أبحاث

أبو رغال دليل العدو

تمهيد:

الدكتور ضرغام عبد الله الدباغ

وإن كانت خيانة أبو رغال تمد إلى نحو 1350 عاماً، إلا أنها من المؤكد لم تكن الخيانة الأولى في التاريخ، (خيانة التعاون مع العدو) وسوف لن تكون الأخيرة. فهذه الجريمة قديمة قدم الإنسان، فهناك دائماً مجرمون ممن فقدوا الشرف الوطني، ليكون هناك  دوماً أبطال تاريخيون مخلصون يفتدون أمتهم وأوطانهم  بأرواحهم.

امتدت أنظار العدو الأجنبي نحو جنوب شبه الجزيرة العربية (اليمن) لموقعها الجيوستراتيجي وخيراتها الطبيعية، وكونها أرض حضارات. وعندما حل العدو في مرحلة شهدت البلاد ضعفاً مكن الأعداء منها، ولكن لم يتمكن من قلوب وعقول أبناء البلاد، وينتابه شعور إذ يدرك أن مقامه في هذه البلاد مؤقت، وهو راحل لا محالة.

ولكن المحتل المستعمر لا يصغي لصوت الحكمة، بل يكثف من جهود هي في نهاية المطاف فاشلة، ولكنه يجازف بإعادة المحاولة، عله يكتشف وسيلة جديدة تمكنه من البقاء. ومن جملة ما يحاوله المستعمر، هو الدخول إلى قلب المعادلة  الاجتماعية / الثقافية ويحاول أن يدخل تعديلات فيها من أجل الدخول إلى قلب المعادلة السياسية، فيغيرها لصالحه، وهو يدرك أن مفتاح الشعوب هو تقاليدها الاجتماعية والثقافية (الدينية / الإيمانية / العقائدية).

هكذا يفعل المستعمرون والقوى الشبه استعمارية التي تهدف إلى التوسع،  قديماً وحديثاً. بدرجات متفاوتة من النجاح، ولكن هذه السياسة التي تذر الرماد في العيون لإخفاء وتضليل الهدف الحقيقي للمستعمر، وهو الأستيلاء على البلاد.

في هذا الإطار، والمسعى الاستعماري بوسائل القوة الثقافية، أراد الحاكم الأثيوبي تحقيق اختراق ثقافي، فبنى بيتاً في اليمن أطلق عليه أسم (القليس) ليكون بديلاً عن الكعبة، وجعل لها أبواب من الذهب، وأخشابها ثمينة مرصعة بالعاج، دقت بمسامير من ذهب وفضة، وأرضيات من مرمر وأعمدة وتيجان.(1)

  1. هدم هذا البناء في بداية النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي (753 ميلادية).

وكان هذا البناء بصرف النظر عن تسميته، إنما يمثل رمزاً استعمارياً أجنبياً يمثل القهر الوطني، لذلك لم ينظر إليه الناس إلا بوصفه رمزاً للتوسع الثقافي لمستعمر بغيض. وكانت نية الحاكم أبراهام هو صرف أنظار العرب عن الكعبة، وخلق تصور إيماني جديد يكون تحت السيطرة، والإشارات العمرانية المبهرة، البعيدة عن أفق الوعي الوطني.

الحاكم الأثيوبي (الحبشي) للإدارة الاستعمارية التوسعية  في اليمن، أبراهام (ابرهة كما أطلق عليه أهل البلاد) حاول وبذل جهود كبيرة من أجل أن يتغلغل إلى عقل أهل البلاد  وقلوبهم، وعندما خابت مساعي الحاكم أبراهام، وكانت أهدافه التوسعية تتجه إلى مكة، المركز السياسي / الثقافي (بفعل وجود الكعبة)، بالإضافة إلى مكانتها الاقتصادية / التجارية.

وفق هذه المعطيات السياسية والاقتصادية والثقافية، لا يمكننا أن نعتبر محاولة حاكم اليمن الاستعماري أبرهام كمحاولة توسع بدون إعطاؤها أبعادها المادية، وفهم الوضع السياسي والاقتصادي والثقافي لمدينة مكة، والأوضاع السياسية في اليمن التي قادت إلى التدخل الأثيوبي واحتلال جزء من أراضي اليمن. هذا لكي نتمكن من فهم التطور التاريخي اللاحق بصورة دقيقة، ومنها يتضح بشاعة تعاون الخونة مع العدو المحتل.

إن خيانة أبو رغال تتعدى في جوهرها، تواطؤ رجل من البوادي مع جيش العدو، لو لم يكن هو لكان هناك ربما غيره، نذهب إلى العمق الذي نلقي عليه الضوء … إلى بؤرة الحدث وبواعثه السياسيةـ فالتاريخ ليس عبارة عن تآمر وأعتداء، وحروب وأنتصارات وهزائم،  بل في عمقه أحداث وتراكمات تقود للحدث أو الأحداث. هكذا ينبغي أن تفهم حملة الحاكم أبراهام، وخيانة أبو رغال هي حلقة صغيرة في هذا الحدث التاريخي المهم.

مكة، النظام السياسي والاجتماعي

تقود الضرورة الموضوعية إلى أستعراض الوضع التاريخي لمدينة مكة وتأثيراتها السياسية والاقتصادية والثقافية، من هنا كانت أهميتها التي لم تنقطع عبر عشرات القرون، ولهذا السبب أيضاً حاول التوسع الأثيوبي بقيادة الحاكم الاستعماري في اليمن، الوصول إلى مكة ووضعها تحت هيمنته. ولتكن فاتحة  بحثنا هذا والسبب جوهري: إن مكة وقد وضعت حقاً الخاتمة للعصور العربية القديمة ومثلت فاتحة مرحلة للعرب والعالم، ومن جهة أخرى، أن مكة لم تشهد كياناً سياسياً مماثلاً للأنماط التي شهدتها مناطق الشمال والجنوب العربية لسببين رئيسيين: ـ

الأول ـ أملت ظروف الطقس والمناخ الصحراوي القاحل، وندرة توفر أسباب المعيشة إلا في واحات متناثرة صغيرة، قيام مجتمعات متخلفة اقتصادياً، وتوجه السكان إلى التجارة جاء في مرحلة لاحقة.

الثاني ـ أدى التخلف الاقتصادي والاجتماعي على تمسك القبائل والسكان الشديد بالتقاليد القبلية وقوانينها العرفية، وتخلف الهياكل الاجتماعية الأخرى، وبالتالي إلى تأخر نمو وتطور الفعاليات الاجتماعية.

فالتجربة السياسية التي كان يعيشها مجتمع مكة وأطرافها، كانت فريدة من نوعها، ونمطاً من أنماط التقاليد القبلية الأرستقراطية. ومن جهة أخرى كانت الأحداث والظواهر الخارجية الواضحة منها والمستترة، تشير إلى أن حركة التاريخ تمر بمرحلة تمفصل مهمة تنبأ بأن النظام الذي كان سائداً لم يعد ملائماً ومستوعباً للفعاليات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبعبارة أدق، قد غدا عثرة في طريق التطور، وإن حركة هائلة سوف تنبعث من شبه الجزيرة العربية، لتجمع وللمرة الأولى ليس أطراف الجزيرة العربية فحسب، بل وسائر الأصقاع العربية الأخرى تحت إرادة وقيادة موحدة، بالإضافة إلى الشعوب والبلدان التي ستقبل الإسلام ديناً وطريقاً للتطور السياسي والاجتماعي.

وقد مثلت صحراء نجد والحجاز التي كانت عصية على الغزاة حاجزاً من المشاق والبيئة القاسية والغموض وبحراً لا متناهي من الرمال يصعب فيه إيجاد وسائل العيش، تلك البيئة القاسية، والظروف التي لم يكن يقوى على احتمالها إلا أبناء البوادي والصحاري الذين فطروا عليها وعلى هذا النمط من الحياة القاسية، الأمر الذي كان يحمل جيوش الإمبراطوريات على التردد من خوض غمار هذه المصاعب، كما أن شبه الجزيرة أو منطقة الوسط منها بصفة خاصة، لم تكن تحتوي على الكثير مما يغري تلك الإمبراطوريات على تجشم الصعاب من أجل الاستيلاء عليها وضمها إلى ممتلكاتها.

بيد أن واحات شبه الجزيرة في مناطق الوسط، لاسيما تلك التي كانت تقع على طريق تجارة القوافل البعيدة المدى، كانت تمثل نقاط ومحيطات مهمة لذلك النشاط الذي كان بالغ الأهمية في حياة الشعوب ليس اقتصادياً وتجارياً فحسب، بل وسياسياً وثقافياً أيضاً، لذلك كانت التجارة والأنشطة المتعلقة بها تمثل هاجساً رئيسياً من هواجس الإمبراطوريات العظمى أو الدول الصغيرة على حد السواء. وبهذا المعنى، فقد تقدم (على الرغم من صعوبات البيئة) آخر ملوك بابل وهو الملك نابونيد  Nabonid بين الأعوام 550-540 ق.م إلى منطقة الواحات الغربية تيماء ووصل على يثرب التي تعد من أكبر الواحات. وكذلك نشير إلى حملة أليوس جالوس حاكم القيصر الرومي في مصر الذي وصل على مكة في طريقه على جنوب شبه الجزيرة، ومرة ثالثة في حمل أبرهام الإثيوبي الذي هاجم مكة مستخدماُ الفيلة تحت شعارات دينية فيما أطلق عليه بعام الفيل 561 م.

وقد مارست القبائل والمستوطنات في السهل الساحلي، الأعمال الزراعية، وكذلك صيد الأسماك. أما الواحات الخصبة، فقد كانت توفر أمكانية محدودة للزراعة (حسب مساحتها وكمية المياه المتوفرة)، وأهم تلك الواحات سياسياً واقتصادياً هي: مكة ويثرب والطائف. فقد عملت بنشاط متزايد في الأعمال التجارية سواء مساهمة في تجارة طريق البخور المقدس، أو في قوافل بدأت تسيرها لحسابها الخاص، وكان ذلك فاتحة لنشاط تجاري/ اقتصادي مهم سوف يطرح معطياته السياسية والاجتماعية أيضاً وعلى نحو متصاعد، لا سيما بعد أن اشتد النشاط التنافسي الروماني في الميدان التجاري وبصفة خاصة البحري في البحرين الأحمر والمتوسط خلال القرنين الثالث والرابع ق.م ، الأمر الذي أدى إلى إضعاف النشاط التجاري لدول الجنوب العربية وقوافلها التجارية، وأثر بالتالي على واحات شبه الجزيرة العربية وفعالياتها الوسيطة كمحطات، لذلك فقد بدأت يثرب والطائف ومكة بالدرجة الأولى بتسيير قوافلها على نفقتها وممارسة نشاطها في تجارة القوافل.

وقد غدت التجارة النشاط الأهم في مكة حتى قيل بان 90% من سكان مكة كانوا يعملون بالتجارة بما في ذلك السيدات. وقد برع المكيون فيها وأصبحوا أثرياء، ودليل ذلك أن القافلة التي هاجمها المسلمون في بوات كانت تضم 25 ألف بعير، وكان تأمين القوافل التجارية يحتاج على دبلوماسية ماهرة مع رؤساء القبائل الذين تمر القوافل في مناطقهم، وكانت هناك أشكال متعددة استثمار راس المال في التجارة، من خلال توظيفه لدى التجار واقتسام الأرباح بنسب معينة، كما عمل المكيون في الصيرفة والعملات كانت ساسانية فضية وبيزنطية ذهبية، كما كان هناك الإقراض لقاء الفائدة(الربا).(11)

وكانت قبيلة قريش تخرج مرتين في التجارة على الشام(بصفة رئيسية). في الشتاء وتسمى خرجة الشتاء وفي الصيف وتسمى خرجة الصيف، وكانت مكة تشتري تجارة اليمن، أي أنها لا تقوم بدور الوسيط التجاري، ثم تتولى إعادة تصديرها وبيعها وتسويقها بنفسها إلى الشمال (بلاد الرافدين والشام ومصر) وكان عرب الحيرة في العراق يتولون تسويقها إلى الساسانيين.(12)

وتدل هذه المعطيات، أن فئة مؤلفة من زعامات قبلية قد تحولت إلى التجارة معلنة عن قيام أرستقراطية تجارية لم تكتفي بأن تلعب الواحات دور محطات تجارية، التي يقتصر دورها على تقديم الخدمات للعملية التجارية، وأكثر من دور الوسيط التجاري، إلى دور التاجر الذي يشتري البضاعة ويتحمل مخاطر الربح والخسارة في عملية اقتصادية/تجارية يطلق عليها في الاقتصاد المعاصر “إعادة تصدير ” وهو يعبر بلا شك عن تطور مهم.

أما وسط شبه الجزيرة ومكة، فقد كانت الحركة التجارية فيها نشطة وحيوية، بدليل كثرة الأسواق وتنوع العملات والمكاييل الأمر الذي يدل على ازدهار السوق الداخلية، ومن تلك الأسواق: ـ

* سوق مجنة: سوق بأسفل مكة على مسافة بريد منها.

* سوق عكاظ: قرب مكة.  

* سوق حباشة: من أسواق العرب.

وكان تجار مكة يستخدمون تعابير مالية وتجارية تدل على تطورهم في هذا المجال كالحساب والميزان والقسطاس والمثقال والفروض، وكانت أهمية أسواق مكة التجارية تزداد وتصبح أكبر من أهميتها الدينية في موسم الحج والأشهر الحرام.(13)

ومع توسع التجارة، بدأت الفروق تظهر في صفوف قبيلة قريش، وإن أتساع دائرة النشاط بدأت تتطلب وسائط للمواصلات وأموال كثيرة(رأس مال كبير) ودبلوماسية ذكية وباهضة التكاليف. وفي غضون ذلك، أصبحت نجد جزء من سوق مكة، ثم أندفع التجار المكيون إلى التوسع لاحتكار تجارة البلدان العربية والجنوبية. ثم بدء تجار عرب جنوبيون بالقدوم على مكة من أجل طرح بضائعهم في السواق المكية لتنقل على أيدي المكيين إلى الشمال بما في ذلك إلى المناطق البيزنطية، وابتدأت مكة وقياداتها تحاول أن تلائم سياستها الخارجية(الإبقاء على علاقات ودية مع الأطراف) وسياستها الداخلية، إشاعة السلم بين القبائل، وترسيخ تقاليد جديدة في إطار من حرية العمل التجاري وترسيخ ذلك عبر اتفاقات منها حلف الفضول وحلف المطيبين من أحل تعزيز وتثبيت مكانتها وأنشطتها الاقتصادية والتجارية المختلفة، وما يتطلبه ذلك من استقرار، يساهم في توطيد سلطتها السياسية أيضاَ.

وكان التجار المكيون يمارسون فعالياتهم مع البلدان الواقعة على حافة شبه الجزيرة، وكانت القوافل تأتي من الجنوب العربي وهي محملة بالتجارة الجنوبية التقليدية، البخور والمر، والعبيد والذهب من إثيوبيا وشرق أفريقيا، في حين كان التجار المكيون يستوردون من الشمال، الأقمشة الثمينة والأسلحة، ومن مصر الحبوب، وكان يعزز كل ذلك النشاط السياسي/الاقتصادي مكانة مكة المقدسة دينياً عند العرب.(14)

وفيما عدا هذه الفعاليات، فإن القبائل البدوية التي كانت تجوب براري شبه الجزيرة العربية، كانوا يعتمدون في معيشتهم على المواشي ومنتجاتها، ولكن أيضاً على الأغارات التي كانوا يقومون بها على القوافل المارة ويأخذون منها ضريبة المرور، أو مهاجمة المدن على حافة البوادي والصحاري. وقد لعبت تلك الاغارات دوراً مهماً في الحياة السياسية والعسكرية. فهي من جهة كانت تنشط فعاليات الأحلاف بين القبائل حيث تتحالف القبائل الصغيرة مع القبائل الكبيرة القوية لحماية نفسها، أو تفض تلك التحالفات إلى حالة العداء، كما أنها من جهة أخرى تنمي وتطور أساليب الأعمال الحربية والشجاعة والإقدام عند عناصر البدو، وتزيد من أهمية القبائل السياسية والعسكرية.(15)

وقد استقرت قيادات القبائل البدوية في مدن الواحات المهمة مثل مكة والطائف ويثرب. وكانت يثرب بمياهها توفر إمكانية زراعة النخيل والفواكه والحبوب. وكانت تضم قبائل مختلفة مثل الأوس والخزرج اللتان كانتا قد نزحتا من الجنوب وحلتا في هذه الواحة، وباشروا استثمار الأرض فيها مما وفر إمكانية اقتصادية ممتازة لهذه المدينة ـ الواحة رغم أن الصراعات القبلية كانت قد شهدت أحداثاً دموية مثل معركة بوات عام  612التي وضعت الخاتمة لهذه النزاعات، إذ حققت التوازن بين القبائل. وكان سكان يثرب من أصول مختلفة، ويقطنها يهود كانوا قد هاجروا إليها من فلسطين، ومنهم من كان بالأصل من عرب شبه الجزيرة العربية، أنتمي على اليهودية كديانة، ومن تلك الجماعات اليهودية، بنو قينقاع، وقريضة، والنظير، وهؤلاء لم يكونوا يمتلكون مجلس قبيلة أو نظام سلطة قبيلة.(16)

أما الطائف، فهي مدينة جبلية، كانت تقطنها قبائل ثقيف، وربما قبائل وبطون أخرى صغيرة، وكان سكانها يعملون بجد في الزراعة، وكان للمدينة سور(جدار) خارجي منيع يحميها من الهجمات القبلية، ومع أن سكان الطائف كانوا يعملون في الزراعة، وكان للمدينة سور خارجي منيع يحميها من الهجمات القبلية، ومع أن سكان الطائف كانوا يعملون في الزراعة، إلا أن تيار النشاط التجاري أجتذبهم فساهمت فئات تجارية من هذه المدينة في الفعاليات التجارية.

وعلى العكس من يثرب والطائف اللتين كانت المياه الغزيرة فيهما توفر فرصة جيدة لقيام الزراعة، كانت مكة تقع في منطقة (وادي) قاحلة وهي على مسافة يوم واحد من طريق البخور المقدس (الذي يمتد من عدن في جنوب شبه الجزيرة، وصولاً إلى غزة بفلسطين شمالاً، تقطعها القافلة في 70 يوماًذ)، وكانت مكة تعيش على مياه توفرها الآبار. ومياه بعضها كان غير صالح تماماً للشرب(عكر، أو مالح)، لذلك لم تنشأ فيها أي نوع من الزراعة، بل اشتدت فيها نوازع التجارة حتى أخذت تعتمد على نفسها في أخراج القوافل إلى بلاد الشام. وفي توفير مستلزماتها الضرورية وهي: راس مال(مال سائل، أو بضائع) وعدد كبير جداً من حيوانات الحمل لا سيما الجمال، والإدلاء في الطرق الصحراوية، الخبراء في التجارة والمقايضة.

وإذا كان للتجارة مكانة عظيمة في حياة مكة الاقتصادية، فإنها غدت مؤثرة بدرجة كبيرة على الحياة السياسية والاجتماعية برمتها، وقد تولت قريش التي كانت القبيلة ذات النفوذ الأوسع في مكة، تولت قيادة النشاط التجاري حتى بسطت سيطرتها على المدينة بكاملها، أي أنها هيمنت على الفعاليات السياسية والاجتماعية والدينية، وبذلك تمت سيطرتها التامة على مكة التي كان لها ثقلها الروحي قبل مكانتها الاقتصادية / التجارية.

وتضم مكة (الكعبة) التي كانت مقدسة عند العرب، وهي قديمة البناء منذ عهد إبراهيم، وكان العرب يقدمون إليها الأموال والهدايا والهبات، كما أنهم كانوا يبرمون اتفاقاتهم وأحلافهم في جوارها ويحجون إليها ثم صيغت مجموعة من الأعراف جعلت لهذه المدينة مكانة خاصة عند العرب.

ولم تتوقف الصراعات من أجل تحقيق النفوذ والسيادة على مكة والكعبة، للأهمية السياسية والاقتصادية، حتى آلت أخيراً إلى بني عبد مناف(قريش)، ثم دار قتال بين قريش (قصي وحلفاؤه من كنانة وقضاعة ضد حوفة) ثم تحالفات قبائل أخرى ضد قريش(خزاعة وبنو بكر)، تسيد بنتيجتها قصي الكعبة ومكة. وحسب نتيجة التحكيم، كانت تؤول له كل ما للكعبة من خدمات ومزايا مالية وقيادية، وكذلك الحجابة والرفادة والسقاية والندوة واللواء.(17)

وكانت سدانة الكعبة تعني الحكم والنفوذ السياسي تجمع أمور الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء. وبذلك يحوز من يمتلكها شرف مكة، فلما تحقق ذلك لقصي بن كلاب القريشي(الجد الخامس للرسول محمد ص) قسم مكة بين قومه، وقطع الأشجار الطويلة المحيطة بالكعبة وبني لنفسه ولأفراد أسرته مسكناً وبيتاً. وكانت قريش تتشاور في أمورها فيه، وتعقد فيه أحكام الزواج، ولا يعقد لواء الحرب إلا فيه(القرار السياسي للحرب) فتزعم قصي قريشاً في حياته واستمرت بعد وفاته لأولاده.

وكانت الفعاليات الرئيسية التي يختص بها سدنة الكعبة(السدانة هي القيام بأمر الكعبة) وهي:

ـ الحجابة: وهو من تكون بيده مفاتيح الكعبة ولا يدخله احد إلا بأذنه.

ـ السقاية: ويعني سقاية بئر زمزم (وهو دليل على ندرة المياه) وكانوا يصنعون منه شراباً لموسم الحج ويمزجونه تارة بالعسل وتارة بالنبيذ(كسر حدة الملوحة). وكانت سقاية مدينة تدمر تدر 300 درهم سنوياً، فلابد أنها تدر في مكة أكثر من ذلك.(18)

ـ الرفادة: وكانت الرفادة خرجاً تخرجه قريش كل موسم من أموالها إلى قصي بن كلاب، فيصنع منه طعاماً للحجاج فيأكله من لم يكن له طعام أو مال، وذلك فرضه قصي على قريش فرضاً.

ـ اللواء: وهو حامل الراية في الحرب.

ـ الأعنة: وهو منصب قائد فرسان قريش.(19)

وباستلام قريش المركز القيادي الأول على الصعيد الاقتصادي في مكة، وكذلك على صعيد استلام سدانة الكعبة، الأمر الذي حقق لقريش أيضاً القيادة السياسية لمجتمع مكة، ضمن تقاليد وأعراف لها قوة القانون Customary، كانت قريش تمارس القيادة السياسية وفق أعراف وأساليب وأنماط لا تبتعد كثيراً عن التقاليد القبلية البدوية.

وقد مثلت دار الندوة أشبه ما يكون بدار الحكومة والبرلمان في الوقت نفسه (يقابل ذلك في القبائل مضيف رئيس القبيلة) وقد أسس دار الندوة بمكة قصي بن كلاب لأكبر أولاده عبد الدار.؟ وكان قصي حاكماً لمكة ومهاب الجانب، وبع وفاة قصي(وهو الجد الخامس للرسول محمد(ص)، أختلف ورثته في إدارة مكة والكعبة، وكادوا أن يقتتلوا فيما بينهم، ونشأ بما يسمى حلف المطيبين الذي قبل أطرافه بنتيجة التحكيم، فتقاسموا سدانة الكعبة، واستمرت دار الندوة مقراً لإصدار القرارات في يد المشركين حتى بعد الدعوة الإسلامية.(20)

ومع أن العناصر القبلية البدوية مشهورة بقوة الشكيمة، وبميلهم الفطري عادة لعدم الانصياع والخضوع في الأوقات العادية، إلا أنهم كانوا عند الشدائد لا يعارضون قيادة من يتصدى للقيادة ومن يظهر القوة والحزم والأهلية من زعماء القبائل، لذلك فقد كان دار الندوة هو أشبه بمجلس الشيوخ يدخله الكبار من أبناء القبائل 3/1 أفراد من كل قبيلة ممن تجاوزت أعمارهم 30 عاماً(غالباً وليس إطلاقاً) وإلى جانب دار الندوة، كان هناك لكل قبيلة مجلس خاص بها، وكانت قرارات دار الندوة تتخذ بالإجماع وبمقدور الأكثرية أن تقاطع المعارضين لقرارات دار الندوة واستخدام الضغوط الاجتماعية.(21)

وفي تحليل هذه المعطيات، نستدل على أن النظام في مكة كان اقرب إلى كونه مركزياً ويتجاوز في إطاره القانوني وفي تعامله ما هو بين القبائل البدوية (الرحل)، ولكنه لم يبلغ مستوى إقامة الدولة من حيث توفر الشروط، كحدود الدولة أو السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، كما لم يكن هناك جيش أو قوات أمن، ولكن قيادة مكة السياسية تداركت ذلك كله في تامين تجارتها على وجه الخصوص باعتبار أن أهل مكة، جلهم، أو معظمهم، كانوا من العاملين في القطاع التجاري، وقد تحالفوا مع القبائل المحيطة بمكة لفرض تأمين قوافلهم التجارية ولدرء الأخطار العسكرية عنها أيضاً. ولا بد أن ذلك كان لقاء مزايا اقتصادية(مالية).

وفي حالة حدوث ما يستحق الاستعداد له عسكرياً، كانت القبائل تدفع بأبنائها للقتال دفاعاً عن ممتلكاتهم، ويتولى قيادة الناس هادة من هو صاحب دراية وخبرة في شؤون القتال، وهو غير منصب حامل اللواء وتسمى (القيادة) وكانت بيد بني أمية، فقد قاد حرب بن أمية قريش في واقعة الفجار وكذلك واقعة ذات النكيف.(22)

وكانت المشكلات القانونية، تحل بموجب الأعراف القبلية كما يجري الأمر في المجتمعات القبلية البدوية ، إلا أن تطوراً قد أدخلته إدارة مكة على ذلك، إذ لم يكن هناك قاضٍ أو حاكم مركزي في مكة، بل كان هناك رؤساء القبائل هم الذين يحكمون بين أفراد قبائلهم عادة. أما إذا حدث خلاف بين القبائل، فيلجأؤن إلى الكاهن أو إلى رجل حكيم، وعملية تقدير قيمة الخسائر يقوم بها رجل مختص يدعى (الأشناق) وهو رجل معين في هذه الوظيفة من قبل قريش.(23) 

وإذن، فقد كان لمكة كهنتها، وكان لهم دورهم السياسي والاجتماعي، ومن المؤكد أن جزءاً مهماً من مكانة مكة كان بسبب وجود الكعبة، واستطراداً، فإن لذلك أهميته السياسي/ الاجتماعية، أما مزايا مكة الدينية، فكانت: ـ

* الكعبة.  

* الحج.

* الأشهر الحرام (ذي القعدة ـ دو الحجة ـ محرم ـ صفر). 

ـ الكعبة: ـ

وكانت الكعبة قد شيدت ثلاث مرات: الأولى في عهد شيت بن آدم، والثانية حين بناها النبي إبراهيم، والثالثة حين احترقت في عهد عبد الله بن الزبير، ولكن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان لم يعجبه البناء، فأمر بهدمها وأعادها إلى الصورة التي كانت عليه في عهد الرسول.(24)

وكانت الكعبة تضم الأصنام (وهي أشكال من الحجارة ليس لها هيئة محددة)، وليس من الضرورة أن تكون الأصنام داخل الكعبة حصراً. وقد ورد أسماء العديد من الأصنام بلغ عدد المهم منها 47 صنماً، كما كان هناك في الكعبة وخارجها الأوثان التي تكون من الخشب أو الذهب على هيئة إنسان.(25)

وهذه الأصنام الكثير العدد، كانت تمثل تعدد القوى الغيبية  Polytheism والتي تمثل عدداً من الأرواح الخبيثة والحسنة، التي من وجهة نظرهم قد أرسلتها الطبيعة. وكان أهم إله من بين تلك الآلهة هو اللآت، وكان يلعب دوراً كبيراً، وهذه القدسية لمكة كانت سبباً في أن يزورها العرب سنوياً ضمن طقوس معينة.(26)

وكان الناس يدفعون حصصاً معينة من أموالهم وممتلكاتهم للآلة، يستحوذ عليها المتنفذون والمهيمنون على المراكز القيادية والكهنة، وكان قصي قد فرض فريضة الرفادة على أهل مكة لتصرف على خدمات الكعبة، كما كانت الهدايا والهبات تقدم إلى هذه الأصنام والأوثان والرموز، والهدايا كانت إما نقودا أو حلى ذهبية أو معادن ثمينة أو محاصيل زراعية ومواشي، ولكن الإسلام حرم فيما بعد هذه الأمور.(27)

ـ  الحج : ـ

وكان مغزاه يتعدى الجانب الديني إلى مزاياه وأهدافه السياسية والاقتصادية/ التجارية. وفي الأصل فإن للحج علاقة بالمواسم والحياة الاقتصادية، ونلاحظ ذلك بوضوح في الآية الكريمة:

بسم الله الرحمن الرحيم :” وأذن في الناس بالحج يأتونك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق. ليشهدوا منتفع لهم. وليذكروا اسم الله في أيام معلومت على مارزقهم من بهيمة الأنعم فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير. ثم ليقضوا تفثهم وليفوا نذروهم وليطوفوا بالبيت العتيق “.

وكانت مواسم الحج الأكبر والصغر والحقيقي، تقام في الفصول التي تنشط فيها الحياة التجارية، وكانت فترات الحج تستغرق ومناً طويلاً منها إقامة عشرين يوماً في سوق عكاظ يعملون فيها للبيع والشراء، ولكن الإسلام حدد الكثير من مناسك الحج وقلص منها(29)

ـ الشهر الحرام : ـ

وهي الأشهر : ذي القعدة ـ ذي الحجة ـ محرم ـ صفر، وهي اشهر حرمت القوانين العرفية فيها المنازعات والقتال، وللأمر مغزاه الاقتصادي/ التجاري بالإضافة على مغزاه السياسي.

وهي أيضاً عبارة عن هدنة بين الأطراف المتنازعة، لكي تلتقي بحرية وتتعامل تجارياً بدون أي خوف من خرق حرمة الشهر الحرام. وكانت لهذه القضايا منزلة معنوية كبيرة، وقوة قانونية/ أخلاقية كبيرة بين العرب، لا تجرأ أي جهة على اختراقها، كما حرم القتال أو الشجار في الكعبة أو أطرافها، في كافة الأشهر، ولذلك أيضاً مغزاه العميق، فقد كانت هذه المدينة أشبه بالسوق الحرة المفتوحة للتعامل الاقتصادي/ التجاري بصرف النظر عن المواقف والمنازعات السياسية.

ويلاحظ أن الحياة السياسية في مكة وإن لم تبلغ مستوى دولة، إلا أنها كانت منظمة، وهناك بعض الفعاليات تثير الدهشة لدقتها ولنضجها السياسي.

وفي الواقع، فقد أدى التدخل المتزايد للتجارة في حياة السكان، بل وصيرورتها نشاطاً رئيسياً من أنشطة المجتمع، أدى ذلك إلى تطورات على صعيد تبلور المواقف الاجتماعية، وبالتالي لأن تفرز تلك الفئات وجهات نظرها المعبرة عن مصالحها الاقتصادية/ الاجتماعية، ومن ثم يكون لها مواقفها السياسية.

وقد ذكرنا أن دار الندوة كانت بمثابة قصر الحكومة أو البرلمان الذي تتخذ فيه القرارات السياسية، وقد مارس المكيون وقريش بالذات بوصفها قيادة القبائل المتربعة على زعامة مكة، فعاليات سياسية/دبلوماسية وعسكرية عديدة، ومن ابرز تلك: ـ

حلف الفضول: ولحلف الفضول أبعاده السياسية والاقتصادية، وكذلك في قيادة الحكم والمجتمع. وأقيم هذا الحلف عام 590 م وقد دعا الزبير بن عبد المطلب (عم الرسول محمد (ص)، أي الفرع الهاشمي من قريش، فأجتمع زعماء قريش والقبائل الأخرى في دار أحد الزعماء فتعاهدوا أن لا يجدوا مظلوماً بمكة بين أهلها أو من غيرهم، إلا وكانوا معه حتى ترد إليه مظلمته. وقد شهد الرسول هذا الحلف مع أعمامه قبل الرسالة.(30)

وعلى الصعيد السياسي فإن نصرة المظلوم كان يعني الانتصار للحق، والحق ينطوي في معانيه ومغزاه على عدم الاعتداء، وحق الناس في أمولهم وفي الأمان ” أن ترد الفضول إلى أهلها، وأن لا يغزو ظالماً مظلوماً ” .(31)

حلف المطيبين: أما حلف المطيبين فقد أقيم في ظروف مختلفة عن تلك التي أقيم بموجبها حلف الفضول. وإذ أقيم حلف المطيبين بعد وفاة قصي بن كلاب الذي كان قد أستحوذ على سدانة الكعبة جميعها كما مر ذكر ذلك، ثم أن الورثة اختلفوا في اقتسام مزايا سدانة الكعبة، وكان أبناء عبد مناف بن قصي قد أصروا على أن يستحوذ على كافة المزايا التي كانت بيد عبد الدار بن قصي، فانقسمت قريش بين مؤيد لأولاد عبد مناف بن قصي وأبناء عبد الدار بن فصي، وتكتل مع كل طرف معسكر يؤيده بما يطالب به، فتعاهدوا على الوفاء بالتزاماتهم، فأقسم معسكر بن عبد مناف بوضع أيديهم في إناء من طيب، فسمي حلف المطيبين، أما معسكر عبد الدار، فأقسموا أن لا يخذل بعضهم بعضا وسموا بالأحلاف. وبينما كان كل معسكر يستعد للصراع والنزاع، تصدى الحكماء والشيوخ إلى فض النزاع بالأساليب السياسية السلمية، فاتفقوا على أن تكون السقاية والرفادة لبني عبد مناف، وان تكون الحجابة اللواء والندوة لبني عبد الدار، وتم الاتفاق على ذلك.(32)

كما أن المجتمع المكي أقام الأحلاف السياسية، فإن المنازعات كانت غالباً ما تنفجر بشكل حروب، ولا يعنينا هنا سير أحداث الحربية بقدر ما نشير إلى أن التحالفات كانت تؤدي ما عليها من التزامات ونتائج، ومن تلك الحروب واشهرها حرب الفجار.

وقد جرت حرب الفجار حوالي عام 591 م بين بطن من قبائل قريش وبين قبائل أخرى، وقد استغرق القتال لمدة عامين بينهما هدنة طويلة. وسميت بحرب الفجار بسبب ما استحلت فيه من حرمات مكة. ثم دعا حكماء القبائل إلى إيقاف القتال تجنباً للخسائر و القبول بالتحكيم. وكان قرار المحكمين هو: إحصاء عدد قتلى الجانبين، فمن وجد قتلاه أكثر، أخذ دية قتلاه من الطرف الآخر. وكانت للقبائل قيس زيادة في قتلاها تعهدت قريش بدفع ديتها. ودفعها حرب بن أمية عن قريش لقيس.(33) 

وهناك في التاريخ السياسي / العسكري لشبه الجزيرة عدد كبير من الحروب بعضها أستغرق أعوام طويلة، ولا نبحث هنا في الأسباب المباشرة لنشوء تلك الحروب، فقد تكون الأسباب المباشرة تافهة لا تستحق تلك المعارك، ولكن مبرراً لإشعال نار الحرب التي تمثل تناقضاً بين أرادتين. وقد كانت الصراعات والنزاعات تدور بسبب هيمنة العقلية القبلية الجنتيلية/ الأرستقراطية بين القبائل البدوية والسعي نحو الهيمنة ونيل المكاسب السياسية والاقتصادية والتجارية. ومن تلك الحروب : حرب داحس والغبراء، وجرب الفجار، وحرب بوات، وحرب البسوس.

وفي عداد ما ينجم عن هذه الحروب، كانت العقوبات والغرامات ومنها الدية بدفع أموال ومواشي وتبادل المصاهرات، أو بدفع كميات من الحبوب والأموال، أو النفي وإجلاء القبائل، أو بطون منها إلى مناطق بعيدة، ربما إلى مناطق تقع خارج شبه الجزيرة العربية.

وبرغم أن مكة لم تكن تمتلك السلطة لإدارة أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية تدور في أرجاء بعيدة عن مكة مثل يثرب والطائف، والواحات الأخرى : دومة الجندل، تيماء، خيبر ، لكن ثقل مكة السياسي الاقتصادي والديني، كان مهماً بين القبائل، وتحديداً، كانت قريش بوصفها أكثر القبائل ثراء وقوة لها مكانة وهيبة بين القبائل الأخرى. وكانت سيطرة قريش، أو هذا النظام الإداري على مكة حاسمة، لكن دون وجود رابط يشد هذه التجمعات السكانية إلى نظام محدد. واستمر الحال كذلك حتى جاء الإسلام الذي مثل تحولاً حاسماً ليس في شبه الجزيرة فحسب، بل وفي كافة بلاد العرب، والأمم التى ارتضت الإسلام ديناً ونظاما.

عموماً كانت منطقة وسط شبه الجزيرة العربية وبسبب وجود عازل يفصلها عن شمالها وجنوبها والمتمثل بالصحراء القاحلة التي كانت تضفي طابع المغامرة والمخاطرة على كل من يفكر في مد نفوذه إلى تلك الأرجاء، بالإضافة إلى كونها منطقة قاحلة تفتقر إلى مقومات تجعل منها هدفاً لأطماع الفاتحين. على أن المنطقة تعرضت رغم ذلك في ظروف تاريخية متباعدة إلى ثلاث محاولات للغزو، فشلت بسبب صعوبة الطقس والمناخ والمواصلات وإمكانات العيش في ظروفها القاسية.

كانت ثلاث مراكز(مكة ـ يثرب ـ الطائف)، قد تحولت إلى أكثر من مجرد مدن واحات على طريق تجارة القوافل البعيدة المدى(طريق البخور المقدس بصفة خاصة)، إلى مراكز تجارية، وقد جرت فيها تحولات ثقافية واجتماعية، تحولت فيها بعض القبائل إلى الاستيطان في الواحات التي تحولت إلى مدن تمارس التجارة على نطاق يفوق دور الوسيط أو تقديم الخدمات، إلى ممارسة التجارة بواسطة رأسمال محلي ينمو تدريجياً، وفي هذا المجال برز دور مكة بصفة خاصة بقيادة قبيلة قريش التي تمكنت من فرض هيمنة وسيطرة ونفوذ بوصفها الأكبر عدداً وثراء من بين القبائل الأخرى، ومن خلال ذلك ممارسة نمط من الإدارة المركزية واعتماد قوانين عرفيةCustomary (متعارف عليها وليست مكتوبة) في نظام قائم على أساس هيمنة القبيلة، الأسرة الأكثر قوة يكون فيها ولاء الأفراد على أساس الانتماء القبلي / الأسري.

أما ألأوضاع في اليمن فقد سمح تدهور الأوضاع والصراعات الداخلية بين الكيانات اليمنية إلى تدخل الأجنبي المحتل، وفيما يلي عرضاً مختصراً لتطورات الأحداث.

* مملكة حمير :

عندما تلاشى الاهتمام بالتجارة البرية البعيدة المدى، مقابل تزايد أهمية التجارة البحرية بسبب اكتشاف طبيعة الرياح الموسمية في الملاحة البحرية، فازدادت أهمية المدن الساحلية، لذلك برز نفوذ الدولة الحميرية وقابل تلاشي نفوذ ومكانة دولة سبأ التي اضمحلت واختفت. وأستطاع الحميريون، وذلك طبيعي بفعل تنامي وعيهم الاقتصادي من توسيع دولتهم وعلاقاتهم مع جيرانهم العرب وغير العرب(الأحباش) بل واستولوا حتى على الحبشة، ولكن الأحباش تمكنوا فيما بعد من الاستيلاء على اليمن عام 340/. ولم يقبل أهل اليمن احتلال الأحباش المسيحيين لبلادهم، فاستعانوا بالفرس الذين كانوا أعداء تقليديين للبيزنطيين المسيحيين، فأحتل الفرس اليمن حتى دخول الإسلام.(34)

وكمؤشر على اتساع النشاط اليمني، اتفقت المصادر الصينية والفارسية والرومانية على وجود علاقة بين العرب والصين قبل الإسلام ببضعة قرون بشكل مباشر أيام الحميريين في عدن وفي بلاد المهرة وبعض بقاع عمان. ويقول اغاثار شيدس Agatharchides 183م : ” لم يكن هناك على الأرض أغنى من الجراجمة والسبأيين بسبب تفوقهم التجاري وسيطرتهم على جميع التجارة التي تنتقل بين آسيا وأوربا” .(35)

وكانت دول الجنوب العربي، ومنذ بداية تسجيل التاريخ الميلادي قد ظهرت بتوجهات جديدة في تاريخهم، وكأنهم قد استفادوا من جميع هذه التجارب وبدت تصرفاتهم أكثر نضجاً إذ فقدت الارتباطات والمؤسسات القديمة أهميتها واختفى مجلس وجهاء القبائل مقابل بروز شخصية الملك. ولكن مع اشتداد التنافس بين ثلاث قوى رئيسية: دولة سبأـ دولة حمير ـ قتبان، وفي حوالي عام 300 ق.م ضم الحميريون كامل جنوب شبه الجزيرة إلى سيادتهم، بل أنهم بسطوا سيطرتهم إلى منتصف شبه الجزيرة وجعلت منطقة الخليج تحت نفوذها وطردت الفرس منها، وظلت المنطقة على هذا النحو من التطور السياسي حتى القرن الخامس الميلادي، حيث احتل الإثيوبيون الجنوب العربي ومن بعدهم الفرس.(36)

وكانت الأطماع الإثيوبية قد بلغت ذروتها في عهد الإمبراطور أكسوم، ولكن مع بقاء مساعي الأسر الأرستقراطية العربية في تامين مصالحها السياسية والاقتصادية، وقد أدت سيطرة الإثيوبيين على سواحل البحر الأحمر إلى دخولهم كقوة منافسة في الشؤون السياسية باعتبار سيطرتهم على أجزاء مهمة من طرق التجارة البرية وسيطرتهم شبه التامة على مياه البحر الأحمر. ومع أن البيزنطيين كانوا يظهرون الود والتأييد للإثيوبيين باعتبارهم مسيحيين مثلهم، إلا أنهم كانوا يستخدمون ذلك لتغطية أطماعهم السياسية والتجارية.

وقد انتشرت المسيحية في عهد الحمير يين، واستفاد من ذلك الأحباش الذين احتلوا اليمن عام 340 م ولكن اليمنيين أخرجوهم عام 398 م، ولكن الملك الذي أنهى حكم الأحباش أضطهد المسيحيين، الأمر الذي أثار البيزنطيين، فأوعزوا إلى الأحباش احتلال اليمن ونجحوا في ذلك، وأنتحر الملك ذو النؤاس الذي كان قد اعتنق اليهودية، ولكن اليمنيين استنجدوا بالفرس كما مر ذكر ذلك، وهم أعداء البيزنطيين، فساعدوهم على أخراج الأحباش فتحررت اليمن ولكن الفرس أبو مغادرتها. (37)

كان الملك الحبشي أبرهام (ابرهة في التاريخ العربي) بذل مساعي كبيرة في السيطرة على المنطقة، ومن جملة مساعيه قيادته لحملة عام 547 م للسيطرة على منطقة وسط شبه الجزيرة العربية ولكنها باءت بالفشل، ومن جانب آخر لم تهدأ الثورات الداخلية في الجنوب العربي، والصراعات تدور تحت شعارات مختلفة، تارة تحت مكافحة القوى الأجنبية، وتارة تتخذ واجهات دينية. وكان الجنوب مرتعاً للتيارات المسيحية واليهودية إلى جانب دين العرب(الوثنية)، أو أنها كانت تدور حول المصالح الاقتصادية/ التجارية والهيمنة السياسية.(38)

وإذا كان لنا بكلمة أخيرة نختم بها هذه الفقرة عن الدول العربية في شمال وجنوب شبه الجزيرة، فإننا لا بد أن نذكر أن تجربة الشمال (دولة الأنباط، تدمر، الحضر، بصرى) كانت أكثر ثراء من تجربة الجنوب لسبب رئيسي: تطور الفعاليات الاقتصادية والاجتماعية، بل أن دول الشمال كانت وريثة إمبراطوريات وطنية كبيرة : السومريين والبابليين والأكديين والآشوريين والفينيقيين، بالإضافة إلى تجارب وادي النيل، فيما لم يمر الجنوب العربي بتجارب مماثلة. 

الخائن المتعاون مع العدو الأثيوبي أبو رغال

لا تتوفر بين أيدينا معطيات تشير إلى أن فعلة ابو رغال كان لها جذرها السياسي والاقتصادي. وأن أبراهام الحاكم الأثيوبي في اليمن في إطار مساعيه للأندماج بأهل اليمن، وتوطيد أركان التوسع الأثيوبي، باتجاه شمال شبه الجزيرة، قلبها السياسي والاقتصادي والثقافي. عمد أبراهام إلى تشييد بيتاً أسماه (القليس) وأراد أن يحول حج العرب من مكة (الذي له مغزاه السياسي والاقتصادي والثقافي، والاعتقادي)، الزاخرة بالمعاني وتجذر المصالح، إلى هذا البيت الذي عمره وبالغ في فخامته فجعل في بناءه المرمر والثمين من الأخشاب المرصعة بمسامير من الذهب والفضة، وأبواب ذهبية، وجعل لها منابر من العاج والأبنوس. وكتب أبراهام إلى النجاشي ملك الحبشة، ينبؤه فيها أنه ” شيد بصنعاء ما لا يوجد له مثيل في الأرض، وسوف يواصل سعيه حتى يجعل العرب يحجون إليه بدلاً عن مكة.

وبعد افتتاحه أهان أعرابي بيت أبراهام هذا (بأن تغوط فيه) فأقسم أبرهام أن يهدم الكعبة التي لا يقبل العرب سواها بديلاً، فكون جيشاً لجباً وراح يتقدم صوب مكة  ومعه في عداد جيشه فيلا ليرهب العرب. ويقال أكثر من فيل واحد، ولكن أبراهم لم يتمكن أن يجد طريقه في الصحراء، ولكنه وجنوده لا يعرفون الطريق إلى مكة فهم أحباش وهنا برزت الحاجة لدليل. وحاول أبراهام أن يجد من يساعده، وبعد أن فتش فلم يجد إلا في أبي رغال من قبل هذه المهمة، فأتخذه دليلاً يتقدم به صوب مكة. وأي كانت أهداف وأسباب هذا الأعرابي (أبو رغال)، إلا أن عمله هذه يمثل تعاوناً مع العدو، وخيانة عظمى لبلاده وشعبه، ويشار إليه في كتب التاريخ العربي باحتقار وازدراء لأنه لم يعرف عن العرب في ذلك الحين من يخون قوم، ذهبت مثلاً حتى يومنا هذا ويرجم قبره بالحجارة. ويطلق العرب لقب أبو رغال على كل من خان قومه وتعاون مع العدو..

تقدم أبرهة خلف دليله نحو بيت الله  الذي يرضى أن يساعده بهذا العمل من بين عرب اليمن سوى أبو رغال، ولم يكن لأهل مكة وزعيمهم عبد المطلب بن هاشم قبل لهم بصد الجيش واستولى الأثيوبيون على إبل لزعيم مكة عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف الذي أمر بإخلاء مكة من سكانها وصعدوا لجبالها تاركين البيت لربه يحميه

فمضى عبد المطلب إلى الحاكم الأثيوبي يريد استرجاع أبله، وكان عبد المطلب عظيم مكة وأكثر الناس وسامة وترتيباً، وأعظمهم، ، فلما رآه أبرهام احترمه وقدره، فنزل أبرهة عن سريره، فجلس على بساطه، وأجلسه معه عليه إلى جانبه، ثم قال لترجمانه: قل له حاجتك؟ فقال له ذلك الترجمان

فقال: حاجتي أن يرد على الملك مائتي بعير أصابها لي، فلما قال له ذلك، قال أبرهة لترجمانه: قل له لقد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك، قد جئت لأهدمه لا تكلمني فيه ؟

فقال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربا سيمنعه، فقال: ما كان ليمتنع مني. قال: أنت وذاك. فرد على عبد المطلب إبله.وأرسل الله العواصف والغبار وتطاير الحجارة، والأوبئة على جيش أبراهام فتشتت جيشه وصار كالعصف المأكول وهلك الجيش ومعهم أبو رغال سلم بيت الله وولد في ذلك العام الذي سمي بعام الفيل الذي ولد فيه محمد رسول الله (ص) 571 م .ومات أبو رغال ودفن في مكان يقال له بالمغمس، فرجمت العرب قبره، فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس.

وكان أسم الفيل محموداً، وخرج الناس وضربوا الفيل ليقوم فأبى، فضربوا رأسه ليقوم فأبى، فوجهوه  راجعاً إلى اليمن فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فبرك.

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com