أبحاث

التعاون مع العدو

مقدمة : التعاون مع العدو *

الدكتور ضرغام عبد الله الدباغ

التعاون مع العدو خيانة… ويبدو أن لا تاريخ محدد لها، فهي قديمة كالدعارة كأقدم مهنة في التاريخ. ولتكتمل الحلقة … هناك مخلصون يفتتدون أوطانهم يقدمون على الموت بسرور، وهناك ساكتون عن الحق وهم كشيطان أخرس، ولكنهم يخرجون من جحورهم ويحتفلون مع المنتصر.. وهناك سفلة وساقطون في قاع المجتمع، وعبر التاريخ يحاولون إيجاد تبريرا لخيانتهم، فمنهم من يقول أرغمت، ومن يقول غرر بي فخدعت، وهناك من يقول الخوف دفعني، وهناك أيضا ربما من يفلسف هزيمته وسقوطه فيقول أنا أردت إنقاذ ما تبقى… وأي كان ادعاء المتعاون فسوف يلصق به ما لا يمكن مسحه أو غسله بكل مياه بحار العالم … الخيانة العظمى

المتعاون مع العدو هو من يرتكب كبرى الجرائم التي يطلق عليها في القانون ” الخيانة العظمى “. والخيانة العظمى هي الفقرة الأكثر سواداً، يوجه فيها الادعاء العام أقصى العقوبات، ويلحق العار بمرتكب هذه الجريمة، وللأسف بالأبرياء من عائلته، ممن يحملون لقب العائلة. وفي أوربا يستبدل أقارب وذوي معظم من يدانون بهذه الجريمة الشنعاء، يستبدلون أسمائهم(يجيز لهم القانون ذلك)، تهرباً من نظرات الإدانة، أو ربما الخزي والعار، وربما حتى ممن يشفق على أولئك الأبرياء الذين لا ذنب ولا جريرة فيما أرتكب أبائهم أو أقربائهم.

المتعاون مع العدو خائن ولكن ليس كأي خيانة، ففي اللغات اللاتينية (الإنكليزية والفرنسية والألمانية وغيرها) تطلق كلمة ومصطلح خاص (Kollaboration) ، فيما نطلق باللغة العربية كلمة خائن بصفة عامة على خائن الأمانة، أو خائن العهود والخائن بصفة عامة، وحتى في الخيانة الزوجية. فيما نجد أن اللفظة اللاتينية هي أدق وأكثر تحديداً، بالمتعاون (Kollaboreter) لفظة تطلق على حصراً على الخائن المتعاون مع العدو.

ربما يقع أي إنسان في الخطأ، وقد يكون هذا الخطأ جريمة، وقد يقتل خطأ، وتسمى الجريمة ” القتل الخطأ “ لا يقصد فيها الفاعل ارتكاب جريمة، ولكن الأمر حدث خارج عن إرادته، كأن يطلق النار على سبيل المزاح أو أبتهاجاً بحدث ما، فيقتل صديقه أو حتى أحد أفراد أسرته. أو أن فاعلاً يجهل أن ما يفعله يمثل جريمة يعاقب عليها القانون، ولكن القانون يقاضيه، وفق قاعدة ” لا يجوز الدفع بجهل القانون “ . وفي جرائم مثل هذا النوع تحتمل أن يرأف القاضي بالمتهم بسبب توفر دواع تستدعي الرأفة.

ولكن جرائم التعاون مع العدو، والعدو هو الطرف الذي أشهر العداء للوطن، والبلاد معها في حالة حرب فعلية معلنة، وتدور عمليات حربية، أو أحتل العدو البلاد أو جزءاً منها، وحتى في حالة وجود هدنة لا تلغي حالة العداء. والمتعاون قد أبدى أي نوع من أنواع التعامل من خلال تعاون متعدد الصنوف تؤدي لمصلحة العدو، لقاء فائدة مادية أو معنوية يتلقاها المتعاون، أو أي نوع من أنواع التعاون يفضي إلى إلحاق الأضرار المادية والمعنوية بالبلاد.

والتعاون مع العدو، عمل لا يحتمل أي نوع من أنواع التبرير، بوصفه ألحق الضرر بكافة مفردات وتفاصيل ورموز المجتمع المادية والمعنوية. وترمي القوانين الوضعية والسماوية التعاون مع العدو وتصفه بالخيانة، ولا ينفع الدفاع عن فعل التعاون مع العدو أي نوع من إبداء التراجع والأسف، فحتى رجال السياسة وكبار القادة، الذين قد تقبل منهم أخطاء كبيرة ارتكبوها بحسن نية، كالطبيب الذي يخطأ أثناء قيامه بعملية جراحية، ولكن في جرائم التعاون مع العدو لا ينفع معها تراجع أو اعتذار.

أثناء الحرب العالمية الثانية جرت الكثير من الأحداث، وقع بعضها تحت عنوان ” التعاون مع العدو “، وبرغم أن النظام الهتلري النازي كان معادياً لشرائح وفئات اجتماعية ودينية وعرقية عديدة، ثم خاض حرباً عالمية ضروس واسعة النطاق، إلا أن المشرع والقانون الألماني يعتبره نظاماً شرعياً وطنياً، ولذلك….. عندما أتحدت الألمانيتان (1990) كان هناك العشرات، وربما المئات ممن التجأوا إلى الاتحاد السوفيتي، أو إلى البلدان الغربية (بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية)، وبعض من التجأ، قام بفعاليات إعلامية أو عسكرية ضد ألمانيا، وكوفئوا بعد سقوط النظام الهتلري النازي على يد الأنظمة السياسية المؤيدة للاتحاد السوفيتي أو للغرب.

ولكن لكي تستقيم الأمور، ويأخذ القانون مجراه، قام المدعي العام الألماني بإحالة كل هؤلاء إلى القضاء، ونزع منهم أوسمتهم، وألقابهم التشريفية، رغم أن الكثير منهم كانوا قد توفوا، وآخرين خارج إطار المساءلة القانونية، ولكن القانون لابد أن يستقيم. المدعي العام أشار أنه يدرك أن بعض هؤلاء فعل ما فعله ليخفف ألام الشعب الألماني ويسرع في نهاية نظام يحتضر، لكن القانون لا يتعامل مع توصيفات فنية وأدبية وسياسية. فالمسؤول الحكومي الذي فر إلى جهة معادية (وفق القانون) كان الأجدر به أن يقوم بخدمة مواطنيه وتوفير الخدمات الأساسية لهم، لا أن يشتغل بالسياسة ويجتهد بالتعاون مع هذا الطرف أو ذاك، وهو أمر غير مكلف به قانوناً.

الماريشال بيتان، الذي أطلق عليه لقب ” منقذ الأمة الفرنسية ” في الحرب العالمية الأولى، بعد أن أحتل الألمان العاصمة الفرنسية باريس في الحرب العالمية الثانية وسقطت الدولة، تقدم من تقاعده، وتصدى لإعادة الدولة في المناطق التي لم يحتلها الألمان وهي نحو ثلث أرض الوطن عدا المستعمرات الفرنسية الواسعة الأرجاء، ومن بينها الجزائر التي تفصلها عن فرنسا البحر المتوسط. ولكن هذا لم يشفع له فعلته، فقدم إلى المحاكمة بتهمة الخيانة العظمى والتعاون مع العدو، لم ينبس ببنت شفة خلالها، وحكم عليه بالإعدام، ولكن تم تخفيض الحكم وتوفي في السجن بعد أعوام قليلة وكان قد تجاوز التسعين من العمر.

العبرة من هذا العمل المساهمة بتكوين وعي وطني / سياسي ــ قانوني، وأن نبين للقراء كافة، أن التعاون مع الأجنبي الطامع بالبلاد ليست عملاً سياسياً حتى لو ارتدى هذا اللبوس، بل هي خيانة عظمى، وبصرف النظر عن عقوبتها الجزائية، فإن جزائها الوطني والاجتماعي، عقوبة مميتة ولطخة عار أبدية لا تزول.

ليس هناك تصريف قانوني / جزائي لهذا الفعل (التعاون مع العدو) سوى الخيانة العظمى لا محالة.

الوطن ليس لعبة تنتقل من يد لأخرى …. والوطنية ليست وجهة نظر …..!

المحتل المستعمر لا يصغي لصوت الحكمة عندما يلوح الفشل أمامه، بل يكثف من جهود هي في نهاية المطاف فاشلة، ويجازف بإعادة المحاولة، عله يكتشف وسيلة جديدة تمكنه من البقاء أو تطوير بقاءه. ومن جملة ما يحاوله المستعمر، هو الدخول إلى جملة المعادلات الاجتماعية / الثقافية ويحاول أن يدخل تعديلات فيها من أجل الدخول إلى قلب المعادلة السياسية، فيغيرها لصالحه، وهو يدرك أن مفتاح الشعوب هو تقاليدها الاجتماعية والثقافية (الدينية / الإيمانية / العقائدية).

هكذا يفعل المستعمرون والقوى الشبه استعمارية التي تهدف إلى التوسع،  قديماً وحديثاً.  بدرجات متفاوتة من النجاح، ولكن هذه السياسة التي تذر الرماد في العيون لإخفاء وتضليل الهدف الحقيقي للمستعمر، وهو الاستيلاء على البلاد. 

لماذا يخون الخائنون ..؟

شاعر عبقري كبدر شاكر السياب يعترف شعراً أنه لا يفهم كيف يخون الخائن بلاده بقوله

إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون
أيخون إنسان بلاده؟
إن خان معنى أن يكون ، فكيف يمكن أن يكون ؟
الشمس أجمل في بلادي من سواها ، والظلام
حتى الظلام – هناك أجمل، فهو يحتضن العراق
واحسرتاه، متى أنام
فأحسّ أن على الوسادة
من ليلك الصيفي طلاّ فيه عطرك يا عراق ؟

الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد .. من على سريره ينازع الموت، في جسمه أنابيب وخراطيم وبالكاد يستطيع الحديث، ولكن عندما يذكر العراق يستثار …يسألون عن الخيانة …فينتفض الشاعر المناضل القائد ملتقطاً سيف الشعروهو يحتضر بأبدع ما يكون …مردداً أبيات السياب الخالدة …

يلتقي عبد الرزاق عبد الواحد بالسياب فيخطان قصيدة حب العراق فيكمل عبد الرزاق أبن العمارة هذه الأبيات الثلاثة بثلاثة ويزيدها بيتاً ستبقى على أفوه محبي العراق إلى الأبد في ثنائية نادرة رائعة … في الإخلاص للعراق حتى آخر نفس في الرئة، وبقايا النبض في الجسد الواهن …فكلا الشاعران تفوها بهذه الأبيات بآخر ما بقي في الروح من نفس .. يضيف عبد الرزاق عبد الواحد ..

يا عراق، هنيئا لمن لا يخونك

هنيئا لمن اذ تكون طعيما يكونك

هنيئا لمن وهو يلفظ آخر أنفاسه

تتلاقى عليه جفونك.

الحقيقة أنه أمر لا يكاد يصدق، لماذا يقدم رجل أو إمرأة على خيانة الوطن ..! من دراستي خلال إعداد هذا المؤلف، قرأت لملفات الكثير من الأبطال والخونة، أن المقاوم هو عاشق للوطن، هو ذو نخوة وغيرة وكرامة، وأن الخيانة بالمقابل هي توليفة، فيها شيئ الميل للإيذاء، وشراهة نحو شيئ وفره له العدو بسخاء ليخون وطنه ( مال، ميول وأهواء، احترام مفقود) إضافة إلى انحدار خلقي جبل عليه ربما من طفولته، لعيب خلقي في بدنه، أو حفرة عميقة في نفسيته بسبب الغيرة والحسد، أو بعض من أمراض نفسية تدفع المرء إلى الانحطاط. وهناك في علم النفس وعلم الإجرام وعلم النفس الجنائي بحوث عميقة الغور، من سوء الحظ أن يسقط فيها أحدهم أو إحداهن، فيتحول إلى خائن ..

في إحدى قصص التجسس، أحدهم يخون الجهة التي ائتمنته، لقاء المال، وكانت له فيها شراهة، وبعد مدة طويلة من التعامل، كان الجاسوس يختزن فيها المال القذر الذي يناله نظير خيانته، وبعد مدة أكتشف أن النقود التي كان يستلمها هي مزورة، لا تساوي الورق المطبوع عليها.

في إحدى أعمالي وضعت صورة للغلاف رمزية معبرة: جندي يعدو من حيث الخضرة، إلى منطقة جرداء قاحلة، وهو يخلع بندقيته من كتفه ويلقيها أرضاً …. يفر من فيلق المجد إلى حظيرة الخيانة …

هنيئاً لمن مات  ودفن ملفوفاً بالعلم …. وبمجد الوطن …!

عانق الشمس وناجي القمرا
علم الامة يا أغلى علم
انت نور في مآقينا سرى
 طالما اشتاقت لها دنيا الورى
فامضي واخفق عاليا
فوق القمم
علم الأمة يا أغلى علم
عالياً … عالياً … فوق الذرى

                                               علم الأمة يا أغلى علم

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com