مقالات

جرح بعقوبة الخالد

جاسم ملا إبراهيم

هناك.. في بستان خالهِ بالهويدر ماتزال قصائده ناطرةً تنتظرُ الغائب الذي لن يعود..  ولم تزل عند الغروب يسيسها نهر ديالى الحزين مواكبَ أقمارٍ ودموع؛ إلى بهرزَ الشعرِ والشعراء التي بضياء فجرها الندي تحممَ ذلك الملاكُ المؤَنسنُ يوماً.
(شاعرٌ..وإنسانٌ من طراز النبيين) كما قال عنه الشاعر ابراهيم الخياط و(قنديلاً يرسم بالمداد الأحمر ويُغني بصوتهِ الهادئ الرصين للغد الآتي) كما وصفه الراحل الكبير محيي الدين زنكنة.
لوركا العراق.. حلمُ بعقوبةَ الذي لم يكتمل.. فهل تعرف تلك اليد الغشوم جريمتها؟
كيف سرقت أيقونةً واستباحت قداحاً وطلع نخيل؟!
إنهُ بلسم الفقراء وجليسهم.. الشاعر الشهيد خليل المعاضيدي الذي ولد في بعقوبة عام 1949 حيث نشأ وترعرع.. تخرج من كلية الآداب جامعة بغداد مطلع سبعينيات القرن الماضي فعُين مدرساً للغة الانكليزية في متوسطة بعقوبة.. عمل في مجال الصحافة بجريدة طريق الشعب بعد أن تم فصله من التعليم عام 1978 بسبب توجهاته السياسية والايديولوجية التي كان لخاله محمد الدفاعي الشخصية السياسية الديالية المعروفة ستينيات وسبعينيات القرن العشرين دوراً كبيراً في بلورتها.. الدفاعي الذي كانت بستانه الساحرة الواقعة في ضاحية الهويدر عند إنعطافة نهر ديالى باتجاه مدينة بعقوبة جنة المعاضيدي وساقيته الفكرية.. إذ كانت تنعقد فيها أمسياتٌ ثقافية وفكرية بهيجة يحضرها كبار أدباء ومثقفي بعقوبة في ذلك الوقت.
لقد أُعجب المعاضيدي بأبي تمام كما شُغف بشعر عبدالوهاب البياتي وسعدي يوسف فكان أحد دواوينهما لا يكاد يفارقه أبداً في حله وترحاله.. ولإجادته اللغة الانجليزية فقد أطل على منجز كبار الشعراء الكاتبين بهذه اللغة أمثال والت وايتمان (1819 – 1892) رائد الشعر الأمريكي كما يسمى وعزرا باوند (1885 – 1972) أحد أهم شخصيات حركة الحداثة في الأدب العالمي أوائل وأواسط القرن العشرين ، كما انبهر بتجربة الشاعر الفرنسي الشهير آرثر رامبو (1854 – 1891).
أما قصائده فقد انطوت على سيرته وعكست شخصيته في أدق تفاصيلها، فلم يكن ينظر الى الحياة من نواحيها النظرية المجردة بل من نضح معاناة ومعايشة للإنسان في لهاثه لصنع الحياة مجسداً شخصية ( المثقف العضوي ) الذي عبر عنه غرامشي في دفاتره.
ليتماهى بطين العراق فينشد في قصيدته (هكذا نلبس الموت قبعة) :
يأخذنا سفح حمرين نحو التفرد والحب 
نفضي الى هكذا وطن طيب ، يصطفي العشبُ أبناءه 
مثلما تستفيق البيوت المعراة عند احتدام الصراع المبارك 
ذا وطن نرتوي نكهة الخبز منه ونجترع الموت بين أصابعه لذة
ولم يعرف المعاضيدي عن قرب سوى سعيد حسين عليوي (سعيد الشفتاوي) صديقه و (معادله الموضوعي) كما كان يدعوه حيث يقول : (سعيد وهند معادلي الموضوعي ليس في الشعر حسب بل في وجودي أيضاً).. وعندما سأله أحد الأصدقاء عن سبب حبه الطافح لسعيد، أجاب: (أتدري لِمَ أُحب سعيداً؟  سعيد يكسر رتابة هذا الواقع المخادع الكاذب.. واقع السفلة) .
وينكشفَ عنه الغطاء في قصيدته (قصة):
يسقط الكوكب المستباح 
طلقةٌ بين ضلعي والرياح 
أفنبوءةُ قديسٍ كانت أم ماذا؟!
فقد اختطفته تلك اليد الآثمة بعد خروجه من داره الذي كان يقع خلف مطعم عاشور وسط بعقوبة، هو وكوكبة من البعقوبيين (مصطفى ديو وقيس الرحبي وكامل كلاز وشاكر الخشالي).. تقول شقيقته أم عادل: 
اختطفوه وأروه حوضاً رموا فيه قطعة من اللحم فذيبت ثم هددوه بأن يُرمى كتلك القطعة.. بعد ستة أيام أُختطف مرة أخرى فلم يُعرف له طريق سوى أنهم خصصوا له راتباً تقاعدياً رفضت الوالدة رحمها الله إستلامه.
ليُعرف فيما بعد إنه قد تم إعدامه بموجب قرار محكمة قرقوش رقم 332 الصادر بتاريخ 17 نيسان 1984.
فهل تذكرُ هندٌ خالها الذي أحبها كما لم يُحب أحداً؟ 
وهل عَرف خريسان إنّ الذي عشقه حد الوجع، لا يُعرَف لهُ قبراً فهو مسجى في مكان ما تحت ثرى هذا العراق الطافحُ بالدم؟!
نم ملاك الضفاف أنى كنت.. فبعقوبة لن تنسى فتاها!

تقييم المستخدمون: 4.7 ( 1 أصوات)
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com