مقالات

المفكّر و الفيلسوف غوغول

غوغول هو احد الادباء الروس الكبار الذين دخلوا في تاريخ الفلسفة الروسية ( انظر مقالتنا بعنوان – الادباء الروس في تاريخ الفلسفة الروسية) , وتوجد الكثير من المصادر الروسية ( من كتب وبحوث و مقالات … الخ) تتناول طبيعة فلسفتة وتحللخصائصها و تدرسها, و تطلق تلك المصادر عليه بشكل مباشر وواضح وصريح تسمية – ( الفيلسوف غوغول ) , لكن غوغول يرتبط ايضا بتسمية اخرى ( و موجودة ايضا في العديد من المصادر الروسية) , وهذه التسمية هي – ( المفكّر غوغول ) . لا يوجد بالطبع تناقض او تنافر بين التسميتين , بل انهما ينسجمان ويتناغمان في الواقع معا , فالفيلسوف هو مفكّر , والمفكّر – فيلسوف , ولكن هذه الحالة ( اي ثنائية التسمية) لا تبدوبمثل هذا الوضوح مع دستويفسكي وتولستوي ولا تظهر متلازمةمع اسميهما في المصادرالروسية , وهما – كما هو معروف -الاسمان الاكثر سطوعا بين الادباء الروس في تاريخ الفلسفة الروسية ومسيرتها . مقالتنا هذه تتوقف قليلا عند هاتينالتسميتين حول غوغول, وتحاول تعريف القارئ العربي بهذا الموضوع الطريف والكبير والمهم ايضا في تاريخ الادب الروسي( التعريف ليس اكثر, لأن الموضوع اكبرمن سطور مقالة محدودة ) , وذلك لان غوغول هو احد الاسماء المشهورة والمعروفة لهذا القارئ , بل وحتى  يمكن القول , انه من جملة الادباء الاجانب ( وليس فقط الروس ) الذين يتعامل القارئ العربي والمبدع العربي ايضا معهم بحب وتعاطف و ابداع , ويحوّر نتاجاته الى اعمال ادبية وفنيّة تعكس مشاكل العالم العربي نفسه , ولنتذكّر فقط مسرحيته الشهيرة ( المفتش العام) كمثال على ذلك , والتي تحوّلت الى اعمال مسرحية وتلفزيونية في عالمنا العربي , او كانت تتمحور حول الفكرة الرئيسية في تلك المسرحيةاو تقتبس منها وتتم عملية تحويلها و توليفها , وبالتالي جعلها ذات طابع عربي يرتبط بالواقع العربي ويعالجه من وجهة نظر محددة و دقيقة , ومازلت اتذكر , كيف ان المرحومة أ.د. حياة شرارة كتبت مقالة طريفة وعميقة ونشرتها في جريدة الجمهورية آنذاك حول مسلسلة تلفزيونية مصرية بثّها في حينها تلفزيون بغداد مقتبسة من مسرحية غوغول – ( المفتش العام) , وقد دخلت هذه المقالة الان ضمن تراث المرحومة حياة شرارة.

لم يكن غوغول – منذ بداياته الادبية – يكتفي بنشر النتاجات الادبية البحتة فقط ( ان صحّت صفة البحتة هنا ) , بل كان يحاول ايضا ان ينشر و يطرح افكاره النظرية العامة , و هي افكار مرتبطة بدور الادب والفن عموما بمسيرة الحياة الاجتماعية, و هو جوهر البحث الفلسفي لغوغول , ولهذا , فان النقاد يرون ( وهم على حق ) , ان هناك جانبان او نشاطان يسيران معا في نتاجات غوغول – جانب ادبي يكمن في السرد الفنّي (نتاجاته النثرية العملاقة وابداعه المتميّز فيها ) , وجانب آخر يكمن في الفلسفة ( نتاجاته التأملية حول دور الادب والفن عموما في جوهر الحياة الاجتماعية وافكاره الدينية والاستيتيكية عن هذا الدور) . لقد أدى هذا الانشطار ( ان صحّ هذا التعبير) في مسيرة غوغول الابداعية الى التصادم بين الجانبين في نهاية المطاف , بل و الى تناقض صارخ بينهما في اعماق روحه, بحيثان غوغول وصل الى قرار فكري خطير( لم يتكرر في تاريخ الادب الروسي ) , وهو ان يحرق الجزء الثاني باكمله من روايته الارواح الميتة قبل رحيله الابدي , الجزء الذي كتبه طوال سنوات مكوثه في ايطاليا , والذي كانت كل روسيا المثقفة تنتظره واقعيا, اي حدث في اعماق روحه انتصار الجانب الفلسفي على الجانب الفني في مسيرة ابداعه , اي انتصر غوغول الفيلسوف والمفكّر على غوغول الاديب والفنان في عملية الانشطار الفكري الذي كان يعاني منه غوغول, والذي كان واضحا جدا عندما أصدر كتابه الاخير(  مختارات من مراسلات مع الاصدقاء) , وهو الموقف الذي شجبه بيلينسكي في رسالته المشهورة له آنذاك –(انظر مقالتنا بعنوان  -حول بيلينسكي ورسالته الى غوغول ) .وتشير المصادر الروسية الحديثة والمعاصرة الآن , الى ان بيلينسكي لم يستوعب ولم يفهم هذه الظاهرة الفكرية الفلسفية العميقة , التي حدثت في مسيرة غوغول ( وهو عكس الموقف الفكري السوفيتي تماما من هذا الحدث, ولا مجال للتوسع أكثر حول ذلك في اطار مقالتنا هذه ) , وان رساله بيلينسكي تلك الى غوغول هي دليل واضح على ذلك ( اي عدم استيعاب بيلينسكيلتلك الظاهرة المرتبطة بغوغول وعدم فهمها) . ان هذه الرسالة في نهاية المطاف هي تأكيد على ان غوغول وليس بيلينسكي هوالذي انتصر في تلك المعركة الفكرية التي حدثت بينهما , والتي بدأها بيلينسكي نفسه , و كان غوغول مدافعا عن نفسه ليس الا ضد هذا الهجوم . 

المفكّر والفيلسوف غوغول لايزال حيّا في أجواء الفكر والفلسفة الروسية , مثلما لايزال حيّا في مسيرة الادب الروسي , وكم نحن بحاجة الى الدراسة المعمّقة في ابداع هذا المفكّروالفيلسوف والاديب …

اظهر المزيد

أ.د ضياء نافع

مواليد بغداد 1941 • ماجستير في اللغة الروسية وآدابها 1965/ 1966 – الاتحاد السوفيتي ودكتوراه في الادب الروسي 1970 / 1971 – فرنسا. • رئيس فرع اللغة الروسية في كلية الآداب بجامعة بغداد من 1975 الى 1984 • رئيس قسم اللغة الروسية في كلية اللغات بجامعة بغداد 1989 – 1990 • معاون عميد كلية اللغات بجامعة بغداد 1993 الى 2003 • عميد كلية اللغات المنتخب 2003 – 2006 . • حاصل على درجة الاستاذية (بروفيسور) 1996. • مدير مركز الدراسات العراقية – الروسية في جامعة فارونش الحكومية الروسية 2006 – 2012. • عضو اتحاد الادباء والكتاب في العراق / عضو شرف في اتحاد ادباء روسيا. • رئيس مجلس ادارة دار نوّار للنشر في بغداد .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com