مقالات

قضية ساكو وفانزيتي : تصفية سياسية باسم القانون

 

ترجمة: د. ضرغام الدباغ

 

ما أشد تمشدق الإعلام الأمريكي بالديمقراطية الأمريكية ..!

 

سيظل اسمي ساكو وفنزيتي (Nicola Sacco & Bartolomeo Vanzetti) خالداً في سجل العدالة الأمريكية الجريحة. فقد أوقف هذا الرجلان، وأعدما مع المعرفة الأكيدة بأنهما بريئان، والأدهى من ذلك، أن المحكمة وجدت أدلة مادية واعترافات تؤكد برائتهما، ولكن ذلك كان سيدين العدالة الأمريكية تحريرياً .. على الورق، ورفضت إلغاء حكمها أو حتى تعديله.. ولكن عدالة التاريخ هي أقوى من العدالة على ورقة .. أنها عدالة غير قبالة للاصفرار أو التآكل، وليس المهم إدانة القاضي الذي حكم عليهما، فالأمر يتعدى ذلك بكثير إلى إدانة نظام بكامله ..

 

هذا المقال يمثل أكثر القضايا المثيرة للجدل في تاريخ القضاء الأمريكي، إذ حكم على شابين بالإعدام ونفذ فيهما الحكم بتهمة كان التلفيق فيها واضحاً بصورة صارخة، وفيما بعد أتضح ما كان واضحاً منذ البداية، براءة الشابين من الأصول الإيطالية واللذان أعدما لأنهما يعتنقان مبادئ يسارية، أرادت الحكومة الأمريكية قطع دابرها بإعدام الشابين.

 

لم نزد حرفاً واحداً لهذا الموضوع المترجم من كتاب: قضايا مثيرة للجدل، صدر في ألمانيا مطلع الألفية الثالثة، ولكن بعد حوالي ثمانين عاماً. بقي أن نضيف أن السلطات القضائية لا تزال لا تعترف ببراءة الشابين رغم أنها ألقت القبض على شخص ثالث أعترف بالجريمة وأعدم هو الآخر، إنها ديمقراطية وعدالة الرأسمالية ..!

 

 

*       *       *       *

 

في آب ـ أغسطس / 1927 أغلقت المحكمة العليا في ولاية ماساشوسيت في الولايات المتحدة الأمريكية واحدة من أكثر الملفات الملفتة للأنظار في تاريخ الإجرام، في القضية ضد المتهمان في جريمة قتل وتسليب: نيكولا ساكو وبارتولوميو فانزيتي، وقد نفذ الحكم، ولكن الجدل حول هذه القضية تواصل دون انقطاع.

 

كانت المدينة الصناعية برجووتر تقع إلى الجنوب من بوسطن، مسرحاً للجريمة الأولى التي أتهم بها ساكو وفانزيتي، ففي 24 / ديسمبر ـ كانون الأول / 1919، الساعة 7،40 ، أطلق ثلاثة من رجال العصابات النار من مسدساتهم وبندقية صيد على عربة شحن كانت تنقل أجور ورواتب معمل الأحذية.

 

أطلق السائق العنان لعربته، فيما رد مرافقه على النيران، وبسبب الارتباك والسرعة، كانت السيارة تتأرجح وفقدت بالتالي توازنها واصطدمت بعمود للهاتف، وأستمر تبادل إطلاق النار، وهنا قطع رجال العصابات الاشتباك، وفروا في عربة كانت تنتظرهم، ويا للغرابة… لم يصب أحد يجرح في هذه المعركة.

 

ومرة أخرى، في 15 / أبريل ـ نيسان / 1920 في باراينتتري الجنوبية ماساشوسيت، وفيما كان محاسب وحارسه يجلبان رواتب مصنع الأحذية، سيراً على الأقدام، من المصنع الرئيسي إلى فرع للمصنع. وبدون أن ينتبها، مرا بالقرب من رجلان كانا يتكئان على سور خشبي.

 

وبعد أن أجتاز المحاسب وحارسه الرجلان ببضعة خطوات، تعرضا للهجوم، وأردت ثلاث رصاصات الحارس وفارق الحياة على الفور، فيما توفي المحاسب بعد 14 ساعة متأثراً بجراحه جراء 4 رصاصات أصيب بها، وفر الفاعلون مع غنيمتهم بسيارة كانت تنتظرهم مع سائقها من رجال العصابات.

 

أما الهجوم الثالث، فقد كان هناك أكثر من 50 شاهد عيان عندما وقع. وقد اشتدت الظنون والأدلة، ففي كلا الهجومين استخدم المهاجمون نفس العربة، واكتشفوا أدلة تتجه صوب جماعة من الفوضويين الإيطاليين، تقود إلى السيارة المشاركة في الهجومين التي وجدت في ورشة لتصليح السيارات في بريدجووتر. وانتظرت الشرطة حتى 5 / أيار ـ مايو، سائق السيارة ومرافقه أن يأتيا لاستلام السيارة، حينها ألقي القبض على الرجلين.

 

بسبب كثرة شهود العيان في الهجوم الثالث، ثم اشتدت الظنون لدى الشرطة، وفي كلا الهجوميين السابقين استخدمت فيها نفس السيارة التي تم إيقافها في الهجوم الثالث، وبالفعل أثبت الفحص وجود أثاراً تدعو للريبة، وأن جماعة فوضوية إيطالية ربما استخدمت هذه السيارة في الهجمات، ثم أخذت للتصليح في ورشة بريدجووتر. وانتظرت الشرطة حتى 5/ مايو ـ أيار حتى قدم مالك السيارة ومرافق له من أجل استلام السيارة فألقي القبض على كلاهما.

 

في ذات الوقت أوقف رجلان بالقرب من ورشة تصليح السيارات، حيث كانا يحثان الخطى إلى موقف الترام ليستقلا عربة الترام المتجهة صوب بروكتون وهي منطقة قريبة، وفي الطريق صعد اثنان من رجال الشرطة وألقت القبض على الرجلين الشابين بتهمة الاشتباه بهما.

 

نيكولا ساكو المولود في 22 / ابريل ـ نيسان / 1891 في جنوب إيطاليا تويماجوي، وبارتولوميو فانزيتي المولود في 11 / يونيو ـ حزيران / 1888 في فيلا فاليتو بالقرب من كوينو شمال إيطاليا، فقد اعتبرا متهمين(مشتبه بهما)، وكانا يرومان زيارة صديق لهما في بريدج ووتر، ولكنهما أفادا بأنهما عدلا عن ذلك بسبب تأخر الوقت. وفي مركز الشرطة صودر من فانزيتي مسدساً محشواً، فيما وجد لدى ساكو مسدس من طراز كولت، وعدا ذلك وجد عند الأخير قصاصة ورق مكتوب عليها بخط اليد مخطط للقيام بهجوم.

 

أوضح فانزيتي، بأنه تاجر وهو بحاجة لحمل السلاح لمواجهة حالات السلب والسرقة. وكذلك ساكو الذي أوضح أنه كان يحمل السلاح لأغراض الدفاع الشخصي عن النفس. وعلى الرغم من عدم وجود أدلة دقيقة، أعتبر كلا الرجلان مشبوهان إلى درجة الاتهام وأودعا السجن بتهمة المساهمة في الهجمات، فيما أطلق سراح الرجل صاحب السيارة ومرافقه لأنهما أثبتا وجودهما في مكان آخر أثناء حدوث الجريمة.

 

لا فرصة أمام الفوضويين

فيما بعد، برر رئيس الشرطة في ذلك الوقت اعتقال الرجلين الإيطاليين، بأنهما كانا من الفوضويين المعروفين، وأنه يشك بقوة، بأنهما كانا عصابة من الفوضويين المعروفين، وأنه   يشك بقوة بأن عصابة من الفوضويين تقف خلف هذه الهجمات، وإنه يتفق مع الرأي العام الأمريكي السائد آنذاك بأن الشيوعية والفوضويين وفئات راديكالية أخرى تريد قلب النظام في أمريكا والعنف هو أحد وسائلهم في ذلك.

 

وبعد ثورة أكتوبر الروسية 1917 ساد الذعر في أن تهب ثورات بلشفية، مما أطلق عنان خوف هيستيري من الأجانب والأفكار الأخرى. وضربت الكراهية العمياء كل شيء عناصر تلك الحركة التي هبت في أوربا في القرن التاسع عشر في الحركة الفوضوية، وفي عام 1917 أمتنع الفوضويون من الالتحاق بالخدمة العسكرية، بعد دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى.

 

وفي نهاية عام 1919، قررت الحكومة الأمريكية اتخاذ تدابير شديدة ضد كل من يقيم أي علاقة مع هذه المنظمات الراديكالية، ” فهو قاتل عنيف، أو سارق، لا داعي لاستخدام معايير قانونية ضده”.

 

وفي الواقع، كان ساكو وفانزيتي منتميان إلى الحركة الفوضوية. وبصفة عامة كان الكثيرين من المهاجرين يتعاطفون ويؤيدون، وبالذات الإيطاليون منهم مع الخلايا الفوضوية، وعلى الرغم من أن اسم الحركة التي كانت تهدف إلى تدمير أجهزة الدولة، إلا أنهم كانوا يؤمنون بإمكانية وجود عالم أفضل حيث لا يسود أصحاب الثروات الكبيرة، فرص للعدالة الاجتماعية.

 

وفي التحقيقات الأولى، نفى الموقوفين بأنهم ينتمون إلى الفوضوية. أما تهمة القتل، فلم يتحدث أحد عنها !  وفي اليوم التالي أقرا بأنهما أرادا تضامناً مع أصدقائهم جلب السيارة من أجل إبعاد مطبوعات تابعة للفوضويين.

 

أظهر المدعي العام في هذه التحقيقات، انحيازه، على الرغم من أنه كان قد تم التثبت بأن ساكو كان في يوم الهجوم يعمل في أحدى المصانع في بريدجووتر، ورفع شكوى كان محقاً بها، ولكن هذه الشكوى لم يسمعها أحد، كما لم يغير من الأمر شيئاً كون بصمات الأصابع على السيارة التي كانت مع المهاجمين في برايانتري الجنوبية لم تكن تتطابق مع بصمات ساكو وفانزيتي.

 

الشك حيال المتهمين

في 22/ حزيران ـ يونيه / 1920 ابتدأت المرافعة ضد فانزيتي بسبب الهجوم المسلح في يريدجووتر، وأدلى الشهود بأفادات متناقضة وأحدى الشاهدات على سبيل المثال شخصت فانزيتي بأنه الرجل الذي كان يجلس خلف مقود السيارة التي اشتركت في الحادث، وبذلك كانت مخطئة تماماً، إذ أن المتهم لم يكن يعرف قيادة السيارات مطلقاً.

 

وكان رأي المدعي العام تثبيت التهمة، و لم يهتم بالمعطيات المتناقضة للشهود، إذ شهد 14 إيطالي بعدم وجود فانزيتي في محل الحادث، واستخدم ببراعة الضعف في لغتهم الإنكليزية، وعرضهم كمتضامنين مع أبن جلدتهم وبأنهم كذبوا لصالحه. قرر المحلفون بأن فانزيتي مذنب، وأدانه الحاكم بالقيام بهجوم بنية السلب وحكم عليه بالسجن لمدة 12 عاماً.

 

والمرافعة الثانية: محاكمة ساكو وفانزيتي، بسبب الهجوم، القتل والسلب في براينتري الجنوبية ابتدأت في 31 / مارس ـ آذار / 1921. وأبدى الشهود التناقض في الإفادات و عدم الوضوح. حتى رئيس المحكمة ويبستر تاير، أقر لاحقاً، أن قرار الحكم لم يصدر بناء على إفادات الشهود. وأكثر من ذلك فقد ركز الاتهام على المسدس الذي وجد عند فانتزيتي، ففي أول تحقيق معه، فند هذا الادعاء الباطل من خلال عائدية المسدس إلى شخص آخر(كان فوضوياً هو الآخر)، والمدعي العام قام بصياغة نظرية، أن فانزيتي قد استولى على مسدس الرجل الحارس القتيل، ولكن لم يكن هناك أي دليل على صحة هذه النظرية.

 

كلا المتهمان أفادا بعدم وجودهما مكان الحادث، فقد أثبت ذلك كافة الشهود الإيطاليين، ولكن ذلك لم يكن شيئاً في اعتبار المدعي العام، ولم يكن لها أي تأثير في سير المحاكمة، ولكنها ركزت على نية ودواخل المتهمين دون أعمالهم، والتي كانت نتيجة لاعتبار أن كلا المتهمان من عناصر الاتجاهات الراديكالية، معادية للدولة، وإن ذنبهم يكمن في أنهم: امتنعوا عن الخدمة في الجيش.

 

أما بالنسبة للمحلفين الذين كانوا قد اختيروا بوصفهم، وطنيين ومؤمنين، فقد تعرضوا إلى ضغوط مؤثرة. وفي 14 / يوليو ـ تموز توصل المحلفون إلى قرارهم: فقد وجدوا لأن ساكو وفانزيتي مذنبان بقتل شخصين، وكان ذلك يعني عقوبة الموت.

 

هبت الاحتجاجات في جميع أنحاء العالم، على هذه المحاكمة التي تدين مصداقية القضاء، وقد أسس رفاق الرجلين وكذلك قانونيين، أسسوا لجنة للدفاع عن ساكو وفانزيتي، وقدموا طلبات عديدة، بإعادة المحاكمة، لكن الطلبات ردت جميعاً، بل لم يكن رد الطلبات مفاجئة، وقرر القاضي أن زاكو وفانزيتي قد أدينا.

 

العدل يبقى ساخناً وقوياً

في نهاية عام 1925، بدا أن هناك تحولاً مهماً سيحدث، عندما أدين شاب برتغالي واسمه سيلسينو مادابروني، بالسجن في قضية سلب مصرف، فحبس في نفس السجن مثل زاكو وفانزيتي، وأعرف بمساهمته في الهجوم والسلب في براينتري الجنوبية، وحكم على أثنين من زملائه من أعضاء العصابة بالإعدام رمياً بالرصاص. كما أن محامياً راجع معطيات مادابروني، فأكتشف حقاً، آثاراً مهمة، لكن المدعي العام رفض القيام بالتحقيق.

 

المدعي العام والحاكم أرادا أن يحولا دون إعادة المحكمة بأي وسيلة. فقد كانت مجازفة الخوض في موضوع سيؤدي إلى جرح في عدالة قضاء ماساشوسيتس : ساكو وفانزيتي أدينا على الرغم من أدانتهما لم تكن تخلو من الشكوك والطعون، بل أن الكثيرون تحدثوا عن براءتهما وعدم أدانتهما، ولكن القضاء رفض أن ينحني، فرفض البحث في القضية.

 

رفض حاكم ولاية ماساسوشيتس آخر محاولة للحصول على العفو. وفي 23 / أوغست ـ آب / 1927 بعد منتصف الليل بقليل، أعدم زاكو وفانزيتي على الكرسي الكهربائي، وكانا حتى اللحظة الأخيرة يؤكدان براءتهما.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر :

 

Aytorenkollektiv :  Wie Geschah es wirklich, Das Beste  Readers Digesr

Stuttgart 1990> S. 261

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com