مقالات

التطرّف والعنف: سوريا تحت المجهر

د. عبد الحسين شعبان

لعلّ من المفارقة أن تعقد اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الاسكوا) بالتعاون مع جامعة نيويورك ومركز التعاون الدولي اجتماعها التشاوري على مستوى الخبراء بخصوص ” التطرّف العنيف في سوريا ومنع انتشاره”، ويكون الهجوم التركي على الأراضي السورية قد بدأ تحت عنوان ” نبع السلام” بزعم ” القضاء على الإرهاب”، وهو الأمر الذي أثار  جدلاً واسعاً ونقاشاً عميقاً حول آثاره الراهنة والمستقبلية  وتأثيراته السوريّة والإقليمية والدولية، ارتباطاً مع عنوان الاجتماع ذاته.

وكان العديد من المنظمات التابعة للأمم المتحدة قد اشتغل على برامج ومشاريع وأجندات لسوريا، وحمل بعضها أبعاداً إنسانية تتعلّق باللاجئين والنازحين وغيرهم، وذلك منذ اندلاع الأزمة والاستعصاء الذي وصلت إليه. ومن هذه المنظمات وضعت الإسكوا في العام 2012 ” الأجندة الوطنية لمستقبل سوريا”،  وذلك من خلال حوارات ونقاشات في  إطار تشاركي بين الخبراء السوريين والأطراف المعنيين لاقتراح سياسات بديلة لمرحلة ما بعد الأزمة، والهدف هو رسم وصياغة مفردات مشروع يتعلّق بالتنمية المستدامة، انطلاقاً من واقع الحال وتطوراته بعد الأزمة.

وإذا كانت حركة الاحتجاج في العام 2011 قد بدأت سلمية ومدنية، لكنه تم عسكرتها على نحو سريع ، الأمر الذي دفع بالصراع إلى مديات شاسعة  وعنفية ومنفلتة، لاسيّما بتداخلات إقليمية ودولية من خارج الحدود وضمن أهداف خاصة.

وتسعى اجتماعات الخبراء إلى تحليل الاتجاهات التي يمكن لسوريا تبنيّها في المستقبل، لاسيّما معالجة الجوانب المتعلقة بالتنمية ما بعد النزاع، والتي تتركز حول إعادة البناء وتقليص الأضرار المادية ومعالجة الآثار الاجتماعية والاقتصادية للنزاع الذي يستمر منذ أكثر من ثماني سنوات.

إن التحدّيات التي تواجه عملية إعادة البناء لا بدّ لها من بحث الفرص المتاحة أو الممكنة  بالترابط مع الإمكانات المتوفرة، ولعلّ أولى الأولويات تتركّز في بناء السلام وتعزيز مؤسسات الدولة و”حكم القانون”، وبدون ذلك لن تنجح الجهود في الوصول إلى الأهداف المرجوّة، وقد انصبّت نقاشات الخبراء في الأسكوا على عدد من القضايا الأساسية منها:

1- إعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية .

2- إعادة بناء المؤسسات وفقاً لمبادئ الحوكمة الديمقراطية.

3- إعادة بناء النسيج الاجتماعي وتحقيق المصالحة.

وهذه تشمل عدداً من القطاعات أهمها: النوع الاجتماعي والمجتمع المدني وحقوق الإنسان والبيئة والاستدامة، من خلال إحراز نجاحات في التنمية وترميم البنية التحتية وتعزيزها، إضافة إلى تحديث نظم الحكم والإدارة والقضاء وأجهزة إنفاذ القانون وفقاً للمبادئ العصرية.

ومنذ العام 2017  عمل برنامج الاسكوا على مناقشة ” الإطار الاستراتيجي لبدائل السياسات” بتقديم رؤى وتصورات  وأفكار يجري تحديثها بشكل دوري لتستجيب للتطورات التي تحدث بحيث يتم تكييفها للسيناريوهات المحتملة التي تنطلق من الواقع، وذلك عبر استشراف مستقبلي جديد لسوريا 2030 من خلال محاور أساسية للقطاعات المختلفة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدستورية والقانونية والقضائية والتربوية والتعليمية والبيئية والبلدية والمجتمع المدني وغيرها.

وفي العادة فإن اجتماعات المنظمات الدولية غالباً ما تنعقد وفقاً لقواعد Chatham  House  وكان التركيز في الاجتماع المشار إليه حول العنف والتطرّف، واستند في ذلك على دور داعش والشبكات الإرهابية الأخرى، وحسب تقديرات الأسكوا فإنه رغم هزيمته العسكرية، لكنه ما يزال يملك نحو 11.000(أحد عشر ألف) مقاتل محتجزين ونحو 75.000 (خمسة وسبعون ألف) نازح من عوائل داعش في مخيّم الهول شمال شرقي سوريا، وهو الذي هدّدت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بإطلاقهم أو عدم إمكانية حراستهم لحظة الاجتياح التركي لشرقي الفرات، والذي يمكن أن ينتقل تأثيرهم على دول الجوار بما فيها العراق بشكل خاص.

ومثل هذا الأمر يجعل من مسؤولية دول المنطقة والمجتمع الدولي والقوى الدولية الكبرى التفكير الجدي بإعادة تأهيلهم ودمجهم وتوطينهم، ويشكل ذلك تحدّياً كبيراً في إطار مواجهة الإرهاب، سواء للمجموعات الإرهابية المحلية أو للمقاتلين الأجانب وهم من بلدان أوروبية وغربية مختلفة، إضافة إلى مقاتلين من بلدان عربية ومسلمة.

إن مواجهة الإرهاب المتجسّد في التوحش والقتل العشوائي بالجملة يقتضي أولاً وقبل كل شيء الوقوف عند دوافعه، فلا إرهاب دون تعصب ديني أو طائفي أو مذهبي أو قومي أو سياسي أو اجتماعي أو غير ذلك، وإذا ما انتقل التعصّب من التفكير إلى التنفيذ سيصبح تطرّفاً، وكل متطرّف هو متعصّب بالضرورة، والعكس ليس صحيحاً.

وإذا ما أصبح التطرّف سلوكاً صار عنفاً، خصوصاً باستهداف الضحية بذاتها ولذاتها والتوجه للقضاء عليها أو لإسكاتها ، أما إذا ضرب العنف عشوائياً، فإنه سيصبح إرهاباً، هدفه إضعاف ثقة الفرد والمجتمع بالدولة بزعزعة الأمن وضعضعة النظام العام وإحداث رعب وهلع وخوف في المجتمع، وقد يكون الهدف الأبعد هو إسقاط الدولة من خلال الفوضى وهي بالنسبة للإرهابيين وداعش وأخواتها ” الفوضى أفضل من دولة لا تحكم باسم الله”، ولحين أن  تتحقق تلك اللحظة، فإن إدارة التوحش تعمل لبناء شروط دولة الخلافة بتفكيك الدولة القائمة.

وإذا كان ثمة انتهاكات أو ثغرات ونواقص في السياسات الداخلية، فإن التدخلات الخارجية كان لها تأثير كبير على تشجيع وتمويل وإدامة العنف والإرهاب، خصوصاً باستغلال التطرّف والتعصّب المجتمعي وحاجات الناس وظروفهم المعاشية، ناهيك عن الأمية والتخلّف، وكل تدخل خارجي، ولاسيّما عسكري أو إدامة للنزاعات المسلحة الداخلية أو فرض عقوبات اقتصادية تمس صميم الناس، جلب معه التطرّف، والتطرّف يقود إلى تطرف مضاد، يبدأ سلبياً: الموقف من الأجنبي وصولاً إلى استخدام العنف ضده أو ضد المتعاونين معه الذين يطلق عليهم ” المرتزقة” أو “الطابور أو الرتل الخامس”، وقد تناولت قواعد القانون الإنساني الدولي والقانون الدولي المعاصر مسألة التعامل مع المدنيين، وهو ما ذهبت إليه اتفاقيات لاهاي لعام 1899 و1907 واتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 وملحقيها بروتوكولي جنيف لعام 1977 الأول – الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة، والثاني- الخاص بحماية ضحايا المنازعات المسلحة  غير الدولية.

وبالطبع، فثمة عقبات ستعترض سوريا حتى لو تمت هزيمة داعش، علماً بأن الهزيمة العسكرية لا تعني بالضرورة انتهاء داعش أو خطرها، لأن الأمر أبعد من ذلك حيث يقتضي تفكيك الشبكة الإرهابية وتجفيف منابعها وردم روافدها وقطع شريان التمويل لها، من خلال كفاح فكري طويل الأمد وسن قوانين وأنظمة  جديدة تحول دون انتشار التنظيمات الإرهابية، لاسيّما بتغليظ العقوبات وإصلاح منظومة القضاء والأنظمة الأمنية وأجهزة إنفاذ القانون ، وتحسين الأوضاع الاقتصادية وإيجاد فرص عمل للعاطلين والقضاء على الأمية ووضع حد للتخلف وتوفير الحد الأدنى للعيش الكريم، فضلاً عن إعادة النظر بنظام التعليم والتربية، بما يؤدي إلى تنقيته من كل ما يتعارض مع اللوائح الدولية لحقوق الإنسان، إضافة إلى بذل جهد كبير لإصلاح المجال الديني ، فكراً وثقافة وخطاباً، دون نسيان أهمية الجبهة الأمنية والاستخبارية من خلال نظام شامل للوقاية والحماية والرعاية.

وإذا كان المجتمع السوري متماسكاً تاريخياً وهو مجتمع متنوّع وتعدّدي ومتعايش دينياً وقومياً ومجتمعياً ، لكن ذلك لا ينفي وجود ثغرات وعيوب ومثالب تتعلق أساساً بعدد من القضايا الإشكالية مثل الاعتراف بالآخر وإقرار التنوّع والتعددية واحترام منظومة الحقوق والحريات الأساسية ، مثلما لا ينبغي إهمال أن موجة الإرهاب ما بعد احتلال العراق، كان لها تأثير كبير في استنفار جميع التناقضات والنتوءات المجتمعية ، لاسيّما إذا ارتبطت بسياسات خاطئة وقصيرة النظر وبتشجيع ودعم من قوى خارجية وفقاً لأجندتها السياسية.

وكان الإرهاب بعد العام 2011 ولغاية العام 2014 قد وجد قاعدة حاضنة له في سوريا بتشجيع من قوى دولية وإقليمية يهمّها تعميم الفوضى وقضم الدولة بالتدرّج وعلى مراحل، أما بعد احتلال الموصل العام 2014 وقبلها احتلال الرقة، فقد أصبح لداعش نفوذ كبير حيث جرت محاولات لإعلان “الدولة الإسلامية” وعاصمتها الرقة، بل إن المنظمات الإرهابية بدأت تنتشر على نحو واسع بتطبيق قوانينها على أجزاء غير قليلة من سوريا والعراق.

إن انشغال المجتمع الدولي اليوم بمشروع التطرّف والعنف في سوريا، فلأنه أخذ يدرك أكثر من أي وقت مضى الدور المحوري لهذا البلد العريق من جهة، وما يمكن أن يتركه وجود الإرهاب من تأثيرات على المجتمع الدولي من جهة أخرى، وما يجلبه من تداخلات إقليمية، لاسيّما من جانب إيران وتركيا، ناهيك عن دور روسي متعاظم واختراق أمريكي من جانب آخر ، فضلاً عن موقف أوروبي متمايز ومغاير، وهو الأمر الذي لا بدّ من إعادة  بحثه استناداً إلى عدد من المستجدات منها :الاجتياح التركي الجديد والخارطة السياسية السورية بتضاريسها ومنعرجاتها المختلفة وتفاهم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) مع الحكومة السورية، فضلاً عما ستؤول إليه لجنة إعداد الدستور ومصير اتفاقيات أستانة وجنيف، ناهيك عن مستقبل ” المنطقة الآمنة”؟.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com