قصة

السوصلق (*) قصة قصيرة للكاتبة الروسية المعاصرة سفيتلانا فاسيلينكو

الدكتور تحسين رزاق عزيز

كنا نحن طلائع مدينة بارغورورد العسكرية نخرج في الربيع إلى البرية لنملأ جحور السوصلق بالماء لكي نطردها من جحورها. زحفت خلف فصيلنا بهدوء ماكينة السقي محملة بالماء المخلوط بالكلور. كانت جوانب الماكينة رطبة ومبللة كجوانب وحش.

سكبنا الماء في الجحر المظلم المنحدر بعيداً في عمق الأرض. سار الماء بصورة جامحة وبصمت والى الأبد. وسكبنا الماء ثانيةً وذهب من جديد مباشرة وبسرعة وكأن ذلك حدث لسبب ما مهم وعاجل. ومن جديد فُغِر فم الأرض المدور الطفولي المفتوح والمظلم. في هذه الأثناء نسينا موضوع السوصلق ولم نكن واثقين من انه في وقت ما سيقفز من الجحر (أما إذا قفز فسيقفز خائفاً متلفتاً بين ناطحات السحاب – وكأن الجحر امتد من هذا الجانب إلى جانب الأرض الآخر)، لكننا سكبنا الماء لأن ذلك ممتعاً ومسلياً ساخرين به من أنفسنا ومن ذلك الثقب الممتد إلى ما لانهاية. ومن ثم بكل حقد ويأس من هذا السر الذي يستهزئ  بنا، نحن الطلائع، سكبنا الماء وسكبناه حتى ملأنا عنق الثقب من دون أن نعطيه فرصة للراحة ناسين بذلك لماذا نسكب.

                 وعندما كبر حقدنا وكراهيتنا اللذان أضلا الجحر وصارا صامتين ومحكمين مثل الماء المنسكب بتدفق ثخين وثقيل، وعندما تكهرب الجو من هذا الحقد الشامل وصارت تفوح منه رائحة الكلور بوضوح – آنذاك فجأة خرج السوصلق متثاقلاً من الجحر المجاور.

                 خرج إلى النور مبللاً راجفاً صغيراً وكأنه ولد للتو أمام أعيننا من بطن الأرض – وتسمَّرَ مسحوراً. تطلع إلى كون الله  وشاهد انه سليم.

                 ماذا تراءى له في جحره المظلم المتعرج الذي هاجت فيه روحه الطفولية وهو يعوى من الفزع الذي باغته فيه من كل الجوانب حقدنا البشري المشبع بالكلور وكراهيتنا العدوانية وهما يتسربان إليه من كل زوايا مخبئه. هل هو الطوفان؟ هل حلت نهاية العالم؟ لكن العالم بدا سليماً. والكون معافى. بل حتى كان أفضل من حاله في السابق. فها هي الشمس سليمة تضيء ساطعة أكثر منها في الأيام العادية والسماء لم تُمحق وبدت أكثر زرقة وصفاءً أما الحشائش فتخشخش زاهية في هذا العالم الناجي.

                 بعد أن رفع نفسه على قوائمه الخلفية وضع يديه على صدره كهيأة المصلي، ومن ثم ضيّق عينيه وتطلع إلى الشمس ملوحاً برأسه – ها هو العالم سليم معافى.

                 وما أن أتمَّ صلاته بخشوع حتى تطلَّع إلينا نحن البشر المتجمهرين من حوله. نظر إلينا في البداية بكل حب مبتهجاً كوننا لا نزال أحياء ونجونا سالمين معافين من هذا الطوفان. ثم أعاد الكرة ونظر إلينا ثانية لكن هذه المرة نظرته كانت مختلفة فقد عايننا بجدية وفهم أنْ لامناص له. فأسلم نفسه راضخاً لقدره المحتوم.  لكن المهم بالنسبة له أنَّ العالم سليم. وأغمض عينيه.

                 وفي ذلك اليوم تمكنا نحن طلائع الصف السادس (ب) من اصطياد اثنين وعشرين سوصلقاً وحصلنا على المرتبة الأولى بعدد  فروات السوصلق.

(*) السوصلق – أحد القوارض ذات الفرو.

سفيتلانا فاسيلينكو

          ولدت سفيتلانا فاسيلينكو في بلدة كابوستين بار على نهر الفولغا في عام 1956. كانت المدينة صغيرة لكنها عسكرية. وذلك يعني في تلك الأيام أنَّ المدينة ذات سرية عالية ومغلقة أمام الجميع ما عدا سكانها والدخول لا يحصل إلّا وفق الهويات.

كان والدها ضابطاً في الجيش،  فالعسكريون وعائلاتهم كانوا يشكلون الجزء الأكبر من السكان. حدثَ في هذه المدينة اختبار الصواريخ الرهيبة، ومنها أطلقت إلى الفضاء أوائل الأقمار الصناعية السوفييتية. زار هذه المدينة مرات عديدة رائد الفضاء الأول يوري غاغارين، وربما حتى انه زار المدرسة. أما مصمم المركبات الفضائية الروسية البارز س. ب. كوروليوف – وهو شخصية محاطة بالسرية وغير معروف إلا للقليل من الناس فقد كانت سفيتلانا تعرفه جيداً حتى انها تسميه عندما كانت تذكره ببساطة «العم سريوجا الذي يتجول بسيارته».

                 تم تهيئة التلاميذ في المدرسة لقدرهم العظيم، أنْ يموتوا أبطالاً «في الصفوف الأولى» في حالة وقوع كارثة نووية عالمية. تقول سفتلانا فاسيلينكو عن طفولتها في المدرسة: «عشنا رافعين رؤوسنا نحو الأعلى، إلى النجوم». لا تنسى س. فاسيلينكو ذلك الإحساس غير الاعتيادي لإدراك الطفل عندما يشعر أنّه «البطل» و«الضحية» في آن واحد. أما النقاد الأدبيون عندما يحللون نثر الكاتبة س. فاسيلينكا في نهاية التسعينات يستنتجون أنَّ ذكرياتها عن الطفولة «شبه العسكرية» غير الاعتيادية جعلتها ترى الحياة وتصفها على ضوء النهاية القريبة للعالم. . فاسيلينكو كاتبة قصة معروفة. أنهت الدراسة في معهد الأدب ثم أكملت في عام 1989 دورات الإخراج وكتابة السيناريو. نالت س. فاسيلينكو شهرة أدبية بصورة مبكرة من عمرها. لكن أعمالها الأدبية لم تُطبع وتنشر كثيراً لأنها لم تكن تساير ماكينة الدعاية السوفيتية الرسمية  ونأت بنفسها عن ذلك بعيداً. أما اليوم فكُتب فاسيلينكو ورواياتها وقصصها تُرجمت إلى 12 لغة ونالت جوائزَ عديدة من بينها جائزة أفضل كتاب أوربي لعام 1991 في براغ على كتابها «الاسم المجهور» وجائزة مجلة «العالم الجديد» المتخصصة بالقصة والرواية  عام 1998 ونالت عام 1999 جائزة نابوكوف على روايتها «الغبية» ونالت في ألمانيا  جائزة أفضل سيناريو عام 1994. كتبت فاسيلينكو  عدة سيناريوهات لأفلام ومسلسلات تلفزيونية شهيرة في روسيا.

تقييم المستخدمون: 4.45 ( 1 أصوات)
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com