لجميع مؤتمرات التضامن الأفرو-آسيوي  وبصفة استشارية، وظل  الكوبيون يحضرون فقط دون حماسة منهم ومن أطراف أخرى في أمريكا اللاتينية.

ومن المفارقة أن الأمريكان الذين حاولوا كل ما يستطيعون منع انعقاد مؤتمر القارات الثلاث، كان الروس (السوفييت) في الوقت نفسه غير متحمسين لانضمام كوبا وأمريكا اللاتينية إلى منظمة التضامن الأفرو- آسيوي، وفي حين كان السوفيت يتغلغلون باسم بلدان آسيا السوفيتية ، كان الصينيون يمانعون قبولهم ويعترضون على خططهم، وحيث كان من المؤمل انعقاد مؤتمر الجزائر  العام 1965 وهو الاجتماع الخاص بمرور 10 سنوات على مؤتمر باندونغ (1955)،فإذا به يتأجل لثلاث أحداث جسام:

أولها- الانقلاب العسكري في الجزائر،

                 وثانيها- اختطاف المهدي بن بركة

                 وثالثها – غياب جيفارا في الكونغو وبقائه لمدة عام، ومن ثم عودته وتوجهه إلى بوليفيا.

السوفييت ونوري عبد الرزاق ومنظمة التضامن

لدوره المتميّز في إدارة العمل بالمنظمات الدولية ولجدارته في خدمة التوجه الشيوعي والاشتراكي، منحه السوفييت وسام لينين العام 1974 لمناسبة بلوغه الأربعين ، وقلّد بهذا الوسام في موسكو في حفل مهيب، لكن ذلك لم يمنع نوري من أن تكون لديه ملاحظات على السياسة السوفييتية وبعض تفاصيلها وخططها، وليس في مجال التضامن فحسب، بل في اتحاد الطلاب العالمي وفي مجلس السلم العالمي وغيرها من المنظمات، وقد رويت بعضها فيما يتعلق باتحاد الطلبة العالمي في سرديتي عن تيسير قبعة – غيمة فضية في فضاء الذاكرة ،المنشورة في صحيفة الزمان على حلقتين بتاريخ 29/6/ و2/7/2016 وبمجلس السلم العالمي في حواراتي مع توفيق التميمي في الكتاب الذي صدر بعنوان المثقف في وعيه الشقي- حوار ومراجعة في ذاكرة ، عبد الحسين شعبان، الصادر عن دار بيسان، بيروت، 2014.

وسأورد هنا ما يتعلق بمنظمة التضامن الأفرو- آسيوي:

سألت نوري عبد الرزاق هل كان السوفييت يحاولون الهيمنة على منظمة التضامن الأفرو- آسيوي مثل المنظمات الأخرى؟ اتحاد الطلاب العالمي لبراغ، اتحاد الشباب الديمقراطي العالمي (بودابست) اتحاد النساء العالمي (برلين) ، مجلس السلم العالمي (هلسنكي) واتحاد الصحفيين العالمي (براغ) واتحاد نقابات العمال العالمي (براغ) ومجلة الوقت ثم مجلة قضايا السلم والاشتراكية (براغ).

أجاب نوري عبد الرزاق بالنسبة لمنظمة التضامن هناك مرحلتان للسوفييت، الأولى- اعتبروها منظمة يمكن بواسطتها سحب القوى الوسطية التحرّرية إلى جانبهم، خصوصاً وإن مقرّها القاهرة، ويستطيعون أن يوجهونها بنفوذهم المعنوي والسياسي ودعمهم المالي، أما المرحلة الثانية– فقد أرادوا الاستحكام بالقرار والهيمنة الكاملة، وأرادوها بوقاً للدعاية، لاسيّما في عدد من القضايا السياسية ذات الاختلافات والتعارضات الشديدة مثل:

التدخل السوفييتي العسكري في أفغانستان وقضايا الصراع مع الصين وقضايا أفريقية، فهم كانوا يريدون من المنظمة أن تتّخذ مواقف مؤيدة لمواقفهم، وعليها أن تهمل حركات ثورية أخرى حتى لو كانت مهمة، لأنها لا تنسجم مع توجهاتهم، وحركة موغابي مثالاً، فقد طلبت الانضمام إلى المنظمة في لوساكو، لكنه تم رفض انضمامهم ممالأة لرأي السوفييت ونفوذهم، وحين استلم الحكم موغابي بعد حوالي شهر، اتخذ قراراً بمقاطعة المنظمة، وهكذا دخلنا في خلافات لا ناقة لنا فيها ولا جمل ولا تخدم قضية التضامن، سوى الانحيازات الضيقة وهناك أمثلة كثيرة مثل الخلاف بشأن موزامبيق والخلاف مع الكوريين

وقد سأل نوري عبد الرزاق أليانوفسكي لماذا خسرتمونا زيمبابواي؟ وكان رأيه أن المجموعة الثانية بقيادة نوكوها هي الأفضل، لكن ذلك حسب نوري سوء تقدير وعدم فهم لطبيعة عمل المنظمة الدولية، وفي أفغانستان كانت الكارثة الكبرى، فقد طلبت حركة عدم الانحياز سحب القوات السوفييتية ، التي لم يصوّت في الأمم المتحدة سوى 12 عضواً لصالح بقائها، وحاولت منظمة التضامن أن تتخذ مواقف أسماها نوري عبد الرزاق “مخاتلة” كي لا تغضب السوفييت، بإدانة التدخل الإمبريالي والتمني بتحقيق إرادة الشعب الأفغاني الحرّة ، إلى غير ذلك من العبارات العمومية والتي لا معنى لها حين يلتهب الصراع ويحتاج الأمر إلى موقف واضح.

اغتيال يوسف السباعي

وسألته عن دور يوسف السباعي ، وكان رأيه إنه شخص حصيف وحكيم ونادر، وكان السباعي رئيساً سابقاً لاتحاد الكتاب العرب، قد تعرّض إلى عملية اغتيال على يد “جماعة أبو نضال”، وكان ذلك خلال اجتماع الهيئة الرئاسية في قبرص العام 1978، وكانت الأجواء متوترة عشية هذا الاجتماع العاصف، وكان يومها نوري عبد الرزاق في زيارة إلى بغداد (أواخر العام 1977) وسمع عن إعلان زيارة السادات إلى القدس 19 تشرين الثاني (نوفمبر) 1977، وكان قد التقى الرئيس أحمد حسن البكر للتحضير للمؤتمر في بغداد، وقد وصله خبراً أن السباعي سيكون ضمن وفد السادات، فطلب من عامر عبدالله الاتصال به لكي لا يذهب مع الوفد لأن ذلك سيسبّب إحراجاً للمنظمة ويثير مشكلات مهنية وسياسية عديدة، لاسيّما وهو رئيس المنظمة، لكن السباعي ذهب في نهاية المطاف مع الرئيس السادات وكان حينها رئيساً لتحرير جريدة الأهرام.

يوم التقى نوري بالسباعي سأله الأخير أكان عليّ أن أعتذر ولا ألبي طلب الرئيس؟ وكان جواب نوري كان يمكن أن تبلغه أنك مع الفكرة، لكن التزاماتك مع المنظمة تجعلك لا تكون في الواجهة، وقد انفجر الشارع ضد الزيارة من جهة وتشكّلت “جبهة الصمود والتصدي” من جهة أخرى لعزل مصر ومقاطعتها، خصوصاً وأن أكثر من كان متحمساً لذلك هو : العراق وسوريا وليبيا، وسألته عن موقف اليمن الجنوبية ومنظمة التحرير الفلسطينية، فأجاب أن موقفهما كان معتدلاً وغير مندفع.

كان نوري عبد الرزاق يعتقد أن السباعي أدرج على قائمة الاغتيال وأن خطراً على حياته سيكون جدّياً، الأمر الذي يقتضي عدم ذهابه إلى قبر ص التي أصرّ السوفييت على عقد الاجتماع فيها، وقد كان الوفد برئاسته والتقى برئيس الجمهورية سبيروس كبريانو والتقى ليسرديس، لكنه يومها كان ابن رئيس الجمهورية قد اختطف وأنقذه ليسرديس، الذي أكّد لا نريد اجتماعاً في قبرص، وكان الألمان الديمقراطيون قد عرضوا إمكانية عقده في برلين، وحاول نوري التأجيل ، لكن السوفييت كان لديهم استراتيجيتهم من عقده  في قبرص، فدعوا لانعقاده.

ولاشك أن الترتيبات الأمنية المصرية لم تكن بالمستوى المطلوب، بما فيها كانت حراسة السفارة حينها محدودة، علماً بأن السباعي لم يكن يعتقد أنه يمكن أن يتعرّض للاغتيال وكان يمكن أن يقتل بالشارع حيث كان يتمشى دون حراسة كافية أو احتراس يُذكر.

وفي جلسة المؤتمر حصلت مهاترات وشتائم، لكنها انتهت بعد نقاشات طويلة بالتوافق وكان النص الذي صدر باسم الاجتماع عائماً وهو الموافقة على قرارات مؤتمر طرابلس ” جبهة الصمود والتصدي” وتأييد حقوق الشعب العربي الفلسطيني وجميع القرارات التي تنتصر لقضيته العادلة والمشروعة. وهكذا انتهى المؤتمر كما يقول نوري.

وفي صباح اليوم التالي اتصل المندوب السوفييتي بنوري عبد الرزاق في غرفته وأبلغه بأن السباعي اغتيل في الفندق الذي يسكنون فيه، واقتيد عدد من الشخصيات الحاضرة في المطعم حينها ليؤخذوا كرهائن ، ثم أطلق سراح البعض منهم مثل عزيز شريف وعبد الفتاح أمين وعثمان بناني (الذي كان المهدي بن بركة زوج اخته) ومن تم أخذهم كرهائن : عبد المحسن أبو ميرز وجورج بطل وكمال بهاء الدين وإدوارد خرّاط (مدير الشؤون الفنية في المنظمة) وشخصية سورية شيوعية لا يتذكّر اسمه كان في مجلة قضايا السلم والاشتراكية .

ثم سألته ماذا فعلت مصر حينها بحيث حدث صدام مسلح؟ فأجاب: أرسلت مصر طائرة خاصة لنقل الوفود المتبقية وكذلك جثمان يوسف السباعي وبحضور عبد الرحمن الشرقاوي، وبقي نوري في قبرص لمتابعة الأمر، لاسيّما موضوع المختطفين، وشكّل غرفة عمليات ضمّت: نوري، ليساريدس، عزيز شريف، مهدي الحافظ وسيّدة قبرصية، حيث كان الاتصال عن طريقهم بالطائرة التي حملت المختطفين معها وكانت الطائرة متوجهة إلى اليمن الجنوبية (عدن ) وقد أبلغه قائد الطائرة بأن البنزين قد نفذ لأن اليمن رفضت تزويد الطائرة بالبنزين أو النزول على أراضيها، فاتصل نوري عبد الرزاق بعد منتصف الليل بعبد الفتاح اسماعيل لغض النظر عن نزول الطائرة لكي لا يحصل ما لا يحمد عقباه، علماً بأن السادات كان قد هدّد بأن أي دولة تقدّم المساعدة للخاطفين ستواجه بشدّة، وهكذا وتم بصورة غير رسمية وعادت الطائرة إلى قبرص لأن عدن لم تسمح لها بالنزول رسمياً.

وحينها طلب نوري من المندوب السوفييتي أن يكون نائباً له في غرفة العمليات لمتابعة الأمر، وكان رأي السوفييت أن حلف الناتو Nato  كان وراء عملية الاغتيال، ولكن ذلك ليس سوى اتهامات متبادلة بين السوفييت والأمريكان في ظل الصراع الأيديولوجي ، ففي حين اتهم السوفييت الناتو، اتهم الأمريكان منظمة التحرير الفلسطينية PLO، لكن تلك العمليات الإرهابية كانت معروفة وتكاد تكون ماركة مسجلة من اختصاص جماعة أبو نضال، وهو ما أكّده لي السفير عاطف أبو بكر في حوارات معه أعدّها للنشر في كتاب.

وكان المصريون قد طلبوا من كبريانو إرسال وفد وزاري، لكن الطائرة التي حملت كوماندوز، وكان هدف السادات مهاجمة الطائرة وقتل الخاطفين وإظهار قوة مصر وهي التي اختارت طريق التسوية مع ” إسرائيل” في إطار استراتيجية الصلح المنفرد واتفاقيات كامب ديفيد.

وكان هنري كيسنجر مع تقسيم قبرص إلى جزئين، على الرغم من  عدم اعتراف العالم بالقسم التركي من الجزيرة، وهكذا تم وصول الكوماندوز بطائرة غير مدنية، وبسيارات جيب تحمل رشاشات وعلى متنها حوالي 30 كوماندوز مصري، نفذوا العملية وانسحبوا، وحاول القبارصة تصوير العملية، وبعضهم اتهم منظمة التحرير الفلسطينية ، في إطار محاولة تأليب السادات، واعتبرت السلطات القبرصية القائم بالأعمال الألماني شخصاً غير مرغوب فيه  Personal Non Grata وكان رد الفعل الألماني الديمقراطي حدّياً حيث قطعت العلاقات الدبلوماسية معها.

اختطاف المهدي بن بركة

وسألته عن المهدي بن بركة متى تعرّف عليه، فقال في الندوة العالمية لدعم فلسطين، التي أقامها اتحاد طلاب فلسطين في القاهرة 1965، وكان رئيس الاتحاد آنذاك تيسير قبعة وهو الذي رتّب عملية استضافته إلى القاهرة حيث كان محظوراً عليه دخولها في حينها، ويعتبر نوري تلك أعظم ندوة  حضرها لدعم حقوق الشعب العربي الفلسطيني، وشارك فيها زعماء ورؤساء سابقين من كل العالم بينهم انطونين وكريشنامنين ومن اسكندينافيا والاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية، إضافة إلى شخصيات غربية داعمة للشعب الفلسطيني، وهناك تعرّف على المهدي بن بركة، وقد عمل معه في لجنة صياغة البيان الختامي، وانضم إليهما نبيل شعث، ويقول نوري عن المهدي بن بركة أن له كاريزما مؤثرة وتعامله كان سلساً جداً، وكان لديه وجهة نظر بشأن بعض مواقف السوفييت.

وإذا كان هذا الأمر يثير بعض الحساسيات فقد قال في مؤتمر وينباما في غانا حيث كان نيكروما العام 1964 حاضراً، وقد قال المهدي بن بركة أن اللقاء القادم سيكون في بكين (المؤتمر القادم) وهو الأمر الذي أثار السوفييت كثيراً. وقد توثقت علاقته مع نوري ووعده بزيارة براغ ، لكن الخاطفين كانوا له بالمرصاد، واحتفظ نوري بعلاقة طيبة مع أسرته (زوجته وأولاده بواسطة عثمان بناني) سواءً في القاهرة أو باريس ، ولاسيّما مع ابنه بشير، وحين اختطف المهدي بن بركة شن اتحاد الطلاب العالمي حملة دولية لإجلاء مصيره بالتعاون مع اتحاد الطلاب المغربي واتحاد القوات الشعبية.

 

ياسر عرفات وسطوع نجم المقاومة

والحديث عن ياسر عرفات ” أبو عمار” ممتع وشائق وغني، فقد تعرّف عليه نوري عبد الرزاق في العام 1956 بعد أن استقر في القاهرة التي جاءها مطروداً من لندن ولم يتمكّن من العودة إلى العراق، ووصلها قادماً من دمشق، وكان قد التقى بالرفيق جورج تلو عضو المكتب السياسي الذي أبلغه بالتوجه إلى القاهرة بتوجيه من سكرتير الحزب الشيوعي ” سلام عادل” ، وذلك بعد المؤتمر الرابع لاتحاد الطلاب العالمي الذي انعقد في براغ وكان رئيس الوفد العراقي ” الرفيق عبد الرزاق الصافي”.

                 وقد عمل نوري بعد وصوله إلى القاهرة على تأسيس رابطة للطلبة العراقيين والتي ترأسها محمد حسين الملّا، حيث اجتمعوا أكثر من مرّة مع أبو عمار وتوثقت علاقته به . ويذكر نصير الجادرجي  في كتابه الموسوم  “مذكرات نصير الجادرجي” (دار المدى ، بغداد، 2017) الكثير من المعلومات عن نشاط الطلبة العراقيين في القاهرة التي ذهب إليها لإكمال دراسته الثانوية فيها بعد تعرضه للمضايقة في بغداد.

كما تعززت علاقة نوري مع أبو إياد حيث سافرا بالباخرة سوية إلى موسكو لحضور مهرجان الشباب والطلاب العام 1957، وقد تعرّف في الباخرة على جلال الطالباني وتوثقت علاقته به بعد ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 واستمرت في الخارج أيضاً ، وأتذكّر أن الطالباني اقترحه للانضمام إلى قيادة المعارضة في مؤتمر صلاح الدين العام 1992، لكن ظروفه وموقعه لم يسمحا بذلك، وارتبط بعلاقات خاصة مع إداراتها.

وفي العام 1969 اتصل أبو أياد بنوري  في بغداد، وتوجه نوري وعامر عبدالله للقاء به، واستعاد أبو إياد ذكرياته مع نوري وسألهما عن أية مطالب للحزب الشيوعي أو مساعدات ، فشكراه وتمنيا له ولحركة المقاومة النجاح في مهماتها مع أخذ الظروف العربية والدولية بنظر الاعتبار، وأكدا دعم الشيوعيين العراقيين للمقاومة، بغض النظر عن التباين في بعض المواقف. وكان عامر عبدالله قد ذكر لي أنه عمل على إدراج مبدأ حق تقرير المصير للشعب العربي الفلسطيني في اجتماع الأحزاب الشيوعية والعمالية التحضيري العام 1968 الذي انعقد في بودابست، ثم أدرج لاحقاً وبعد نقاشات في وثائق الحركة الشيوعية العالمية منذ العام  1969 في اجتماعها بموسكو.

وقد زار نوري عبد الرزاق المنظمات الفدائية في الأردن وقابل جورج حبش في منطقة الأغوار ورافقه بسّام  أبو شريف، كما عقد جلسة مع نايف حواتمة وحضرها ياسر عبد ربه، ولم يكن نوري متفائلاً بموقف المقاومة في الأردن وازدواجية السلطة، وكان لنوري دور مهم في اقتراح تشكيل “منظمة الأنصار الشيوعية” التي كان الحزب الشيوعي اللبناني داعياً لها أيضاً، وكان ممثلا الحزب فيها لاحقاً الرفيقين ثابت حبيب العاني وآرا خاجادور كما أشرت في مطالعتي عن آرا خاجادور المنشورة في الزمان بعنوان وطني نقرة السّلمان وهويّتي عراقيّة والهوى أممي ، العدد 5651 – الخميس 9 شباط (فبراير) 2017.

وكان قد تقرر إرسال وفد يمثل المنظمات العراقية المشتركة ذات التوجه الجبهوي مثل مجلس السلم والتضامن ونقابات المحامين والمعلمين والصحفيين وغيرها لزيارة مكاتب المنظمات الفدائية في عمّان لإعلان تضامن العراق حكومة وشعباً معها بمبادرة من الرئيس أحمد حسن البكر، وكان ضمن الوفد الشيوعي: رحيم عجينة وبهنام بطرس والفريد سمعان، وقد ضمّ قياديين بعثيين وأكراداً أيضاً، ولحظة وصولهم إلى منطقة المفرق حدثت صدامات أيلول (سبتمبر) الأسود 1970، فألقى نوري عبد الرزاق كلمة في الجيش العراقي حيّا موقفه ودوره الوطني المشهود، وألقى رحيم عجينة كلمة دعا فيها إلى الجبهة الوطنية، وخلال إلقاء الكلمات كانت قذيفة قد ألقيت على الجيش الأردني، ثم أصبح القصف فوق رؤوسهم .

في العام 1973 تزوج نوري عبد الرزاق من هناء قاسم، وقضى شهر العسل في بيروت، وقد وجه له أبو عمار دعوة كريمة حضرها كمال ناصر وأبو إياد وأم جهاد.

ويستمر نوري عبد الرزاق في سرد علاقته مع ياسر عرفات فيقول: وعند تأسيس حركة المنبر الشيوعي وانطلاقتها (أواسط الثمانينات) ، لقيت دعماً من جانب منظمة التحرير الفلسطينية، وبشكل خاص من منظمة فتح وبتوجيه من أبو عمار، وكانت المقاومة الفلسطينية قد قدّمت خدمات جليلة ومساعدات لا تقدّر بثمن لأعداد غفيرة من الشيوعيين العراقيين.

أود شخصياً أن أشير أيضاً إلى دعم الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية وجبهة النضال الشعبي وعدد من المؤسسات الفلسطينية، وهو ما ينبغي الاعتراف به وقوله من باب الصداقة والاعتزاز، خصوصاً وأن ظروف الهجرة والمنافي كانت قاسية وهي هجرة شبه جماعية منذ أواخر العام 1978 وبداية العام 1979، وكان موقف المنبر من الحرب العراقية- الإيرانية قد لقي استحساناً كما يقول نوري عبد الرزاق، ليس هذا فحسب، بل إن كاتب السطور يستطيع أن يدلي بشهادته على هذا الصعيد ، سواء بخصوص فتح وم.ت.ف بشكل خاص أو المقاومة بشكل عام.

كانت لدى كاتب السطور مراسلات مستمرة مع الراحل عرفات في عقد الثمانينات بواسطة سفير فلسطين في براغ سميح عبد الفتاح (أبو هشام) خلال زياراته المتكررة لها، ولاسيّما بخصوص دعم قرار الأمم المتحدة 3379 الذي ساوى الصهيونية بالعنصرية، علماً بأن  هذا القرار صدر في العام 1975 كان معرّضاً للإعدام  في حملة دولية شرسة ضده قادتها الصهيونية وجهات ممالئة لها، الأمر الذي تنادى عدد من المثقفين العرب لتأسيس لجنة لدعمه تطورت إلى “اللجنة العربية لمناهضة الصهيونية والعنصرية” وكان كاتب السطور أمينها العام منذ العام 1986، إضافة إلى مقترحات أخرى بخصوص الانتفاضة الفلسطينية الأولى وشروط نجاحها بالأساليب اللّاعنفية “انتفاضة الحجارة” وألقى الكاتب محاضرة في براغ بعنوان “الانتفاضة الفلسطينية: وسياقات الأيديولوجي والسياسي”.

كما كتب بُعيد غزو القوات العراقية للكويت، رسالة خاصة إلى أبو عمار طلب منه أن يبذل جهده لإقناع الرئيس العراقي صدام حسين للانسحاب من الكويت والجلوس إلى طاولة مفاوضات لتسوية الخلافات للحيلولة دون تدمير العراق وتجنيب المنطقة كارثة كبرى، وهو الموقف الذي اتخذته حركة المنبر وعبّرت عنه في صحيفتها التي كان يشرف عليها، ويحتفظ الكاتب بمراسلاته مع الراحل عرفات، وتوجد نسخ عنها في سفارة فلسطين في براغ، وكان أول لقاء لكاتب السطور بـ عرفات خلال زيارته إلى براغ في أواسط السبعينات حين كان رئيساً للجنة التنسيق العربية (اتحادات وجمعيات الطلبة العرب). استعدت ذلك مع نوري عبد الرزاق لاستكمال الموقف المشرّف للمقاومة الفلسطينية.

وسألت نوري عبد الرزاق عن دعم م.ت.ف وأبو عمّار لمنظمة التضامن فقال: السوفييت أولاً والمصريون بحكم المقر وأبو عمار وليبيا كانت هي الداعم للمنظمة، وهذه الجهات هي التي أبقت عليها، وخصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وكانت ليبيا تريد نقل المنظمة من القاهرة، لكن الرئيس اليمني علي ناصر محمد، إضافة إلى أبو عمار كانا مع بقائها رغم كل الظروف والتعقيدات، ولاسيّما بعد اتفاقيات كامب ديفيد.

وقد اتخذت المنظمة قراراً تاريخياً كان نوري قد صاغه وبلوره وهو أن تبقى المنظمة في القاهرة وفي مقرّها الحالي الذي ساهم في تمويل بنائه طلال أبو غزالة في شارع عبد العزيز آل سعود بالمنيل، ومن يتحفظ على ذلك فيمكن مناقشة الأمر لاحقاً.

الانتفاضة الفلسطينية

وسألت نوري متى كان آخر لقاء أو اتصال لك مع عرفات، فقال حين كان محاصراً (العام 2002) حيث اتصل به تلفونياً، وكان رأي نوري أن الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي انطلقت يوم 28/9/2000 لا بدّ من تحديد سقف زمني لها ولا ينبغي استمرارها إلى ما لا نهاية، لأن ذلك سيمكن العدو من إجهاضها وسيقودها إلى التراجع، فأي حركة احتجاج أو مقاومة إن لم تتقدم، فسوف تتراجع وتلك خبرة انتفاضة العام 1905 الروسية التي شخّصها لينين، وكانت تلك قناعة السفير مراد غالب الذي ترأس المنظمة أيضاً.

ويعتقد نوري أن استمرار الانتفاضة الثانية كان كميناً فقد كان أسبوعاً واحداً كافياً للفت نظر العالم وإلّا فإن الحركة ستنحسر، وقد حققت الانتفاضة الأولى العام 1987 منجزاً كبيراً، لولا عملية غزو الكويت وانهيار الكتلة الاشتراكية والاتحاد السوفييتي التي قادت إلى مباحثات مدريد ومفاوضات أوسلو 1991-1993، وبالمناسبة فقد ألغي القرار 3379 في شهر كانون الثاني (ديسمبر) العام 1991 في ظل التراجع الكبير الذي شهدته القضية الفلسطينية .

لقد جذبت انتفاضة الحجارة الرأي العام بما فيه الإسرائيلي لصالح حقوق الشعب العربي الفلسطيني، وكان ينبغي المراكمة عليها، لولا التبدلات في الوضع العربي وانهيار الحد الأدنى من التضامن وغياب أصدقاء للعرب من الساحة الدولية، وقد أخذ التراجع ما بعد كامب ديفيد ثم الحرب العراقية – الإيرانية وفيما بعد غزو الكويت وانتهاء الحرب الباردة بغياب الكتلة الاشتراكية وكان على الفلسطينيين أن يعرفوا منذ البداية محدودية أوسلو فهو ليس حلاً نهائياً، وقد قال نوري ذلك لأبو عمار.

وسأل نوري ياسر عرفات في العام 1982: لماذا أنتم ضد مبادرة الملك فهد العام 1982، فأجاب أبو عمار بأنه لم يطّلع عليها ، وحين عرف أن تقييم نوري مختلفاً عمّا هو سائد في الشارع قال له أبو عمار: إذا كان الأمر كذلك فأنا أول من يؤيدها.

يعتقد نوري أنه كان على أبو عمار أن يغادر رام الله وألّا يبقى أسيراً لدى “إسرائيل” ، خصوصاً بعد ضرب المطار، وخطابه ضد شارون ، الأمر الذي يعني إن شروط اللعبة تغيّرت، وهو ما فهمه الرئيس حسني مبارك خلال زيارته إلى واشنطن والاستقبال البارد الذي قابله فيه بوش الابن، أما حين زار شارون واشنطن فقد فتحت له الأبواب والخزائن وسمع كل ما هو دعم لإسرائيل، وكان رأي بوش بأبو عمار إنه شخص سيئ، ولاسيّما بعد حادث الباخرة.

واستعاد نوري العلاقة مع المقاومة وشخصيات عربية في الثمانينات فقال: إننا كنا نعقد اجتماعاتنا لمناقشة الأوضاع العربية في فيينا بحضور أديب الجادر رئيس اللجنة الاستشارية ومهدي الحافظ أمينها العام، وذلك في وسط الثمانينات واستمر حتى بُعيد غزو الكويت، وكان الرئيس أبو مازن يحضر بعضها وكذلك فيصل حوراني ونبيل شعث وآخرين، كما شارك فيها محمد فايق وصلاح الدين حافظ وفاروق أبو عيسى ومن العراقيين مالك الياسري وجعفر عبد الغني وفاضل الجلبي وسنان الشبيبي وعبد الحسين شعبان وآخرين. وبعد غزو الكويت توسعت الدائرة فشملت عراقيين آخرين منهم محمد بحر العلوم ومحمود عثمان ولطيف رشيد وعادل مراد.

يقول نوري : للأسف لم يكن الولاء الفلسطيني لفلسطين موحداً، وهو أمر استطاع العدو النفاذ منه، وعلينا أن نلاحظ أن جميع حركات التحرر التي نجحت كانت تقدّم الولاء الوطني وتستفيد من الدعم الإقليمي والدولي. خذ تجربتي الفيتنام والجزائر مثالاً، فلم يستطع أحد اختراقهما، ورغم استفادة الجزائر من الدعم المصري والدعم المغربي والتونسي والعراقي، لكن الجزائر ظلّت قضيتها جزائرية، والفيتناميون كانوا يعملون بين قطبين متعارضين متناحرين هما موسكو وبكين، ولكن القضية الفيتنامية ظلّت هي الأساس بالنسبة لهم ولم ينخرطوا في المحاور القائمة.

فلسطين معه دائماً

سألت نوري عبد الرزاق عن رأيه اليوم بالقضية الفلسطينية بعد الإحباط الكبير والانقسامات الحادة والصراعات المستمرة، فضلاً عن نكوص الوضع العربي وانخفاض حجم الدعم الدولي، بالرغم من وجود انعطاف عام نحو فلسطين أوروبياً بسبب عدالة القضية، فأشار إلى أهمية إنهاء الانقسام الفلسطيني الذي يستفيد منه العدو، فضلاً عن ضرورة الاستفادة من الدعم العربي رغم تفككه ومن التضامن الدولي رغم الانشغالات المتعددة بقضايا أخرى مثل الإرهاب والعنف وقضايا الهجرة والتعصّب والتطرّف.

وأكّد نوري على أهمية الوحدة الفلسطينية وإعادة الظهير العربي والاستفادة من منظمات المجتمع المدني، كما عملت حركة التحرر في جنوب أفريقيا، وهناك إمكانات كبيرة على هذا الصعيد وأنت كما قال أعرف بها، بملاحقة المرتكبين أو جمع الملفات عن الانتهاكات للاستفادة منها في هيئات حقوق الإنسان لإدانة سياسة “إسرائيل”، سواء فيما يتعلق بالقدس أو الجولان أو محاولات ضم جزء من غور الأردن. واستعدنا القرار الذي اتخذه نحو ثلاثة آلاف منظمة حقوقية لدمغ سياسات “إسرائيل”ووصفها بالعنصرية وذلك خلال حضورنا مؤتمر ديربن (جنوب أفريقيا)  العام 2001.

وكذلك يمكن الإفادة من عضوية فلسطين كدولة مراقبة في إقامة دعاوى في المحكمة الجنائية الدولية أو عبر اليونسكو للدفاع عن آثار وتاريخ فلسطين والقدس تحديداً، وأهمية خلق رأي عام جديد ومنسجم مع التطور الدولي.

ويمضي نوري في تحليله : ولا بدّ من العمل داخل المجتمع الإسرائيلي على الرغم من عنصريته، لكن ثمة جوانب لا بدّ من تعزيزها، فالقائمة العربية لها اليوم 14 مقعداً (نائباً في الكنيست) ومن الذكاء فتحها والتعاون مع “حركة السلام الآن” واليسار الإسرائيلي مثل يوري أفنيري وميرك وغيرهما. وكم كانت مؤثرة فليسيا لانغر في دفاعها عن الحقوق الفلسطينية في أواخر ستينات وكامل سبعينات القرن الماضي ولابدّ من عزل اليمين المتطرّف الديني وغير الديني مثل كاهانا ونتنياهو والليكود وأضرابهم.

سألته لو عاد بك الأمر كيف تفكر؟ ماذا كان على العرب أن يقرروا بشأن تقسيم فلسطين؟ فأشار إن القرار 181 رغم إجحافه وعدم مبدئيته ، لكنه كان يمكن أن يفتح الطريق لقيام دولة فلسطينية يمكن أن تتطور وأن تبلور رؤية جديدة لحلول واقعية مثلاً، وكان رفض الهدنة في رودس العام 1949 يعني رفض عودة 100 ألف فلسطيني.

ماذا عن الوضع الدولي الجديد: روسيا أين موقعها؟ قال نوري عبد الرزاق لقد فتح بوتين الخطوط مع الجبهات المتناقضة مع سوريا وإيران وانفتح اليوم على الخليج وله علاقة متميزة مع تركيا وله دور في ليبيا، لكنه ينسق في الوقت ذاته مع إسرائيل.

وإذا كان لي أن أختم هذه الحلقات ، فثمة ما يفتح أسئلة جديدة حول رؤية نوري عبد الرزاق إزاء قضايا أكثر راهنية وإلحاحاً، مثل العولمة والثورة الصناعية الرابعة والذكاء الاصطناعي وموقع الحركة الشيوعية اليوم من هذه التطورات الكبرى.

 

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com